من هدى القرآن - ج ١١

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١١

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-14-9
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٤٩

بسم الله الرحمن الرحيم

فضل السورة :

عن أبي عبد الله الصادق (ع) أنّه قال :

«من قرأ سورة الزمر ، استخفاها من لسانه ، أعطاه الله من شرف الدنيا والآخرة ، وأعزّه الله بلا مال ولا عشيرة ، حتى يهابه من يراه ، وحرّم جسده على النار ، وبنى له في الجنة ألف مدينة ، في كلّ مدينة ألف قصر ، في كلّ قصر مائة حوراء ، وله مع هذا عينان تجريان نضاختان ، وعينان مدها متان ، وحور مقصورات في الخيام ، وذواتا أفنان ، ومن كلّ فاكهة زوجان»

(نور الثقلين / ج ١ ص ٤٧٤)

وروي عن النبي (ص) انه قال :

«من قرأ هذه السورة لم يبق نبيّ ولا صدّيق إلّا صلّوا واستغفروا له ، ومن كتبها وعلّقها عليه أو تركها في فراشه ، كلّ من دخل عليه وخرج أثنى عليه بخير ، وشكره ، ولا يزالون على شكره ، مقيمين أبدا تعطّفا من الله عزّ وجل»

(تفسير البرهان / ج ٤ ص ٦٧).

٤٢١
٤٢٢

الإطار العام

من الناس من ينبهر بتفوّق الأنبياء والأولياء على غيرهم بالعزم والتقوى والعلم والاجتهاد ، فيزعم أنّهم أبناء الله فتهون في عينه الذنوب اعتمادا على شفاعتهم.

وتتصدّى سورة الزمر لهذه العقيدة الفاسدة لتكتمل صورة التوحيد النقي لدينا ، بعد أن تصدّت سورة الصافات للعقيدة الفاسدة التي زعمت الملائكة أبناء الله ، وسورة (ص) لآلهة السلطة والثروة المزيفين.

ولأنّ محور سائر العقائد الفاسدة محاولة الهروب من المسؤوليات فإنّ هذه السورة تعالج ذلك بحجج تترى ، تتخللها صعقات شديدة تهزّ أعماق الضمير.

٤٢٣

سورة زمر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (٢) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (٣) لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٤) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ

___________________

٥ [يكور] : تشبيه بمن يلفّ شيئا على شيء ، فاذا جاء الليل كان كأنه لفّ على النهار حتى سرّه.

٤٢٤

وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٥) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٦)

٤٢٥

أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ

هدى من الآيات :

بعد أن يوجّه القرآن أنظارنا إلى نفسه ، وأنّه تنزيل الربّ العزيز الحكيم ، ينعطف السياق إلى الموضوع الرئيسي لهذه السورة.

(والدرس الأول يشير عادة إلى أهم موضوعات السورة) ألا وهو نفي شراكة الأولياء لرب العزة ، وضرورة إخلاص العبودية لله الذي له الدين الخالص.

ويحتج عليهم أوّلا : باختلافهم الذي يحكم فيه الرب يوم القيامة ، وثانيا : بأنّ الله لا يهديهم لأنّهم قد كذبوا على الله وكفروا بأنعمه ، وثالثا : بأنّ الله وليسوا هم الذي يختار ولدا لو أراد أن يتخذ لنفسه ولدا.

ويختم الحديث بتقديس الله عمّا ينسب اليه المشركون ، لأنه الواحد ودليل وحدته قاهريته لكل شيء وشخص.

٤٢٦

بينات من الآيات :

[١] (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ)

توحي كلمة التنزيل بنزول القرآن على مراحل ، بينما توحي كلمة الإنزال في الآية التالية بنزوله جملة واحدة ، ولا تناقض في ذلك لأنّ القرآن نزل مرتين : مرة واحدة في ليلة القدر ، ومرة بصورة منسجمة انسجاما مع الحوادث والظروف المتغيرة ليثبت به فؤاد الرسول ويصوغ شخصية الامة وهو من العزيز الحكيم ، الذي بعزته فرض القرآن ، قال تعالى : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) (١) وبحكمته جعله قويما ، (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ).

[٢] (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ)

الحق هو وسيلة الكتاب وهدفه ، والقرآن ينزل بالحق أي أنه يكشف لنا تلك السنن والقيم والأنظمة الجارية في الخليقة كما انه يشرّع التكاليف الحق ، وفيما يأتي من آيات نعرف أنّ التذكرة بالحق في هذه السورة تهدف فيما تهدف بيان أنّ المسؤولية حق ، وأنّه لا يجازى البشر إلّا بما عمله خيرا أو شرا.

(فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ)

أي اجعل عبادتك عبادة واقعية وليست عبادة نظرية.

ما هو الدين؟

الدين هو السيادة القانونية على المجتمع ، التي يتقبلها الناس طائعين غير مكرهين ، وإخلاص الدين لله هو جعله المصدر الوحيد للسيادة والتشريع.

__________________

(١) القصص / (٨٥).

٤٢٧

[٣] ولكن لماذا يجب أن نجعل كتاب الله هو المصدر الوحيد للتشريع؟

بالاضافة إلى انه لا يجوز أن نشرع من أهوائنا ، أو حسب الضغوط النفسية والاجتماعية ، فإنّ الدين الخالص هو لله وحده.

(أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ)

فله السيادة والحاكمية المطلقة على الخلق ، فيجب أن تكون العبادة له وحده.

إنّ الله هو الذي يهيمن على الكون ، ويجري بقوته الأنظمة والقوانين بصورة خارقة ، ولا أحد يشاركه في ذلك لأنه لا يمارس شيئا (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).

لماذا إذا يشرك البعض بالله ، هل يعتقدون بأن لله شريكا في الأمر؟ كلّا ... هؤلاء يشركون بالله لأنّهم يعتقدون بأنّ الشركاء سبل إلى الله.

(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى)

النفي والاستثناء دليل الحصر ، وإذا كان هدف هؤلاء الوصول إليه فلما ذا يختارون طريقا لم يأمر به؟!

ونستوحي من جملة (اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ) أنّهم هم الذين صنعوا الآلهة واضفوا عليها طابع التقديس دون أن تكون لها قدرة مطلقة عليهم أو أن يأمر الله سبحانه بعبادتها.

ونستوحي من كلمة «أولياء» أنّهم أحبّوهم واتبعوهم وتقرّبوا إليهم.

٤٢٨

والضمير في كلمة «نعبدهم» يوحي بأنّ الأولياء عقلاء ، بينما نجد البعض منهم يعبد الأصنام التي لا عقل لها. لماذا؟ ربما لأن تلك الأصنام كانت أيضا تجسيدا لقوى عاقلة ـ في زعمهم ـ كالملائكة والأنبياء أو الأولياء الصالحين ، وهذا يظهر من الحديث التالي :

«أقبل رسول الله (ص) على مشركي العرب فقال : وأنتم فلم عبدتم الأصنام من دون الله؟ فقالوا : نتقرب بذلك إلى الله تعالى.

فقال لهم : أو هي سامعة مطيعة لربها عابده له حتى تتقربوا بتعظيمها إلى الله؟ قالوا : لا.

قال : فأنتم الذين نحتموها بأيديكم؟ قالوا : نعم.

قال : فلأن تعبدكم هي لو كان يجوز منها العبادة أحرى من أن تعبدوها ، إذا لم يكن أمركم بتعظيمها من هو العارف بمصالحكم وعواقبكم والحكيم فيما يكلفكم.

قال : فلما قال رسول الله (ص) هذا القول اختلفوا فقال بعضهم : إنّ الله قد حلّ في هياكل رجال كانوا على هذه الصورة فصورنا هذه الصور نعظمها لتعظيمنا تلك الصور التي حلّ فيها ربنا.

وقال آخرون منهم : إنّ هذه صور أقوام سلفوا كانوا مطيعين لله قبلنا فمثلّنا صورهم وعبدناها تعظيما لله.

وقال آخرون منهم : إنّ الله لما خلق آدم وأمر الملائكة بالسجود له كنا نحن أحق بالسجود لآدم من الملائكة ، ففاتنا ذلك فصوّرنا صورته فسجدنا لها تقربا إلى

٤٢٩

الله كما تقربت الملائكة بالسجود لآدم إلى الله تعالى» (١).

(إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)

قالوا : إنّ ذلك تهديد مبطّن لأولئك القوم حيث إنّهم سوف يسألون عن أفعالهم وأقوالهم ويحاسبون عليها حسابا عسيرا ، ولا يجوز لهم ـ إذا ـ الاسترسال في نسبة الأولياء إلى الله واعتبارهم شفعاء من دون إذنه سبحانه.

ولعل الآية تشير إلى ما اشتهر بين الأمم من تقديس العظماء ونسبتهم إلى ربّ العزة ، كالاعتقاد بأنّ هذا الملك أو ذاك السلطان هو ظل الله في الأرض من دون الرجوع إلى القيم الإلهية ، والمقاييس الرسالية ، بينما ليس كل من أوتي فضلا يصير وليّ الله بل الذي يعبد الله حقا ويتبع رسله صدقا.

