من هدى القرآن - ج ١١

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١١

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-14-9
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٤٩

من أعمال صالحة تتجسد ثمّة جنات وحور عين ، أو ذنوب تتجسد ثمّة نيرانا وحيّات.

(وَآثارَهُمْ)

فالصدقات الجارية ، والعلم الذي يهتدي به الناس ، والأولاد الصالحون ، هي الروافد المستمرة التي تنمّي حسنات المؤمن بعد موته ، بينما كتب الضلال ، وسنن الظلم والانحراف ، والتربية الفاسدة للأبناء ، تلا حق الفاسق حتى بعد وفاته.

هكذا روي عن النبي محمد (ص) :

«من سنّ سنّة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها ، من غير أن ينقص من أجر العامل شيء ، ومن سنّ سنة سيئة فعليه وزرها وزر من عمل بها» (٥)

(وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ)

ما هو ذاك الإمام الذي أحصى الله كلّ شيء فيه؟ هل هو اللوح المحفوظ؟ أم طائر كلّ شخص الذي ألزمه الله في عنقه ، ويلقاه يوم القيامة منشورا؟ أم هو إمام الحق أو إمام الضلال اللذين يتبعهما الناس؟

لعل القرآن الحكيم يشير إلى كل ذلك وأكثر ، إذ أنّ كلمات القرآن لا تتحدد في إطار السياق فقط ، بل تتجاوزها لبيان حقائق الخليقة ، بلى. يكون ذكر هذه الحقيقة هنا وتلك هناك بمناسبة موضوعات السياق.

أمّا الحقيقة التي نستوحيها من الآية فهي : إنّ لكل شيء إماما تتمثّل فيه

__________________

(٥) تفسير الرازي / ج (٢٦) / ص (٤٦).

١٠١

خصائصه بصورة متكاملة ، فالأنبياء وأوصياؤهم ـ أئمة الرشاد ـ تتمثل فيهم كلّ صفات الخير والفضيلة ، بينما الفراعنة والطغاة ـ أئمة الكفر ـ تتجسد فيهم كلّ صفات الرذيلة والشر.

ومن هنا جاء في الحديث المأثور عن أئمة الهدى تفسير هذه الآية الكريمة بالإمام أمير المؤمنين (ع) حيث روي عنه (ع) قوله :

«أنا والله الإمام المبين ، أبين الحقّ من الباطل ، ورثته من رسول الله» (٦).

__________________

(٦) عن نور الثقلين / ج (٤) / ص (٣٧٩).

١٠٢

وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (١٣) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (١٤) قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (١٥) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (١٦) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٧) قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (١٩) وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (٢٠) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٢١) وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٢) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً

___________________

١٨ (تَطَيَّرْنا) : تشأمنا بواسطتكم فنخاف أن يصيبنا شؤمكم فنقع في البلاء من طالعكم السيء.

١٠٣

إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (٢٣) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (٢٥) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (٢٦) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (٢٧) وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (٢٨) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (٢٩) يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٠) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (٣١) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٣٢)

___________________

٣١ [القرون] : الجيل والأمة باعتبار تقارن أعمارهم.

١٠٤

قالُوا : طائِرُكُمْ مَعَكُمْ

هدى من الآيات :

حين تتراكم حجب الغفلة على الأفئدة لا ينتفع أصحابها بالنذر ، كذلك قال ربّنا آنفا ، وهو الآن يضرب مثلا من أصحاب القرية التي جاءها المرسلون فلم يؤمن أغلبهم ، بل قالوا : ما أنتم إلّا بشر مثلنا ، ولم ينفعهم أنّ الله يشهد على صدق الرسل ، وأنّهم مسئولون عن موقفهم ، وليس النذر ، وبالغوا في التكذيب ، إذ تطيّروا بالرسل ، وتشاءموا من دعوتهم ، ولكن الرسل استقاموا في تحدّيهم لأولئك الجاهلين ، بالرغم من توعّدهم بأنهم سوف يرجمونهم إن لم ينتهوا من دعوتهم ، بأغلظ ما يمكن ، فقال الرسل : إنّ تشؤّمهم إنّما هو من أنفسهم ، وتهديدهم بالعذاب لا يلويهم عن تذكيرهم ، وإنّه لدليل على توغّلهم في الجريمة.

