من هدى القرآن - ج ١١

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١١

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-14-9
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٤٩

[١٦] ومن آيات فقرنا نحن البشر قدرة الله المحيطة بنا حيث يهلكنا إذا شاء ويستبدل بنا غيرنا.

(إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ)

[١٧] يستطيع أن يذهبكم جميعا ، ويستبدلكم بغيركم ، يخلقهم بيسر ، لأنّه لا يمارس في خلقه علاجا ولا يمسّه لغوب ، (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).

وفي الحديث عن الامام الصادق ـ عليه السلام ـ قال :

«خلق الله المشيئة قبل الأشياء ، ثمّ خلق الأشياء بالمشيئة» (٢)

فعند ما يشاء شيئا فقد حدث الشيء ، وفي الأثر : «أمره بين الكاف والنون»

(وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ)

لنفترض أنّ الله سبحانه وتعالى شاءت مشيئته المطلقة ـ التي لا يحدّها شيء ـ أن ينهي وجود الكون كلّه. هل يسأله أحد عن ذلك؟ كلا ...

فالله يفيض نور الوجود من ينبوع رحمته الواسعة لحظة بلحظة ، ولو توقّف هذا الفيض لحظة واحدة لتوقّف كلّ شيء ، فهل نحن أغنياء أم ربنا الحميد؟!

ماذا نستلهم من هذه الحقائق ، وكيف ينبغي أن تنعكس على أنفسنا وسلوكنا؟

__________________

(٢) التوحيد للصدوق / ص (٣٣٩).

٤١

الجواب :

١ / لأنّ الله غني حميد فهو يفيض سيبه على الخليقة ، إلا إذا عصوه وغيّروا ما بأنفسهم بغيا وظلما ، وهنالك يجازي الظالمين جزاء وافيا ، ولا يتحمّل أحد ثقل الجريمة عن أحد ، فلا ينفع إلقاء المسؤولية على الآخرين في محكمة العدل.

٢ / إنّ من يعمل الصالحات يجازيه الله فهو إذا يعمل لنفسه.

[١٨] (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى)

الوزر : الحمل الثقيل ، والوزارة : النفس البشرية التي حملت ثقلا.

ومعنى هذه الآية : إنّه لا تحمل نفس ذنب نفس أخرى. لماذا؟

لأنّ تلك النفس لها ثقلها وحملها ، فلا تستطيع أن تتحمّل حمل نفسه.

(وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى)

وقد قال الله عن لسان الكافرين : «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ» (٣).

إنّك إن تدع إنسانا ما أن يحمل عنك مسئوليتك ، فلن يحمل منها شيئا ، لأنّ كلّ إنسان يأتي وهو يحمل ما يكفيه من المسؤولية ، ويجب ان يتحدى الضغوط والأهواء.

__________________

(٣) العنكبوت / (١٢).

٤٢

إنّك مسئول عن عمرك وشبابك ، ويقظتك ونومك ، وسعيك وخمولك ، وإيمانك وكفرك ، فعلينا أن نعقد العزم على حمل مسئولياتنا بقوّة حتى يأتينا اليقين.

ولكن كيف نفهم هذه الحقيقة الكبرى؟

بما يلي :

١ ـ نخشى ربنا بالغيب.

(إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ)

لاننا ما دمنا لا نؤمن بالغيب فلن نفهم الحقائق.

٢ ـ نقيم الصلاة.

(وَأَقامُوا الصَّلاةَ)

٣ ـ نزكّي أنفسنا.

(وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ)

فاذا آمنت بالغيب ، وأقمت الصلاة ، وربّيت نفسك ، فأنت وحدك المستفيد.

[١٩ ـ ٢٢] في الدنيا نرى الناس بعين واحدة ، من يتزكى ومن لا يتزكى ، ومن قام الليل ومن نام ، إنّك تراهم سواء ، ولكنهم يختلفون عند ربهم.

والقرآن يؤكد لنا هذه الحقيقة في آيات كثيرة من القرآن ، فالذي زوّده الله بالبصيرة ، وأصبح يرى الحقائق بهدى الرب ، يختلف عمّن هو أعمى ، قد ترك بصيرته لهواه ، وهدى الله لضلالة إبليس.

٤٣

(وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ)

فالذي انتفع بنور عقله يعيش في ضياء الوحي ، أو ليس شرط الرؤية وجود بصر عند الإنسان ووجود نور على الطبيعة؟ كذلك المؤمن مزوّد بنور العقل ، ويعيش في عالم النور نور الرسالة الالهية ، بينما الآخر تلفّه ظلمات الجاهلية.

(وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ)

والذي يعيش في النور بصيرا تطمئنّ نفسه ، ويقيه الله من الكوارث والمصائب ، فهو في ظلّ الله ينعم بالسلامة ، بينما الآخر يلفحه الحرور وهو الحر الشديد.

(وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ)

والمؤمن حي لأنّه يستفيد من الإنذار فيجتنب المخاطر ، بينما الكافر ميّت لا يتفاعل مع محيطه.

(وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ)

القلب الحي يسمع كلام الله.

(وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ)

أمّا القلب الميت الذي تراكمت عليه الآثام ، واختفى في قبر الذنوب ، فإنّك لا تستطيع أن تسمعه.

[٢٣] (إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ)

لأنّ هدف الرسالة ليس أكثر من الإنذار ، أمّا أن تسمع لهذا الإنذار أو لا تسمع

٤٤

فتلك مسئوليتك.

لا تنتظر أن يجبرك أحد على الإيمان ، بل أنت الذي يجب أن تسعى نحو الهدى.

٤٥

إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (٢٤) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (٢٥) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٢٦) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (٢٧) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ

___________________

٢٧ [جدد بيض وحمر] : مفردها جدة كغرف وغرفت ، والمراد بها الطرق.

[وغرابيب سود] : الغربيب الشديد السواد الذي يشبه لون وسمي الغراب غرابا لشدّة سواده.

٤٦

إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (٢٨) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (٢٩) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (٣٠) وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (٣١) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٣٢)

٤٧

إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ

هدى من الآيات :

إرسال الرسل ، وتكذيب الكفّار بهم ، ونزول العذاب عليهم بسبب التكذيب ، هي من سنن الله في الخليقة ، فبالرغم من أنّ هذه السنن قد لا تبدو واضحة وضوح سائر السنن والأنظمة إلّا أنّها لا تشذّ عن سائر السنن في تكرارها على ذات النسق ، فمن السنن ما تقع يوميّا ، ومنها ما تقع كلّ قرن مرة مثلا ، ومنها ما تقع عند حوادث معينة.

فالرسالة من تلك السنن ، إذ يرسل الله رسولا بين فترة وأخرى حسب حاجة البشر.

ومع هذه السنة تتكرر حقيقة تاريخية حتى تكاد تكون سنة وهي : إنّ الرسالة الجديدة تصطدم بعقبات نفسية واجتماعية من القوم الذين أرسل الرسول إليهم ، فتراهم يرفضونها سريعا.

٤٨

أمّا السنة الأخرى فهي أن ينتقم الله لرسالته من أولئك الذين خالفوها ، فيبعث عليهم عذابا يبيدهم عن بكرة أبيهم.

هذه فكرة تدور حولها آيات هذا الدرس ، وأمّا الفكرة الثانية فهي : إنّ العلم الحق يدعو الى الإيمان الحق.

بينات من الآيات :

[٢٤] ليس غريبا أن يبعث الرسول بالحق ، لأنّ الله إنّما خلق أساس الكون بالحق ، فالسنن والأنظمة الطبيعية حق ، والحالات المتغيرة التي تخضع لهذه الأنظمة حق أيضا ، وشهوات الإنسان وعقله حق ، وأرسل الربّ رسوله بالحق ليكشف الحق ويهدي إليه ، فهي رسالة تتكيف مع الإنسان والطبيعة ، وتجري على ذات النهج.

(إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ)

هذه سنة ، لأنّ الله لم يجعل أمّة إلّا ولها نذير ، يبعثه في أمّها.

[٢٥] ومن الحقائق التي تكاد تكون سنة ، تكذيب الأمم لرسلهم.

(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ)

وهي الشواهد والحجج التي لا ريب فيها لشدة وضوحها.

(وَبِالزُّبُرِ)

وهي الكتب المنزلة على الرسل المحتوية على مجموعة المعارف الالهية ، الهدى والبينات والمفصلات.

٤٩

(وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ)

أي البصائر. ولعل فرقه مع الزبر أنّه خصوص البينات المحكمات من الكتب ، بينما الزبر هي المتشابهات والمجملات.

ومع أنّ الرسل أرسلوا بهذه الرسالات الثلاث ، مع ذلك كذّبتهم الأمم.

