من هدى القرآن - ج ١١

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١١

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-14-9
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٤٩

أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ

هدى من الآيات :

تهبط آيات القرآن كالصاعقة على القلب الغافل فتفجّر فيه طاقات الفهم ، وتثير فيه دفائن العقل ، من ذلك ما نجده في هذا الدرس حيث يهدينا الى حقيقة يحاول ابن آدم إنكارها تكبّرا وعلوّا حتى أضحت تشبه في إنكار الناس لها الباطل ، وتلك هي الموت الذي ينتظر كلّ حي ، ولكنّ الموت هو أهون المراحل التي تنتظرنا ، فما بعده أعظم ، كالاختصام يوم القيامة ، ذلك لأنّ الإنسان لا يستطيع في ذلك اليوم حين يقف وحيدا أمام محكمة الحق أن يتهرّب من الحقائق ، فلا بد إذا أن نهتم بالمعايير الأخروية اليوم وقبل ذلك اليوم. وفي بداية سورة آل عمران قلنا : إنّ الإيمان بالبعث يمثل حجر الزاوية في كفر الإنسان المسلم ، حيث يحافظ على توازنه ، ويدعوه إلى الإيمان بحقائق خارج محيط ذاته وأنّها هي المحور ، وإذا آمن الإنسان بوجود محور في الحياة بحث عنه ، وإذا بحث عنه وجده.

وهذا الدرس امتداد للدرس الماضي ، حيث ذكّرنا هنالك أنّ القلب الخاشع لله

٤٨١

يهديه الله للإسلام ، فيعترف بوجود الحق ، بعكس القلب القاسي المنغلق على ذاته ، الذي لا يعترف إلّا بما يعيش داخله ، فهو يتمحور حول ذاته.

وفي هذا الدرس يعرض القرآن مفارقة بين من جاء بالصدق وصدق به ، ومن يكذب على الله ويكذب بالحق ويدّعي الأنداد لله ، وبعد ذلك يعلن الله كفايته لرسوله رغم تخويف المشركين له بالذين من دونه ، وأنهم لن يستطيعوا إضلال من هداه الله ، ولا يستطيع الذين من دونه كشف الضر عنّا أو منع الخير.

بينات من الآيات :

[٣٠] من أبرز وأخطر مصيبات البشر انغلاق قلبه عن حقائق الخليقة ، وإيمانه بمقاييس ذاتية ، يقيم بها الأحداث والأشخاص من حوله ، فكيف يتخلّص الإنسان من هذه المصيبة التي تعمّ سائر أبناء آدم ، وتعبير آخر كيف يتقي الإنسان شحّ ذاته ، ويخرج من زنزانة نفسه الضيقة إلى رحاب الحق؟

لا ريب أنّ وعي الموت والنشور ثم الوقوف أمام محكمة الحق أقرب السبل للخلاص من هذه البلية ، ذلك أنّ اعتقاد الإنسان بوجود مقاييس موضوعية ثابتة عند الله ، وأنّه سوف يعرض عليها بأفكاره وأقواله وأعماله ، وسوف يحاكم وفق تلك المقاييس شاء أم أبى ، كل ذلك يعيده إلى رشده ، وينمّي عقله على حساب هواه ، ويجعله يبحث عن تلك المقاييس اليوم وقبل فوات الأوان.

هكذا يدعونا الإيمان بالبعث إلى الإيمان بكلّ الحقائق ، وهو كما أسلفنا حجر الزاوية في بناء صرح المعرفة عند الإنسان ، وقبل الإيمان بالبعث لا بد من وعي الموت.

(إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ)

٤٨٢

فإذا مات الرسول (ص) رغم عظمته وجلال مقامه فهل يبقى أحد منّا؟! قال تعالى : (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ) (١)

ويبدو لي أنّ الخطاب ليس خاصا برسول الله (ص) فكل من يقرأ القرآن معني بهذا الخطاب ، لأنّ القرآن نزل على لغة (إياك أعني واسمعي يا جارة).

