من هدى القرآن - ج ١١

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١١

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-14-9
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٤٩

والذي يضمن هذا الجزاء الحسن لهم هو وعد الله. أترى يخلف الله وعده؟

(وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعادَ)

ويشوّقنا الرسول ـ صلّى الله عليه وآله ـ الى تلك الجنة في تفسيره للآية فيقول في جواب علي ـ عليه السلام ـ حين سأله عن تفسير الآية :

«بماذا بنيت هذه الغرف يا رسول الله؟ فقال : يا علي تلك غرف بناها الله لأوليائه بالدر والياقوت والزبرجد ، سقوفها الذهب ، محبوكة (١) بالفضة ، لكل غرفة منها ألف باب من ذهب ، على كل باب منها ملك موكّل به ، وفيها فرش مرّفوعة ، بعضها فوق بعض من الحرير والديباج بألوان مختلفة ، حشوها المسك والعنبر والكافور ، وذلك قول الله : (وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) فإذا دخل المؤمن الى منازله في الجنة وضع على رأسه تاج الملك والكرامة ، وألبس حلل الذهب والفضة والياقوت والدر منظوما في الإكليل تحت التاج ، وألبس سبعين حلة حرير بألوان مختلفة ، منسوجة بالذهب والفضة واللؤلؤ والياقوت الأحمر ، وذلك قوله : (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ) فإذا جلس المؤمن على سريره اهتز سريره فرحا ، فإذا استقرت بوليّ الله منازله في الجنة استأذن عليه الملك الموكل بجنانه ليهنئه بكرامة الله إيّاه ، فيقول له خدّام المؤمن ووصفاؤه (٢) : مكانك فإنّ وليّ الله قد اتكى على أريكته وزوجته الحوراء العيناء قد ذهبت اليه فاصبر لوليّ الله حتى يفرغ من شغله» (٣)

[٢١] حين نتأمل في نعم الله المبثوثة حولنا نزداد إيمانا بصدق وعد ربنا بنعم الجنة التي هي أنقى وأبقى.

__________________

(١) حبكه : شدّه وأحكمه.

(٢) وصفاء جمع الوصيفة : الجارية.

(٣) المصدر / ص (٤٨٣).

٤٦١

تعالوا إلى الروابي لننظر الى الغيث حين ينزل على الأرض فينشر الله عليها بركاته. تأملوا في طبقات الأرض ، وأمعنوا النظر في القنوات التي جعلها الله فيها وفي الأحواض الكبيرة التي تنتهي إليها فتختزن مياه المطر بعد تنقيتها في جوف الأرض ثم تتفجّر ينابيع مستمرة على مدار السنة .. أو لا تشهدون يد القدرة الإلهية التي نظّمت الخليقة أحسن تنظيم؟!

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً)

كيف سخّر الرياح لحمل السحب الثقيلة من أعالي البحار ، وكيف مرّرها بتيارات باردة ، وكيف لقّحها بعواصف الرياح الهوج في جوّ السماء؟! ثم كيف هداها الى حيث أمرها بإلقاء حملها؟! تبارك الله ربّ القدرة والرحمة.

والماء هو الماء ، ولكنّه ينقسم الى ما يصرف آنيا ، وما يختزن في باطن الأرض.

(فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ)

من الربيع الى الخريف ، ومن الشتاء الى قيض الصيف.

(ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ)

فإذا بالماء الواحد يجعله الله نباتات مختلفة.

(ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا)

فحين تينع الثمار ، وتيبس الحبوب ، لا تستقر في مواقعها ، بل تميل الى الصفرة بعد الخضرة استعدادا لحصادها.

(ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً)

٤٦٢

يابسا تذرّه الرياح ، والحطام ما يتفتت من النبت ، أو لا ترون آثار القدرة والتدبير في كلّ هذه الدورة الحياتية السريعة؟!

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ)

يعرفون الله من خلال آياته ، ويعرفون صنع الله فيما يأتي من خلال صنعه فيما مضى ، ويعرفون سنة الله الواحدة في الخلق فكما تمرّ النباتات بالدورة الحياتية يمر الإنسان بذات الدورة ، وعليه أن يستعدّ للرحيل ، ويتزوّد للمسير بالتقوى ، ويأخذ من دار الغرور لدار الجزاء.

وكلمة أخيرة : إنّ هذه الدورة النباتية تعكس النبات في حالتين : عند ما يزهو في اخضراره ، وحينما يكون حطاما. إنّه ذات النبات يمر بحالتين ، كذلك الإنسان قد يكون في ذروة إيمانه وقد يكون في حضيض الكفر. هل يستويان مثلا؟!

