من هدى القرآن - ج ١١

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١١

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-14-9
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٤٩

الاول : أن مجرد تذكر الرسالي بأنه ينتمي الى خط فيه هؤلاء العظماء الذين أسسوا تاريخ المجد للبشرية ، هو أمر مفيد جدا ، يعطيه الايمان والثقة والاستقامة بالرغم من كل العوامل والظروف المضادة ، إذ لا يشعر وهو يعاني من الرفض والحرب بشتى صورها بالضعف والوحدة ، وهو يشعر بانتمائه الى هذا الخط ، والى هذا التاريخ العظيم.

الثاني : أن القرآن وحدة واحدة ، ويكمل بعضه بعضا ، فيمكن لقارئه أن يجد في سورة الصافات تفصيل ما أشارت اليه سورة (ص) ، وهكذا بالنسبة لسائر السور مع بعضها ، وعلينا الا نكون من الذين اتخذوا القرآن عضين ، فصارت نظرتهم اليه نظرة تجزيئية ، بل نسعى لمعرفة آيات القرآن من خلال نظر شمولي إليها جميعا.

[٤٦] ثم إن القرآن عرض أهم ما يستفاد من حياتهم ، لكي يؤكد بأن القصص التي يوردها ليست للتسلية أو مجرد زيادة المعرفة بالتاريخ انما هي للتعلم والموعظة. يقول تعالى عن إبراهيم واسحق ويعقوب :

(إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ)

حينما يقرأ الإنسان أو يسمع عن حياة العظماء ، أول ما يجب أن يتطلع الى معرفته هو سر عظمتهم ، لا لكي يعرف وحسب بل لكي يأخذ بأسباب العظمة أيضا ، وسبب عظمة هؤلاء ورفعة شأنهم ، هو الايمان الخالص بالآخرة وتذكرها ، الذي كان يزيدهم بعدا عن المعصية وقربا الى الطاعة. أو ليس ربنا يقول في سورة الممتحنة : (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ) ثم تتواصل الآيات الى قوله تعالى : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (١). إن العوامل الأخرى لم تتدخل في صياغة

__________________

(١) سورة الممتحنة الآيات / (٣ ـ ٦).

٣٨١

شخصية هؤلاء ، انما بقي ذكر الآخرة وحده خالصا هو الذي يؤثر فيهم ، فحينما آمنوا بالله تعالى ، وتحملوا مسئولياتهم الرسالية لم يتطلعوا الى مطامع دنيوية من خلالها ، ولو تداخلت عوامل أخرى في ذلك لم يرتقوا الى هذه المنزلة من الإخلاص.

[٤٧] (وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ)

أي اصطفاهم الله وكانوا من أفضل العباد عنده وأخلصهم له ، لان الإخلاص نفسه على درجات.

[٤٨] ويخلد القرآن أسماء طائفة أخرى من الأنبياء ، ويدعونا لذكرهم.

(وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ)

وقد يكون السبب في ضم هؤلاء الثلاثة الى بعضهم ، وأولئك إلى بعضهم في الآيات المتقدمة ، هو اختلاف منزلة الفريقين عند الله ، وأن الفريق الاول هم الأفضل وذلك بدلالتين :

١ ـ انتماء إبراهيم (ع) الى المجموعة الاولى وأفضليته ظاهرة لأنه من أولي العزم.

٢ ـ السياق القرآني الذي وصف أولئك بالمصطفين أولا والأخيار ثانيا ، بينما اقتصر في مدح هؤلاء بكلمة «الأخيار».

[٤٩] ويؤكد القرآن في نهاية الدرس الذي تختم به القصص الهدف منها ، وأهميتها لمن أراد التقوى.

(هذا ذِكْرٌ)

٣٨٢

ليشتمل على موعظة ، ينتفع بها المؤمنون حيث يتأسون برسل الله. الأمر الذي يبلغ بهم الفوز والفلاح.

(وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ)

والمآب هو المكان الذي يستقر فيه الإنسان فهو يعود اليه كلما خرج منه. وهنا المآب بمعنى العاقبة والنهاية. وفي الآية تطمين للمؤمنين بأن الأمور في صالحهم مهما كان ظاهرها معاكسا.