هكذا تبعث هذه الآية في أنفسنا يقظة ، وفي أعصابنا رعشة ، وفي عقولنا إثارة ، وفي أفئدتنا سكينة ، فأيّ هيبة عظيمة للموت ، هذا الباب الذي لا يعود منه من دخله ، ولا ينجو منه من هرب منه ، وأين يذهب أعزتنا الذين نحملهم كل يوم إلى المقابر مرغومين ، ونقف عند أجداثهم مرهوبين ، ويهمس في آذاننا داعية الحق آنئذ قائلا :

وإذا حملت إلى القبور جنازة

فاعلم بأنّك بعدها محمول ...

ويقول الإمام علي (عليه السلام) :

«لو رأى العبد أجله وسرعته إليه لأبغض الأمل وترك طلب الدنيا» (٢)

[٣١] وهل تنتهي المشكلة عند الموت؟ كلّا ...

(ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ)

فخلافاتكم في الدنيا تنتقل إلى الآخرة ، وربّنا سبحانه هو الحكم يومئذ ، والموازين والقوانين يومئذ غيرها في الدنيا ، وعلينا أن نبحث عنها وأن نطبّق حياتنا

__________________

(١) الأنبياء / (٣٤).

(٢) نور الثقلين / ج (٤) ص (٤٨٩).

٤٨٣

وفقها إن أردنا الحياة.

[٣٢] ومحور المعايير هنالك الصدق ، وأظلم الناس لنفسه من كذب على الله وكذّب بالصدق ، ولكن كيف يكذب على الله؟

يزعم الإنسان حينما يقسو قلبه ، وينغلق عن الحقائق ، بأنّ ذاته هي الحق ، ويكون مثله مثل ذلك الذي سئل : أين مركز الدنيا؟ فقال : حيث يقف حماري ، لقد كان يزعم هو والكثير من أمثاله بأنّهم مركز الحياة ، فالعالم يبدأ من حيث هم ، وليس من حيث هي ، ويتصورون أنّ الحقّ ما يرونه ، والباطل ما يرفضونه ، وهذا هو الكذب على الله ، وحين يعرفون دين الله تراهم تبعا لهذه الحالة النفسية يحقّون الباطل ويبطلون الحق ، وهكذا يكذبون على الله افتراء عليه.

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ)

وبيان الرسول لهذه الحقيقة شاهد على صدقه ، إذ من يكذب على الله يهوّن على نفسه هذا الذنب ثم يرتكبه ، بينما نرى الرسول بالعكس تماما يبيّن مدى جريمة الكذب على الله.

وكثير من الناس يمارسون الكذب على الله وهم لا يشعرون ، وذلك حين يقولون : هذا حلال وهذا حرام ، دون سلطان من الله أتاهم.

وجرم الكاذب على الله عظيم ، ولا يعادله إلّا تكذيب الصدق الذي يجيء من عند الله ، إذ الإنسان مسئول عن معرفة الصدق والتصديق به ، ولا يجوز أن ينطوي على نفسه ويقول : من أين نعرف صدق هذا الداعية؟

(وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ)

٤٨٤

وجزاء هذا وذاك الإقامة في جهنم ، لأنهما معا كافران.

(أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ)

ويترك السياق الجواب عليهم لكي تقرّ ألسنتهم به.

[٣٣] وفي مقابل هؤلاء يقف الصادقون فحين يخرجون عن ذواتهم يرون الحق بوضوح ، لأنّ مشكلة الذي لا يرى الحق انغلاق نفسه ، فهل تدخل الشمس غرفة مغلقة مسدلة الستائر؟! كلّا ... فعلى الإنسان أن يفتح صدره ، ويزيل الستائر والحجب عن ذاته ، لكي يدخل نور الله أرجاء قلبه.

(وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ)

«جاء بالصدق» أي دعا اليه كالرسول ، «وصدّق به» أي التزم بما آمن ، فلا يكفي الإيمان بصدق شيء من دون العمل بمضمون هذا الإيمان ، والصدّيق هو الذي يؤمن في الأوقات الحرجة ، حيث لا تسمح له السلطات ولا يؤيّده الناس.