٤٦٣

أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٢) اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٢٣) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٢٤) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٥) فَأَذاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٢٦) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي

___________________

٢٣ [مثاني] : جمع مثنى أي أنّ قصص هذا الكتاب وإخباراته وأحكامه تذكر مثنى مثنى في قوالب مختلفة للتركيز في الأذهان.

٤٦٤

هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٧) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٢٨) ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٩)

___________________

٢٩ [متشاكسون] : التشاكس التمانع والتنازع ، وأصله من الشكاسة وهو سوء الخلق والاختصام.

٤٦٥

اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ

هدى من الآيات :

من تجلّيات الإعجاز البلاغي في كتاب ربّنا أنّه مثاني تقشعرّ منه جلود الذين آمنوا ، ومن معاني المثاني أنّه يتابع سلسلتين من الأفكار متداخلتين يتحدّث عنهما معا في سياق آياته بنظم دقيق ومنهج متين ، ذلك أنّه من الله الذي لا يشغله شيء عن شيء.

وهنا نجد السياق في ذات الوقت الذي يتابع الحديث عن فوارق النمطين من الناس : فهناك من شرح الله صدره للإسلام ، وهناك من قسى قلبه من ذكر الله ، ويتقي بوجهه سوء العذاب ، ويكذب بالله ليلقى جزاءه خزيا في الدنيا ، في ذات الوقت يبيّن خصائص القرآن وكيف تتلقّاه النفوس الطيبة ، وكيف يضرب الله فيه من كلّ مثل للناس لعلّهم يتذكرون.

٤٦٦

بينات من الآيات :

[٢٢] ما هي المعرفة ، وكيف يتخلّص البشر من رواسب الجهل ، ولماذا نجد البعض يرتفعون الى أعلى درجات الإيمان بينما يهبط الآخرون الى الحضيض في الكفر؟

للقرآن بصيرة واضحة في المعرفة تتلخص في أنّ محل العلم القلب ، فإذا كان منشرحا ازداد معرفة وإيمانا ، بينما القلب القاسي لا يتّسع للمعرفة.

(أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ)

ما هو الصدر المنشرح بالإسلام؟

الإسلام هو التسليم لله لسنن الله لشرائع الله وللحق أنّى كان ، فإذا شرح الله الصدر خشع له ولان لكلمات الله ووسعها كما تخشع الأرض الطيبة لماء السماء ، كما تلين التربة الصالحة لنبتة مباركة ، كما تستقبل الزهور النسيم العليل ، بينما القلب القاسي كالصخرة الصمّاء لا يتسع لمعارف الحق ، ولا يهتزّ لوابل السماء ، ولا ينبت زهرة ، ولا يستقبل نسمة.

هكذا أوصى نبيّنا الأكرم ابن مسعود فقال له : «يا ابن مسعود! فمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربّه ، فإنّ النور إذا وقع في القلب انشرح وانفتح.

فقيل يا رسول الله : فهل لذلك علامة؟ فقال : نعم ، التجافي عن دار الغرور ، والإنابة الى دار الخلود ، والاستعداد للموت قبل نزول الفوت ، فمن زهد في الدنيا قصر أمله فيها ، وتركها لأهلها» (١)

__________________

(١) بحار الأنوار / ج (٧٧) ص (٩٣).

٤٦٧

(فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ)

فبالنور الربّاني يتصل صدر الإنسان بعالم الحقائق ، فيتسع لها ، وينشرح بها ، ونور الله هو العقل المستضيء بالوحي ، ولعل التعبير ب «على» للإيحاء بأنّ المؤمن ماض على صراط مستنير ، كقوله سبحانه : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ).

ويمكن أن نستوحي من الآية : أنّ للقلب حالتين : فهو ينغلق على ذاته فلا يرى إلّا نفسه فيعيش فقط ضمن مصالحها وتمنياتها وأوهامها ، ويريد العالم المحيط لذاته ، فيكون قاسيا ومع الهوى متقلّبا ، وبالرين والطبع متلبّسا ، لا يعترف بقانون ، ولا يؤمن بسنة ، ويكون مثله من يعيش في بيت ويزعم بألّا أحد يمكث فيه معه ، فيفعل فيه ما يشاء ، ويتحلّل من كلّ التزام ، وأمّا الحالة الثانية فهي الخروج من زنزانة الذات الى رحاب الحقيقة ، حيث يعيش في عالم واقعي يعترف بوجوده ، ويسعى للتعرف عليه والتكيّف معه ، ان مثل صاحبها كمن يدخل بلدا ويعلم أنّ فيه أناسا لا بد أن يعايشهم ، وأنّ لهم قوانين لا بد من الالتزام بها ، وهكذا لا يضيق ذرعا إذا تعرّف عليهم وعرف حقوقهم ، بل أنّه يستقبلهم بترحاب ، ويخضع لنظامهم بلا تردّد.

