من هدى القرآن - ج ١١

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١١

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-14-9
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٤٩

(وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ)

وهكذا أكّد السياق أنّ الرازق هو الله ، وأنّ آراء الناس ليست مقياسا ، وأنّ الأمور لا تعود إلى هذا أو ذاك ، ممن يتخذهم الناس أندادا من دون الله ، بل إلى الله ترجع الأمور ، وهناك يكون الحساب عادلا حيث يجازى المحسن جزاء الضعف ، ولا يعاقب المسيء الا بمثل عمله.

[٥] ثم يؤكد الله هذه الحقيقة فيقول :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ)

إنّما يكذّب الناس برسالة الله لأنّهم عبدوا الدنيا وما فيها من مباهج وزينة ، فبعض غرّتهم الدنيا مباشرة كالطغاة والسلاطين وكثير من الناس ، وبعض غرّهم المغرورون بالدنيا من هؤلاء ، وإنّما أهلك هؤلاء السذج اتباعهم لأولئك من دون لذة أو شهوة.

فترى أدعياء الدين والعلم يستخدمهم السلاطين للتغرير بالبسطاء من الناس فيسلبون منهم دينهم ودنياهم ، وإنّما يرفل بالنعم الطغاة وأعوانهم ، ولا يبقى للضعفاء سوى الضلالة والغرور.

(فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ)

وقيل ان الغرور : هو الشيطان.

[٦] للإنسان عدوّان : عدو داخلي وهو النفس ، وعدو خارجي وهو الشيطان ، وعلى الإنسان أن يتخذ موقفا واضحا من الشيطان لكي يتميّز نداءه التضليلي عن داعي الله ، ذلك أنّ الإنسان يملك في نفسه قوتين متضادتين هما : العقل والهوى ،

٢١

ويؤيد العقل الملائكة بينما الهوى يدعمه الشيطان ، وفي الحديث : ان كل شخص موكل به ثلاث وثلاثون ملكا ، ومثلهم من الشياطين.

ومن مكر الشيطان بالإنسان خلط الأوراق عليه ، حتى لا يميّز هذا عن ذلك ، فتراه يلبس الباطل بالحق ، ويوسوس في الصدور حتى يتشابه الحق بالباطل ، ولكن إذا عرف الإنسان أنّ في قلبه شيطانا يسعى لاغوائه ، واتخذه عدوا تميّز العقل عن الهوى في نفسه ، وأمكنه معرفة طبيعة دواعيه النفسية هل هي من عقله أو من هواه.

وفي الروايات : «انظر أيّهما أقرب الى نفسك فخالفه» لأنّ الأقرب الى النفس أقرب الى الشيطان.

(إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا)

علما انه يأتي بعض الأحيان في صورة الناصح ، انه عدو مبين ، يأتي لك من تسع وتسعين بابا من الخير كي يوقعك في المائة. انه عدو وقد آلى على نفسه ان يضل بني آدم ، ويدخلهم معه النار.

هكذا تناصح الصالحون بألا يغفل ابن آدم عن عدوه الخطر وهو الشيطان ، فهذا

الامام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام حين يأتي اليه رجل ويقول له : بأبي أنت وأمّي عظني موعظة يقول له :

«ان كان الشيطان عدوا فالغفلة لماذا؟!» (٩)

وجاء في حديث ان الله اوحى إلى كليمه موسى بن عمران عليه السلام ، وكان من بين وصاياه :

__________________

(٩) المصدر / ص (٣٥١).

٢٢

«ما دمت لا ترى الشيطان ميتا فلا تأمن مكره» (١٠)

وخطورة هذا العدو اللدود انه لا يرضيه شيء إلّا إذا أوقع فريسته في نار السعير مباشرة.

(إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ)

ممن يطيعونه ...

(لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ)

[٧] (الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ)

وعذاب الدنيا مهما كان لا يبلغ شدة عذاب الآخرة ، فعلى العاقل أن يحتمل صعوبات الدنيا لكي يتجنب عذاب الآخرة ، كمن يهرب من النار عبر طريق شائك يدمي رجله ، بلى. أن ينجو من النار على حساب رجله أفضل من أن يلتهمه سعيرها.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ)

لماذا يؤكّد القرآن على المغفرة للذين آمنوا وعملوا الصالحات؟

ربما لأنّ المغفرة للمذنب ، وأبناء آدم ـ عادة ـ يذنبون فإذا عرفوا غفران الله عظم الأمل في قلوبهم حيث يقول لهم الربّ : ما دمتم تعملون الصالحات فسوف يغفر لكم ذنوبكم.