وجاء في تفسير مجمع البيان : قيل الذي جاء بالصدق محمد (ص) ، وصدق به عليّ بن أبي طالب ، وهو المروي عن أئمة الهدى من آل محمد عليهم السلام. (١)

والصّدّيق يتقي بصدقه عذاب الله :

(أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)

القرآن عادة ما يربط بين الفكر والعمل برباط التقوى ، والتقوى حقيقة تدور حولها كل الحقائق ، وهذا ما تشير إليه الآية : (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ). (٢)

__________________

(١) المصدر / ص (٤٨٩).

(٢) المائدة / (٢٧).

٤٨٥

[٣٤] وفي الجنة :

(لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ)

لأنّهم تركوا ما يشاءونه في الدنيا ، فأهواؤهم كانت تدعوهم للخضوع إلى الطاغوت ، والميل للمجتمع الفاسد ، والانسياق وراء شهوة البطن والفرج ... وهكذا أعطاهم الله ما يشاءون ، أو لأنهم أعطوا للمحتاج ما يشاء أعطاهم الله ما يشاءون.

وكلمة «ما» تعني الإطلاق ، فهم لا يتمنّون على الله شيئا إلّا أعطاهم.

وقيل : إنّ ما عند ربهم يشاءونه ، فقد أعدّ الله لهم نعيما في الجنة يشاءونه ، ولا تعارض في المعنيين.

(ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ)

بعد مرحلة التقوى يأتي الإحسان ، والإحسان هو العطاء ، ونتساءل : هل يمكن أن يعطي الإنسان التقوى شيئا دون أن يخرج من قوقعة ذاته؟

كلّا ... فالذي يعيش في حدود نفسه وشهواتها لا يستطيع أن يعطي ، وإنّما يعطي من يفكّر في حاجات الآخرين قبل حاجات نفسه ، فالإحسان إذن أرفع مراحل التكامل البشري ، فقد يكون الإنسان متقيا ولكن لا يعطي إلّا بحساب ، والمحسن موقن بالخلف فيستسهل البذل.

والظاهر أنّ الإيمان والتقوى يكتمل بالإحسان ، وهو أعلى المراحل في المسيرة الإيمانية.

٤٨٦

[٣٥] ويبقى المتقون خائفين من سيئاتهم التي إن بقيت أكلت جانبا من حسناتهم ، ولكنّ الله يطمئنهم حين يعدهم بغفرانها :

(لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا)

إذا كان الخط العام للإنسان في الحياة سليما فإنّ هفواته تغتفر له ، كما لو كانت إستراتيجية القائد سليمة فإنّ أخطاءه التكتيكية لا تؤثر عليه ، بعكس ما إذا كانت استراتيجيته خاطئة فإنّ صواب خططه المرحلية لا ينفعه شيئا.

وهكذا إذا كان الخط العام لحياة شخص سليما ، فتولّى الله ورسوله وأولي الأمر حقا ، ونهض بواجباته في التحصّن ضد الانحرافات السياسية والاجتماعية والاقتصادية ، فلم ينصر ظالما ، ولا خذل مظلوما ، ولا أكل أموال الناس بالباطل ، ولا أدلى بها إلى الحكام ، وبالتالي اجتنب فواحش الذنوب ، ثم ارتكب اللمم وهي الصغائر ، أو حتى الكبائر بلا جحود ولا إصرار ، ثم تاب إلى ربّه متابا فإنّه ترجى له مغفرة الله.

أمّا من كان خطّه العام منحرفا فكان وليّا لأعداء الله ، معينا للظلمة على عباد الله ، فإنّ كثرة صلاته وصومه لا تنفعه ، كذلك لو عاش على الحرام حتى نبت لحمه وعظمه منه.

ولعلّ المعيار الأساسي في ذلك ألّا تكون السيئة الصادرة من منطلق سيء ، إذ قد يرتكب المرء ذنبا ولكنّ قلبه لا يزال مطمئنا بالإيمان فيمكن تدارك الأمر ، ولكنّ الذي يرتكب الموبقات وهو جاحد بربوبية الربّ ، مستحلّ للمحرمات ، فإنّ توبته الى الله بعيدة.

وتشجيعا لحالة الإحسان في الأمة ألغى الإسلام الضمان عن المحسنين الذين

٤٨٧

يقعون في الخطأ ، فقال سبحانه : (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) ، ومضت هذه الآية قاعدة فقهية استنبط العلماء منها أحكاما كثيرة حيث أسقطوا بها الضمان من الذين يريدون الإحسان ولكنّهم يخطئون فيلحقون ضررا بالطرف الآخر ، كمن أراد إنقاذ غريق فتسبّب جهله بطريقة الإنقاذ إلى المساهمة في غرقه.

(وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ)

[٣٦] ومن العقبات التي تعترض طريق المؤمنين المحسنين خشية الناس ، والخوف من مقاطعتهم وهجرهم ، ولكنّ الله وعدهم بكفايتهم شرّ الناس ، والله سبحانه هو الذي يحفظ السموات والأرض أن تزولا ، فكيف لا يحفظ عبده؟!

(أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ)

بلى. إنّ الله يكفي عبده شر جور السلاطين ، وكيد الحاسدين ، وبغي الظالمين.

(وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ)

بإثارة الرعب في قلبك ممّن هو من دونه سبحانه ، أن يضلوك عن سبيله.

(وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ)

لا يعلمون أنّ المهيمن هو الله ، وأنّ الأنداد من دونه ، والسلطات الطاغوتية ، والمجتمع الفاسد ، و. و. لا تملك أيّ قوة ، ولأنّهم توجهوا إلى غير الله فقد سلب منهم الله نور الهداية فأضلهم.

[٣٧] ومرة اخرى يؤكد الله على فكرة الكفاية بقوله :

٤٨٨

(وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍ)

أي لا توجد قوة قادرة على إضلال امرء إذا أراد الله هدايته.

جاء في الحديث عن أبي عبد الله (ص) لثابت ابن سعيد :

«يا ثابت! ما لكم وللناس؟! كفّوا عن الناس ، ولا تدعوا أحدا إلى أمركم ، فو الله لو أنّ أهل السموات والأرضين اجتمعوا على أن يهدوا عبدا يريد الله ضلالته ما استطاعوا على أن يهدوه ، ولو أنّ أهل السموات وأهل الأرضين اجتمعوا على أن يضلّوا عبدا يريد الله هداه ما استطاعوا أن يضلّوه. كفّوا عن الناس ، ولا يقول أحد : عمّي ، أخي ، وابن عمّي ، وجاري ، فإنّ الله إذا أراد بعبد خيرا طيّب روحه فلا يسمع معروفا إلّا عرفه ، ولا منكرا إلا أنكره ، ثم يقذف في قلبه كلمة يجمع بها أمره» (١)

وهذا الحديث يفسّره قوله تعالى : (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً). (٢)

(أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ)

إنّ الله عزيز ، ومن عزّته انتقامه من الكفار ، ومن مظاهر انتقامه إضلاله للمعاندين كما أنّ من مظاهر عزته هدايته للمحسنين.

[٣٨] ومن أمثلة عزّة الله خلقه السموات والأرض وتدبيره لهما :

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ)

__________________

(١) نور الثقلين / ج (٤) ص (٤٩٠).

(٢) الكهف (٦).

٤٨٩

إنّ الله هو الذي خلق السموات والأرض ، وهما بيده ، فلا تنظر إلى محيط دولة يحكمها قزم ، وتقول : هذا ربي. كلّا ... فالذي خلق السموات والأرض ربك وربه. وأنتما تحت سيطرته ، وما يملك فهو له سبحانه.

(قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ)

فلو اجتمعت كلّ سلطات العالم لتمنع عن أحد ضرر فيروس بسيط كفيروس الإيدز مثلا أتراهم يقدرون؟ كلّا ...

فكلّ أجهزة الطب المتقدمة في الولايات المتحدة لم تستطع إنقاذ حياة الرئيس الأمريكي كنيدي بعد إصابته برصاصات قاتلة ، وكذا لم تستطع الاتحاد السوفيتي أن تنقذ حياة طاغوتها ستالين.

(أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ)

فلو شاءت إرادة الله إنزال الماء من السماء على بلد معين ، وأراد طاغوت هذا البلد منعه فهل يستطيع؟! كلّا ... إنّ مشكلة الإنسان هو خضوعه النفسي للطاغوت ، وإذا لم يخضع له نفسيّا فهو لا يستطيع أن يفعل شيئا.

(قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ)

فالله يكفيني ، وعليه توكّلي.

