من هدى القرآن - ج ١١

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١١

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-14-9
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٤٩

أم حدود الوطن؟ كذلك حين كان الجاهليون يعبدون الأصنام التي كانت ترمز إلى عصبياتهم العشائرية فانما كانوا يعبدون قيم العشيرة.

وهذا نستنتجه من التدبر في الآيتين (٢+ ٥) ففي الوقت الذي يذكر القرآن الشقاق في مجتمع الجاهلية في الآية الثانية ، يشير هنا إلى تعدد الآلهة فيه ، وفي نصوص التاريخ نجد أنه كان في الكعبة وحدها (٣٦٠) صنما لكل قبيلة صنمها المختص بها ، ولكي يجمع النبي الناس ويوحدهم طرح رسالته التوحيدية كبديل عن الأفكار الشركية ، وكسر الأصنام لأنها كانت رمزا للتفرقة (الشقاق) والعزّة.

ولعل أحدنا يستنكر على الكفار والمشركين رفضهم لتلك الرسالة التوحيدية ، ولكننا نجد اليوم وبعد (١٤) قرنا ، أناسا يسخرون ممن يطرح في ـ الساحة الاسلامية ـ كسر الحدود المصطنعة التي أوجدها الاستعمار بيننا ، وهي لا تعدو أن تكون بدائل عن الأصنام التي علقها الجاهليون في الكعبة وليس رفض هكذا دعوة يأتي بسبب أن الرافضين لا يجدونها حقة ، وانما لاعتزازهم بالواقع الفاسد ، حيث تقوم دولة على كل قطعة أرض ويرتفع علم ويتسلط حاكم مغرور.

[٦] ولا شك أن أول من يسعى للإبقاء على الواقع القديم برموزه الصنمية هم أصحاب الوجاهة الاجتماعية ، والصدارة السياسية ، والثروات المسروقة لأنهم انما يستعبدون الناس ، ويمتصون جهود المجتمع من خلال هذا الواقع الفاسد ، فاي محاولة للتغيير تعني تقويض مصالحهم وهكذا تراهم يهبون للدفاع عنه ، ومحاربة الفكر الجديد ، بشتى الاساليب ومن أبرزها اثارة العزّة بذلك الواقع.

(وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ)

وهم المستكبرون في المجتمع ، والذين يقودون المعارضة ولا زالوا ضد الأنبياء

٣٢١

والحركات التغييرية ، وهمهم الأكبر الإبقاء على التخلف فاذا بهم يدفعون عجلته بهذا الاتجاه.

(أَنِ امْشُوا)

ويوحون للناس بأن مسيرتهم تقدمية وصحيحة بالتضليل والتجهيل. ولكن لان فطرة الإنسان تخالف الباطل ، ولان الباطل تقف ضده كل عناصر الوجود وسننه فان قبوله صعب نفسيا وعمليا على البشر ، لهذا أكد الملأ على ضرورة الصبر.

(وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ)

كما أن من أساليب الطغاة في جر الناس إلى معارضة المصلحين ، أنهم يحاولون اقناعهم بأنهم يستهدفون مصالحهم ومقدساتهم ، فاذا نهضت طلائع المجتمع للثورة ، وقامت ببعض الأعمال الجهادية قالوا للناس : «بأن هذه الأعمال لا تستهدف السلطة وحدها انما تستهدف أمن المواطن واستقراره أيضا ، وبالتالي فمسئولية القضاء على المخربين (في زعمهم) هي مسئولية الجميع» ويؤكدون :

(إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ)

وهناك تفسيرات عديدة لهذه الكلمة نذكرها تباعا :

ألف : وهو الذي يبدو أقربها أنّ الملأ أرادوا من هذه الكلمة أن الاستمرار على عبادة الآلهة شيء مطلوب وحميد ، اعتزازا بالباطل والإثم ذلك ان من سلبيات النفس البشرية أنه يصعب عليها فردا وأمة التراجع عن الخطأ حتى لو تبين له.

باء : أن الملأ أرادوا بهذه الكلمة تشوية شخصية الرسول (ص) ، فكأنهم قالوا بأن هدفه من الرسالة والإنذار هو المنافع الشخصية التي يريدها لنفسه. وهذه من

٣٢٢

طبيعة الطغاة ، أنهم يتهمون المصلحين بذلك.

