من هدى القرآن - ج ١١

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١١

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-14-9
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٤٩

ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (١٥٤) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٥٥) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (١٥٦) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٥٧) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٥٨) سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٥٩) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٠)

٢٨١

سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ

هدى من الآيات :

بعث الله نبيه يونس بن متى الى مدينة نينوى بالموصل ، فبلّغ الرسالة وارشدهم للحق بعد ان بين لهم انحرافهم ، ولكنهم لم يستمعوا الى دعوته ، فما صابرهم كثيرا ودعا عليهم فغضب الله عزّ وجل عليه ، لكنّ حساب الخطأ على الأنبياء يكون بمستوى المسؤولية التي يتحملها النبي. فالربّ يعتبر تركهم الأولى معصية كما اسمى تناول آدم من الشجرة عصيانا ، بل في قصة أحد الأنبياء الذي حاربه قومه فاختفي في جذع شجرة ، ولما دلّهم الشيطان عليه قطعوا جدعها بالمنشار ، فأصابه من حدها فقال «آه» ، فأوحى الله اليه إن عدت لها مرة اخرى محوت اسمك من ديوان الأنبياء. ولا ريب ان لحظة الوقوع في الخطأ لرفع الله عنهم العصمة ليتصرفوا بطبيعتهم البشرية المجردة ، ولعله لحكمة معينة هي إظهار بشريتهم (ع).

وهكذا غضب الله على نبيه يونس بسبب تركه للأولى ، وسرعة الدعاء على قومه ، الأمر الذي جعله مستحقا عند الله الاعتقال ، فسجنه في بطن الحوت في

٢٨٢

ظلمات ثلاث ، في قصة خلاصتها إنّه وصل الى البحر هاربا من قومه ، وركب سفينة مليئة بالمسافرين ، وفي عرض البحر حيث طغى ماؤه وهاج موجه ، وتخوّف الجميع من غرقها ، فقال ربان السفينة : ان عبدا آبقا موجودا في سفينتنا ، وكانت عادتهم الاقتراع في مثل هذه الظروف ومن يظهر اسمه في القرعة هو الذي يلقى في البحر ليخف وزن السفينة ، وكانت القرعة ولثلاث مرات تتجه الى يونس بن متى فرموه في عرض البحر ، فتلقفه الحوت الذي ابتلعه وبقي في بطنه.

ولم ينقذ يونس (ع) من هذا المأزق الا بتضرعه لله واعترافه بخطئه «سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ» (١) ، إذ أمر الله الحوت ان يقذفه على الساحل وخرج من بطنه وقد اهترأ جلده ، فأنبت الله له شجرة اليقطين ذات الأوراق الكبيرة ، فشوفي وخرج ليمارس مسئولية التبليغ من جديد.

وتهدينا هذه القصة كما القصص الماضية ، الى الحقيقة التي سبق وان ذكّر بها السياق القرآني ، وهي ان العباد المخلصين بشر وليسوا أولادا لله سبحانه ، ولا آلهة ، وذلك خلافا لما يصفهم به المشركون ، كما إنّهم لم يوصفوا بتلك الصفات المثلى الا بما سعوا وأحسنوا ، وقد اعترضتهم ـ كما يحصل ذلك لاي إنّسان آخر ـ الصعاب والمشاكل ، ولو كانوا كما يصفهم المشركون لتجاوزوها ، والحال إنّهم لولا رحمة الله لكانوا من الهالكين.

بلى ان ربّنا سبحانه ترك عليهم سلاما دائما على كل لسان لما امتلكوا من صفات جعلتهم أئمة وقادة.

ولعل هذا التأكيد على السلام عليهم لكي يتخذوا قادة ، ولكي يعرف الناس حدود إكرامهم للأنبياء فلا يغلوا فيهم حتى مقام الربوبية ، ولا ينزلونهم الى مستوى

__________________

(١) الأنبياء / (٨٧).

٢٨٣

العلماء والمفكرين ، وأخيرا لكي يفسر القرآن سبب إكرام الناس للأنبياء فلا يحرفه الضالون عن سبيل التوحيد.

بينات من الآيات :

[١٣٩ ـ ٤٠] (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ* إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ)

والآبق هو الهارب ، والمشحون الممتلئ.