[٥٠] ويبين الله هذه العاقبة فيقول :

(جَنَّاتِ عَدْنٍ)

وهي أفضل الجنان وفيها الخلود ، ومآب المتقين الى أفضل جنان الله في الآخرة.

(مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ)

حينما يقدمون عليها ، والذي يفتح أبواب الجنة هو الايمان والدعاء والعمل الصالح ، فهي مفتحة للمتقين والمؤمنين فقط لا لغيرهم ممن لم يعملوا الصالحات.

[٥١] (مُتَّكِئِينَ فِيها)

على الأرائك وهذه دلالة على مدى الاطمئنان الذي يلاقونه فيها.

(يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ)

جزاء لهم على ايمانهم وأعمالهم ، وتعويضا عما فاتهم من نعيم الدنيا ولذاتها في سبيل الله.

٣٨٣

[٥٢] ومن أعظم ما يستلذ به المؤمنون في الجنة هم الحور العين ، ولعل تركيز القرآن على ذكر الحور في حديثه عن ثواب المؤمنين ، ينطلق من أن أصعب الفتن التي يتعرضون لها في الحياة الدنيا هي فتنة الشهوة الجنسية ، ولكي يتجاوزوا إغراءها وضغطها يذكرهم الله بعاقبة ذلك ، حيث الظفر بالحوريات في الجنة.

(وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ)

فهن لا ينظرن الى غير أزواجهن ، وينظرن الى الأرض احتراما لأزواجهن وتواضعا. وهن أتراب اي المتماثلات سواء في السن ، أو في كونهن أبكار غير مطموثات ، ويقال فلانة ترب لفلانة إذا أريد التساوي بينهما في العمر ، وهكذا يتساوى عند المؤمن الميل الى كل واحدة دون تفضيل واحدة على الاخرى لأنهنّ جميعا القمة في الجمال والروعة.

[٥٣] ثم أن الله يدعونا للعمل والاستقامة في سبيله ولكن بطريق غير مباشر وذلك حينما يعدنا بالجزاء المتقدم الذكر.

(هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ)

ولان المسافة بين هذا الثواب والإنسان تتمثل في الايمان وعمل الصالحات ، فان الآية تشتمل طبيعيا على الدعوة الى ذلك. وقد استخدم القرآن كلمة الحساب تأكيدا لهذه الحقيقة ، ولو كان الجزاء يحصل بلا عمل فلما ذا الحساب إذن؟!

[٥٤] ويتميز نعيم الآخرة عن نعم الدنيا ، ذاتيا بالتنوع والجودة ، وزمنيا بالخلود ، فالنعمة تزداد وتتجدد دائما.

(إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ)

وما دام الله باق فان رزقه للمؤمنين لا ينتهي.

٣٨٤

هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (٥٥) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (٥٦) هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (٥٧) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (٥٨) هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (٥٩) قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (٦٠) قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (٦١) وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (٦٢) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (٦٣) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (٦٤) قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٦٥) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٦٦) قُلْ هُوَ نَبَأٌ

___________________

٥٧ [غساق] : ما يقطر من جلود أهل النار وسمي غساقا لشدة سواده فهو يشبه ظلمة الليل ، قال تعالى : «إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ» إلى ظلمته.

٣٨٥

عَظِيمٌ (٦٧) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (٦٨) ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٦٩) إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٧٠)

٣٨٦

إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ

هدى من الآيات :

الآيات القرآنية آيات مثاني متشابهات ، ومن معاني هذه الكلمة انها تجري على أساس المقابلة ، الجنة والنار ، والصالح والمفسد ، والخير والشر و... و... ولا يعرف الشيء بأبعاده وحدوده إلا بمقارنته مع أضداده ، فالنهار يعرف بالليل ، والحياة تعرف بالموت ، والغنى بالفقر.