جيم : أن هذا المقطع من الآية هو كلام الله سبحانه وهو ردّ على قول الكافرين في مقابل دعوة التوحيد «إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ».

[٧] ويوصل السياق بيانه لأساليب الملأ في التضليل عن الحق.

(ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ)

إن الشرعية والقدسية في نظرهم تكون للدعوة التي تنتمي إلى الواقع وتتجانس معه ، لا التي تنطوي على الحق والعلم ، وما دامت الأجيال الغابرة تنفي صحة هذا الفكر فهو خطأ إذن. وهذا ضرب من الرجعية لان مجتمعا يعتمد هذه المقاييس لن يبدع ولن يتقدم خطوة إلى الامام.

ثم حكموا على الرسالة الالهية بالباطل فقالوا :

(إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ)

أي جديدة الحدوث متقطعة الجذور عن التاريخ ، ودعوتهم هذه ضد الدين خطأ من زاويتين :

١ ـ أنهم اعتمدوا في تقييمهم للرسالة على النظرة الشيئية لا المنطقية ، فمن البديهي أن تكون النتيجة ضلالتهم!

٢ ـ أنهم لم يبحثوا عن شرعية الرسالة وجذورها من خلال نظرة شاملة لتأريخ البشرية ، ولو فعلوا ذلك لم يعتبروها اختلاقا ، لأنها تلتقي مع (١٢٤٠٠٠) دعوة في التاريخ جاء بها الأنبياء والمرسلون منذ قبل ، ولكنهم قيموها من واقع جيل واحد

٣٢٣

فقط.

وجاء في الحديث المأثور عن الامام الباقر عليه السلام في نزول الآية قال :

أقبل أبو جهل بن هشام ومعه قوم من قريش فدخلوا على أبي طالب فقالوا : إنّ ابن أخيك قد آذانا وآذى آلهتنا فادعه ومره فليكف عن آلهتنا ونكف عن الله ، قال : فبعث أبو طالب الى رسول الله فدعاه فلما دخل النبي لم ير في البيت ولا مشركا ، فقال : (السَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى) ، ثم جلس فخبّره أبو طالب بما جاؤوا له فقال : أو هل لهم في كلمة خير لهم من هذا يسودون بها العرب ويطأون أعناقهم؟ فقال : أبو جهل : نعم. وما هذه الكلمة؟ قال : تقولون : لا إله إلّا الله.

قال : فوضعوا أصابعهم في آذانهم ، وخرجوا هربا وهم يقولون : ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة ان هذا إلّا اختلاق ، فأنزل الله في قولهم : (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) الى قوله (إِلَّا اخْتِلاقٌ)(١)

[٨] ثم صرحوا بما تنطوي عليه نفوسهم تجاه الحق ، وقالوا لو أنزلت الرسالة علينا لآمنا بها فنحن أولى بالنبوة منه لان عندنا المال والرجال والوجاهة ، ونحن أصلح لقيادة المجتمع منه ، وليس من المعقول أن ينزل الذكر على هذا الفقير اليتيم والضعيف ، وأن نسلم لقيادته ، وغاب عن ذهنهم أن الصفات المطلوبة في الرسول القائد ليست التي يتصورونها انما القيادة لصاحب العلم والتقوى والأخلاق ثم أن الله هو الذي يعين الرسول لا الناس ولا الوجهاء.

(أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا)

وينسف الله كل اعذارهم للكفر بالحق مبينا الأسباب المركزية الداعية إليه

__________________

(١) نور الثقلين ج ٤ ص ٤٤٢.

٣٢٤

وهي :

الاول : أنهم لم يستفيدوا من ذكر الله ، سواء الذي يتجلى في كتابه ، أو في تاريخ القرون الماضية ، أو على لسان الآخرين.

(بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي)

والذي يشك في الآخرة ينعكس شكه على جزئيات الإيمان وكلياته.

الثاني : عدم خوفهم من العذاب ، لأنهم لم يتذوقوه ، ولم يستفيدوا من تجربة الذين وقعوا فيه قبلهم.

(بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ)

ويستفاد من (لمّا) أن عذابهم مرتقب.