وهناك انتشرت الدعوة فجاء رجل من أقصى المدينة يسعى (لينذر قومه قبل ان يحلّ بهم العذاب لتكذيبهم الرسل) فنصح قومه إشفاقا عليهم باتباع المرسلين ، الذين تدل على صدقهم حجتان : الأولى : أنهم لا يسألونهم أجرا ، والثانية : أنّهم

١٠٥

مهتدون ، وذكّرهم بربهم بأبلغ صورة. أو ليس هو الذي فطرهم ، فلما ذا ينكرونه؟! أو ليس المرجع إليه ، فلم لا يرجونه أو يخافونه؟! أم يعتمدون على الآلهة التي لا تضرّ ولا تنفع ، ولا تمنع عذاب الله عنهم؟! إنّها الضلالة الواضحة (ثم تحداهم بكل عزم وقال :) إنّي آمنت بربّكم فاسمعون (لقد أخذ الرجل وعذّب ثم قتل ثم أحرق ، ولكنّ السياق يتجاوز كلّ ما حدث الى العاقبة فيقول :) قيل له : ادخل الجنة (وبقي حنين هذا الصّدّيق الى بعد استشهاده ، فتراه يقول وهو يدخل الجنة :) (يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ).

بينات من الآيات :

[١٣] قصة المرسلين الثلاثة الى قرية (أنطاكية) التي جعلت قلب سورة (يس) التي هي بدورها قلب القرآن تتمثّل فيها الحقائق التالية :

أولا : توجز مفصّلات الصراع الرسالي مع الجاهلية ، حيث نرى فيها جانبا من حوار الرسل مع الأمم الغاوية ، وحججهم البالغة عليهم ، وشبهات الكفار وردود المرسلين عليها ، وسائر فصول الصراع المعروفة ، فهي ـ بالتالي ـ تجمع جملة الحقائق التي ذكّرت بها آيات الكتاب في هذا الحقل.

ثانيا : تمثّلت فيها سنّة الله في الإنذار ، وعادة الجاهليين في الإنكار ، واللتين ذكرت بهما آيات الدرس الآنف ، وهكذا تكون القصة حجة على الحقائق التي بيّنها القرآن في فاتحة السورة.

ثالثا : إنّ سورة يس تبيّن واقع الجاهليين العرب وهو قريب جدا من واقع أصحاب القرية (في أنطاكية) ذلك لقرب العهد الزمني ، وتشابه الرسالتين (رسالة الله الى عيسى (ع) ورسالته لمحمد (ص)) وهكذا وجب أن نستخلص منها العبرة ربما

١٠٦

أكثر من أيّ قصة أخرى.

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً)

إنّ هذا المثل ينطبق على مثلهم ، لأنهما من نوع واحد وحزب واحد.

(أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ)

أين كانت هذه القرية ، ومن هم المرسلون إليها؟

قالوا : إنّها كانت أنطاكية ثانية حواضر الروم ، والواقعة اليوم في تركيا على حدود سوريا (١٠٠ كيلومتر الى حلب تقريبا) وقريبة من ميناء الاسكندرية على البحر الأبيض (٦٠ كيلومتر تقريبا) وهي لا زالت كبيرة ، إلّا أنّها في ذلك اليوم كانت أكبر ، ويحترمها المسيحيون لأنّ بولس وبرنابا وآخرين زاروها.

أمّا قصة الرسالة فلم يختلف المفسّرون فيها إلّا في بعض التفاصيل ، وهي باختصار :

إنّ عيسى ـ عليه السلام ـ بعث اثنين من الحواريين الى تلك القرية بالرسالة ، فلما بلغاها وجدا في أقصاها حبيب النجار فدعياه الى الرسالة فآمن ، ولما دخلا المدينة دعوا الناس فآمن بعضهم ، ومرّ بهما الملك ذات يوم فكبّرا (ويبدو أنهما لم يجدا طريقا لدعوته غير ذلك) فحبسهما الملك ، وبعث عيسى ـ عليه السلام ـ الرسول الثالث لتعزيز موقف الأوّلين (ولعله كان وصيّه شمعون) فتقرّب الى الملك حتى استخلصه فحدثه عن شأن الرسولين ، وطلب منه أن يسمع منهما الحجة ، فلما أظهرا حجتهما بإبراء الأكمه وإحياء الموتى (حيث أنّ ابن الملك أو ابن واحد من حاشيته كان قد مات قبل أسبوع فأحياه الله بدعائهما) آمن الملك وبعض قومه ،

١٠٧

إلّا أنّ الغلبة كانت للمكذبين الذين أهلكهم الله بصيحة واحدة.