ولكي يعرفنا ربنا بنعيم الجنة يحدثنا عن عذاب جهنم التي يستقر فيها ذوي العقائد والأعمال المناقضة لأصحاب النّعيم ، ومن خلال الآيات التي وردت في كل القرآن يتضح ان المسافة بين العاقبتين منعدمة تماما ، فليس ثمة منطقة أخرى بينهما ، لهذا يكفي الإنسان حتى يدخل الجنة أن يخرج نفسه من النار ، وكما قال الله : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) (١)

__________________

(١) آل عمران / ١٨٥

٣٨٧

وهنا في هذه السورة وبعد أن يبين القرآن الحكيم أمثلة واقعية من التاريخ عن الذين أخلصوا لله في معتقداتهم وأعمالهم ، فصاروا بذلك قدوة وأئمة في الصالحات ، فمنهم من صبر وتجاوز إغراء السلطة والمال كداود وسليمان (عليهما السلام) ومنهم من صبر على البلاء حتى صار مضرب المثل كأيوب (ع) فنالوا الجنة على ذلك ، بعد ذلك كله يضرب لنا مثلا من واقع أصحاب النار الذين عصوا الله ، وحاربوا المؤمنين ، وطغوا في الأرض. وكما أن الأنبياء يشفعون لأتباعهم ويدخلونهم الجنة لا يدخل هؤلاء النار بمفردهم إنّما يجرّون معهم كل من انتمى إليهم ، واتبع خطهم في الحياة ، وهناك يتخاصم التابع والمتبوع تخاصما عنيفا ، يلقي من خلاله كل طرف المسؤولية على الطرف الآخر ، وكان ينبغي أن يحدث هذا الصراع في الدنيا ، بان يتمرد الإنسان على أئمة الكفر ، ويثور على الطغاة ، أما وهو لم يفعل ذلك فلن ينفعه تخاصمه في يوم الحساب شيئا وقد فوّت على نفسه فرصة الاختيار السليم ، والعمل الصالح في دار الابتلاء.

ان السبب الذي يدعو أكثر الناس لأتباع الطغاة ، والانسجام مع الواقع المنحرف الذي يصنعونه في المجتمع ليس عدم معرفتهم بخطئه ، انما لا يعارضون ولا يثورون هربا من صعوبات الصراع ومسئولياته ، وإذا استطاعوا ذلك في الدنيا فإنهم يجدون مرارة الصراع في نار جهنم ، حيث الظروف القاسية ، والعذاب الأليم المستمر.

إن ربنا يقسم في هذه الآيات بأن الصراع في النار حق ـ كما أكد ذلك في الدنيا في مواقع أخرى من القرآن ، والتخاصم الذي يشب لظاه هناك لهو دليل على ترك الإنسان الالتزام بمسؤوليات الصراع في هذه الحياة ، والذي لا يختار الحق بإرادته يخضع له على الرغم منه ، وقد ترك هؤلاء مكافحة الظلم ، فها هم يكافحونه هناك في النار.

٣٨٨

بينات من الآيات :

[٥٥] كما ركّزت الآيات في أذهاننا مشهد الجنة وبالتالي جزاء المخلصين تذكرنا في المقابل بعاقبة الطغاة.

(هذا)

اسم اشارة يتضمن دعوة للذي يتلو القرآن بالنظر في عاقبة المتقين ، والتفكير في جزائهم ، ولكن ينبغي أن لا يغفل عما أعدّ للظالمين من العذاب ، وذلك من أجل أن يحفظ توازن نفسه وعقله بين الرجاء والخوف.

(وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ)

وتقابل هذه الآية الآية [٤٩] التي وردت في الدرس الماضي ، فللمتقين العاقبة الحسنة عند الله ، وللطغاة عاقبة السوء والشر ، وليس المقصود من الطاغية هنا السلطان الجائر وحده ، وان كان هو التجسيد الأوضح والأشمل للطغيان ، انما جنوده وأجهزته أيضا ، إذ لولا هم لما قدر على الظلم والفساد ، بل لعلّنا نعمم الحكم على سائر معاني الطغيان ، فكما يطغى الإنسان في الحياة السياسية فانه يطغى كذلك في الحياة الاجتماعية ، فيظلم جاره وأسرته والناس ، ويظهر من أحاديث مستفيضة في تفسير الآية ان المعني بالطاغين هم سلاطين الجور ، بينما المعني بما يلي هم أتباعهم ومن سار على دربهم.