[٩ ـ ١٠ ـ ١١] والسبب الثالث : غرور المال والقوة اللذان أحاطا بهم ، فصاروا ينظرون الى جميع الأمور من خلالهما ، فاذا بهم لا يرون حاجة للرسالة في أنفسهم. ويحطم ربنا كبرياءهم هذا عن طريق مقارنة ما بحوزتهم بما عند الله من الملك والقوة.

(أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ)

كلّا ... ومن خزائن الله الرسالة التي ينزلها على من يشاء من عباده المخلصين. ثم إن الذي عندهم مهدد بأن يلسبه الله بعزته ، بل هو هبة من الله لهم وليس ملكا ذاتيا. ثم لندع مقايسة ما يملكه هؤلاء بما عند الله ، ولننظر ماذا يملكون من ظاهر الحياة الذي هو جزء ضئيل جدا من ملكه تعالى :

٣٢٥

(أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما)

وربنا يذكر هؤلاء بحقارة ما يملكون وعظمة ما يملكه الله ، لأنهم ـ كما تقدمت الاشارة ـ يعتمدون على منطق القوة ، فأراد الله أن يوضح لهم بأنه الغالب في قوة المنطق وفي منطق القوة أيضا.

إن هذا الإنسان الذي يتمالكه الغرور فيتحدى ربّه أضعف ما يكون عن تحمل أدنى تحدّ فالسلطان المتكبر يقتله الله بجرثوم تعجز أحدث الاجهزة عن اكتشافه ، وقد يسلب منه كل ما يملك بين عشية وضحاها ، ومما يذكر في التاريخ أن الناس ثاروا على خليفة من الخلفاء العباسيين ففقئوا عينه ، وجردوه من ملابسه وصادروا كل ما تملكه من أموال المسلمين ، حتى وقف يتسول على باب المسجد من الناس.

وربنا من فوق عرشه يتحدى المتكبرين ؛ يقول : أجمعوا قواكم المادية والبشرية والعلمية ، وابحثوا عن كل سبب من أسباب القدرة ، فان مصيركم لن يكون إلّا كمصير الأقوام السابقة ، حيث كذّبت الرسل وتحدت الحق فدمرها الله.

(فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ* جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ)

فمهما اعتمدوا على أسباب القوة (العدد والعدة والخبرة) فان المؤسسات العسكرية تنهار بفعل الارادة الالهية المباشرة أو المتجليّة على أيدي المؤمنين. وجند مبتدأ ، وما أداة للتقليل أراد بها الله تحقير قوتهم ، وهنالك إشارة للمكان البعيد الذي قد يستخدم للتحقير أيضا ، فيكون المعنى كقولنا أن هنالك جندا ما مهزومون من الأحزاب ، وفي الروايات كان المقصود في التأويل من الآية هم المشركون في مكة وقد تحزبوا لحرب الإسلام ، فبشر الله نبيه بهزيمتهم وغلبته عليهم.

[١٢] ومن أجل أن يستقيم الرسول في طريق الدعوة للحق ، ويقاوم تحدّيات

٣٢٦

الكافرين ، يذكره بمعاناة الأنبياء مع الأقوام السابقة ، وأن هؤلاء سوف يهزمون كما حدث لأولئك.

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ)

فتكذيبهم ليس جديدا ، ثم يذكر بمجرد الاشارة ، مجموعة من الأقوام :

(قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ)

وانما سمي فرعون بذي الأوتاد لأنه كان إذا غضب على أحد وتد رجليه ويديه ورأسه على الأرض أو في خشبتين متقاطعتين على شكل الصليب ، أو في جذوع النخل ، وقيل أن سبب التسمية كثرة جنوده وجيوشه السائرة فكانوا إذا نصبوا الخيام في معسكراتهم ، وأثناء استراحتهم في الطريق صارت كثيرة جدا وهكذا أوتادها. (١)

[١٣] كل تلك الأقوام كذّبوا رسلهم ، وأيضا :

(وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ)

وهم قوم شعيب (ع).

(أُولئِكَ الْأَحْزابُ)

فأين ذهب أولئك سوف يذهب هؤلاء أيضا.

[١٤] فهم أحزاب يختلفون مع بعضهم في طبيعة الحياة ، والمكان والقوة

__________________

(١) المجمع ج ٧ ، ٨ ص ٤٦٨.

