من هدى القرآن - ج ١١

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١١

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-14-9
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٤٩

وكان بإمكانك أن تتجاوز الحسرة والملامة ، وأن تهتدي للحق ، وأن تنتفع من فرصة الحياة الدنيا.

(فَكَذَّبْتَ بِها)

أوّلا.

(وَاسْتَكْبَرْتَ)

على الحقّ الذي جاءت به ثانيا ، وهذه المرحلة من أخطر مراحل المعصية.

(وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ)

حيث أنكرت إنكارا تامّا ما جاءت به ، هذا ثالثا.

[٦٠] وأهم ما كان يكذّب به الكافرون هو البعث ويوم القيامة ، الأمر الذي جعلهم بعيدين عن تحمل المسؤولية ، وهل يتحمّل المسؤولية إلّا من يؤمن بالجزاء؟

ولعلّه من هذا المنطلق جاء ذكر القرآن لهذا اليوم العظيم.

(وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ)

فأشاعوا الضلال ، وافتروا على الله كذبا بأنّه يأمر بالفحشاء والمنكر.

ومن أبرز المصاديق العملية للكذب على الله هو أن يدّعي الإمامة من ليس أهلا لها ، وفي تفسير هذه الآية ، هناك حديث مأثور عن سورة بن كليب عن أبي جعفر (ع) قال قلت : قوله تعالى عزّ وجلّ (الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ) ... الآية» قال (ع) : «من قال إنّي إمام وليس بإمام» قلت : وإن كان علويّا فاطميا؟ قال : «وإن كان

٥٢١

علويّا فاطميا» قلت : وإن كان من ولد علي بن أبي طالب؟ قال : «وإن كان من ولد عليّ بن أبي طالب» (١) فيجب على الإنسان أن لا يدّعي شيئا لا يحقّ له وإلّا فهو يرتكب الحرام ، وإذا كان ادعاء الإنسان المعرفة بالطب قد يتسبّب في قتل عشرات الناس الذين يتعالجون عنده ، فإنّ ادعائه الإمامة والرئاسة كذبا سوف يفسد كل النظام ، الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي ، فعليه إذن أن يتجاوز مشكلة حب الرئاسة ، وأن يتواضع للحق ويسلم لأهله.

والكذبة لا تسعهم رحمة الله على سعتها اللامتناهية ، بل يحشرون يوم القيامة في هيئة مخزية لهم.

(وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ)

بآثار الكذب والمعاصي ، وبالتالي بانقطاع نور الله عنها (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ). (٢)

ويستفهم منا السياق فيقول :

(أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ)

ويتركنا نحن الذين نجيب عليه بأنفسنا فنقول : بلى ، لنقرّ بوجود هذا المثوى في جهنم ، فنخاف ممّا أعدّه الله للكاذبين من العذاب فلا نتكبر.

__________________

(١) البرهان / ج (٤) ص (٨٢).

(٢) النور / (٤٠).

٥٢٢

وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦١) اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (٦٢) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٣) قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (٦٤) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٥) بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٦) وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٧) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ

٥٢٣

(٦٨) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٩) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (٧٠)

٥٢٤

وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها

هدى من الآيات :

تذكرنا آيات هذا الدرس بيوم القيامة الذي لا سبيل للخلاص من عقباته وعذابه الا بالتوحيد والتقوى ، أما الشرك فانه يحبط أعمال الإنسان ولو كانت من رسول الله (ص) على عظمته.

كما نجد في الآيات تأكيدا على هيمنة الله على الكون ، والتي تدعونا لعبادته والتسليم له تسليما مطلقا ، ولا يشرك البشر بشيء الا إذا اعتقد بهيمنته وسيطرته ولو على جانب من الحياة ، وانما يخضع البعض لانظمة الطواغيت بسبب هيمنتهم الظاهرية على المجتمع.

بينات من الآيات :

[٦١] حدثنا ربنا في نهاية الدرس السابق عن المتكبرين الذين يحشرون بوجوه مسودة ، وفي جهنم يخصص لهم واديا سحيقا يلقون فيه أشد ألوان العذاب ، وهذا مما

٥٢٥

يثير الخوف في النفس فأراد الله تعالى أن يدخل الاطمئنان والرجاء على عباده المؤمنين حيث وعدهم مباشرة بالنجاة من العذاب ، وبراحة البال.

(وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ)

والمفازة من الفوز ، ومعناها النجاة ، والمؤمنون ينجون بتقواهم.

(لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ)

وهو ادنى العذاب.

(وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)

من طبيعة الإنسان انه إذا وجد جزاء عمله وكان طموحا فانّه غالبا ما يستقله ويعتقد أن عمله كان أكبر منه ، أما المؤمنون فإنهم يجدون أن جزاءهم الأوفى فترضى به نفوسهم ، ولا يحزنون على ما قدموه من عمل أو أنفقوه من مال أو نفس ، ذلك أنهم يرون جزاءهم الأوفى في يوم القيامة ، وهو أكبر بكثير مما كانوا يتوقعونه فإنهم لا يحزنون.

[٦٢] ويعرّفنا ربّنا نفسه من خلال القرآن.

(اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ)

اي حافظ ومهيمن ومدبر ، والآية تنسف فكرة التفويض التي تزعم بأنه تعالى خلق الأشياء ثم تركها وشأنها.

[٦٣] (لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)

يتصرف فيهما كيف يشاء ، والمقاليد جمع مقليد أو مقلاد ، ومعناه المفتاح ،

٥٢٦

فمفاتيح السموات والأرض بيده عز وجل ، وكون مفاتيح الشيء بيده يدل على انه متصرف في ذلك الشيء وفيما يحتويه.

ولعل كلمة مفاتيح تدلنا على وجود سنن وانظمة تحكم هذا الكون ، ومع أن ربنا فوق السنن والانظمة ، الا انه بحكمته يهيمن على الخلق من خلالهما ، ولان المؤمنون يسلمون له تعالى ، ويتبعون آياته فإنهم وحدهم الذين يفلحون ويفوزون في الحياة ، ويسخرونها أفضل من غيرهم لصالحهم.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ)

والآية هي العلامة من الشيء ، وآيات الله هي العلامات الهادية للحق والصلاح ، وحيث يرفضها الكفار يضلون ولا يبلغون الفوز والفلاح.

[٦٤] ويأمر الله نبيه الأكرم (ص) بتحدي هؤلاء.

(قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ)

أنهم يجهلون بالله ، ولا يعرفون هيمنته على كل شيء وخلقه له ، ويرتكزون في الجهل بصورة أعمق حينما يظنون أن الأنداد التي يزعمونها من دونه تستحق العبادة ، ويأمرون الناس بالخضوع لها.

وليس شرطا أن تكون هذه الأنداد من الحجارة ، بل هي كل باطل يخضع له الإنسان ، سواء تمثل في فكرة يؤمن بها أو طاغوت يخضع له ، كما أنّه ليس المقصود من العبادة فقط الركوع والسجود أو طقوس عبادية خاصة يقوم بها الإنسان تجاه من يشرك بهم ، بل أن اعانتهم وطاعتهم وحتى الرضى النفسي بهم يعد عبادة ، ويجب على المؤمن أن يرفض ذلك كله.

٥٢٧

[٦٥] ثم يبين الله الموقف الحاسم من الشرك والمشركين ، فيحذّر نبيه (ص) تهديدا حقيقيا ، بأنه لو افترض أن أشرك بالله فان جزاءه سيكون كسائر الناس ، وإذ يخصص ربّنا الخطاب هنا بأقرب الناس اليه وهو النبي محمد (ص) مع عصمته لكي يبين لنا بان الشرك أعظم الذنوب عنده تعالى.

(وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ)

لان أعمال الإنسان انما تكون مقبولة حينما يكون اطارها العام أطارا توحيديا ، أما لو عملت الصالحات وأنت تشرك فلن تنفعك أبدا.

(وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ)

وهذه نتيجة طبيعية لإحباط العمل ، ذلك أن ما يجلب للإنسان الفلاح والفوز هو عمله الصالح فاذا أحبط فأنّى له الفوز؟

ولعل هذه الآية من أخوف آيات القرآن الكريم ، وتأتي في هذا الدرس تقابل أرجى الآيات وهي قوله تعالى : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (١)

ويدخل اجتماع هاتين الآيتين في سورة واحدة في سياق التوازن القرآني الدقيق. حيث يعيش قارءوه معادلة دقيقة طرفاها الخوف والرجاء.

وكيف لا تكون هذه الآية من أخوف الآيات ، وهي تنذر الإنسان بأنه قد يعمل الصالحات عشرات السنين دون نتيجة بسبب شركه ، ومن الشرك خضوعه للحاكم

__________________

(١) الزمر / (٥٢).

٥٢٨

الجائر؟!

[٦٦] وفي مقابل دعوة الله نبيه وبالتالي كل مؤمن لرفض الشرك في الآيتين المتقدمتين ، يدعوه في هذه الآية لعبادة الله وحده وشكره على توفيقه له لعبادته. لان ذلك من أكبر نعم الله على الإنسان.

(بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ)

وفي تقديم كلمة الله (المفعول له) على الفعل والفاعل (فاعبد) دلالة على أن العبادة يجب أن تكون خالصة منحصرة لله وحده. وهذا يشبه تقديم الضمير المنفصل «إياك» وهو المفعول على الفعل والفاعل «نعبد» في سورة الحمد ، أمّا الشكر المأمور به فهو على عبادة الله التي لا تتم إلّا بتوفيق الله أو هو على عموم نعم الله.

[٦٧] ثم ـ وبصورة اخرى ـ يؤكد لنا القرآن ضرورة عبادة الله ، التي تأتي نتيجة معرفته عزّ وجل. والمشركون والكافرون انما عبدوا غير الله بسبب جهلهم به وبقدرته. الأمر الذي جعل تقديرهم له دون مقامه مقام الربوبية.

(وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ)

يتصرف فيهما وفيمن عليهما من الخلق كيف يشاء ، فهذه الأرض مع حجمها الكبير في نظرنا ، والسموات السبع التي يعجز العقل عن استيعاب مداها ، والخيال عن تصور سعتها ، يشبه هيمنته على إحداهما بهيمنة الإنسان على قطعة النقد الصغيرة التي تكون في قبضته ، ويشبه الاخرى بالورقة الملفوفة في يمينه ، ولا ريب أن قبضته تعالى كما يمينه ليستا بمعنى وجود جارحة لله سبحانه وانما هما رمز لقدرته وإرادته ، تعالى كما اليد رمز لقوة الإنسان ، وربّنا انما يستخدم التشبيهات المجازية لتقريب المعنى

٥٢٩

الى أذهاننا ولو وصف لنا قدرته كما هي لما استوعبت ذلك عقولنا.

(سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ)

إن من أسباب الشرك عند الإنسان هو عدم معرفته بالله ، فيتصوره بعقله المحدود عاجزا محدودا مثله ، ويزعم أنّه يحتاج الى الشركاء ليدبر شؤون الخلق. وربّنا منزه عن ذلك ، فمن هذه قدرته لا يحتاج الى الشركاء ، ولا يجوز لنا باي حال أن نشرك به.

وبخصوص هذه الآية قال الإمام الباقر (ع) :

إن لله لا يوصف ، وكيف يوصف وقد قال الله في كتابه «وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ»؟ فلا يوصف بقدر الا كان أعظم من ذلك (١)

وعن سليمان بن مهران قال : سألت أبا عبد الله (ع) عن قوله عز وجل (ما قَدَرُوا) ... الآية فقال : يعني ملكه لا يملكه معه أحد ، والقبض الى الله تعالى في موضع آخر المنع والبسط منه ، والإعطاء والتوسيع (... وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) يعني يعطي ويمنع والقبض منه عز وجل في وجه آخر الأخذ ، والأخذ في وجه القبول كما قال : «ويأخذ الصدقات» اي يقبلها من أهلها ويثبت عليها فقوله عز وجل (وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ)؟ قال : اليمين اليد ، واليد القدرة والقوة ، لقوله عز وجل (وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) اي بقدرته وقوته (٢)

[٦٨] ويهدينا القرآن الى أحد مظاهر قدرة الله وهيمنته ، وذلك حينما ينفخ في

__________________

(١) البرهان / ج (٤) ص (٨٤).