[٥٦] وتفصل الآيات في ذكر عاقبة الطغاة ، زيادة في التخويف لعل الإنسان يثوب عن الباطل ، ويهتدي للحق رغبة في الثواب ، ورهبة من العذاب.

(جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها)

٣٨٩

قال بعض الفلاسفة القدماء ـ يتبعهم بعض الجهلة اليوم ـ : إن أهل النار يتعودون على عذابها فلا يعودون يتأثرون به ، وجسدوا هذه الفكرة المنحرفة في هيكل حيوان زعموا بأنه يلتهم النار ، أما القرآن وهو الحق فانه يخالف هذه الخرافة مؤكدا بان المجرمين يتذوقون العذاب ، وكلمة «يصلونها» تعني انهم تمسهم جهنّم مسا.

(فَبِئْسَ الْمِهادُ)

وهو المكان الذي يمهد ويهيّأ لهم وكأنهم مهّدوا لأنفسهم فراشا من النار في جهنم ، بلى. تمهيد الأرضية لسلطانهم تجسد في ذلك اليوم في تمهيد جهنم لهم.

[٥٧] (هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ)

والحميم هو الحرارة الشديدة ، اما الغساق فهو كما جاء في بعض كتب اللغة : القيح النتن ، وفي الرواية عن الامام أبي جعفر (ع) قال :

«الغساق واد في جهنم فيه ثلاثمائة وثلاثون قصرا ، في كل قصر ثلاثمائة بيت ، في كل بيت أربعون زاوية ، في كل زاوية شجاع (الحية العظيمة المخيفة) في كل شجاع ثلاثمائة وثلاثون عقربا ، في كل حمّة عقرب (إبرة العقرب) ثلاثمائة وثلاثون قلّة من سم ، لو أنّ عقربا منها نضحت سمها على أهل جهنم لوسعهم سمها» (١)

[٥٨] (وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ)

ولا يقتصر العذاب على هذين النوعين انما هو أنواع وأساليب مختلفة كثيرة ،

__________________

(١) نور الثقلين ج ٤ ص ٤٦٧.

٣٩٠

ونستوحي من هذه الآية ان أنواع العذاب كثيرة جدا ، إلّا ان بعضها يتلازم مع بعض ، كما يتلازم الحميم مع الغساق ويكمّله.

[٥٩] وبعد أن يدخل الطغاة النار وينتهي كل واحد إلى موقعه الذي يضيق به ، يجدون آخرين من أشباههم واتباعهم الذين انخدعوا بهم يدخلون معهم إلى جهنم ويقال لهم.

(هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ)

واحتمل ان يكون المراد من الآخر : الفوج الآخر ، وهم أزواج ومشابهون للفوج الأول ، ويكون ذلك تمهيدا للحديث التالي عنهم ، وهذا يتشابه وما ذكرناه في تفسير قوله تعالى : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ) (١)

والاقتحام هو الدخول في الشيء بشدة كالمسمار الذي لا مكان له في الحائط فتدخله المطرقة قسرا ، ولأن الطغاة يتعذبون من ضيق المكان ، وأن النار تضيق عليهم كضيق الزج بالريح (٢) كما جاء في حديث الرسول (ص) فإنهم ينادون بهم ، لهذا وعلى خلاف ما يقوله صاحب البيت لضيفه فإنهم يقولون :

(لا مَرْحَباً بِهِمْ)

أي لا مكان يسعهم ، ولا نفس تقبل بحلولهم ، والرحب هو المكان الوسيع ، فكأنهم أرادوا القول : بأن المكان ضيق ويضيق أكثر بهم ، وعلّلوا لعنهم وسبهم لهم بأنهم أهل جهنم ، وهل يرحب بمن سيصلى نارا؟!

__________________

(١) الصافات / ٢٢

(٢) نور الثقلين / ج ٤ ص ٤٦٧ / والزج ـ كما يبدو هو القرية

٣٩١

(إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ)

وهذا ما يؤكده ربنا بقوله تعالى : (كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها).