ونتساءل : ما هي الحكمة في بيان هذه الحقيقة هنا؟

إنّ الناس يزعمون انهم لو نسبوا إلى الله أمرا كذبا وجب على الله ردعهم بصورة غيبية ، كأن ينزل عليهم صاعقة أو لا أقل ملكا ينذرهم ، وإذ لم يفعل مثل ذلك فهم على حق ، ولعله لذلك يؤكد ربنا أنه لا يهدي الكذبة والدجّالين والذين يكفرون بنعمه ومن أبرزها نعمة الرسالات التي أنزلها بمنّه ، فليظلّوا في ضلالتهم حتى يذوقوا الجحيم جزاء كذبهم وكفرهم بأنعم ربهم.

وهكذا بيّن ربنا أولا : أنّ أهواءهم بعيدة عن الحق الذي عند الله حيث يحكم بينهم يوم القيامة ، وبيّن ثانيا : أنه لا يهديهم فهم المسؤولون عن ضلالتهم بكذبهم وكفرهم.

__________________

(١) الإحتجاج للطبرسي / ص (٢٦).

٤٣٠

ولقد اخترعت أهواء الناس أفكارا باطلة لتوجيه هذه العقائد ، فقالوا بنظرية الفيض ونظرية الحلول والغنوص ، لتبرير تقديسهم لبعض العناصر وتأليههم لبعض الناس ، قالوا بأنّ الله ـ سبحانه وتعالى عما يشركون ـ كالشمس تفيض منها الأشعة ، وكالبحر تتصاعد منه السحب ، أو الينبوع تجري منه الروافد ، أو أنّه سبحانه يتنزّل إلى مستوى خلقه فيحل في أوليائه حلولا حتى يقول أحدهم في إحدى شطحاته الكفرية : ليس في جبّتي سوى الله.

(إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ)

[٤] ويسفّه الله أحلامهم ويؤكد بأنّه لا ولن يتخذ ولدا ، وحتى لو اتخذ فإنّه هو الذي يصطفيه اصطفاء.

(لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ)

ونستوحي من الآية الحقائق التالية :

أولا : إنّ اتخاذ الولد لو تمّ (وهو لا يتم) فليس عبر أولئك الكذبة ، بل الله وحده صاحب هذا الحق ، إنّه لو تم يكون ولده وليس ولدهم ، فهو يختاره دونهم ، ولا يحق لأيّ كافر أن يقول : فلان ابن الله وأقرب الناس اليه ، من دون سلطان له على ذلك.

ثانيا : إنه لا يتم ـ لو تمّ إنجاز الولد ـ بسبب علاقة نسبية بين الله سبحانه وبين بعض خلقه ، إذ كل شيء مخلوق لله ، ولا تفاضل في أصل الخلق بين شيء وشيء ، فليس بعض الخلق مارس الله حين أنشأه لغوبا ، بينما خلق بعض الأشياء بيسر وسهولة ، كلّا ... ولا هناك مراتب في الخلق كما زعمت الفلاسفة بلا حجة ، إنما يكون عبر الاصطفاء.

٤٣١

ثالثا : إنّ الاصطفاء الإلهي يكون عبر القيم الإلهية لا تفاضل الجوهر إذ أن الأشياء كلّها مخلوقات فلا حاجة له إلى واحد منها لأنّه كان قبل أن يكون أي شيء فكيف يحتاج إلى شيء لم يكن من الأزل ، بل كيف يحتاج إلى شيء هو في وجوده يحتاج إلى خالقه سبحانه؟!

وإنما استوحينا هذه البصائر بالترتيب من الكلمات الثلاث في الآية «يتخذ» و «اصطفى» و «مما يخلق».

(سُبْحانَهُ)

عن نسبة الشريك إليه أو عن اتخاذ الولد حتى من بين خلقه اصطفاء.

(هُوَ اللهُ الْواحِدُ)

فلا يتجزّأ بالإفاضة ولا بالتنزّل ولا بالحلول ، ولا يتجلّى في الشمس والقمر والنجوم والسهل والجبل والشجر والبحر والأحياء ... كما ادّعاه الضالون من أنصار وحدة الوجود.