[١٤١] ولما أبحرت السفينة وخاف أهلها من الغرق اقترحوا ان يقترعوا ، ليلقوا واحدا من ركبها في البحر تخفيفا لوزنها.

(فَساهَمَ)

النبي يونس بعد ان وافقهم.

(فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ)

والمدحض هو الذي لاحظ له ، وقد خسر القرعة ثلاث مرات.

[٤٢] فلما كان الأمر كذلك ألقي في البحر.

(فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ)

والمليم الذي يأتي من التصرفات ما يستحق عليه اللوم.

[١٤٣ ـ ١٤٤] ولكن يونس أدرك خطأه واعترف به ، واهتدى الى طريق التوبة ورضى الله وهو الاستغفار والتسبيح ـ وهكذا يجب علينا نحن حينما نقع في

٢٨٤

المعصية ـ وبهذا تجاوز النبي (ع) محنته ليخلّف للبشرية درسا في معالجة الخطأ. ولو لا أنّه أصلح خطأه لاحاط به.

(فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ* لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)

وذلك بان يكون قبره في بطنه.

[١٤٥] ولكن الله أخرجه من بطن الحوت بعد توبته.

(فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ)

اي مريض والسقم شدة المرض ، اما العراء فهي الصحراء.

[١٤٦] (وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ)

لأنه ربما كان يحتاج الى الظل كعلاج الى سقمه ، قال الامام علي (ع) :

«وأمر الله الحوت ان يلفظه فلفظه على ساحل البحر ، وقد ذهب جلده ولحمه ، وأنبت الله عليه شجرة من يقطين وهي الدّبا ، فأظلته من الشمس ، ثم أمر الشجرة فتنحت عنه ووقعت الشمس عليه فجزع. فأوحى الله اليه : يا يونس لم لم ترحم مائة الف أو يزيدون وأنت تجزع من تألم ساعة؟ فقال : يا رب عفوك ، عفوك ، فرد الله عليه بدنه ، ورجع الى قومه وآمنوا به» (١)

ويبدو ان الشجرة لم تكن تظله وحسب ، وإنّما كان يتداوى بها عن مرضه ، لان ثمر هذه الشجرة ـ وهو القرع ـ بارد طبعه كما يقولون ينفع الجسم الملتهب.

__________________

(١) نور الثقلين / ج (٤) / ص (٤٣٦).

٢٨٥

[١٤٧] وهكذا نهض يونس من مرضه ليمارس عمله الجهادي من جديد يوحي من الله عز وجل ، الذي بعثه ليعيد التجربة مع قومه.

(وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ)

ولم يحدد القرآن عدد هؤلاء بالضبط ، لان المجموعة البشرية المتواجدة في منطقة ما ، تزيد وتنقص لعوامل مختلفة من بينها الولادة والموت ، ومن بينها الهجرة من المجتمع واليه.

[١٤٨] وحينما عاد يونس الى قومه هذه المرة نجح في تغييرهم.

(فَآمَنُوا)

وصاروا مثلا للامة التي استفادت من تجربتها السلبية في ارتقائها وتقدمها ، فقد حدد قوم يونس وهم يرون العذاب على الأبواب المسؤول عن هذا الواقع ، فلم يبرروا لأنفسهم ولم يعاندوا ، انما تحملوا المسؤولية وتواضعوا للحق فرفعهم الله وأرسل عليهم الخير والبركة. وليس بالضرورة ان يكون العذاب غماما ولا خسفا من غضب الله ، فقد يكون هو التمزق والفقر والتخلف والمشاكل النفسية والاجتماعية ، وكلها موجودة الآن في واقع الامة الاسلامية ، وواجبها ان تغير واقعها ليغير الله ما هي عليه من التخلف الى التحضر والازدهار. ولا يكون ذلك الا بالايمان ، فهذه امة يونس يحكي الله عنها إذ آمنت قائلا :

(فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ)

فلم تبق هذه المتعة والبركة طويلا ، لأنهم لم يحافظوا على عاملها الأساسي وهو الايمان فهم ظلوا في متعتهم الى حين وجود الايمان بينهم.