[٦٠] ويبدأ حينئذ الصراع العنيف بين الطرفين ، والذي ينتهي إلى التخاصم والتقاتل ، وفي البين يلقي البعض المسؤولية على البعض الآخر.

(قالُوا)

الاتباع وهم يردون على كلام الطغاة ، حيث تتحول التحيّة وأعراف الاستقبال إلى سباب بينهم.

(بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ)

لأنكم السبب ومنكم الأذى والعذاب ، ويواصل التابعون شجارهم مع الطغاة وهم يحاولون تبرير موقفهم ، والتهرب من المسؤولية.

(أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا)

إذ أغريتمونا باتباعكم ، وضللتمونا بمختلف الوسائل حتى صرنا إلى هذا العذاب.

(فَبِئْسَ الْقَرارُ)

أي ساء المكان الذي نستقر ونثبت فيه ، ويقال : فلان قرّر أن يفعل كذا إذا ثبت فكره على رأي معين فهو غير متردد ، بل حاسم وقاطع في أمره.

وهذه الكلمة تدل على الخلود في النار ، وحين يكون المنزل الأخير سيئا فساء

٣٩٢

مصيرا.

[٦١] ويطلب التابعون من الله أن يزيد العذاب على الطغاة ، جزاء لهم على جرائمهم التي مارسوها بأنفسهم ، وعلى المعاصي التي مارسها التابعون بضغوطهم وتضليلهم.

(قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ)

[٦٢] ثم يلتفتون إلى بعضهم ويتساءلون لماذا لا نجد فلانا وفلانا ـ يقصدون بعض المؤمنين ـ في النار؟!

(وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ)

وهناك تنكشف لهم اخطاؤهم ، ففي البدء اكتشفوا ان القيادة التي اتبعوها كانت منحرفة ، والآن تبين لهم أيضا ان مقاييسهم في الحياة وتقييمهم للآخرين هي الأخرى كانت خاطئة ، وكان ينفعهم ذلك لو عرفوه في الدنيا وعملوا على إصلاح أنفسهم ، ولكنهم رفضوا الرسالة واتبعوا الأهواء.

[٦٣] ويرد أهل النار عدم رؤيتهم لمن كانوا يتصورونهم أشرارا في النار إلى أحد سببين ، فاما انهم صاروا إلى الجنة وهذا يعني ان مقاييسهم وبالتالي موقفهم تجاه أولئك كان خاطئا ، أو انهم موجودون معهم ولكنهم لا يرونهم.

(أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا)

في الدنيا وتبين الآن سلامة خطهم.

(أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ)

٣٩٣

فلا نراهم؟

ولهذا المقطع تفسير آخر هو : انهم يعنون الله ، بأنه ربما أدخلهم الجنة غفلة واشتباها مع انهم من أهل النار ، وتعالى ربنا أن يضل أو ينسى ، بل هم المخطئون في تقييمهم للمؤمنين.

ويبقى السؤال : من هم أولئك الذين تعنيهم الآيات في واقعنا الراهن؟

انهم الطغاة بلا ريب ، وهم حكام الجور المتسلطون قسرا على رقاب العباد ، والذين يحكمون بغير ما أنزل الله ، ويتجاوزون حدود الله ، ويذلون عباد الله ، أما جنودهم وأزواجهم فهم الذين يتبعون نهجهم ، أو يشاركونهم في ظلمهم.

أما الذين يعدونهم من الأشرار فهم الثائرون ضدهم من عباد الله المخلصين ، الذين رفضوا عبادة غير الله ، واتخاذ الآلهة المزيفة أربابا من دون الله رب العالمين.

ان الطغاة وجنودهم من قوى القمع ، وأبواق الضلالة ، يكيلون التهم ضد الثائرين عليهم ، ويعتبرونهم شرا من اليهود والنصارى والمجوس ، أرأيتم كيف يقبلون أيدي الأعداء ويطبّعون العلاقات معهم ، ويفتحون الأبواب أمامهم ، وفي المقابل يزجّون بالمؤمنين في السجون الرهيبة.