__________________

(١٠) المصدر.

٢٣

[٨] ثم يؤكد القرآن على أنّ الشيطان يزيّن الأعمال السيئة للإنسان حتى يراها صالحة.

(أفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً)

يزينه له الشيطان ، فيراه حسنا ، ذلك أنّ الإنسان يحب نفسه ولا يحب أن يقال عن عمله أنّه سيء ، وهكذا تتكرس الخطايا عنده ، إذ تنقلب مقاييسه وقيمه فبعد ان كان يتحاشاها أضحى اليوم يراها حسنة.

وبالنسبة الى هذا الرجل يصعب عليه الإقلاع من الذنوب فضله الله.

يقول الحديث المأثور عن رسول الله صلّى الله عليه وآله :

«بينما موسى جالسا ، إذ أقبل إبليس وعليه برنس ذو ألوان ، فلما دنى من موسى خلع البرنس ، وقام الى موسى فسلم عليه ، فقال له موسى : من أنت؟ قال : أنا إبليس ، قال : أنت فلا قرّب الله دارك ، قال : اني انما جئت لأسلم لمكانك من الله ، فقال له موسى : فما هذا البرنس؟ قال : به اختطف قلوب بني آدم ، فقال له موسى فأخبرني بالذنب الذي إذا أذنبه أبن آدم استحوذت عليه؟ قال : إذا أعجبته نفسه ، واستكثر عمله ، وصغر في عينه ذنبه» (١١)

(فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ)

فالله يضل هذا الإنسان الذي يبرر أعماله الفاسدة ، فيسلب عقله ، ويتركه في ظلمات لا يبصر ، ويهدي الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات بما صبروا وأطاعوا.

(فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ)

__________________

(١١) المصدر / ص (٣٥٢).

٢٤

حين لا يؤمنون بك.

(إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ)

٢٥

وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (٩) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (١٠) وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (١١) وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ

___________________

١٠ [يبور] : من بار إذا فسد ، أي أنّ مكرهم يفسد ولا ينفذ.

٢٦

حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢)

___________________

١٢ [مواخر] : جمع ماخرة ، يقال مخرت السفينة الماء إذا شقته لتسير.

٢٧

لله العزة جميعا

هدى من الآيات :

في إطار تبيان تدبير الله لأمور السموات والأرض ، وتكريس حالة السكينة في نفوس المؤمنين به ، يربط السياق هنا بين سنن الله في الخليقة وبين سننه في حياة البشر.

ويدعونا الى إلقاء نظرة فاحصة الى السحاب الذي تحمله الرياح ، وتبعثه الى البلاد الميتة فيحييها ، ثم نظرة الى حياة الإنسان وما يختلج في قلبه من نزعات وتطلعات ، فكل شخص يريد أن يصبح عزيزا ، منيع الجانب ، ولكن البعض قد يخطئ الطريق ، فلا يعرف أنّ العزة الحقيقية إنّما هي عند الله عزّ وجل ، وإنّ المعراج إليه هو الإيمان والعمل الصالح ، ويدفعه هذا الخطأ الى اصطناع المكائد ومكر ، ولا يحيق المكر السيء إلّا بأهله فلا يحصل على عزة ولا غنى.

إنّ ربنا سبحانه يذكّرنا بأيّام ضعفنا : من الذي قوّانا؟ أو لم نك نطفة من منيّ

٢٨

يمنى؟ من الذي سوّانا فعدلنا؟

إنّ الربّ الذي جعل من النطفة المهينة إنسانا سويّا ، هو الذي يعزّ من يشاء ، ويذلّ من يريد ، ويتصل الحديث عن العزّة بالحديث عن البحرين هذا عذب فرات سائغ شرابه ، وهذا ملح أجاج ، ومع أنّهما لا يستويان ، إلّا أنّ الله يرزق العباد منهما جميعا بحيث يستخرجون لحما طريّا كما يستخدمونهما لمصلحة النقل فيهما عبر السفن.

وكل ذلك الحديث يربطه سبحانه بالليل والنهار : فمن يولج النهار في الليل ، ويولج الليل في النهار؟! أو ليس الله ، فلما ذا نطلب العزة عند غيره؟!

بينات من الآيات :

[٩] إنّ المؤمن يجعل الحياة مدرسة ، ويجول ببصره في أرجائها ليزداد وعيا وهدى ، ومن أكثر تجليّات الحياة روعة ساعة انبثاقها عند ما يأمر الله الرياح لتحمل السحب الثقيلة بالبركات الى موات الأرض حيث يحيط السكون بكلّ شيء فيحييها الرب بها.

(وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً)

الرياح تثير السحاب ، كما يثير الزارع الأرض للزرع ، فترسله كيفما يشاء الله.

(فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ)

وكلمة «فسقناه» تدل على أنّ ربنا هو الذي يدبّر الغيث فيرسله الى بلد ميت فيحييه ، وسقاية الغيث ليست فوضى انما هي خاضعة لعمل بني آدم ، فليس مطر سنة أقلّ من مطر سنة أخرى في بلد ، ولكن عمل البشر هو الذي يزيده أو ينقصه

٢٩

تماما ، وما الرياح الى وسيلة لان الله أجرى الأمور بأسبابها.

(فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها)

تعالى إلى أرض موات لتجد البشر صرعى الجوع ، والأحياء في ضمور ، وأديم الأرض يشكو العطش ، فإذا أنزل عليها الربّ الماء اهتزت ، ودبّت الحيوية في الإنسان ، وانتعش الأحياء. إنّ هذا مظهر من مظاهر انبثاق الحياة.

(كَذلِكَ النُّشُورُ)

[١٠] وكما الأرض يحييها الربّ بالغيث ، وكما الأموات ينشرهم كيف يشاء يوم القيامة ، كذلك المجتمع المتخلّف الذي يحيط به سكون المقابر يحييه ربّنا بعزّته ، فإذا أراد المجتمع الاستقلال والتقدم والعزّة وبالتالي الحياة فعليه أن يعرج الى الله بالعمل الصالح والكلم الطيب.

هذه قدرة الله أن جعل ـ هذا البلد الذي مات فيه كل شيء ـ ينبض بالحياة ، فكيف يكفرون بالبعث والنشور ، أفلا يؤمنون بأنّ ربنا قادر على أن ينزّل مثل هذا المطر على أجداثهم ، فتنمو فيها الحياة ، مثلما ينمو الزرع ، ويخرج الناس من قبورهم كما تخرج النباتات؟! وقد دلت بعض الروايات على هذه الفكرة ان الله يمطر السماء أربعين صباحا ، فتنبت الأجسام فتكون الأرض كما رحم الام.

(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً)

لا عند الشركاء أو ليس (من اعتز بغير الله ذلّ)؟!

(إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ)

٣٠

الكلم الطيب هو العقيدة الصالحة ، لأنّ الكلمة في القرآن لا تدل على اللفظ ، بل على ما ورائها من معنى ، كما قال ربنا سبحانه : «مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ» وقد فسّرت هذه الآية بالقيادة الرسالية ، ولا ريب ان سنام العقيدة الصالحة ومظهر صدق الإنسان في إيمانه هو التسليم للقيادة الإلهية (الولاية) والكلم الطيب يصعد الى الرب ويصعد معه صاحبه معنويا. أو ليس الإيمان هو أثقل ما في ميزان العبد ، وما عبد الله بمثل التوحيد؟!

ولا ريب ان الكلم الطيب ـ كما الشجرة الطيبة ـ تنتشر فروعها في كل أفق ، فمن العقيدة الصحيحة يشعّ التسامح والحب ونبذ العصبيات والأفكار اليائسة والسلبية ، وكل أولئك يقرّب العبد الى ربه زلفى.

كما أنّ العمل الصالح يرتفع الى الله ويرتفع صاحبه به فيتقرب اليه ، وبالكلم الطيب والعمل الصالح يصل المجتمع الى العزّة الالهية.

وقد ذكر للعمل الصالح تفسيران :

التفسير الأوّل : إنّ العمل الصالح يرفعه الكلم الطيب (١) فالعقيدة الطيبة ترفع العمل الصالح ، لأنّ عامل الحسنة بلا إيمان لا يقبل منه «إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ».

التفسير الثاني : إنّ العقيدة الصادقة والكلم الطيب يرفعه العمل الصالح ، فالعمل الصالح بمثابة الأجنحة للطير.

وتتجلّى هذه الحقيقة في الحياة الاجتماعية بأنّ الكلمة الطيبة والعمل الصالح

__________________

(١) التفسير الكبير : الامام الفخر الرازي ج (٢٦) ص (٨).

٣١

يرفعان المجتمع الى الأعلى دائما حيث العزّة الإلهية. كيف يتم ذلك؟

كما القارب يسير مع التيار كذلك الحياة تسير مع السنن الحاكمة عليها ، فمن مشى مع تلك السنن حملته الحياة إلى الأعلى ، ومن عارضها خاب سعيه وبارت خطته.