فإذن يا من تبلّغون رسالات الله! لا تستوحشوا من تكذيب الناس ، إنّ تكذيبهم عادة جرت قبل أن تحملوا رسالتكم ، فلا بد أن تعرفوا أنّ ما سيجري عليكم هو أن يكذّبكم قومكم كما كذّب الأوّلون ، ولكنّ الله سيظهرها عليهم ، طوعا أو كرها.

[٢٦] (ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ)

وهذه سنّة أيضا.

ونكير الله لهم : أي عذاب شديد يستأصلهم به. أفلا يعتبرون بتاريخهم ، ويعرفون شدة إنكار الله لمنهجهم في التكذيب؟!

[٢٧] من أبرز ما يثير عقل الإنسان ، ويجعله يغوص في أعماق الحقائق ، الاختلافات التي تبرز في الطبيعة مما يزيدنا وعيا بتدبير الله ، واستوائه على عرش القدرة ، لأنّ إدارة الأمور المختلفة التي يقوم كلّ واحد منها بأداء وظيفة معينة ، والتنسيق بينها وبين غيرها من الأمور أكبر شهادة على الخبرة والقدرة.

ويبدو أنّ السياق هنا يذكّرنا بهذا الاختلاف ثم يبين بأنّ الذين يخشون ربهم هم العلماء.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً)

٥٠

ماء المطر واحد إلّا أنّ الله ينبت به ثمرات مختلفا ألوانها.

(فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها)

اللون هو الجانب الظاهر من الاختلاف ، ولكنّه يعكس جوانبا أخرى هي : الاختلاف في الطعم ، واللون ، والفائدة ، ورغبات الناس إليها.

ونترك الحقول والسهول فنصل إلى الجبال ، فيقول الله فيها :

(وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ)

الجدد من الجادة ، وهي الخطة أو الطريقة.

(وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ)

بين الأسود والأبيض ألوان تتفاوت من جبل إلى آخر ، بل حتى في الجبل الواحد تختلف الألوان أعلاه عن أسفله عن جوانبه.

وهذه الآية ربما تدل على طبقات الأرض التي تتجلّى في الجبال.

وغربيب : الشديد السواد ، ومنه سمّي الغراب لسواده.

[٢٨] (وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ)

كما الجبال واختلاف ألوانها كذلك بالنسبة إلى الإنسان والحيوان ، فالإنسان تتفاوت ألوانه بشكل واضح وجلي ، وكذا الحيوان فالماعز مثلا تتفاوت ألوانه من الأسود إلى الأبيض.

(كَذلِكَ)

٥١

هذا الاختلاف يدل على الدقة والحكمة ، فربّك الذي يخلق الحيوان بشكل مختلف جعل فيه أجهزة تتكيّف واختلافها ، فإنّك إذ ترى الهرّة ترى كلّ شيء ينسجم مع تركيبها ، فيخلق في عين الهرّة جهازا يكبر ويصغر حسب النور والظلام ، فترى بؤبؤة عينها تصبح مستديرة صباحا ، الى أن تتحول شيئا فشيئا الى شكل هلال الى شكل خيط يشع نورا في الظلام ، حتى أنّك تستطيع أن تعرف الوقت من عين الهرّة.

إنّ الذي خلق بؤبؤة الهرّة خلق جهازا في رأس النعامة لينظّم ضغط الدم فيه ، إذ أنّها لو عدمت هذا الجهاز لانفجر دماغها حالما تنكسه الى أسفل إذ يصل الضغط في دماغها آنئذ إلى ثلاثمائة درجة ، ولكن وجود هذا الجهاز يكيّف الضغط فيه ، فكلّما نكّست رأسها كلّما خفّ الضغط بسبب هذا الجهاز الدقيق حتى يبقى الضغط على دماغها بدرجة واحدة سواء كان رأسها أعلى عن الأرض بستة أمتار أو كان فوق التراب مباشرة.

وهكذا فإنّنا لو تعمّقنا في الخليقة لعرفنا وحدة التدبير في اختلاف الصنع ، ولكن من الذي يفهم هذه الحقيقة حتى يعرف ربه فيخشاه ، إنّهم العلماء.

(إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ)

والخشية هي ميراث العلم ، جاء في الحديث:

عن أبي عبد الله ـ عليه السلام ـ :

إنّ من العبادة شدة الخوف من الله ـ عزّ وجل ـ يقول الله ـ عزّ وجل : «إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ» (١).

__________________

(١) تفسير نور الثقلين / ج (٤) ص (٣٥٩).