وإذا كانت الحالة الأولى تعكس الجمود والتخلّف والجهل والفوضى ، فإنّ الحالة الثانية هي ذروة النشاط والرقي والعلم والالتزام.

(فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ)

الله الذي وسعت كلّ شيء آيات رحمته وقدرته وعظمته ، مع ذلك ترى قلوبهم قاسية من ذكره ، فكيف سائر حقائق الخلق؟ أرأيت من عمي عن ضوء الشمس هل يرى شمعة؟! كذلك حين قسى القلب عن ذكر الله فلا يرجى أن ينشرح لمعرفة

٤٦٨

شيء.

(أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)

يحيط بهم الضلال المبين كما يحيط بأولئك نور الله.

[٢٣] من أبرز معالم شرح الصدر استقبال نور الله في القرآن ، فلقد أنزل الله أحسن الحديث ، اختصر الجمال والروعة والبلاغة والعلم والهدى والنور ، وتجلّى فيه الربّ حتى رأت فيه قلوب المؤمنين جمال ربّهم كما رأت أعينهم جمال صنعه.

(اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ)

إنّه مرآة تعكس روعة الخلق وجمال الخالق وأحسن الخلق وأنبل الأعمال ..

(كِتاباً)

منتظما في وحدة متماسكة ، مجموعا الى بعضه بتماسك لا ثغرة فيه ولا فطور ، ولا تناقض ولا اختلاف.

(مُتَشابِهاً)

بعضه يشهد على بعضه ويفسره ويبينه ، وفي ذات الوقت لا يرقى الى كنه فهمه عقل ، ولا ينفذ في غور علمه أحد ، وكلّما تلوت آياته استفدت علما جديدا وهدى طارفا ، وما أوتيت من علم فهو بالنسبة إليك محكم ، ولكن يبقى ما لم تؤت من علم كالمحيط الواسع لا تتناهى عجائبه ولا تنقضي غرائبه.

(مَثانِيَ)

فنجد فيه :

٤٦٩

أوّلا : مفارقات بين الخالق والمخلوق ، بين الحق والباطل ، بين المحسن والمسيء ، كما يذكّرنا بالمفارقات الظاهرة بين النور والظلام ، بين الظل والحرور ، بين الحرية والعبودية ، و. و.

ولعل سورة الزمر قد بلغت الذروة في هذا التميّز ، بالذات بين الناس حيث تجلت فيها صفة (الفرقان) في معرفة الصالحين وتزيّلهم عمن سواهم.

ثانيا : مقارنات بين أزواج الطبيعة ، بين الذكر والأنثى ، بين السماء والأرض ، البر والبحر ، الإنسان والحيوان ، الزيتون والأعناب ، الفاكهة والأب ، وهكذا.

ثالثا : شواهد وأمثلة ، فما من حقيقة يذكّر بها كتاب ربّنا إلا وتتثنّى بتفسيرها ودليلها ومثالها ، فما تتلو فيه من آية حتى تجد في السياق عادة أو في موقع آخر تبيانا لها ، فإذا ذكرت عاقبة المتقين ضربت لها أمثلة من جزائهم عند الله وانتصارهم في الدنيا ، وإذا ذكرت من صفات المتقين واحدة ثنّيت بشواهدها من حياة النبيين ـ عليهم السلام ـ ، وإذا ذكرت حقيقة من حقائق التوحيد توالت شواهدها.

فمثلا حين ذكر السياق شرح الصدر بالإسلام بين مثله في خشوع قلب المؤمنين لآيات الذكر.

وهكذا أشارت الآيات التالية إلى أنّ القرآن ضرب للناس من كلّ شيء مثلا ، فيكون المثل تثنية كلّ حقيقة مذكورة في القرآن.

هذا بعض معاني المثاني.

ولأنّه مثاني تشفع الحجة بالحقيقة فإنّ قلوب المؤمنين تصعق له ، وتسري في

٤٧٠

أعصابهم رعشة الخشية ، فتهتز تبعا ـ لذلك ـ جلودهم.

(تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ)

عند ما تواجه النفس حقيقة أكبر من سعتها تندهش بها وتحصل لصاحبها قشعريرة ، أمّا لاهتزاز الأعصاب أو لتجمع الدم حول القلب كما يحصل في حالات الخوف الشديد.

ولأنّ هذا الفريق يخشون ربهم ، ويعرفون شيئا من عظمته وكبريائه ، ويعلمون أنّ الكتاب رسالة الله إليهم ، فلا تكاد قلوبهم تستقر لتجلياته الظاهرة في كتابه ، ولولا أنّ الله يؤيدهم في تلك اللحظة بروحه لتصدّعت قلوبهم كما اندك الجبل عند ما تجلّى الربّ له أمام موسى فخرّ موسى (ع) صعقا ، أرأيت تجلّى الله للجبل كان أعظم من تجلياته في كتابه للرسول والمؤمنين؟

إنّما المؤمنون توجل قلوبهم بمجرد ذكر الله ، فكيف لا تصعق عند ما تتلى عليهم رسالة الله إليهم ، إنّه الله يتحدّث إليهم فكيف يصمدون ، بلى. أنا وأمثالي الذين أحاطت الشهوات بقلوبنا لا نعرف ذلك ، إلّا إذا رفع الله الحجب واتصل القلب بنور الربّ.

(ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ)

إذا ذهبت آثار الصدمة ، وتغلّب العقل بتأييد الله على هول المواجهة ، لانت الجلود تعبيرا عن خشوع القلب ، واستعدادا لاستقبال ضياء الهدى.

وقال المفسرون : إنّ قشعريرة الجلد تعبير عن خشيتهم من عذاب الله ، أما حين يلين فإنّه دليل على طمعهم في رحمة الله ، وهكذا يعيش قلب المؤمن بين الخوف

٤٧١

والرجاء.

وقال الفخر الرازي : إنّ المقامين المذكورين في الآية «تقشعر وتلين» لا يجب قصرهما على سماع آية العذاب والرحمة ، بل ذاك أوّل المراتب ، وبعده مراتب لا حد لها ولا حصر في حصول تلك الحالتين.

ثم تناول هذا المفسر الكبير الفرق بين حالة المؤمنين عند تلاوة الكتاب ، وحالة الوجد الصوفية عند سماع أشعار الهجران والوصل ، وقال : إنّ الشيخ أبا حامد الغزالي أورد مسألة في كتاب «إحياء علوم الدين» وهي أنّا نرى كثيرا من الناس يظهر عليه الوجد الشديد التام عند سماع الأبيات المشتملة على شرح الوصل والهجر ، وعند سماع الآيات لا يظهر عليه شيء من هذه الأحوال ، ثم إنّه سلم هذا المعنى وذكر العذر فيه من وجوه كثيرة ، وأنا أقول : إنّي خلقت محروما عن هذا المعنى ، فإنّي كلّما تأمّلت في أسرار القرآن اقشعرّ جلدي ، ووقف عليّ شعري ، وحصلت في قلبي دهشة وروعة ، وكلّما سمعت تلك الأشعار غلب الهزل عليّ ، وما وجدت البتة في نفسي منها أثرا ، وأظن أنّ المنهج القويم والصراط المستقيم هو هذا ، ثم ذكر وجوها في بيان ذلك تتلخّص فيما يلي :

أولا : إنّ تلك الأشعار لا تليق بمقام الخالق ، وإن إثباتها في حقّه كفر.

ثانيا : إنّ قائل القرآن هو الله عبر جبرائيل إلى الرسول إلينا ، بينما قائل تلك الأشعار شاعر كذّاب مملوء من الشهوة وداعية الفجور.

ثالثا : إنّ مدار القرآن الدعوة الى الحق ، ومدار الأشعار الباطل. (١)

وأقول : إنّ تلك الأشعار تثير شهوات البعض ، وتدغدغ عواطف الهوى المكبوتة

__________________

(١) راجع التفسير الكبير / ج (٢٦) ص (٢٧٣).

٤٧٢

لديهم ، بينما تستثير آيات الذكر دفائن العقول ، وتجلي القلوب من رين الشهوات ، وكلّ إناء بالذي فيه ينضح.

(ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ)

وأنّ أولئك الذين يبحثون عن سبل الزلفى الى الله عبر الأشعار الجاهلية والطرق غير الشرعية لا يهديهم الله اليه ، بل يضلّهم لأنّهم لم يتبعوا الوسيلة التي بيّنها لعباده.

(وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ)

فمن شاء أن يهتدي إلى ربّه سبيلا فعليه أن يتوسّل به إليه ، وبأوليائه الذين جعلهم وسائل رحمته ، وألّا يخترع لنفسه مذهبا فيضلّه الله ، وأن يعلم أنّ الله يدلّ على ذاته بذاته ، ولا شيء أظهر دلالة منه ولا شفيع إلّا من بعد إذنه ، وهكذا يخلص النية لربه ، وحاشا لله أن يخيب ظنّ عبده به.

[٢٤] ويعود القرآن الى مفارقته بين من يتقي به في الدنيا فينجيه الله من عذاب النار ، وبين من لا يتقي ولا يجد هناك شيئا يحتجز به عن النار ، فتراه يضطر الى اتقاء النار بوجهه.

(أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ)

أيّ عذاب هائل ذلك العذاب ، حين تتميّز جهنم غيضا ، وتتفجر فيها النيران تفجّرا ، ويأتي المجرمون لا يملكون من الثواب ما يقيهم النار ، فتتعرض وجوههم لها ، تلك الوجوه التي اعتزوا بها وبإثمها في الدنيا ، وصانوها بأيديهم وبما يملكون.

(وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ)

٤٧٣

إنّ الفواحش التي يرتكبها الظالمون في الدنيا تتجسد في صورة نيران ملتهبة وعقارب وحيات. أرأيت الذي يصنع القنبلة النووية بيده ثم يفجّر نفسه والبلاد كيف أنّه حين يصنعها لا يتصور بسهولة هول عذابها ، كذلك المجرمون حين يزنون أو يغتابون أو يأكلون أموالهم بينهم بالباطل أو يؤيّدون الطاغوت لا يتصوّرون أيّ عذاب شديد يكتسبونه ويعدونه لأنفسهم في يوم القيامة.

[٢٥] وكما هو في الآخرة كذلك في الدنيا ، فمن بنى السدّ وطغى به عذّب به ، كما أنهار سد مأرب ، ومن عبد الحجارة ، أو اتخذ من الجبال أكنانا عذّب بها كما عاد وثمود ، ومن عبد الماء أغرق فيه كقوم فرعون.

(كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ)

فمن كذّب بآيات الله وصدف عنها أتاه العذاب من حيث لا يشعر ، وعلينا أن نراجع قصص القرآن كيف عذب الله الأقوام ، فهل كان يتصور فرعون أنّ موسى (ع) الذي ربّاه في بيته يكون فناء ملكه على يديه؟! كلّا ... وهل كان يعلم فرعون وملؤه الذين عبدوا الماء ، فكانوا يرمون في النيل بأجمل فتياتهم لإرضائه ، وكان فرعون يفتخر بالأنهار التي تجري من تحته ، وكانت حضارتهم قائمة عليه ، هل كانوا يعلمون بأنّهم سوف يغرقون في معبودهم وأساس تحضّرهم. إنّ الذي يكذّب بآيات الله يكون هلاكه بالقوة التي يعتمد عليها (يعبدها).

[٢٦] (فَأَذاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا)

لأنّهم كانوا يستكبرون ، ولا يعترفون بشيء غرورا ، والآن يجب أن يلاحقهم الخزي والعار ، هذا في الدنيا ...

(وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ)

٤٧٤

أكبر خزيا وألما ، والإنسان يهرب من عذاب الدنيا فكيف لا يهرب مما هو أكبر منه؟!

[٢٧] وبعد ذلك يذكّرنا الربّ بأنّه ضرب لنا الأمثال ، من قصص الأنبياء وأممهم.

وهي وقائع خارجية جسّدت القيم التي يبشّر بها القرآن وهذا المعنى المثل أي التطبيق الخارجي للحقيقة.

(وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)

والتعبير «بكل مثل» يدلّ على أنّ في القرآن إشارة الى كلّ الحقائق ، وذلك عبر أمثلة واقعية لها ، فإنّى تفكّرت فيه مما يتصل بالخلق والخالق والصلة بينهما وصلة الخلق ببعضهم وغيرها مذكور في القرآن ومفصّل بالأمثلة التي لا تقتصر على حياة الشعوب السابقين بل وتشمل إشارات الى الطبيعة وأحوالها.