ولكن هؤلاء الذين اعتبروهم أشرارا في الدنيا يفتقدونهم في النار ، ويعلمون أنهم هنالك في الجنة يحبرون.

وكان اتباع أهل بيت الرسالة من هؤلاء ، إذ رفضوا سلطات الجور والقمع والضلال ، وطاردتهم قوى الإرهاب ، وألصقت بهم أبشع التهم ، ولكن أئمة الهدى من آل الرسول (عليهم السلام) كانوا يسلونهم بأنهم سوف يحبرون في الجنة بينما

٣٩٤

يطلبون في النار.

يقول (ميسر) وهو أحد الثائرين ضد سلطات الجور :

دخلت على أبي عبد الله (الامام الصادق (ع)) فقال : «كيف أصحابك؟»

فقلت : جعلت فداك لنحن عندهم أشر من اليهود والنصارى والمجوس والذين أشركوا.

قال وكان متكئا فاستوى جالسا ، ثم قال : «كيف؟»

قلت والله لنحن عندهم أشر من اليهود والنصارى والذين أشركوا ، فقال : «أما والله لا يدخل النار منكم اثنان ، لا والله ولا واحد انكم الذين قال الله عزّ وجل : (وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) قال لهم طلبوكم ـ والله ـ في النار ـ والله ـ فما وجدوا منكم أحدا» (١)

هكذا اليوم يتعرض المؤمنون الصادقون للضغوط ولكنهم سوف يحبرون في الجنة حين يتخاصم الطغاة وجنودهم وأتباعهم في النار.

[٦٤] بلى. هذا الصراع في النار من واقع ...

(إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ)

[٦٥] وانما جاءت رسالات الله لتنقذ الإنسان من هذا المصير الأسوأ.

__________________

(١) المصدر / ص ٤٦٨.

٣٩٥

والتخاصم من خلال دعوتها له لنبذ الآلهة المزيفة ، واتباع التوحيد الخالص في الحياة ، فنهته عن عبادة الطغاة بطاعتهم ، وعن عبادة الأجيال السابقة باتباع سيرتها الخاطئة.

(قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ)

وحتى هذا المنذر يجب أن لا يعبد من دون الله ولو بلغ من العظمة ما بلغ.

(وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ)

الذي يقهر الأعداء ويغلبهم ، ومن أبرز شواهد القهر ووسائله هو الموت الذي يخضع له الجميع ، فلا يقوى أحد على دفعه عن نفسه ، ونقرأ في دعاء الصباح لأمير المؤمنين (ع) قوله : «فيا من توحد بالعز والبقاء ، وقهر عباده بالموت والفناء» (١)

ولا ينحصر قهر الله في الموت وحسب بل يدخل في تطبيق كل حقّ وسنّة في الحياة ، ومن لا يستجيب لله وللحق الذي تتضمنه رسالاته ، وبما ينذر به الأنبياء ومن يتبعهم باختياره وإرادته فسوف يقهره الله عليه بالرغم منه ، في الدنيا إن شاء ذلك أو في الآخرة.

[٦٦] وحتى لا يستبد بنا الخوف منه تعالى ، يذكرنا برحمته وغفرانه.

(رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ)

ورب الشيء هو الأرأف به ، والأحرص عليه.

[٦٧ ـ ٦٨] ومن العوامل النفسية لارتكاب الخطأ ، والوقوع في الضلالة التهاون

__________________

(١) مفاتيح الجنان ص ٦٣

٣٩٦

بهما ، والاسترسال فيهما ، وعدم الجديّة في مواجهتهما ، فان الله يقول :

(قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ* أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ)

أي ان اعراضكم عن عبادة الله ، وتوجهكم إلى الشرك أمر عظيم جدّا ، وهل أعظم من ترك الإنسان رب السماوات والأرض إلى الشركاء المزيفين ، ونبذه قيم الحق الفطرية إلى الباطل والضلال؟