٥٢

وفي حديث آخر عن أمير المؤمنين (ع) قال :

«... وحسبك من العلم أن تخشى الله» (٢)

(إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ)

عزيز بقدرته ، غفور للجاهلين.

[٢٩] واستطرادا للحديث عن العلماء يتحدث الله عمن هو العالم؟

العالم له صفات أربع هي :

١ ـ (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ)

أي يستوحون علمهم من كتاب الله ، أو يمنهجونه حسب كتاب الله.

٢ ـ (وَأَقامُوا الصَّلاةَ)

أي يقيمون الصلاة بحدودها ومواقيتها ، بحيث تنهى عن الفحشاء والمنكر.

٣ ـ (وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً)

سرّا لأنّه بعيد عن الرياء والجبت ، وعلانية لأنّه تحد للطاغوت ، فهم يتحدون بالإنفاق جبت أنفسهم وطاغوت زمانهم.

ولكل شيء إنفاق وزكاة ، فزكاة العلم نشره ، وزكاة الجاه بذله ، وزكاة المال العطاء.

__________________

(٢) بحار الأنوار / ج (٢) / ص (٤٨).

٥٣

٤ ـ (يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ)

يرجون من الله فكاك رقابهم من النار ، وهل تبور تجارة أحد مع الله العزيز الغفور؟

ونستوحي من مجمل الآيات في هذا السياق خصوصا من هذه الآية والتي سبقت في بيان عاقبة المكر وانه يؤول الى البوار «وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ» نستوحي : أنّ على الإنسان أن يختار الطريق السليم في بلوغ أهدافه المشروعة حتى ينجح (لأنّ إلى الله يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) أمّا الذين يختارون الطرق الملتوية ، ويريدون بلوغ أهدافهم بالمكر والحيلة فإنّ سعيهم يضيع ، وعاقبتهم البوار.

ولعل السياق يعالج وسواسا شيطانيا حيث يدعو البشر أبدا الى اختيار الطريق الأسهل والأقرب الى الكسب حتى ولو كان على حساب القيم أو حقوق الآخرين ، ويوحي الى الإنسان أنّ العمل الصالح لا ينفع أو أنّ نفعه قليل ، بينما يؤكد القرآن على أنّ الله يبارك في العمل الصالح والنّيّة الصادقة.

[٣٠] (لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ)

كاملة ، بل :

(وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ)

غفور يغفر زلّاتهم ، وشكور لما قدّموه من عمل يرجون به وجه الله ، عارفين أنّه يعوّضهم خيرا مما أنفقوا حيث يدخلهم الجنة دار ضيافته.

[٣١] من صفات المؤمنين التصديق بكل الكتب.

٥٤

(وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ)

من الكتب الاخرى.

(إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ)

[٣٢] ولكن هناك أجيال من العلماء يسمّون بعلماء الوراثة وليس علماء التجربة والمعاناة.

(ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا)

من هم هؤلاء الذين اصطفاهم الرب لحمل كتابه؟ يبدو من السياق أنّهم العلماء ، ولذلك جاء في الحديث الشريف :

«العلماء ورثة الأنبياء»

فإذا : المصطفون طبقة العلماء من أمة محمد ـ صلّى الله عليه وآله ـ والاصطفاء هنا ليس شخصيا حتى يشبه اجتباء الأنبياء والائمة عليهم السلام ، بل بتحميل الرسالة لأمة من الناس لمجمل الخصال التي فيهم ولمكان وجود السابقين بالخيرات بينهم ، وهم أئمة الهدى عليهم السلام.

جاء في الأثر عن الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ :

«الظالم لنفسه منّا من لا يعرف حقّ الإمام ، والمقتصد منّا من يعرف حقّ الامام ، والسابق بالخيرات هو الإمام ، وهؤلاء كلّهم مغفور لهم» (٣)

__________________

(٣) نور الثقلين / ج (٤) ص (٣٦٥).