وهذه الآيات الثلاث تسلية للرسول ومن يحمل رسالة ربّه ألّا يهن أو يخاف من الكفّار وممن يدعون من دونه ، فقد ضمن الله ما يلي :

٤٩٠

١ ـ كفايته للرسول ومن يحمل رسالته من بعده من تخويف الكافرين له.

٢ ـ إنّه سبحانه يضلّل الكافرين ومن يدعون من دونه ، ولن يهديهم سواء السبيل.

٣ ـ إنّ الله سوف يهدي الذين آمنوا حين يتمسكون بهداه ، ولن يضلّهم أعمالهم.

٤ ـ (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ) ، لا يرد بأسه عن الذين كفروا ، فسوف يأخذهم أخذ عزيز منتقم.

٥ ـ إنّ الله حين يريد بالمؤمنين خيرا فلن تستطيع قوة أن تهزمهم ، وإنّ حمايتهم وحسبهم وكفايتهم على الله ، لأنّ الله أراد ذلك.

[٣٩] وحين يطمئن الله الرسول يأمره بتحديهم :

(قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ)

هذا التحدي من الرسول (ص) ينبع من روح الاطمئنان بسبب حماية الله وكفايته وحسبه ، وهذه الروح يجب أن يتحلّى بها الرساليون ، ويقولون كما قال الرسول (ص): يا قوم! أعملوا ما شئتم ، وامكروا ما شئتم ، واظلموا ما شئتم ، واقتلوا ما شئتم ، إنّنا ماضون على الطريق فسوف تظهر النتائج سريعا.

[٤٠] وهناك تعلمون :

(مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ)

ففي محكمة العدل الإلهيّة يتقرّر من الصالح ومن المفسد ، فهناك الميزان الحق ،

٤٩١

والمقاييس السليمة .. وتذكرة القرآن بذلك اليوم تحقّق التعادل في النفوس السليمة. فلا تأبه بالمعايير المادية الخاطئة.

[٤١] إذا فمن اهتدى بالكتاب فقد آمن يوم الفزع الأكبر ، ومن ضلّ فقد ضلّ على نفسه ، وهو الخاسر الوحيد ، إذ يخسرون في يوم القيامة أنفسهم وأهليهم.

(إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِ)

القرآن هو ذلك المقياس يوم القيامة ، وسيأتي مجسدا يوم القيامة ، فلا بد من أن نجعله مقياسا لنا في الدنيا.

(فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها)

فالهدى له ، والضلالة عليه.

(وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ)

كلّ إنسان لا بد أن يواجه مصيره بنفسه ، ويختار طريقه بإرادته ، ويتحمّل مسئولية اختياره ، ولا أحد يتحمّل مسئولية أحد ، حتى الرسول ليس وكيلا عن قومه ، إنّما هو نذير.

٤٩٢

اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٤٢) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (٤٣) قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٤٤) وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٥) قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٤٦) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ

٤٩٣

يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (٤٧) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤٨) فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٩) قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٥٠) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥١) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢)

٤٩٤

قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً

هدى من الآيات :

إنّ آيات الله في الكون والتي يشير إليها هذا الدرس ، ليست فقط دليلا للإنسان على وجود الله ، بل طريقا إلى معرفته المعرفة الأسمى أيضا. وعلى الإنسان أن لا يكتفي بدرجة من الإيمان بل يتابع مسيرته التكاملية حتى يصل إلى مرحلة العرفان ، وللعرفان أيضا درجات ، فكلّما تفكّر الواحد في آيات الله في الآفاق وفي نفسه ، والتحوّلات والتغيّرات التي تحدث عنده ، كلّما ازداد يقينا ومعرفة ، حتى يبلغ الحدّ به أن يقول :

«لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقينا» (١)

كما قالها سيّد العارفين الإمام علي (ع).

__________________

(١) غرر الحكم / ص (٦٠٣).