٢٨٦

[١٤٩] وبعد ان يختم ربّنا قصص الأنبياء التي أكد فيها على عبوديتهم له نفيا لادعاء المشركين بأنهم آلهة ، وذلك من خلال الآية الكريمة : (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) ، التي تمثل عاملا مشتركا بين القصص كلها ، ينفي من الجانب الآخر مجموعة من التصورات التي اختلقها المشركون حول الملائكة والجن ، وأهمها زعمهم بأنها نسب لله عز وجل كوسيلة لتأليهها. ونجد في السياق امرا من الله الى رسوله باستفتاء المشركين في ذلك.

(فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ)

والاستفتاء هو أخذ الفتيا والرأي.

[١٥٠] ولو سألهم الرسول لقالوا بلى ، ولكن على اي دليل يستند قولهم ، هل شاهدوا خلق الملائكة؟

(أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ)

الذي يرى شيئا بعينه يمكنه ان يدعى صدق ما رآه ، ويكون ادعاؤه منطقيا ، بينما لم يشهد هؤلاء خلق الملائكة حتى يعرفوا ماهيتها ، وهذه الآية تنسف فكرة الجاهلية من الأساس حول الملائكة ، حيث تهدينا الى إنّها مجرد ظن لا دليل عليه.

[١٥١ ـ ١٥٢] ومع ان ظاهر الآيتين الماضيتين حول الملائكة ، انهما تعالجان فكرة أنوثة الملائكة ، الا ان هدف القرآن من الحديث هو نسف الاعتقاد بألوهيتها ، ذلك ان بعضا من المشركين تصوروها تولدت من الله فهي آلهة أيضا ، وإنّما دخل السياق لهذا الموضوع من زاوية الحديث عن طبيعة الملائكة وماهيتها ، ليبين لنا بان تصورات الجاهليين خاطئة ليس في تحديد دور الملائكة وحسب وإنّما يجهلون حتى ماهيتها ، وكل ما هنالك من أفكار لديهم حولها فانها مجرد ظنون لا دليل منطقي

٢٨٧

عليها.

(أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ* وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ)

ان الاعتقاد بولادة الله الذي نشأ أصلا من أجل الهروب من ثقل المسؤولية ، ولكي يشبع الإنسان غروره وكبره وتطلعه الى مقام الربوبية ـ ان هذا الاعتقاد ـ برره ادعياء الحكمة والفلسفة فوضعوا له نظريات الحلول والاتحاد ، ووحدة الوجود ، ومها حاولوا تبريرها فهي مجرد إفك داخلي في نفوسهم ، وكذب فظيع على ألسنتهم.

ان المشركين يعلمون بكذب دعواهم فاجتمع في هذا الادعاء القبح الفاعلي الى جانب القبح الفعلي.

[١٥٣] ويتساءل القرآن من جديد :

(أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ)

[١٥٤] ان استصدار هذا الحكم على الله سبحانه ، لا ينطبق مع أبسط قواعد الحكم المنطقية.

(ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)

[١٥٥ ـ ١٥٦ ـ ١٥٧] والإنسان حينما يريد الحكم على قضية ما إما ان يرجع الى ضميره ، أو الى حجة اخرى كالعقل والعلم ، وهؤلاء لا يراجعون ضميرهم بالتذّكر ولا يرجعون الى حجة قاطعة اخرى.

(أَفَلا تَذَكَّرُونَ* أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ)

إذا بلغ الإنسان حدا ـ وبالاعتماد على البراهين والشواهد القاطعة ـ ان اعتقد

٢٨٨

حتى ولو بهذه الفكرة الباطلة في واقعها. فانه معذور عند الله ، ولكنه تعالى أبى ان يجعل الحق باطلا لا ريب فيه ، ولا الباطل حقا لا ريب فيه ، وذلك بما زرع في الإنسان من ضمير ، وبما وهبه من عقل ، وأنزل عليه من كتب ، وبعث له من رسل ، وجعلها جميعا فرقانا له في الحياة في كل أمورها وقضاياها.

(فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)

إذا كانت مزاعمكم هذه تعتمد على دليل فأين هو الدليل؟

[١٥٨] وفي نهاية الدرس يعرّج القرآن على فكرة باطلة اخرى لينسفها نسفا وهي تأليه الجن.

(وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً)

فعبدوا الجن ، وعبدوا السحرة والكهنة التي تدّعي الاتصال بها ، أو تتصل بها فعلا.

(وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ)

ولو كانت الجن آلهة كما يتصور المشركون ، لما أحضروا للعذاب كسائر العصاة من الخلائق وذلك يدل بوضوح على إنّهم مخلوقون وليسوا بآلهة. وذكر الله لحضور الجنة للعذاب يضرب أفكار المشركين في الصميم ، ذلك ان للشرك بصورة عامة جذر مشترك ، هو محاولة التخلص من المسؤولية ، عبر الاعتقاد بأشياء وقوى أنّها تخلص الإنسان من عذاب الله ، وإذا كانت الجنة لا تخلّص نفسها فكيف تنقذ البشر.

[١٥٩] وتعالى الله وتنزه عن هذه الأفكار المنحرفة.

٢٨٩

(سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ)

[١٦٠] وفي الوقت الذي ينسف القرآن فكرة تأليه الجن ، ينسف من جانب الاعتقاد السائد لدى البعض من ان الجن يذهبون الى النار جميعا ، وذلك حينما يستثني من الحضور في العذاب المؤمنين المخلصين منهم.

(إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ)

كما تتضمن الآية تأكيد في كلمتها الاولى على عبودية الجن لا ألوهيتهم.

٢٩٠

فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (١٦١) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (١٦٢) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (١٦٣) وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (١٦٥) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (١٦٦) وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (١٦٧) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٦٨) لَكُنَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٩) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (١٧٠) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (١٧٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٤) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٥) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (١٧٦) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٧) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٨) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٩) سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٨٠) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (١٨١) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٢))

___________________

ـ ١٦٢ [بفاتنين] : الفاتن الداعي إلى الضلال ، أي لا تتمكنون من إضلال الناس على خلاف الله سبحانه.

٢٩١

سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ

هدى من الآيات :

في الدرس الأخير يلخص ربنا عبر هذه السورة ، ومن أظهرها أن عباد الله المخلصين هم الذين أخلصهم ربهم ، وأخلصوا أنفسهم له ، فلم تؤثر فيهم العوامل التي جرت على غيرهم.

في الآيات الأولى من هذا الدرس ينفي القرآن الحكيم التعلق الشركي بالملائكة عبر التأكيد على عبوديتهم لله ، وتسليمهم لأوامره التي ينتظرونها ، تتنزل من عنده إليهم ، ثم ينسف فكرة الجبر مكذّبا الذين يدّعون بأنهم مضطرون للشرك بالشياطين ، إذ لا جبر في الدنيا على الإنسان ، انما هو الذي يختار طريقه ، وأفكاره ، واعتقاداته بكامل حريته ، وهذه الحرية هي التي تحمّله المسؤولية الكاملة تجاه تصرفاته ، والأوامر التي يوحيها الله لرسله بأن لا يبالغوا في تبليغهم الرسالة للكفار والمشركين تلتقي مع فكرة الاختيار ، فالكفار والمشركون هم المسؤولون عن اختيارهم ، وليس من واجب المبلغ للرسالة أن يفرض عليهم اختيارا معيّنا.

٢٩٢

وتنتهي السورة بما صار ختاما لأحاديث الصالحين وهي الآيات الثلاث الاخيرة والتي مطلعها تنزيه الله سبحانه ، ثم الثناء على رسله ، وأخيرا تخصيصه بالحمد.

بينات من الآيات :

[١٦١ ـ ١٦٢] ان أفكار الشرك بألوانه المختلفة خاطئة ، والإنسان غير مجبور على الاعتقاد بها ، ولكنه لكي يرفع عن نفسه المسؤولية يزعم بأنها مفروضة عليه ، ولا خيار له إلا قبولها بسبب الضغط أو الإغراء ، والقرآن ينقض فكرة الجبر هذه ، فيقول :

(فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ* ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ)

وكلمة «عليه» فيما يبدو تدل على الجبر ، فكأن القرآن يقول : انكم لا تجبرون أحدا على اتّباعكم فيما تعبدون لا بالإغراء ولا بالضغط ، لأن كلمة الفتنة تتسع لمعنى البلاء ، والضغط ، والإكراه ، كما تعني الإغراء والتزيين ، وعموما فإن الفتنة هنا بمعنى الجبر.

وإذا نظرنا في أحوال الذين يعبدون الآلهة من دون الله ـ من اتباع السلاطين ، والأحزاب ، وعبدة الأثرياء ، والوجهاء ، وادعياء الدين ـ لرأيناهم يبررون جميعا شركهم بأنهم مجبورون ، وأنّه لا سبيل لمقاومة الطاغوت ، ولا الهروب من شبكات الأحزاب ، ولا مقاومة تجويع المترفين ، وتضليل الوجهاء ، وأدعياء الدين.