٥٥

ونعرف من ذلك أنّ الظالم هنا مغفور له لأنّ ظلم نفسه لا يبلغ درجة دعوة الناس إلى الضلال ، بل فيه ما في الناس من زلّات يطهرها بحسناته ، وهو ظالم لنفسه إذا قيس بالمقتصد ، والسابق بالخيرات هو من عرف واجبه باعتباره وارث علم الكتاب ، وقد روي عن الامام الباقر عليه السلام أنّه قال ـ بعد أن سئل عن الآية وعن معنى الظالم لنفسه فيها ـ :

«من استوت حسناته وسيئاته منّا ـ أهل البيت ـ فهو الظالم لنفسه ، فقلت : المقتصد منكم؟ قال : العابد لله في الحالين حتى يأتيه اليقين فقلت : فمن السابق منكم بالخيرات؟ قال : من دعا ـ والله ـ الى سبيل ربه ، وأمر بالمعروف ، ونهى عن المنكر ، ولم يكن للمضلين عضدا ، ولا للخائنين خصيما ، ولم يرض بحكم الفاسقين ، الا من خاف على نفسه ودينه ولم يجد أعوانا» (٤)

ونستوحي من هذا النص : أنّ لذرية رسول الله (ص) المصطفين للقيادة مسئوليات أكبر ، فالظالم نفسه منهم هو الذي تستوي حسناته وسيئاته ، ولا يدعو الى ضلال كما جاء في حديث آخر :

«الظالم لنفسه الذي لا يدعو الناس الى ضلال ولا هدى»

ولعل في كلمة «لنفسه» شهادة على ظلم لا يتجاوز نفسه الى الآخرين.

أمّا الشاهد على أنّ الآية تعني مثل هؤلاء فهو الآية التالية التي تدل على أنّ جميع هؤلاء في الجنة ... هكذا استدل الإمام الرضا ـ عليه السلام ـ للمأمون العباسي حينما سأله عن الآية. لنستمع الى تحاورهما :

حضر الرضا (ع) مجلس المأمون بمرو ـ وقد اجتمع في مجلسه جماعة من علماء أهل

__________________

(٤) المصدر / ص (٣٩٤).

٥٦

العراق وخراسان ـ فقال المأمون : أخبروني عن معنى هذه الآية : «ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا» فقالت العلماء : أراد الله بذلك الأمة كلّها ، فقال المأمون : ما تقول يا أبا الحسن؟ فقال الرضا (ع) :

لا أقول كما قالوا ، ولكني أقول : أراد الله عزّ وجل بذلك العترة الطاهرة ، فقال المأمون : وكيف عنى العترة من دون الأمة؟ فقال الرضا (ع) : إنّه لو أراد الأمة لكانت بأجمعها في الجنة ، لقول الله عزّ وجل : «فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ» ثم جمعهم كلّهم في الجنة فقال : «جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ» الآية ، فصارت الوراثة للعترة الطاهرة لا لغيرهم (٥)

(فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ)

تساوت حسناته وسيئاته ، وفي حديث مأثور عن أبي الدرداء عن رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ في هذه الآية في مصير الظالم لنفسه قال :

أمّا السابق فيدخل الجنة بغير حساب ، وأمّا المقتصد فيحاسب حسابا يسيرا ، وأمّا الظالم لنفسه فيحبس في المقام ثم يدخل الجنة ، فهم الذين «قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ» (٦)

(وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ)

وهو الذي يصوم نهاره ، ويقوم ليله ـ كما جاء في الحديث السابق ـ.

(وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ)

__________________

(٥) المصدر / ص (٣٦٥).

(٦) المصدر / ص (٣٦٥).

٥٧

وهو الإمام.

(ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ)

السبق بالخيرات.

وهذا التفسير للآية يتناسب والسياق ، وتؤيّده أحاديث كثيره عن النبي وأصحابه ، حتى قال الشوكاني بعد ذكرها : وهذه الأحاديث يقوّي بعضها بعضا ، ويجب المصير إليها ، ويدفع بها قول من حمل الظالم لنفسه على الكافر ، ويؤيّدها ما أخرجه الطبراني وابن مردويه والبيهقي في البعث عن أسامة بن زيد «فمنهم ظالم لنفسه ... الآية» قال : قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ :

«كلّهم في هذه الأمة ، وكلّهم في الجنة» (٧)

وهناك تفسيران آخران :

أولهما : أنّ المراد بالظالم هو الكافر.

الثاني : أنّ المراد مجموع الامة.

وهذا مخالف لاجتماعهم في الجنة مع أنّ بعضهم من أهل الكبائر ومن وعد الله لهم بالنار.

__________________

(٧) تفسير فتح القدير المجلد / ج (٤) / ص (٣٥٢).

٥٨

جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٣٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (٣٤) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (٣٥) وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (٣٦) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٣٧) إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٣٨)

___________________

٣٥ [لغوب] : هو المشقة في طلب المعاش ونحو ذلك.

٥٩

هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (٣٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (٤٠) إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤١)

٦٠