٤٩٥

بينات من الآيات :

[٤٢] تقارن الآية الأولى بين النوم واليقظة ، وبين الموت والحياة عند الإنسان ، فكما لم يكتشف العلم لغز الموت ، فإنه لم يكتشف لغز النوم أيضا ، وهما أخوان ، ولكن بينما ينام الإنسان بخروج جزء من روحه ، أو حسب تعبير بعض المفسرين (خروج نفسه وبقاء روحه) ، فإنّ كلّ روحه تخرج بالموت. ولو فسرنا كلمة النفس بالعقل ، فلا ريب أنّه في حالة النوم يعيش البشر سباتا عقليا.

ويذكّرنا الله بأنّ الله هو الذي يسلب نفس الإنسان ويأخذها في حالتين : حالة النوم ، وحالة الموت ، فالتي يسلبها في حالة النوم يردّها على صاحبها عند اليقظة ، بينما يدع تلك الأخرى عنده إلى يوم البعث.

وفي الحديث عن أبي جعفر (ع) أنّه قال :

«ما من عبد ينام إلّا عرجت نفسه إلى السماء ، وبقيت روحه في بدنه ، وصار بينهما شعاع كشعاع الشمس ، فإذا أذن الله في قبض الأرواح أجابت الروح النفس ، وإن أذن الله في ردّ الروح أجابت النفس الروح» (١)

وفي حديث آخر قال الإمام الصادق (ع) :

«إذا أوى أحدكم إلى فراشه فليقل : اللهمّ إنّي أحبست نفسي عندك ، فاحتبسها في محلّ رضوانك ومغفرتك ، فإن رددتها إلى بدني فارددها مؤمنة عارفة بحقّ أوليائك حتى تتوفّاها على ذلك» (٢)

وربنا في هذه الآية يقول :

__________________

(١) نور الثقلين / ج (٤) ص (٤٨٩).

(٢) المصدر / ص (٤٨٨).

٤٩٦

(اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها)

وفي اللغة توفّى بمعنى أخذ الشيء وافيا.

(وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها)

تلك النفس التي لم تمت يتوفّاها الله عند النوم.

(فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ)

ولا يدعها تعود إلى الجسد ، ولعلّ الآية تشير إلى أنّ للنفس ولها بالجسد وتريد العودة إليه ، ولكنّ الله يمسكها إمساكا.

(وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى)

أما النفس التي لم تمت بل نامت فانه تعالى يأخذها ثم يعيدها إلى صاحبها لفترة معينة هي حلول أجله. فإذا حل سلبها منه دون عودة الا عند البعث.

فما هذه الروح؟ هل هي كامل الروح؟ أم شعاع منها؟ أم شيء آخر؟

في الواقع أن مسائل الروح لا تزال بعيدة عن أفهامنا. والآية تشير بوضوح إلى الموت وطبيعته ، ونحن لم نمت ولم يعد إلينا من مات ليخبرنا عن واقع الأمر ، ولكننا ننام وحيث يخبرنا الرب بأنّ الموت مثل النوم نستطيع أن نتعرف عليه نسبيا من خلاله.

ويقتبس لقمان من هذه الفكرة حكمة فيقول لابنه وهو يعظه بالموت :

«يا بني إن تك في شك من الموت فارفع عن نفسك النوم ولن تستطيع ذلك ،

٤٩٧

وإن كنت في شك من البعث فارفع عن نفسك الانتباه ، ولن تستطيع ذلك ، فانك إذا فكرت في هذا عرفت ان نفسك بيد غيرك ، وانما النوم بمنزلة الموت ، وانما اليقظة بمنزلة البعث بعد الموت» (١)

ويقول أبو ذر الغفاري (رضوان الله عليه) ، مستوحيا فكرته من هذه الآية الكريمة : «كما تنامون تموتون ، وكما تستيقظون تبعثون» فلما ذا نحن نتعجب من البعث والنشور ، بينما لا نتعجب من اليقظة بعد النوم؟! أو ليس القادر على إيقاظ النائم من نومه بقادر على أن يعيد إلى الميت الحياة؟!

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)

ولعل المعنى الحقيقي لكلمة التفكر هو تحريك المعلومات وربطها ببعضها وتحليلها ، والذين يفعلون ذلك يصلون إلى مغزى الموت والنوم ، ويعرفون من وراء التحول من يحوّل ، ومن خلال التدبير من يدبّر وهو الله سبحانه وتعالى.