(٢) المصدر.

٥٣٠

الصور فيصعق بذلك كل الخلق في أقل من لحظة ، ولا يبقى أحد الا بعض من الناس والملائكة يحفظهم الله من ذلك النفخ ولعل من بينهم الشهداء.

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ)

وبعد هذه النفخة تكون نفخة اخرى تدب بسببها الحياة في الجميع.

(ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ)

والنظر هنا ينصرف لأحد معنيين ، فاما أن يكون بمعنى النظر المتعارف حيث تموت بالنفخة الاولى كل حواس الإنسان ثم تعود لطبيعتها مرة اخرى ومن بينها حاسة النظر ، وأما يكون بمعنى الانتظار لأنهم في النفخة الثانية يستنهضون للجزاء فاما الى الجنة أو الى النار ، وهذا ما يجعل الجميع ينتظر الحكم الصادر بشأنه كقوله تعالى : (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ). (٢)

ومن هذه الآية يتبين أيضا أن الناس يموتون مرتين ، مرة في الدنيا ومرة بعد الحساب عند النفخة الاولى ، وهذا بدوره يفسر قوله تعالى حكاية عن المشركين : (قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) (٣)

كما يحتمل أن الموت في النفخة الاولى يخصّ الموجودين في حينها ممن لم يموتوا بعد ، بينما تشمل الحياة من النفخة الثانية الجميع.

[٦٩] وينقلنا السياق الى جانب آخر من يوم القيامة ، إذ تشرق الأرض بنور

__________________

(٢) النمل / (٣٥).

(٣) غافر / (١١).

٥٣١

الله ، وتوضع الموازين للحساب العدل وتوفى الأنفس أعمالها التي أحصاها الله بعلمه.

(وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها)

الذي يخلقه ويتجلى من خلاله جلاله وعظمته ، وقد يتجلى الله في خلقه الشمس والقمر ، وقد يتجلى في إبداع نور تشرق به الأرض ذلك اليوم.

وفي الاخبار عن المفضل بن عمر قال : سمعت أبا عبد الله (ع) يقول :

«إذا قام قائمنا أشرقت الأرض بنور ربّها وذهبت الظلمة» (٤)

ولا شك أنّ نهوض إمام الحق وما يتبع ذلك من قيام حكومة العدل الالهية هو من أبرز تجليات نوره تعالى ، أو ليس الأنبياء والرسل والأولياء هم نور الله في الأرض؟

(وَوُضِعَ الْكِتابُ)

ليحاسب الله الناس على أعمالهم ، والكتاب هنا هو الميزان والمقياس ، ونستوحي من ذلك أن الأشياء تتحول في الآخرة من صيغتها المعنوية الى المادية ، فالكتاب الذي هو ميزان الحق والباطل ، وفرقان بينهما في الدنيا ، يتحول الى ميزان محسوس يراه الناس في الآخرة.

(وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ)

وهم ميزان آخر لمعرفة الحق والباطل ومحاسبة الناس ، فالأنبياء ميزان بعصمتهم

__________________

(٤) نور الثقلين / ج (٤) ص (٥٠٤).

٥٣٢

وسلوكهم النموذجي ، بينما الشهداء ميزان بمواقفهم وشهادتهم على مجتمعاتهم ، حيث كانوا طليعتها ، ولعل الشهداء هنا اشمل من أن نحصرها في أولئك الذين يجاهدون من أجل الحق ، ويسقطون مضرجين بدمائهم ، انما هم كل من يلتزم بالحق فيصير حجة على الناس. فأيوب (ع) حجة على الذين ينهزمون إمام الابتلاء ، ويوسف (ع) حجة على الذين يغترون بجمالهم ، كما إن الذين يثورون ويتجاوزون إرهاب الطغاة حجة على القاعدين والخانعين.

وحيث يحضر هذان الميزانات يحاسب الناس بهما وفيهما يتجلى الحق.

(وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)

وعدم الظلم نتيجة مترتبة على كون المقاييس حقانية وعقلانية ، وانما يجور الحاكم باتباعه الباطل في قضائه ، وما دام الأمر كذلك فالناس إذن هم الذين يظلمون أنفسهم بمخالفتهم الحق إذا قضي عليهم بالعذاب. والله يقول بهذا الشأن : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (١)

[٧٠] ثم يؤكد الله عدالته في الحساب.

(وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ)

والسؤال لماذا لم يقل الله وفي كل شخص ، أو وفي كل إنسان ، والجواب كما يبدو انه تعالى يريد بيان حقيقة هامة ، وهي أن الإنسان لا يحاسب على أعماله الظاهرة التي يمارسها بأعضائه وحواسه وحسب ، بل يلاقي جزاءه خيرا كان أو شرا حتى على أعمال النفس وتصرفاتها ، على فكره ، وحبه وبغضه ، والحساب الالهي ليس قائما على الجهل أو الظنون ، انما يقوم على علم الله المطلق.

__________________

(١) يونس / (٤٤).

٥٣٣

(وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ)

وعلمه تعالى أدقّ من علم الإنسان بنفسه بل حتى من حساب الملائكة الحفظة ، لان البشر معرض للزيادة والنقصان في حساباته ، وذلك بسبب وقوعه تحت تأثير عوامل كثيرة كالغفلة والنسيان والجهل و. و. ولان الله قد يخفي حتى عن ملائكته بعض أعمال الإنسان سترا له.

٥٣٤

وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (٧١) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٢) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (٧٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٧٤)

___________________

٧١ [زمرا] : جمع زمرة وهي الفوج ، أي يساقون فوجا فوجا ، كلّ فوج مشتمل على متشابهي الأعمال كالزناة والمقامرين وهكذا.

٥٣٥

وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٧٥)

٥٣٦

وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ

هدى من الآيات :

في هذا الدرس ترد كلمة الزمر التي سميت بها السورة ، وقد تكررت مرتين ، مرة عند الحديث عن الكفار ، واخرى عند الحديث عن المؤمنين ، ذلك أن كلا الفريقين يحشرون إلى مصيرهم زمرا وجماعات.

وربما سميت السورة بهذا الاسم ، وأكّد القرآن عليه مرتين ، من أجل أن يوحي لنا بطبيعة التفاعل بين أبناء المجتمع ، فالناس انما يساقون الى النار والجنة وفق أعمالهم وانتماءاتهم وهذا المقياس أساسي في حياة الإنسان ، فهو إذا أراد أن يعرف نفسه ، أو أراد الآخرون أن يعرفوه ، فما عليه وعليهم الا معرفة الذين ينتمي إليهم اجتماعيا وعمليا ، فان كانوا صالحين كان منهم ، وإن كانوا منحرفين فهو كذلك أيضا.

والأحاديث المروية تؤكد بأنّ معرفة الرجال تتم بمعرفة الذين يحيطون بهم ،

٥٣٧

فمعرفة القائد بحاشيته ، والشاب بأصدقائه ، والنظام بالعاملين فيه ، والدولة بالذين يؤيدونها من طبقات المجتمع.

قال سليمان (ع):

«لا تحكموا على رجل بشيء حتى تنظروا الى من يصاحب ، فإنّما يعرف الرجل بأشكاله وأقرانه ، وينسب الى أصحابه وأخدانه» (١)

وقال الإمام علي وهو يوصي ولده الحسين (عليهما السلام) :

«قارن أهل الخير تكن منهم وباين أهل الشر تبن عنهم» (٢)

فالحياة إذن ليست احادية ولا متناثرة ، وانما تسير كتلا وأجناسا (زمرا زمرا) وإذا لم تعرف شخصا بذاته فانك تستطيع معرفته بالزمرة التي ينتمي إليها ، وهذه الحقيقة يؤكدها القرآن في مواضع كثيرة منه ، وبصيغ مختلفة كمخاطبته الناس بصورة التجمعات : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) في صفة المؤمنين ، و(وَالَّذِينَ كَفَرُوا) في صفة الكافرين ، وهكذا المنافقين والمنافقات ، والصابرين والصابرات ... إلخ.