وهكذا يرتفع الاختلاف الظاهر بين روايات التفسير التي تنتقل أنّ الملك آمن ، وبين ظاهر الآية التي تنبّأنا بهلاك أولئك القوم ، ذلك أنّ إيمان الملك ـ حسب هذه الرواية التي نقلها الفخر الرازي ـ لم يؤثّر في الطبقات المسرفة من قومه ، فأنزل الله عليهم العذاب ، والله العالم.

[١٤] وليس المهم أن نعرف تفاصيل القصص القرآنية ، إنّما المهم أن نتدبّر في الجوانب التي يخبرنا ربنا عنها ، لأنّها هي التي تنفعنا ، وتجري علينا سنن الله فيها كما جرت على الأولين.

وهكذا كذّب أولئك الغافلون اثنين من المرسلين فعزّز الله دينه بالثالث.

(إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ)

هل كانا رسولين من عند الله مباشرة؟ أم كانا من عند المسيح روح الله ـ عليه السلام ـ كما تروي التواريخ؟ وإذا كيف يقول ربنا سبحانه : «أرسلنا»؟

ربما كانا نبيّن ـ كما هارون مع موسى ، ويحيى مع عيسى ـ إلّا أنّ المفروض عليهما كان طاعة عيسى ـ عليه السلام ـ باعتباره من أولي العزم.

ولعل رسول عيسى ـ عليه السلام ـ يعتبر عند الله رسوله ، لأنّ عيسى إنّما أرسلهما بإذن الله ، أو ربما بأمر مباشر من الله ، فهما بالتالي رسولان من عند الله.

(فَكَذَّبُوهُما)

بالرغم من أنّ البعض آمن بهما ـ كالصّدّيق حبيب النجار الذي جاء ينذر قومه

١٠٨

من أقصى المدينة ـ إلّا أنّ الأغلب كان قد كذّب بالرسولين ، لأنهم قد حقّ القول عليهم.

(فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ)

لقد عزّز الله دينه الحق بالرسول الثالث ، الذي قالوا : إنّه كان شمعون وصي عيسى.

(فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ)

لا يتعرّض السياق لبيان الآيات التي تقول الروايات أنّها ظهرت على أيديهم ، مثل إبراء الأكمه وإحياء الموتى ، فهل لأنها لم تكن ضرورية ، إذ أنّهم عرفوا صدقهم من خلال أقوالهم ، وما دعوا اليه من حقائق ، ومن خلال سلوكهم واستقامتهم؟ أم لأنّ ظهور الآيات على أيدي الرسل كانت سنّة لا تحتاج الى مزيد بيان؟

لعل القوم كانوا مستبصرين فأغواهم الشيطان ، وأنّ دعوة الرسل جاءت لتذكيرهم بالحقائق التي آمنوا بها من قبل فلم تكن بحاجة الى آيات جديدة ، والله العالم.

[١٥] أمّا شبهة قومهم فكانت تتلخّص في أنّه كيف يبعث الله بشيرا رسولا ، وبالتالي لماذا نطيعكم وأنتم مثلنا؟

(قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا)

ثم تمادوا في الغيّ حيث لم ينكروا فقط رسالة هؤلاء بل كفروا بكلّ رسالة ، وقالوا

١٠٩

(وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ)

لا رسالتكم ولا رسالة غيركم. وهكذا ازدادوا كفرا وطغيانا ، ولكن لماذا جيء باسم الرحمن هنا؟ هل لأنّ الرسل ذكروا هذا الاسم وهم يبيّنون لهم أنّ ربهم لا يتركهم بلا رسالة ، لأنه واسع الرحمة شديد العطف ، فقال الكفار كلّا ... ما أنزل الرحمن؟ أم لأنّهم زعموا أنّ رحمة الله تأبى إنزال التكاليف الشاقّة عليهم بالرسالة؟ يبدو أنّ الأوّل أقرب ، فيكون جوابهم مضمرا في حديث أنفسهم.

(إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ)

فلأن أصل الرسالة مرفوض عندهم فإنّ دعوة الرسل تكون ـ بزعمهم ـ مجرد كذب ، ولعل هذه الآية تدلّ على أنّ الرسل كانوا ينطقون عن الله مباشرة.

[١٦] الله تعالى أكبر شاهد على صدق رسله. أولم يودع في ضمير كلّ إنسان عقلا يهديه الى الحق؟ أولا يظهر على أيدي رسله الآيات؟! أو لا ينصرهم؟ أفلا تدل استقامتهم على صدقهم ، أنّهم واثقون تماما من أنّهم مرسلون وأنّهم لصادقون؟

(قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ)

ولكن لا يعني تحمّلهم لمسؤولية الرسالة أنّهم مسئولون عن موقف الناس ، إنّما جزاؤهم على ربّهم.

[١٧] (وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ)

فإذا أبلغنا كم الرسالة بوضوح تام فقد انتهى دورنا وبدأ دوركم.

ونستوحي من الآية : أنّ البشر مسئول عن معرفة الهدى ، ولا يحقّ له أن يبرّر

١١٠

جرائمه بأنه لم يكن مهتديا للحق ، كلّا ... إذا ظهرت دعوة الى الحق فعليك أن تتفكّر من دون عصبية أو عزة ، وترى هل هي صادقة أم لا.

[١٨] يغفى الجاهليّون على حرير التبريرات غارقين في شهواتهم ، فإذا جاءهم نذير وقدم لهم الوعيد بأنّ عاقبة غفلتهم الدمار ، فإنّهم يتشاءمون منه ، ويزعمون أنّه يكدرّ عليهم صفو معيشتهم ، فمثلهم مثل مريض ، تفشّى في جسده مرض السرطان ، وهو لا يدري ، فإذا أخبره الطبيب وحذّره من مغبّة غفلته ثار عليه ، وقال : إنّك منكّد ، لماذا أنت سلبي؟

(قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ)

تشاءموا منهم ، وزعموا أنّ بيان سلبياتهم ، والدعوة الى إصلاح الفاسد من حياتهم ، هو سبب الإزعاج عندهم.

واحتمل بعض المفسرين أن يكون قد نزل عليهم البلاء عند بلاغ الرسل ، كما نزلت على فرعون وقومه آيات الدم والسنين و. و. ، ويبدو أنّنا لسنا بحاجة الى مثل هذا الفرض.

(لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ)

هكذا بلغ عنادهم أسفل درك له حين هدّدوا المرسلين بالرجم لو لم يكفّوا عن دعوتهم ، وسواء كان الرجم هو جراحات اللسان التي لا تلتئم ، حيث توعّدوهم بتلفيق التهم المختلفة ورجمهم بها ، كعادة الطغاة والمترفين دائما ، أم كان معنى الرجم هو الرضخ بالحجارة حتى الموت ، فإنّ ذلك دليل على هزيمتهم أمام حجة المرسلين فتوسّلوا بإرهابهم.

١١١

(وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ)

وماذا فوق الرجم (لو كان معناه الرضخ بالحجارة) من عذاب ذي ألم؟

لعلّهم هدّدوهم بالقتل بأبشع صورة.

[١٩] وعكس جواب المرسلين سكينة الحق ، وطمأنينة الثقة بنصر الله ، إذ لم يهنوا ولم يحزنوا بل كشفوا لهم الحقائق دون لبس ومن دون استخدام ألفاظ نابية.

(قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ)

كان شؤمهم في أنفسهم السلبية ، في عنادهم ، وتعصّبهم لباطلهم ، وفي أعمالهم التي جرّت الويلات إليهم. أرأيت الفيروس مستقر في جسد المريض أم في كلام الطبيب؟ أو رأيت الذي ينهى أحدا من الوقوع في بئر محفورة في طريقه؟ هل الخطر كامن في نهيه أم في غفلة من يمشي؟

المجتمع الفاسد الذي يمشي على حرف الهاوية ، ويهدّده السقوط في أيّة لحظة ، طائره المشؤوم إنّما هو طبقيته ، وظلم أفراده بعضهم البعض ، وإسرافه ، وليس في دعوة المنذرين.

(أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ)

فإذا ذكّرتم بما يهدّدكم من أخطار ، فهل هذا يسمّى طائرا عندكم؟!