وانهم يعرفون من خلال ذلك الشيء ، ان القدرة المهيمنة على نهاية حياة الإنسان ، هي التي يجب أن تعبد حقا.

[٤٣] أما الشفعاء المزعومون من دون الله والذين لا يملكون الموت ولا الحياة ، وهما أهم قضيتين في حياة الإنسان ، فلا يحق لهم أن يتحكموا في حياته ، ولا أن يخضع هو لهم أبدا.

(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ)

__________________

(١) بح / ج (١٣) ص (٤١٧).

٤٩٨

وللشفعاء المرفوضين عند الله تفسيران :

الأول : انهم الشركاء من دون الله ، وهم رموز القوى المؤثرة في حياة البشر ، كسلطان القوة والمال والشهرة. وينفي القرآن أيّة قيمة لهذه القوى عند الله ، فلا يزعم صاحب السلطان والغنى والشهرة إن ميزته في الدنيا تستمر إلى الآخرة. بل إنه يأتي ربه يومئذ فردا فقيرا مغمورا ، ولا يزعم ألواح منهم كما زعم صاحب الجنتين إذ قال لصاحبه وهو يحاوره : (ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً* وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً) (١)

الثاني : انهم الذين يزعم البشر أن باستطاعته التهرب من المسؤولية بسببهم ، وذلك بإلقاء مسئولية ضلاله وانحرافه عليهم ، كأن يلقي بمسؤولية انحرافه وضلاله على والديه ، أو السلطات الحاكمة ، أو المجتمع.

ولكن الله ينسف فكرة الشفاعة عموما فيقول :

(قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً)

كالنفع والضرر أو الموت والحياة ، أو أقلّ من ذلك. لان الملك كله لله عزّ وجل.

(وَلا يَعْقِلُونَ)

لأنهم لو كانوا يعقلون لم يكونوا ليأمروا بما يخالف رضى الله تعالى. فهم إذن لا قوة لهم ولا علم. ومن يكون هكذا لا يكون شفيعا.

[٤٤] ان الشفيع الحقيقي هو الله الذي بيده ناصية كل شيء ، وإذا كان ثمة آخرون فانما يشفعون باذنه.

__________________

(١) الكهف / (٣٥ ـ ٣٦).

٤٩٩

(قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً)

فإذا أراد البشر أن يفر من عذاب الله ، فليهرب اليه تعالى ، فليس من ملجإ منه الا اليه كما قال ربنا : (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ) وكلنا يخشى من ذنوبه ولكن لن نجد غافرا للسيئات التي احتطبناها سوى الله.

ومن عادة البشر انه إذا أذنب ذنبا حاول تبريره ، أو اخترع لنفسه شفيعا يزعم أنه سوف يخلصه من ذنبه ، والله يقول : لا ، لماذا تذهب هنا وهناك؟! تعال اليّ ، حتى ولو كنت مذنبا تعال ، فانا الذي أخلصك من الذنب ، لا أولئك الشفعاء ، ولا تلك التبريرات.

(لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)

فالله هو الشفيع حقا ، لأنه هو السلطان في السموات والأرض ، فهو الذي يدبر الأمور اليوم واليه المصير حيث الحساب الدقيق والجزاء الأوفى.

[٤٥] (وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ)

لأنهم لا يؤمنون بالآخرة ، ويحاولون التهرب من المسؤوليات ، ويعرفون انه إذا كانت الآخرة أمرا واقعيا فإنهم سوف يحملون عبأ الأمانة ، لكل ذلك تراهم يشمئزون ، فحربهم لفكرة الآخرة انما هي بدافع نفسي ، فهم لا يحبون القيامة لأنهم لا يحبون المسؤولية ، والمثال على ذلك : إذا قيل لمجرم : جاء الشرطة يشمأز قلبه ، لماذا؟ لان الشرطة سيأخذونه إلى المحكمة ، ومن ثم الجزاء العادل ، وأما الرجل المظلوم ، الذي يسمع وهو بين يدي من يظلمه ، ان جاء الشرطة تراه يحمد ربه ، لماذا؟ لأنه سوف يتخلص من يد الظالم ... وهكذا المؤمنون يشتاقون إلى الآخرة ،

٥٠٠