٣٢٧

والضعف ولكنهم يجمعهم أمران هما : التكذيب بالحق والرسل ، والعقاب الالهي الذي لحق بهم بسببه.

(إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ)

وقد تكون هذه الآيات تمثيل للحقيقة التي طرحتها الآية (٣) عن هلاك القرون السابقة.

[١٥] والدمار الذي لحق بتلك الأقوام لم يكن أمرا طارئا ، انما ينسجم مع الحق الحاكم في الحياة ، والتمثل في إرادة الله والسنن التي وضعها في الكون. والحق هو الحق ، والحياة هي هي بأساسياتها ، فلن يشذ عن هذه النتيجة كل من يمشي في ركاب المكذبين وخطهم في أي زمان ومكان.

(وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ)

سواء كفار قريش أو طواغيت اليوم الذين يتحكمون في مصائر الشعوب ، ويحاربون الله والإسلام ما ينتظر هؤلاء جميعا ؛

(إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ)

وليس بالضرورة أن تكون الصيحة من جبرائيل أو أحد الملائكة الغلاظ عليهم السلام ، بل قد تكون الصيحة رصاصة يطلقها المجاهدون على المستكبرين ، وقد تكون ثورة شعبية جذرية تأكل الأخضر واليابس من كيانهم.

وفواق بمعنى الرجوع ، ومنه فواق الناقة إذا رجع لبنها الى الضرع بين الحلبتين ، وافاقة المريض من المرض إذا رجع الى صحته ، وهؤلاء حينما ينزل بهم العذاب لا تقبل رجعتهم للحق. وهذه الكلمة نجد تفسيرها في قوله تعالى في الآية الثالثة

٣٢٨

«وَلاتَ حِينَ مَناصٍ».

إذن فاعتماد الإنسان على قوة المال والجند واعتزازه بهما في مقابل الحق أمر خطير يجره الى الهلاك ، بشذوذه عن الحق في الحياة.

٣٢٩

وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (١٦) اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (١٧) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (١٨) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (١٩) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (٢٠) وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (٢١) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (٢٢) إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (٢٣) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ

٣٣٠

(٢٤) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٢٥) يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (٢٦)

٣٣١

يا داوُدُ : إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً

هدى من الآيات :

إن فتنة القوة في الحياة فتنة كبيرة وخطيرة ، ومن تخلص من غرورها فانه يتغلب على سائر الفتن بصورة أسهل ، ذلك أن الإنسان يقتحم الصعاب ويركب الأهوال والمخاطر من أجل السلطة ، فاذا تنازل عنها أو بلغها ولم يسخرها إلّا في سبيل الخير ، فإنه آنذاك ينتصر على أهوائه ، وعلى الضغوط التي تحيط به.

وفي الوقت الذي حدثتنا هذه السورة عمن صرعتهم هذه الفتنة ، فراحوا يعتزون بقوتهم ويتحدون ربهم ويعتزون بآلهتهم التي تمثل رموز سلطتهم ، ويخالفون ولآية الله باسمها وهم الملأ من الكفار ، يضرب لنا هذا الدرس القرآني مثلا حيا من واقع داود (ع) الذي تجاوز هذه الفتنة. فبالرغم من أنه امتلك القوة الظاهرية في الأرض ، كما سخرت له الطيور والجبال والحديد ، إلّا أنه لم يغتر بقوته بل صار يتقرب إلى الله اللحظة بعد اللحظة من خلال تسبيحه المستمر وآنئذ جعله الله خليفة في الأرض

٣٣٢

تشريعيا وواقعيا.

ونستوحي من إعطاء الله السلطة وولاية الأمر لنبيّه داود (ع) بعد استقامته على الحق ، أنه تعالى لا يعطي ولايته الى كل سلطان ، انما للذين يمتلكون ناصية الملك ولا تمتلكهم.