فالحقد والبغضاء والتهمة والعداوة تفصم عرى المجتمع ، وقد بنى الله الحياة على أساس الوحدة لا التفرقة ، فتيار الحياة يجري باتجاه التجمع ، وهل يصعد ذلك التيار إليه سبحانه؟! كلّا ... إنما الصاعد إليه الحب والتعاون والإيثار.

إنّ الكون قائم على أساس البناء لا الهدم ، وإنّ الذي يبني يتقدم على الذي يهدم لأنّ سنن الله تؤيد الذين يبنون ، ويخطئ أولئك الذين يمكرون السيئات ، ويعتقدون أنّ باستطاعتهم أن يتقدموا بها ، فليس هؤلاء فقط لا يصعدون الى الله ، ولا ينالون من عزّة الله شيئا ، بل لهم عذاب شديد.

(وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ)

المكر هو الحيلة ، ومن يعيش عليها لا يفلح.

(وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ)

عملك الصالح يرفعه الربّ ، ومكر أولئك ينزّله ، ويبور أي يفسد ، وكثير من الناس الذين يبتزّون الناس ، كالمهر بين والمحتالين ، نجدهم ربما يربحون مرة ربحا خياليّا ، ولكنهم بالتالي يخسرون.

والعزّة يعني أن تبحث عن الطريق القويم ، فتمشي فيه ، وآنئذ سوف تجد أنّ سنن الحياة كلها تخدمك.

٣٢

[١١] ويؤكد السياق شمول تدبير الله لشؤون الإنسان ، ويبيّن كيف تجري تقلّبات حياة البشر على كفّ تقدير الله سبحانه ، فلقد خلقنا من تراب أوّلا ثم من نطفة ثم خلق لنا أزواجا ، ورزقنا ذرية ، لا نعرف جنس الحمل ولا تقديراته.

(وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً)

حتى تستأنسوا الى بعضكم.

(وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ)

لأنّك في لحظات الجنس قد لا تفكر في شيء ، ولكنّ الله يعلم ما تحمل كلّ أنثى. أهو ذكر أم أنثى ، كما يعلم ماذا يؤول اليه مصيره.

(وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ)

كم يكون عمر هذا المولود؟ وهل سيعمر طويلا؟ أو يباغته الأجل في عزّ طفولته أو ريعان شبابه؟ كل هذه التساؤلات في كتاب عند الله ، لا يضل ربي ولا ينسى.

(إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ)

هذه الأمور ليست عسيرة عند الله كما هي عسيرة عندك.

[١٢] (وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ)

الفرات والأجاج تأكيد لشدة العذوبة ولشدة الملوحة.

(وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها)

٣٣

من الماء العذب والمالح تأكلون لحما وتستخرجون حلية ، وقد وقف المفسرون طويلا حائرين ، كيف يمكن استخراج الحلية من الماء العذب الفرات ، فجاء العلم وأثبت إمكانية تربية اللؤلؤ في الأنهار.

(وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ)

في عموم الماء ، عذبه ومالحه ، من أجل أمرين :

الأوّل :

(لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ)

لأنّ السفينة لم تزل أفضل وسيلة لنقل البضائع بين الشعوب.

الثاني :

(وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)

حيث ان النعم وسيلة للكمال المعنوي المتمثل في شكر الله.

٣٤

يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (١٣) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (١٤) يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (١٥) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٦) وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ (١٧) وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (١٨)

___________________

١٣. [قطمير] : هو قشر النواة أي اللفّات التي فوقها.

٣٥

وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (١٩) وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (٢٠) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (٢١) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٢٢) إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (٢٣)

٣٦

أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ

هدى من الآيات :

يتشبث الإنسان ببعض الخيوط الواهية (العنكبوتية) ، ويترك ذلك الحبل المتين الذي لا بد أن يعتصم به ، وتذكّرنا آيات القرآن بأنّ مدبّر السموات والأرض هو الله ، فهو الذي يولج الليل في النهار ، ويولج النهار في الليل ، وسخّر الشمس والقمر ، وأنّ له الملك ، فلما ذا لا ندعوه ، بينما الذين يدعونهم من الشركاء لا يملكون حتى بمقدار قطمير.

وبالذات عند الضراء ، حيث يتحسّس البشر بضعفه الحقيقي ، لا يعقل هؤلاء الأنداد شيئا إذ لا يسمعون النداء ، ولو سمعوا لم يستجيبوا.

أمّا يوم القيامة فهؤلاء لا يشفعون لأحد إذ يكفرون بالمشركين.