وقال المفسرون : إنّ هذه الكلمة بمثابة إجابة عن تهديدهم بالرجم والعذاب ، أي : هل تعذّبوننا لأننا ذكّرناكم؟

ويبدو لي أنّ محور كلام الكفار هو التطيّر ، وأنّ محور كلام الأنبياء هو الجواب

١١٢

عن هذا التطيّر.

(بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ)

فإسرافكم هو السبب في الشؤم الذي أصابكم ، ولعل هذه الآية تتشابه وقوله سبحانه : «وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ». (١)

وذهب البعض الى أنّ الإسراف هنا بمعنى الإسراف في الجريمة والظلم ، وأنّه يتصل بتهديد الرجم.

[٢٠] وهنا تدخل المسرح صورة جديدة ، هي انعكاس الرسالة على قلب واع ونفس زكية ، ذلك الرجل المؤمن الذي وجد قومه أشرفوا على الهلاك بكفرهم ، فسارع إليهم يحذّرهم مغبّة رفض الرسالة.

(وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى)

جاء في الروايات أنّه الصّدّيق حبيب النجار ، الذي بلغته الرسالة بالرغم من أنّه كان في أقصى المدينة ، وبادر الى النصيحة مع أنّه كان ـ حسب الروايات ـ راعيا ، ولعل كلمة «أَقْصَا الْمَدِينَةِ» تشير الى طبقته الدانية عند أولئك القوم ، كما تشير الى موقعه الجغرافي مما تدل على انتشار الرسالة في صفوف بعض المستضعفين ، الذين بالرغم من انهم كانوا يعيشون في أقاصي المدينة ، وليس في أعاليها حملوا مشعل الرسالة بكل قوّة.

ولعل تنكير كلمة الرجل للدلالة على اكتمال صفات الرجولة فيه من الهمة العالية ، والحزم الشديد ، والقول الثابت ، كقوله سبحانه : «مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ

__________________

(١) هود / (١١٦).

١١٣

 صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً».

وربما سعى الرجل سعيا لاهتمامه البالغ بالإنذار ، وحرصه الشديد على سلامة قومه ، وهكذا يحرص أصحاب النفوس الطيبة على أمن الناس ، ويتفانون في إبلاغ رسالات الله لإنقاذهم من عذابه المحتوم.

(قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ)

لقد كان الرجل منهم ، وخاطبهم بما يتناسب ومقام النصيحة ، إذ قال : «يا قوم» ، وكشف منذ البدء عن إيمانه حين أمرهم باتباع المرسلين.

وروي أنه كان واحدا من الصّدّيقين الثلاثة في التاريخ ، فلقد جاء في كتاب «الدر المنثور» : أخرج أبو داود وأبو نعيم وابن عساكر والديلمي عن أبي ليلى قال : قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ :

الصّديقون ثلاثة : حبيب النجار (مؤمن آل ياسين) الذي (قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ)» ، وحزقيل (مؤمن آل فرعون) الذي قال : «أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ» ، وعلي بن أبي طالب ، وهو أفضلهم (١)

[٢١] ومضى الصّدّيق حبيب النجار في سرد حجج المرسلين قائلا :

(اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً)

فلا يمكن أن يتهموا بالكذب ابتغاء الأجر ، فهم ليسوا سحرة ومشعوذين ، ولا طلاب كراسي وسياسيين ، ولا أصحاب ثروة ومترفين ، فلما ذا يكذبون ، وإنّما يفتري الكذب ـ خصوصا في مثل هذه الدعاوي العظيمة ـ من يطلب أجرا من أيّ

__________________

(١) راجع تفسير الميزان / ج (١٧) / ص (٨٣).

١١٤

نوع كانت ، وسيرة الأنبياء كما نمط دعوتهم يشهد لهم بالنزاهة التامة.

(وَهُمْ مُهْتَدُونَ)

بلى. قد يدّعي البعض دعاوي كاذبة بجهل أو جنون ، وحاشا رسل الله من ذلك ، إنّ رصانة دعوتهم ، وكمال عقولهم ، وحسن سلوكهم وسيرتهم ، ووضوح خطهم ، واستقامتهم على الطريق برغم الصعاب ، كلّ أولئك شواهد حكمتهم وأنّهم مهتدون.

ثم إنّ مبادرة الرسول ـ أيّ رسول ـ بالعمل بما يدعو الناس اليه من مكارم الأخلاق ، وحسن الفعال تشهد على صدقه.