كلا ... ربنا الذي خلق خلقه أعطى لخلقه الحرية والقدرة على الرفض ، ولكن الشيطان يسوّل العبودية ، ويزينها له.

[١٦٣] فالآلهة المزعومون ليسوا بقادرين على جبر الناس مهما حاولوا ، بلى.

٢٩٣

انهم يضغطون عليهم ، ولكن يبقى القرار الحاسم بيد الإنسان ، وإنّما يستجيب لهم من تتواجد فيه مقوّمات الشرك والكفر.

(إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ)

وذلك دليل حرية الإنسان ، وإنّه غير مضطر للانحراف ، وان عليه الجزاء شخصيّا ، لأن الذي يتجاوب مع فتنة المشركين يصلى النار بنفسه ولا يغنون عنه شيئا ، وهذا أعظم شاهد على مسئولية الإنسان ، كما هو أفضل علاج لداء التسويف والتبرير ، فلو علم المبررون ، وأولو الاعذار الواهية أنّهم يذاقون العذاب فعلا برغم تبريرهم وأعذارهم ، فان ذلك يقتضي ارتداعهم.

[١٦٤ ـ ١٦٥ ـ ١٦٦] ويعرج السياق مرة أخرى لينقل لنا رد الملائكة (عليهم السلام) على أباطيل المشركين حولهم في آيات ثلاث :

(وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ)

والمقام هنا قد يعني المنزلة ، فالملائكة يتفاضلون فيها ، وأعظمهم الروح ، وقد يعني الدّور ، فلكل ملك دور يختلف عن الآخرين ، إذ منهم من هو مختص بقبض الأرواح ، ومنهم من وكل بالسحاب والمطر و... و... ، ومقام الملائكة ودورهم معلوم عند الله وعند الملائكة ، وكونهم الموكّلون بشؤون الحياة وإدارتها لا يرفعهم إلى مقام الربوبية أبدا ، كما لا يقفزون إلى دور آخر للقيام مثلا بالشفاعة لهذا ، وقضاء حاجة ذاك الا بأمر الله.

(وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ)

كالجند. ينتظر الجميع أوامر ربّه لينفذوها ، ولا يحيدون عنها قيد أنملة ، ولعل

٢٩٤

أهم ما يصطف له الملائكة هو عبادة الله ، وذروتها التسبيح والتنزيه.

(وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ)

ينزهونه ـ عز وجل ـ عن كلّ مالا يتناسب ومقام الربوبية ، عن الوهن والجهل ، وعن الشركاء التي زعم الجاهلون بأن الملائكة منهم.

[١٦٧ ـ ١٦٨ ـ ١٦٩] ومن الناس من يتهرب من المسؤولية ببعض التمنيات ، وتعليق قيامه بالواجب ببعض الشروط المستقبلية ، فاذا قيل لهم : لماذا لا تصلوا؟ قالوا : سوف نفعل ذلك إذا ذهبنا إلى الحج ، أو إذا كبرنا .. وبعضهم يلقي بالمسؤولية على الله سبحانه ، ويقول لأن الله لم يوفقني فاني لم اهتد إلى الصلاح ، ولو أن الله بعث إلينا رسولا فسوف نكون أهدى من غيرنا.

(وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ)

قولا مجردا ، لا يتجاوز لقلقة اللسان.

(لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ)

نهتدي به ، ونسير في الحياة على ضوئه.

(لَكُنَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ)

لكن هل يمكن للإنسان أن يدرك هذه المنزلة الرفيعة بمجرد التمنيات؟ كلا ... إذ لا بدّ لبلوغها من السعي ، لأنه وحده الذي يحوّل الآمال إلى واقع.

[١٧٠] ولان هؤلاء يعيشون مجرد التمنيات ، وإنّما قالوا ذلك لتبرير انحرافاتهم فقد جاءهم القرآن ، وكان يفترض فيهم أن يتّبعوه ليصلوا إلى سماء الإخلاص.