بينات من الآيات :

[١٦] عادة ما يستعجل الكفار عذاب الله ، ويتحدون الأنبياء قائلين : إذا كانت دعوتكم صادقة فاسألوا ربكم أن يصب علينا العذاب. والسياق القرآني في هذه السورة يترك الاجابة على تحدي الكافرين ، ويوجهنا الى دراسة التاريخ ، لأنه تعالى أجرى الحياة وفق سنن حددها واختارها بعلمه وحكمته ، ولن يغير الله سننه كلما تحداها الجاهلون فهو يدير شؤون الخليقة حسب الحكمة لا حسب ردود الفعل تعالى ربنا عن ذلك علوا كبيرا ، بلى قد يغير الله سنة ما في ظروف خاصة لأن ربنا لا يعجزه شيء وأمره فوق السنن والقوانين ، ولكنه مع ذلك يتصرف بعلم وحكمة.

(وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ)

والقط الحظ والنصيب فهؤلاء يسألون الله أن يوافيهم بما يستحقون من العذاب لكي يكتشفوا أنهم فعلا على الباطل. ولكن الله لا يستجيب لهذه الدعوة دائما وذلك لأمور :

الاول : أنه عزّ وجل رحيم بعباده ، فلو قادهم الجهل يوما الى الكفر والتحدي لا يأخذهم بالعذاب ، وذلك أن الإنسان قد يجهل حينما ثم يكتشف خطأه ويعود الى ربه.

٣٣٣

الثاني : لان ذلك يخالف حكمة الحياة ، فالله خلقها للامتحان وذلك يقتضي أن لا يكون العذاب مباشرة بعد الذنب ، ولو فعل الله ذلك لما عصاه أحد ، ولكنّ الطاعة التي يريدها الله هي التي تكون بدافع المعرفة به ، والخوف من مستقبل المعصية ، والتطلع الى نتائج الطاعة. يقول تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (١) وقال : (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) (٢) وقال الامام الصادق (ع) :

«لما رأى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض ، التفت فرأى رجلا يزني ، فدعا عليه فمات ، ثم رأى آخر فدعا عليه فمات ، ثم رأى ثلاثة فدعا عليهم فماتوا ، فأوحى الله اليه يا إبراهيم إن دعوتك مستجابة فلا تدع على عبادي ، فاني لو شئت لم أخلقهم ، إني خلقت خلقي على ثلاثة أصناف ، صنف يعبدني لا يشرك بي شيئا فأثيبه ، وصنف يعبد غيري فليس يفوتني ، وصنف يعبد غيري فأخرج من صلبه من يعبدني» (٣)

الثالث : لكي تتم الحجة على الناس ، فهم مع الفرصة التي يمنحها الربّ لهم في الدنيا يسألونه الرجعة بعد الموت ليستأنفوا العمل قال الله تعالى : (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ) (٤)

وقال بعض المفسرين : انّ معنى قط النصيب وانهم أرادوا نصيبهم من الجنة

__________________

(١) يونس ٩٩

(٢) النحل ٦١

(٣) نور الثقلين ج ١ ص ٧٣٢

(٤) المؤمنون (٩٩ ، ١٠٠).

٣٣٤

(لا من العذاب) استهزاء وسخرية وانهم كذبوا بذلك بثالث الأصول الدينية (المعاد) بعد أن كذبوا بأولها (التوحيد) عند ما قالوا : «أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً» ، وكذبوا بالثاني (النبوة) عند ما قالوا : «أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا».

وسواء هذا أو ذاك ، فان الله لم يستجب لأهوائهم ، بل ضرب مثلا من واقع داود الذي عجل الله له جزاءه في الدنيا (وقطه) دون أن ينقص من أجره في الآخرة شيء.

[١٧] وهكذا ينبغي للرساليين أن لا يهتموا بكلام من هذا النوع ، وإن كان ذلك صعبا بالذات إذا كان يمس بمقدساتهم ، لهذا يوصي الله نبيّه بالصبر.

(اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ)

ثم يوجهنا السياق الى مثل من التاريخ ، وبالتحديد من حياة داود (ع) يناقض غرور هؤلاء الكافرين بالسلطة والذي جرّهم لتحدي الله عزّ وجل.

(وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ)

وحين يذكر النبي اخوته السابقين من الأنبياء ، يستأنس بهم وبصبرهم في الضراء والسراء ، وبتعاليهم على مؤثرات الحياة الدنيا وحين يذكر النبي لنا صبر الأنبياء وذكرهم وانهم الأوّابون الى الله في كلّ حال حتى عند ما تزدحم على أبوابهم زخارف الدنيا ، فانه يسن أمامنا سنة سالكة ، وطريقا معبدا علينا الاستقامة عليه ، والصبر على كلّ أذى فيه.