[٢٨] وبعد ذلك يأخذنا الربّ الى صفات ذلك القرآن الذي يضرب فيه من كلّ مثل ، ويذكر له صفات ثلاث :

١ ـ قرآنا : مقروءا ، يوصلنا بالماضي ، ويفصّل لنا الحاضر ، ويرسم خريطة المستقبل.

٢ ـ عربيّا : بلغة مفهومة ، فأعرب الكلام أفصح عنه ، ويقال أعرب فلان عن أستيائه أي بيّنه ، والعربي هو الذي يكون فصيحا بليغا.

٣ ـ غير ذي عوج : ليس به انحراف يمنة أو شمالا ، شرقا أو غربا ، ذلك أنّ

٤٧٥

من أسباب الانحراف الجهل والهوى والاستسلام للضغوط ، وتعالى الله عن كلّ ذلك ، وهكذا يفصح القرآن عن الحقائق بصورة مباشرة.

(قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)

وهذا هدف القرآن ، إنه يريد منا أن نتقي الله ونخافه ، ونعمل بمضمون التقوى من إصلاح دنيانا وأخرانا.

[٢٩] ومن أمثلة القرآن التي تقرّب الى أذهاننا قبح الشركاء اشتراك مجموعة في امتلاك شخص.

(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ)

هل يستوي عبد يملكه أكثر من مالك وعبد يملكه رجل واحد؟! كلّا ... لأنّ في الثاني كل مالك يريد أن يجيّره لحسابه على حساب الآخرين ، وقد بيّن الباري ذلك في قوله : (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) (١) وقال تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) (٢) وقال تعالى عن استحالة الأشباه والأعضاد : (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) (٣).

وهناك مثال من واقعنا : حيث تعيش بعض الدول المستضعفة في إطار ولاءات مختلفة فتتصارع عليها قوى الشرق والغرب ، وقد يجري الصراع على أراضيها وبأيديها ، ويكون بالتالي الغرم لها والمكاسب للأسياد ، وآخر مثال على ذلك ما

__________________

(١) ص / (٢٤).

(٢) الأنبياء / (٢٢).

(٣) المؤمنون / (٩١).

٤٧٦

يجري حتى اليوم في كمبوديا حيث تتصارع قوى عالمية عديدة على أراضيها وبأبنائها ولكن لمصالح الأجانب ، وقد هدّمت البلاد وقتل من الشعب الكمبودي زهاء ثلاثة ملايين بشر.

وليست الآلهة التي تعبد من دون الله سوى رموز للقوى السياسية والاجتماعية التي تتصارع على استعباد البشر فتجرّ إليه الويلات ، وما يخلصنا سوى التحرر من عبادتها والتمرّد على سلطانها للنجاة من مشاكساتها وحروبها التي تطحننا اليوم طحنا.

(وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً)

كلّا ... إنّ الرجل الذي يقوده شخص واحد باسم الله ولا تتداخل فيه شهوات الآخرين ولا ضغوطهم ولا مصالحهم يعيش دائما في حريّة مستقيما في طريق واحد ، لا تعصف به الاختلافات ، ولا تتحكّم فيه الفوضى ، ولا يواجه مشكلة تعدد الولاءات ، إنّه لا يخاف الصراعات ولا تنافس القوى عليه ، إنّه يعيش بعيدا عن أهواء الشياطين وأطماع الحكام.

جاء في الحديث عن أمير المؤمنين (ع) أنّه قال :

وأنا السلم لرسول الله (ص) يقول الله عزّ وجلّ : «ورجلا سلما لرجل» (٤)

وعن أبي جعفر (ع) في الآية قال :

«سلما هو علي (ع) لرجل هو النبي (ص) وشركاء متشاكسون : أي مختلفون ، وأصحاب علي مجتمعون على ولايته» (٥)

__________________

(٤) تفسير البرهان / ج (٤) ص (٧٥).

(٥) المصدر.

٤٧٧

(الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ)

فلا يفرّقون بين الذين يوحّد الله ويخضع فقط لأوليائه ومن تستعبده قوى السلطة والثروة.

وهكذا ضرب الله لنا مثلا للتوحيد من واقع الحياة الاجتماعية والسياسية ، وميّز بين نمطين من الحياة ، حياة الاستقلال وحياة العبودية ، وذلك تكميلا لبيان المفارقات في سورة الزمر.

٤٧٨

إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٣٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (٣١) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٣٢) وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (٣٣) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٣٤) لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٥) أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٦) وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (٣٧) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ

٤٧٩

مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (٣٨) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٩) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٤٠) إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٤١)

٤٨٠