٢٩٥

(فَكَفَرُوا بِهِ)

وتبيّنت حقيقتهم بأن كلامهم مجرد أمنيات غير جادة ، وهذه طبيعة كلّ الذين يسوّفون التوبة ، ويعلقون إصلاح أنفسهم على شروط غير متحققة ، ويعيشون في حلم المستقبل دائما ، وهذا التسويف يرديهم إلى الهاوية.

(فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)

فهم يقولون : سوف نعمل ، فيقول لهم القرآن : بل سوف تعلمون أنّ إضاعة فرصة العمر الوحيدة لم تكن في مصلحتكم أبدا.

وفي طيات هذا التعبير تهديد مبطّن بالعذاب ، وقد يكون عدم التصريح بنوعيته وكيفيته أبلغ وأرهب في النفوس ، حيث تتفاجأ بألوان من العذاب لم تتوقعها أو تحسب لها حسابا.

[١٧١ ـ ١٧٢] ان تشبث فئام من الناس بمختلف التبريرات كالأفكار الجبرية ، والانتظار الساذج للفرار من مسئولية الإيمان بالرسالة يجب أن لا يوهن الرساليين أو يسلبهم الثقة بنصر الله لهم ، لأنه سبحانه أراد الانتصار لمبادئه ولمن يؤمن ويلتزم بها ، ولو كان ظاهر الحياة هو تسلط الطغاة المنحرفين ، فان الله غالب على أمره ، وما سيطرتهم إلّا محدودة.

(وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ* إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ)

فليس كلام الله عن نصرهم شيئا جديدا ، انما هو قديم سبقت بواقعته أحداث التاريخ ، فما من رسالة إلا وأظهرها الله ، نعم. قد يقدم أصحابها شيئا من

٢٩٦

التضحيات ، أو يطول بهم الانتظار برهة من الزمن. لكن العاقبة تكون في صالحهم وصالح خطّهم في الحياة ، ويلاحظ توالي التأكيدات اللّفظية على ذلك في هذه الآية وفي التي تليها أيضا.

[١٧٣] وهذا النصر لا يختص بالأنبياء شخصيا ، انما ينتصر كل من يمثل جبهة الحق ، ويحمل مشعل الرسالة الإلهية على امتداد التاريخ وفي كلّ أفق.

(وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ)

وجند الله هم المؤمنون.

[١٧٤] ولكن متى ينصر الله عباده المؤمنين؟

ينصرهم حينما ينفصلون ويتميزون عن الكفار والمنافقين. ماديّا ومعنويا ، لهذا جاء الأمر الإلهي للرسول بذلك.

(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ)

والحين هنا يعني الوقت الذي يأتي فيه الأمر للرسول والمؤمنين بالهجوم عليهم وقتالهم ، في ظل رعاية الله ونصره.

[١٧٥] وفي الأثناء التي ينفصل المؤمنون المجاهدون عن الكافرين والمنافقين بالهجرة ـ مثلا ـ ينبغي لهم أن يراقبوهم ، ويكونوا شهودا على الواقع ، وكل حركة تنشد التغيير لا بد لها من مراقبة الواقع ، ودراسة العدو.

(وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ)

أنهم ـ بدورهم ـ سوف يرون العذاب ويلاقونه من عند الله أو بأيدي

٢٩٧

المؤمنين.

وفي الآية معنى التأكيد على العاقبة لرسل الله وجنده ، فكأنها أمام أعين الجميع يبصرها الصالحون فيفرحون بها ، ويبصرها الكفار فيزدادون بها غيضا وحنقا.

[١٧٦] وعذاب الله لا يأتي للإنسان حسب تمنياته ، حتى يحتج الكافرون على كذب الرسالة بأنهم تحدوا الله ، فلم يرد عليهم ، كلا .. إنما يرسل ربنا العذاب حسب حكمته سبحانه.

(أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ)

وماذا يستعجلون من عذاب الله ، إنه الدمار الشامل ، والهزيمة الماحقة ، والنار المحيطة ، والهوان الأليم.

[١٧٧] إن هذا التحدي التام من قبل الكافرين لرب العزة إنما هو بسبب جهلهم بقدرته ، وطبيعة العذاب الذي ينزله على الملحدين.

(فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ)

الغضب الإلهي متجسّدا في العذاب الدنيوي ، يعقبه عذاب الخلد في الآخرة.

(فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ)

وغضب الله أكثر ما ينزل في الصباح ، والكفار في كامل قوّتهم ويقظتهم ، وذلك ليشعروا بحقارتهم ، وليذوقوا العذاب بأقصى ما يمكن للإنسان ، ذلك زيادة في السوء لهم ، لأنهم ليس لم يستجيبوا للنذر وكذبوها فحسب ، انما بارزوا الله تحدّيا ومحاربة ، والقرآن يكرر الإشارة إلى الصباح كزمن للعذاب ، قال تعالى : (إِنَ

٢٩٨

مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ) (١)

[١٧٨] ويرجع السياق مرة ثانية للتأكيد للرسول على ضرورة تركه للكفار وهجرهم ، وانتظار الفرج الإلهي.

(وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ)

اي حين يحين موعد الانتقام الإلهي منهم ، بتحطيم كبريائهم ، ونصر رسوله عليهم.

[١٧٩] ويبين السياق أن عاقبة النصر لرسوله ، والهزيمة للكفار واقعة لا ريب فيها حتى لكأنها امام بصر الجميع.

(وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ)

حينما نتلو القرآن نجد آيات كثيرة منه تؤكد على الرسول بأن لا يقتل نفسه بتحميلها بالغ الهم من أجل الذين يرفضون الرسالة ، وأن مسئوليته تنتهي بتبليغ رسالته ، وهذا الأمر يهم المؤمنين الذين يسيرون في خطّ الرسول (ص) أيضا ، فواجبهم هو أن يكيّفوا أنفسهم وسلوكهم في الحياة حسب تعليمات ربهم أثناء الدّعوة إليه ، فإن آمن الناس التحقوا بهم ، وإن كفروا فهم وشأنهم ، وليس مطلوبا أن يبالغوا أكثر من اللزوم في هدايتهم ، لأن ذلك قد يصرفهم عن بعض الواجبات ، ويؤخر مسيرتهم باعتبارهم سوف يصرفون جهودا مكررة بالأولى لهم أن يبذلوها في أعمال وخطط أخرى تقدم العمل خطوة إلى الإمام.

[١٨٠] وختاما لهذه السورة التي عالج سياقها موضوع الشرك ، وبعض الأفكار

__________________

(١) هود / (٨١).

٢٩٩

الخاطئة ، والتصورات التي اعتقد بها المشركون نجد تنزيها لله عز وجل بأكرم الألفاظ وأجلها عنده تعالى وهي لفظة «سبحان».

ان دعوة القرآن للمؤمنين بأن لا يبالغوا في وعظ المشركين لا تعني أن يرضوا بهم وبما يدّعون ويعملون ، انما يجب عليهم التسبيح تنزيها لله وذلك لكي لا يتأثروا بشركهم ، لأن من طبيعة البشر تأثره بأفكار الآخرين ولو جزئيا ، فاذا لم يكونوا قادرين على ان يتخذوا موقفا عمليّا أو قوليا فليسبحوا ربهم في قلوبهم تسبيحا كثيرا.

(سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ)

الناس على اختلاف أديانهم ومذاهبهم الفكرية يصف كل جماعة منهم ربّه بوصف لا يليق ومقام الربوبية ، ولكن عباد الله المخلصين هم الذين يصفونه بما يليق به عبر التسبيح.

وقد اختلف المفسرون والفقهاء في تحديد أفضل كلمات الذكر ، فمنهم من قال : انه «الحمد لله» وقال آخرون : انه «لا اله الا الله» وجماعة ثالثة قالوا : «الله أكبر» هو أعظمها ، والذي ـ يبدو لي ـ ان كلمة «سبحان الله» هي أعظمها وأثقلها وزنا عند الله ، لأن طبيعة الإنسان طبيعة مرتكزة في الجهل بمعناه الشامل ، وبالتالي في الابتعاد عن الله ، وهذا ما يدعوه إلى تصور الخالق حسب طبيعته ، فاذا به يصوره محدودا ، عاجزا ، جاهلا ، مركبا ـ مثلا ـ انطلاقا من نظرته الى نفسه والأشياء من حوله ، ثم إن روعة جمال الطبيعة ، وتزين الشهوات التي تدعو النفس إليها ، وسيطرة الجبارين والمترفين كل ذلك قد يبعد المؤمن عن ربه ، ويجعله يشرك به شركا خفيّا ، مما يجعله يحتاج إلى تكرار التسبيح.

٣٠٠