دعنا إذا نذكر داود ، فهو القوي ذو الأيدي ، واليد : القوة ، وداود يملك أسباب القوة وعواملها فهو قوي من جهة فعبر عنه القرآن بذي الأيدي ، واليد كناية عن القوة

٣٣٥

والقدرة ، وهو من جهة أخرى مؤمن وعلامة ايمانه التوبة ومن الصعب على البشر أن يجمع بين هاتين الصفتين ، لأن صاحب القوة عادة ما تستهويه زخارف الحياة ويركض وراءها ، حتى ولو خالفت الحق.

وكما يحتاج المؤمن للقوة حتى ينفذ خططه في الحياة ويبلغ أهدافه وتطلعاته ، فانه يحتاج الى الإيمان ، وذلك لكي يعود تائبا الى ربّه بدافع الإيمان كلما جرته القوة الى ساحل الغرور والمعصية.

[١٨ ـ ١٩] وتحدثنا الآيات عن جانب من القوة التي بلغها داود في حكمه ، فقد أخضع له الحياة بشقيها الجامد والمتحرك ، وهكذا تخضع الحياة الى كل من يتبع الحق ، لأنه بالاضافة الى قوة الغيب التي تعينه حينذاك ، يهتدي به الى الأسباب والقوانين التي يمكنه تسخيرها ، فلقد سقطت الحجب بينه وبين حقائق الخليقة ، فاذا بها تستجيب له.

(إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ)

وكل شيء يسبح الله بصورة مستمرة ، ولكن لا نفقه تسبيحه كما يقول تعالى : (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) (١) وقد جعل الله الجبال تسبح عند ما يسبّح داود (ع) ولعلنا نستوحي من الآية أنه أعطي الطاقات الموجودة فيها ، كالاحجار الكريمة والوقود.

(وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ)

يعني مجموعة له يستفيد منها كيفما يشاء. وربما كان الإنسان قديما يستغرب لو سمع بهذه الآيات ، أما وقد تقدمت البشرية في العلم ، فهي تعتمد الآن الجبال في

__________________

(١) الإسراء ٤٤

٣٣٦

كثير من الشؤون ، كما أن هناك محاولات ـ نجح الكثير منها ـ للاستفادة من الطيور في مجالات الحياة المختلفة ، وتوجد الآن تجارب جادّة للاستعانة بها في الشؤون الطبيعة والعسكرية ، ومن قصة سليمان التي مرّت في سورة سبأ يتبين أنه كان (ع) يبعثها للاستكشاف.

[٢٠] وبالاضافة الى هذه القوى المادية والامكانات التي تدخل كعنصر فعّال في سيطرة داود وسلطانه ، كان الله يزيده قوة وتمكنا يوما بعد يوم ، ولو كان ظالما لما زاده مرور الأيام إلّا ضعفا ووهنا.

(وَشَدَدْنا مُلْكَهُ)

بمختلف أسباب القوة هذا من الناحية الماديّة. أما من الناحية التشريعية والادارية فقد أعطي ما يقوي حكمه وسلطانه أيضا. قال تعالى :

(وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ)

والحكمة تعني أن يحيط الإنسان علما بالخليقة وبنفسه ويعرف : كيف يتصرف فيها تصرفا سليما. أما فصل الخطاب فهو الكلام الذي يفهم الطرف الآخر الحقيقة بما يقطع دابر الشك ، ويزيل حجاب الجهل فداود (ع) إذا يصيب الحق بحكمه ويبيّنه أفضل البيان بخطابه ، وهذان الأمران من أهم ما يلزم المدير المسؤول سواء في موقع خطير كالولاية ، أو أقل من ذلك كالاسرة والمؤسسة والتنظيم. والنصوص الاسلامية تؤكد على ضرورة اختيار الأسلوب الأنسب كما تؤكد على المحتوى يقول تعالى : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) (١)

__________________

(١) النحل ١٢٥

٣٣٧

قصة الخصمين مع داود (ع):

[٢١] ويعود بنا السياق ليضرب لنا مثلا من حياة داود (ع) تتجسد فيه أوبته الى الله عزّ وجلّ ، وذلك في قصة حدثت له. فبينما كان قائما يصلي في محرابه إذ اقتحم الجدار عليه شخصان ، ولم يأتياه من الطريق الطبيعي وهو الباب.

(وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ)

وصيغة السؤال هنا تستثير في الإنسان حب الاطلاع وتشد مسامعه للسائل حيث يستفهمه عن شيء لا يعرفه لا سيما والمسؤول عنها قصة طريفة هي التسلق على سور المحراب ، بهدف التقاضي عند صاحبه فهل سمعت أعجب نبأ منها؟

[٢٢] وتتصل فصول القصة ببعضها في أسلوب معجز من التعبير والعرض ، وتسلط الآيات الضوء على النقاط والمواقف الهامة منها ، والتي تنجسم مع اهداف وقوعها في هذا السياق القرآني ، حيث الحديث عن السلطة وعن الملك الأوّاب.

بالطبع لمّا دخل هذان الخصمان على داود ، وبهذه الطريقة أخذته الخشية.

(إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ)

لماذا فزع داود مع ان الخوف من الناس ليس مناسبا للأنبياء؟

ربما أراد ربّنا أن يذكر هذه النقطة في مقابل بيانه لسعة ملك داود ليقول للبشر مهما بلغتم من القدرة فأنتم بالتالي بشر ولن تصبحوا آلهة والبشر بطبيعته يخاف ، ويجهل و.. و.. فلما ذا يغتر الإنسان إذن ، ويعتز بما يملك؟ فهذا داود الملك المسخر له الطيور والجبال ، والنبي الكريم عند ربه يفزع حين يتسور عليه المحراب رجلان.

٣٣٨

إن داود (ع) أوجس خيفة في نفسه ولعله ظهرت على ملامحه علائم الخوف والوجل.

(قالُوا لا تَخَفْ)

وعرضوا عليه أمرهم قالوا :

(خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ)

أي جار واعتدى.

(فَاحْكُمْ بَيْنَنا)

أرادا منه أن يقضي بينهما ، ولكنهما اشترطا أن يكون حكمه :

(بِالْحَقِ)

وأضافوا شرطا آخر فقالوا :

(وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ)

فليس المهم أن يقضي الحاكم بالحق وحسب ، انما لا بد أن يكون وصوله الى الحق بطريق سليم ، كأن يعتمد على الأصول الشرعية لاستنتاج الحكم ، حتى يهدي المتخاصمين للحق أولا ، وليخرجوا من عنده راضين مقتنعين بالقضاء ثانيا.

[٢٣] وبعد أن اكملوا عرض جملة شروطهم ، بدأ صاحب النعجة الواحدة يعرض الموضوع على داود (ع) انتظارا للحكم وفقها. قال :

٣٣٩

(إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ) (١)

وربما كان يطمع أن يتمها مائة ، أو لأنها أنثى فأراد أن تلد له.

(فَقالَ أَكْفِلْنِيها)

أضمها الى نعاجي وأتحمل مسئوليتها ، واستمال قلبي بحديثه الذي اشتمل على المدح والإطراء.

(وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ)

أي غلبني بحججه وحيله فقبلت ذلك.

[٢٤] وبعد أن انهى المدّعي كلامه بادر داود وأصدر الحكم ضد الطرف الثاني ، من دون الاستماع الى دفاعه ودون أن يطالب بالبينة.

(قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ)

ومضى السياق يستوحي عبرة جانبية للقصة متمثلة في خطر الشراكة بين الأطراف ، وأن الضمان الوحيد لتجنب هذا الخطر هو الإيمان.

(وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ)

ويستثني من قاعدة الظلم والاعتداء التي هي ديدن أكثرية الشركاء :

(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ)

والذي يدفع أولئك للاعتداء هي أهواؤهم وشهواتهم ، المتمثلة في مجموعة من

__________________

(١) والنعجة هي أنثى الضأن والنواعج من النساء البيضاوات ، وقد أوردنا الشطر الثاني من التعريف لاتصاله بتفسير لهذه الآية يتبناه البعض من المفسرين.

٣٤٠