ثم يؤكد ربنا هذه الحقيقة قائلا : «(يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ

٣٧

الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)» لماذا؟

لأنه يستطيع بأقل من لحظة واحدة أن يفنيكم عن أخركم ، وينشئ مكانكم مجموعة بشريّة جديدة ، وهل هناك فقر أكبر من هذا الفقر؟ فالإنسان في وجوده وفي استمرار بقائه يحتاج الى ربه ، وهل هناك غنى أكبر من غنى الرب ، الذي لو شاء أذهبكم ، وأتى بخلق جديد؟ وهذا هيّن عليه ويسير.

ثم يحدثنا السياق عن مسئولية الإنسان أمام ربه عن جميع أعماله ، وانه لا يستوي عند الله الصالح والكافر ، كما لا يستوي الأعمى والبصير ، ولا الظلمات ولا النور ، ولا الظل ولا الحرور ، ولا الأحياء والأموات.

فلا يجوز الاعتماد على الأنداد للهروب من المسؤولية كما لا يمكن القاؤها على الآخرين.

وإنّما جاء الرسول نذيرا (بأنّ السيئات تستتبع عقابا) وهو بالتالي لا يحمل من تبعات أمته شيئا.

بينات من الآيات :

[١٣] (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ)

الليل والنهار يلج أحدهما في صاحبه بصورة مستمرة ، بسبب حركة الأرض حول الشمس.

قال بعض المفسرين : إنّ كلمة «يولج» تدل على الاستمرار ، لأنّه في كل لحظة يتم إيلاج ، ففي هذه الساعة حكم الليل في أحد البلدان ، وبعد دقيقتين سيحلّ الليل على بلد آخر ، وفي المقابل يحلّ النهار على بلد في نفس الوقت ، والظهر

٣٨

في بلد ثالث.

وهناك تفسير آخر يحتمله الكلام هو إنّ الليل والنهار يأخذ أحدهما من الآخر في فصول السنة فمرة يكون الليل أطول ومرّة النهار.

(وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى)

الشمس والقمر يجريان ، ولكن ليس إلى ما لا نهاية ، وكذب من قال : إنّ الشمس والقمر أبديان ، كلا .. فشمسنا هذه مثلا في حالة الكهولة ، وكلّ ما في الكون يؤكد على النهاية ، فهذه الإنفجارات الهائلة في الشمس شاهد على تناقصها بشكل دائم ، والإنفجارات التي نسمعها بين الفينة والأخرى لبعض الشموس تؤكد لنا أنه لا بد من نهاية لشمسنا أيضا.

(ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ)

من الذي أولج الليل في النهار ، وأولج النهار في الليل ، ومن الذي سخّر الشمس والقمر ، كل يجري لأجل مسمى؟ إنّه الله ربكم ، وهو المالك حقّا.

(وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ)

القطمير هو قشر النواة الرقيق ، وما يملك الذين تدعون من دونه مثلها.

[١٤] (إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ)

فكيف يسمعون نجواكم أو سركم ، أو حين تدعونهم في الظلمات؟ ولو افترضنا أنهم سمعوا دعاءكم لم يستجيبوا لكم ، لأنهم لا يملكون دفع الضر عن أنفسهم ، فكيف بجلب الخير لكم؟!

٣٩

(وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ)

الملائكة والأنبياء كعيسى والأولياء الصالحون سيكفرون بشرككم ، وسيتبرأون منكم ومن عبادتكم لهم ، كما يكفر الأنداد بكم وبشرككم.

(وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ)

الخبير هو الذي خبر الشيء ، وعرف أبعاده ، ومن أخبر من الرب وهو الخالق المحيط بكل شيء علما؟

[١٥] إنّ الإحساس بالغنى الذي يسمّيه القرآن بالاستغناء ، والذي يدعو صاحبه إلى البطر والطغيان ، إنّه مرض خطير ، إذ يجعل الإنسان يعيش الوهم ، ولا يعايش الحقائق ، لذلك يذكّرنا ربّنا بواقع العجز المحيط بنا.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ)

ومن أشد فقرا منّا ، وقد أركزنا الربّ في العجز والضعف والمسكنة ، لأنّ كلّ شيء عندنا منه سبحانه. يقول الإمام الحسين (عليه السلام) في تضرعه المخصوص بيوم عرفة :

«إلهي! أنا الفقير في غناي فكيف لا أكون فقيرا في فقري»

(وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)

الغنى عادة ما يكون مع اللؤم ، ولكنّ الله غني حميد ، فهو غني ويعطي من غناه للآخرين ، وهو غني لا يبخل على الآخرين ، بل «لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ» (١) وهو حميد يحمد على غناه.

__________________

(١) الإسراء / (١٠٠).

٤٠