بينات من الآيات :

[٧١] (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً)

اي جماعات على أساس تجانس أعمالهم يسوقهم ملائكة العذاب.

(حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها)

__________________

(١) بح / ج ٧٤ ص (١٨٨).

(٢) المصدر.

٥٣٨

السبعة يدخل كل جماعة من باب ، وقد يكون معنى الأبواب العذاب الذي يتضمنه كل قسم من جهنم ، وفي الخصال عن الصادق عن جده عليهما السلام :

«إن للنار سبعة أبواب ، باب يدخل منه فرعون وهامان وقارون ، وباب يدخل منه المشركون والكفار ممن لم يؤمن بالله طرفة عين ، وباب يدخل منه بنو أمية هو لهم خاصة وهو باب لظى ، وهو باب سقر وهو باب الهاوية يهوي بهم سبعين خريفا فكلما هوى بهم سبعين خريفا فار بهم فورة قذف بهم في أعلاها سبعين خريفا ، ثم هوى بهم هكذا سبعين خريفا فلا يزالون هكذا أبدا خالدين مخلدين ، وباب يدخل منه مبغضونا ومحاربونا وخاذلونا ، وانه لأعظم الأبواب وأشدها حرا» (١)

وعند ما يدخل كل فريق من بابه يتلقاه خزنة النار بالشماتة والسؤال.

(وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ)

فمن جهة كان الرسل هم الذين جاؤوا إليكم وهذه نعمة كبيرة إن يبعث الله هاديا في المجتمع ، ومن جهة اخرى لم يكونوا غرباء عنكم فلقد كانوا من وسطكم الاجتماعي ويتكلمون بلسانكم ، ومن جهة ثالثة كانوا يحملون إليكم رسالة ربكم ويهدونكم الى الآية تلو الآية.

(وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا)

وكان هذا كافيا لهدايتكم وخلاصكم من النار لو اتبعتموهم.

__________________

(١) نور الثقلين / ج (٤) ص (٥٠٤) ، وتجدر الاشارة في هذا الحديث الى أن المذكورين عينات لأصحاب الأبواب السبعة والا فهو يدخل معهم كل من جانسهم في العمل ، بل أن السبعة قد تكون للتخصيص والكثرة وليس للحصر.

٥٣٩

ولم يكن يملك أصحاب النار ردا على كل هذه الحجج البالغة الا بأن.

(قالُوا بَلى)

إذن فالهداية ممكنة لو أرادوها فعلا.

(وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ)

إن باستطاعة الإنسان أن يكفر بالله ، باختياره ولكن بعدئذ يغلق عليه باب الاختيار ، ويحاول البعض تبرير كفره بأنه سوف يتوب في المستقبل كعمر بن سعد الذي اختار الكفر بقتل الإمام الحسين (ع) ثم انشد :

يقولون إن الله خالق جنة

ونار وتعذيب وغلّ يدين

فإن صدقوا فيما يقولون إنّني

أتوب الى الرحمن من سنتين

وهذا من أخطر الأشياء على البشر ، حين يختار الانحراف ثم يمني نفسه بالتوبة في المستقبل دون أن يدرك سنة الله في الحياة ، وهي أن الإنسان قد يختار طريقا بحريته ويتخذ قرارا بكامل إرادته ، ولكنه بعد ذلك لا يتمكن من العودة عنه والخروج من المأزق الذي يقع فيه بسبب ذلك الاختيار السيء. كالذي يقرّر أن يلقي بنفسه من جبل شاهق ثم يجد نفسه عاجزا عن الصعود مرة أخرى ، فالسقوط يكون باختياره ولكنه لا يتمكن من العروج أنّى حاول.

والقرآن يعبر عن هذه الفكرة بصيغ عديدة في آياته ، فتارة يسميه بالختم على القلوب والأسماع (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ) (١) وتارة يسميه بذهاب النور (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ) (٢) ، وأخرى يسميه

__________________

(١) البقرة / (٧).

(٢) البقرة / (١٧).

٥٤٠