«قام أعرابي إلى الإمام أمير المؤمنين في بحر معركة الجمل الطاحنة وقال له : يا أمير المؤمنين : أتقول : أنّ الله واحد؟

فحمل الناس عليه وقالوا : يا أعرابي أما ترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسّم القلب؟

فقال أمير المؤمنين : دعوه فان الذي يريد الأعرابي هو الذي نريده من القوم ، (أي أنّنا نخوض الحرب من أجل بيان هذه البصائر).

٤٣٢

ثم قال : يا أعرابي أنّ القول في الله واحد على أربعة أقسام : فوجهان منها يجوزان على الله ووجهان يثبتان فيه ، فأمّا اللذان لا يجوزان عليه فقول القائل واحد ، يقصد به باب الأعداد فهذا ما لا يجوز ، لأنّ ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد الا ترى انه كفر من قال ثالث ثلاثة؟ ، وقول القائل هو واحد من الناس يريد به النوع من الجنس فهذا ما لا يجوز ، لأنّه تشبيه وجلّ ربنا عن ذلك.

وأمّا الوجهان اللذان يثبتان فيه فقول القائل هو واحد ليس له في الأشياء شبيه ، كذلك ربنا ، وقول القائل : إنّه عزّ وجلّ أحديّ المعنى ، يعني به أنّه لا ينقسم في وجود ولا عقل ولا وهم ، كذلك ربنا عزّ وجلّ» (١)

(الْقَهَّارُ)

ولأنّه قهّار فهو واحد ، إذ لا شيء يتحدّى إرادته ويقاوم مشيئته سبحانه.

وكما لا يخضع سبحانه لشيء لا يحتمّ عليه شخص أمرا ، فما المسيح بن مريم والعزيز إلّا عبدان مطيعان له يخضعان لأوامره ، ولا يحتمان عليه ، وانه سبحانه قد فرض عليهما عبادته إن لم يكن طوعا فكرها.

ومن هنا تتبلور فكرة الشفاعة الحق وهي إنّ عباد الله المكرمين يدعون الله ليغفر لبعض المذنبين فإن شاء غفر ، وإن شاء عذّب ، وقد قال الله في حق بعض المنافقين : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) (٢) وقال تعالى : (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ

__________________

(١) نور الثقلين / ج (٤) ص (٤٧٥ ـ ٤٧٦).

(٢) المنافقون / (٦).

٤٣٣

الْفاسِقِينَ) (٢)

ولكن الرسول واولي الأمر من بعده يملكهم الله الشفاعة في الدنيا والآخرة ، فيغفر لمن يشاء كيف يشاء ، ويعذب من يشاء كيف يشاء ، ومغفرة الله بواسطة الرسول ممكنة ولكن حسب مقاييس محدودة ، فلا يملك الرسول للمذنبين المصرين ، أو الكفار شيئا ، ويوجز الله في آية من الآيات فكرة الشفاعة فيقول : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) (٣).

وخطأ تلك الأدعية التي يقولها بعض الطوائف في طوافهم حول الكعبة إذ يقولون : (اغفر اغفر إن لم تغفر جزما تغفر) فلا أحد يحتّم على الله سبحانه شيئا.

[٥] وقد سبق في الآية الثالثة أن فسّرنا قوله : (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) فقلنا بأنها تشير إلى السنن التي تحكم في الخليقة بتدبير الله وهيمنته وإرادته ، ويوضح الله ذلك بقوله :

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ)

ويبدو أنّه سبحانه بعد نفي العقائد التي يتشبث بها المشركون ، ونفي كون الولد له ، وأنّه لا أحد من الشركاء يقربهم اليه أخذ يذكّرنا بنفسه ذلك أنّ معرفة الله حقا كفيلة بنفي العقائد الباطلة وإزالة الأوهام البشرية التي هي وليدة الجهل بالخالق.

ولعل الإشارة إلى «الحق» هنا لبيان أنّ تمنيات القوم بالشفاعة الباطلة

__________________

(٢) التوبة / (٨٠).

(٣) النساء / (٦٤).

٤٣٤

سراب ، لأنّ أساس الخلق هو الحق ، وأنّه لا أحد يبلغ الثواب والكمال بالتمني والتظني أو الشفاعة الباطلة بل بالحق والحق وحده.

ودليل أحدية الربّ وقاهريته وأنّه خلق السموات والأرض بالحق ما نراه من اختلاف الليل والنهار.

(يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ)

وتكوير هذا يتم بزيادته على حساب ذاك وبالعكس ، فالله قد قهر السموات والأرض بحركتهما الدقيقة التي لا يستطيعان مقاومتها قيد شعرة ، ثم إنّهما يجريان بنظام دقيق مما يهدينا إلى أنّه جعل كل شيء بالحق.

(وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ)

مما يهدينا إلى انه القاهر.

جاء في الحديث المأثور عن الإمام الصادق (ع) :

«أنظر إلى شروقها على العالم كيف دبّر أن يكون ، فإنّها لو كانت تبزع في موضع من السماء فتقف لا تعدوه لما وصل شعاعها ومنفعتها إلى كثير من الجهات ، لأنّ الجبال والجدران كانت تحجبها عنها ، فجعلت تطلع في أوّل النهار من المشرق فتشرق ما قابلها من وجه المغرب ، ثم لا تزال تدور وتغشي جهة بعد جهة حتى تنتهي إلى المغرب ، فتشرق على ما استتر عنها في أوّل النهار ، فلا يبقى موضع من المواضع إلّا أخذ بقسطه من المنفعة والإرب التي قدرت له» (١)

(كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى)

__________________

(١) بحار الأنوار / ج (٣) ص (١١٣).

٤٣٥

وكما أنّ الله خلق الشمس والقمر ، وسخرهما بقدرته ، كذلك فإنّ انتهاءهما بيده ، وربما توصل العلماء إلى العمر التقريبي للشمس والقمر بمقدار ما يعطيان من طاقة من النور والحركة.

(أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ)

فبعزته أقام النظم في كل شيء ، وألزم الشمس والقمر والنجوم أفلاكها ، وسخرها لما خلق لها ، وبمغفرته فتح أمام عاصية باب التوبة حتى لا يقنط من رحمته إلّا القوم الكافرون.

وصفة العزة تبعث الرهبة بينما صفة المغفرة تبعث الرغبة ، وهما معا ضروريتان لاستقامة النفس البشرية.

وأخطأ من قال ـ من المتكلمين ـ أنّ القول بالمغفرة مخالف للقرآن لأن ذلك يوجب الإغراء بالقبيح ، وهذا مذهب البغداديين المعتزلة ، ومذهب البصريين الذي يقول : إنّ عذاب الله جائز عقلا ، وأيضا فيلزم عليه ان لا يحصل الغفران بالتوبة ، لأنه إذا علم أنّه إذا أذنب ثم تاب غفر الله له لم ينزجر (١).

[٦] (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها)

أي جعل من نفس الإنسان زوجه ، وهذا يدل على تكاملية الذكر والأنثى.

(وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ)

هي الأخرى تتزاوج ، وثمانية أزواج هي التي ذكرت في سورة الأنعام : (مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ).

__________________

(١) التفسير الكبير / ج (٢٦) ص (٢٤٠).

٤٣٦

وقد اختلف المفسرون في كلمة «وأنزل» فكيف يمكن أن تنزل الأنعام ، وهذا مجمل ما قالوا :

١ ـ إنّ الإنزال بمعنى الإحداث والإنشاء كقوله : (قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ).

وفي الحديث عن أمير المؤمنين (ع) قال :

«فإنزاله ذلك خلقه إيّاها» (١)

٢ ـ إنّه أنزلها بعد أن خلقها في الجنة ، وفي الخبر الشاة من دواب الجنة ، والإبل من دواب الجنة.

٣ ـ إنّه جعلها نزلا ورزقا ، والرزق يأتي من السماء.

٤ ـ إنّ قضاء الله وتقديره وحكمه موصوف بالنزول من السماء ، وإذا عرفنا أنّ بركات الأرض جميعا ـ أو لا أقل أكثرها ـ من السماء سواء من أشعة الشمس أو من الماء الذي ينزله الله من السماء ، عرفنا أنّ هذه التأويلات غير ضرورية ، والله العالم.

(يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ)

لا أنت ولا زوجك تعلمان ما في الرحم ، وكيف يتكون الجنين ، وما هي أطوار خلقه ، حتى يصير طفلا ، ولكن الله يخلقك ويصوّرك هناك.

(فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ)

__________________

(١) تفسير نور الثقلين / ج (٣) ص (٤٧٦).

٤٣٧

ظلمة البطن ، وظلمة الرحم ، وظلمة المشيمة.

(ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ)

إنّ الله الذي يصوّرك في الأرحام في ظلمات ثلاث هو المالك الحق والمليك المقتدر أحق أن تعبده ، ولأنّ له الملك وحده فإنّه :

(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ)

إلى أين تتجهون ، ومن الذي تعبدون من دونه؟!

٤٣٨

إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (٨) أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (٩) قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (١٠)

٤٣٩

قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (١١) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (١٢) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣) قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (١٤) فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١٥) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (١٦)

٤٤٠