[٢٢] ثم إنّ محتوى دعوة المرسلين شاهد صدق لهم ، فهم يدعوننا الى الله الذي أخذ علينا ميثاقا في عالم الذر بالايمان به ، الله الذي أودع قلوب البشر فطرة الإيمان به ، الله الذي تابع نعمه علينا ، وتأمرنا عقولنا بضرورة شكره؟

إنّ دعوة الأنبياء ليست الى أنفسهم ولا الى عنصر أو حزب أو طائفة ، إنّما هي الى الله الذي لا شك فيه ، والذي فطر الجميع على سواء.

(وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)

إذا كانت هذه حقيقة رسالات النبيين فلما ذا نكفر بهم؟! وماذا يملك من فقد ربه الذي خلقه واليه المعاد؟!

وهكذا نجد هذا الصّدّيق العظيم لم يدع فقط الى اتباع المرسلين ، بل شارك في الدعوة الى محتوى رسالاتهم ، وهو التوحيد.

١١٥

[٢٣] ثم ندّد بالشركاء المزعومين ، وبيّن أنّ أساس عبادتهم باطل :

(أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً)

فاذا خضع لسلطة سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية من دون الله ، فلكي تعطيه الأمن والسلام ، ولكي توفّر له الحماية من ذنوبه أمام غضب الرب ، فهل تفعل الآلهة شيئا من ذلك؟! كلّا ...

(إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ)

فلا يخفف العذاب عنه بسبب عبادته للآلهة من دونه ، بل ذات العبادة جريمة نكراء يعاقب عليها الله ، ولا تستطيع الآلهة إنقاذ المشرك منه.

[٢٤] (إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ)

لو تركت عبادة الفاطر الذي اليه النشور ، والقاهر على عباده ، الى عبادة الآلهة التي لا تضر ولا تنفع.

والضلال المبين هو : الضلال الواضح الذي لا ريب في ضلالته.

[٢٥] ثم أعلن للملأ جبهته التي انتمى إليها ، وتحدّاهم بإعلان براءته منهم ، فقال

(إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ)

ولعله أبلغهم بذلك بعد أن رفض المعاندون قبول نصيحته ، وهدّدوه بإنزال العقوبة عليه كما هدّدوا المرسلين من قبل ، ولكنه استقام ، وأمرهم بأن يسمعوا شهادته بوحدانية الرب بلا لبس.

١١٦

ولا ريب أنّ من الحجج البليغة على صحة الدعوة إيمان صاحبها الذي لا يتزلزل ، وتحديه العالم بها.

[٢٦ ـ ٢٧] وفعلا نفّذوا التهديد الأرعن بحقه ، فوطئوه بأرجلهم حتى مات ، حسب قول ، وحسب قول آخر أنّهم رجموه حتى قتلوه.

فأدخله الله الجنة ، وحينما همّ بدخولها تمنّى لو كان قومه معه :

(قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ* بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ)

وجاء في الحديث عن الرسول (صلّى الله عليه وآله) أنه قال عن مؤمن يس :

«إنّه نصح لهم في حياته وبعد موته» (٣)

وهكذا الشهداء يتمنّون لو يعادوا الى الدنيا ليخبروا أهلها بما للشهيد من مغفرة وكرامة.

[٢٨] مضى الصديق حبيب النجار شهيدا الى ربه ، ولم يلبث قومه الجبارون من بعده إلّا قليلا حتى أهلكهم الله ، ولكن كيف تمّ هلاكهم؟

(وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ)

من الملائكة أو ما أشبه ، ولعلّ ذكر «السماء» هنا للدلالة على أنّ الأمر المهم كان ينزل من السماء.

(وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ)

__________________

(٣) تفسير نمونه / ج (١٢) / ص (٣٥).

١١٧

فما كان ينبغي لرب العزة أن يبعث جندا لمثل هذا القوم. أليس قد تحقّق الهدف من دون ذلك؟

[٢٩] فبماذا تمّ هلاكهم؟ إنّما بصيحة واحدة جعلتهم ـ في لحظة ـ كالرماد الخامد ، لا حسّ ولا حركة ولا حرارة.

(إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ)

[٣٠] ويعقب السياق على هذه القصة التي لخّصت تجارب الرسالات تقريبا قائلا :

(يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ)

إنّها تستدعي الحسرات ، حتى أنّ كلّ شخص يكون في مثل هذا الموقع لا بد أن يتحسّر ، أنّ الله خلق عباده ليرحمهم ، وأكرمهم بالإرادة والحرية ، فاختاروا طريق الهلاك ، فبعث إليهم الرسل لينذرهم من مغبّة أعمالهم ، ولكنهم استهزءوا بهم ، وعرّضوا أنفسهم للهلاك الذي يجرّ الحسرات. كيف ضيّعوا فرصتهم الأخيرة بالاستهزاء؟! وكيف أصبحوا وقود جهنم ، وكان من المرتقب أن يكونوا ضيوف الرحمن في الجنة؟!

(ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ)

ولعل الاستهزاء هو أشدّ ألوان الكفر ، وأبعد سبل الضلالة ، حيث يعيش صاحبه حالة العبثية واللّاهتمام ، ومثله في هذا المقام مثل الطبيب الذي ينصح المريض بالدواء ، ويحذّره من الهلاك ، فبدل أن يشكره المريض ، ويبادر الى تنفيذ أوامره تراه يضحك منه. أو ليس مثل هذا الرجل يستدعي الإشفاق والحسرات؟!

١١٨

[٣١] وهم يغفلون عن مصير الغابرين الذين أهلكهم الله بكفرهم واستهزائهم ، ولم يبق منهم سوى العبرة.

(أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ)

وأعظم ما في الغابرين من أسباب الموعظة أنّهم قد ضيّعوا فرصتهم الوحيدة ، وأنّهم لا يرجعون أبدا إلى أهلهم.

(أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ)

ألا نقف على أطلالهم ، ونتساءل : أين الذين عمّروها وعاشوا في ظلّها ، وهل يعودون يوما ليروا آثار الدمار الذي لحق ببلادهم ، أو ليخبرونا ماذا كان مصيرهم؟ كلّا ...

[٣٢] بلى. سوف يجتمع الناس كلّهم في يوم الحسرة ليحاسبوا حسابا عسيرا ، ثم ليجازوا جزاء وافيا.

(وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ)

قالوا : إنّ حرف «وإن» هنا أصلها إنّ بالتشديد ، وإنّ كلمة «لمّا» جاءت للتأكيد ، وهكذا يكون التأكيد يتبع التأكيد : «إن» للتأكيد ، و «كلّ» تفيد معنى التأكيد أيضا ، و «لمّا» والجميع تأكيد أيضا.

وقال البعض : «إن» نافية و «لمّا» بمعنى إلّا ، كما يقول القائل : نشدتك بالله لما فعلت ، أي إلّا فعلت.

ويجوز أن يكون معنى «لمّا» هو التوقّع ، وفيه معنى النفي أيضا ، أي لم يقع

١١٩

حتى الآن وسوف يقع.

وكلمة أخيرة :

تقول آخر الدراسات التي بحثت عوامل نشوء الحرب العالميتين : إنّ البشرية ـ انساقت إليها انسياقا ، فلا أحد من القادة المتحاربين كان يريدها حربا مدمرة لا تبقي ولا تذر ، ولكنّهم كمن ينحشر في الزحام يدفع ويدفع ولا يجد سبيلا للخلاص ، انحشروا فيها بلا إرادة ووعي.

كذلك حين تتراكم سلبيات الأمم تتفجر في صور شتى ، منها : الحروب التي يجازي الله بها العباد. أو لم يقل ربنا سبحانه : «قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ» (٤).

وهكذا تلاشت قوة هتلر واليابان ، وتأخّرت أوروبا حتى أضحت القوة الثالثة. لماذا؟

للجرائم التي ارتكبت بشأن الإنسانية ، وللانحراف الكبير عن سنن الله التي لا تتغيّر.

واليوم كيف يذر الرب العزيز الحكيم هذه الجرائم ترتكب بحق خلقه؟! هذا الظلم العريض ، وهذا الاستضعاف الشامل ، مئات الملايين من خلق الله يظلمهم حفنة من المستكبرين ، فهل يهمل الله عباده؟!

كلّا ... ولكنه يملي لهم إنّ كيده متين ، فإن لم يرجعوا عن غيّهم ، ويعتبروا

__________________

(٤) الانعام / (٦٥).

١٢٠