إذا لا يجوز أن يستهين الإنسان بالشرك ويسترسل معه ، وإلى أين ينحدر به مهوى الشرك؟

الى الجحيم ، وهل يمكن أن نستهين بعذابه الخالد؟

وحين يكون الإنسان جدّيا في مواجهة الشرك يعرف معانيه ، ويتبصر مهالكه ، أو ليس الخروج عن ولاية أئمة الهدى إلى ولاية أئمة الكفرة والضلالة شركا ، أو ليس أتباع الظلمة أو حتى السكوت عنهم شركا عظيما ، هكذا روينا عن الامام الصادق (ع) انه قال في تفسير الآية : الذين أوتوا العلم الأئمة ، النبأ : الإمامة (١)

(ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ)

[٦٩] ويؤكد ربنا على أهمية التوحيد ، وأنه محور الحوار الذي دار في الملأ الأعلى حين خلق الله الإنسان الأول ، واسجد له ملائكته ، ورفض إبليس السجود تكبّرا ، وبالتالي انه هدف خلق البشر ، وحكمة سجود الملائكة له ، فكيف يجوز التهاون

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ج ٤ / ص ٤٦٩

٣٩٧

فيه؟!

[٧٠] (إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ)

ان دور الرسول (ص) هو الإنذار بوضوح ، ومسئوليته إبلاغ الرسالة إلى الناس كما هي بالضبط ، وفي هذا تمهيد للحديث الذي سيتطرق له الدرس القادم حول قضية آدم وإبليس ، التي تمثل جانبا من الغيب ، حيث يحتاج التسليم لما يقوله الرسول فيها لهذه المعرفة بدور الرسول ، ذلك أن الجدل الذي دار عند خلق الإنسان في الملأ الأعلى بين الملائكة وربهم ـ سبحانه وتعالى ـ كان حول حكمة خلق الإنسان الذي يفسد في الأرض ، ويسفك الدماء ، ولكن ربنا قال لهم يومئذ : (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) وكان من علم الله انبعاث الرسل ، وايمان فريق من الناس بهم ، وخلوصهم في عبادة ربهم ، برغم عواصف الشهوة ، ونوازع الكبر والغفلة ، وضغوط الطغاة ، مما جعل هذا الفريق هم صفوة الخلق الذين باهى بهم الله ملائكته المقربين.

وهكذا نقرأ في النصوص الاسلامية : ان ما اختصم به في الملإ الأعلى الأعمال الصالحة التي بادر إليها المخلصون من البشر ، فعن ابن عباس عن النبي (ص) قال : «قال لي ربي أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ فقلت : لا ، قال : اختصموا في الكفّارات والدّرجات ، فأمّا الكفّارات فإسباغ الوضوء في السبرات ، ونقل الأقدام إلى الجماعات ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة ، وأما الدرجات فإفشاء السلام ، وإطعام الطعام والصلاة بالليل والناس نيام» (١)

__________________

(١) المصدر ص ٤٧٠.

٣٩٨

وتضيف رواية ثانية عن النبي (ص) : «وولايتي وولاية أهل بيتي حتى الممات» (١)

وإذا تدبرنا في سياق الآيات لعرفنا أن أعظم أهداف خلق البشر هو توحيد الله ، ولا يتحقق توحيد العبد ربه إلّا بالتسليم لولاية الله وولاية من عقد الله له الولاية ، ورفض الأنداد والآلهة التي تعبد من دون الله ، أما مجرد الصلاة دون التسليم للقيادة الشرعية فإنها فارغة عن جوهر العبادة. أرأيت الطغاة يمنعون عن الصلاة؟ كلا ... بل ترى بعضهم يبادر إلى بناء المساجد ، وإقامة الصلوات الحاشدة فيها ، ولكنهم يتكبرون في الأرض بغير الحقّ ، فهل تشفع لهم صلاتهم هذه؟ كلا .. لأنهم ينازعون الله رداءه ، ويغتصبون الولاية الالهية ويدعون الناس إلى عبادتهم من دون الله.

__________________

(١) المصدر.

٣٩٩

إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (٧١) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٧٢) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٧٣) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٧٤) قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (٧٥) قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (٧٦) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٧٨) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٧٩) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٨٠) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٨١) قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٨٣) قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (٨٤) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ

___________________

٧٧ [رجيم] : طريد مبعّد.

٤٠٠