من هدى القرآن - ج ١١

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١١

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-14-9
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٤٩

الآيات الثلاث التالية ، وهي في ذات الوقت تمهيد لبيان نعمة الهداية ، فالله الذي آتانا نعمة العين ولو شاء لطمسها ، والذي رزقنا سائر النعم التي نهتدي بها من سمع ولمس وذوق وما أشبه ولو شاء لمسخهم على مكانتهم فلا يتقدمون ، فلا يستطيعون مضيّا الى الأمام ولا عودة الى الوراء ، والذي أعاد البشر الى حالة الضعف عند ما يعمّره طويلا ، هو الذي أرسل الى الناس من يهديهم الى صراط العزيز الرحيم.

(وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ)

أرأيت كيف تمسح الكف حفنة من الرمل حتى لا تبقي لها أثرا على البسيطة؟ كذلك لو شاء الرب لمسح على الأعين حتى لا يبقي لها أثرا على الوجه.

(فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ)

فإذا هم يتبادرون الى الطرق لعلهم يهتدون الى سبيلهم.

(فَأَنَّى يُبْصِرُونَ)

ربما تشير الآية الى أنّ الذي يفقد عينه يحسّ بعقدة الضلالة ، فيبادر لمعرفة الصراط ، وتلمّس الطريق ، لأنه يخشى الانحراف عنه والوقوع في المهالك ، ولكن دون جدوى إذ لا يملك ما يرى به طريقه.

وقال البعض : إنّ الاستباق هو تجاوز الطريق والانحراف عنه ، بينما قال آخرون : إنّه التدافع على الطريق شأن العميان الذين يتزاحمون على الطريق لعدم رؤية بعضهم.

وأنّى كان فإنّ المبادرة والتسابق لا يجديانهم نفعا ، لأنّهم فقدوا وسيلة الرؤية

١٦١

وهي الأعين.

وهكذا من لم يرزقه الله الهدى فإنّه لا يجد من يهديه سبيلا حتى لو بادر الصراط وتدافع عليه.

[٦٧] أعظم النعم في مجال التحرك العين ، ولكن هناك نعم أخرى كاللمس والشم والإحساس يتوسّل إليها فاقد البصر ، ولكن من الذي أسبغ هذه النعم؟ أو ليس الله؟! ولو شاء لسلبها ، وجعل الإنسان مسخا جامدا على مقامه كالحجر.

(وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ)

فإذا بهم كالأحجار.

(فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا)

نحو الأمام.

(وَلا يَرْجِعُونَ)

إلى الخلف ، وبماذا يتقدم الإنسان أو يتأخّر؟ أليس بالسمع والإحساس؟! فإذا فقدها جميعا فهو أضعف من أحقر حشرة.

[٦٨] إذا فقد الشخص بصره لم يهتد الى طريقه ، وإذا فقد سائر الجوارح لا يستطيع مضيّا ولا عودة ، ولكنّه يبقى يملك العقل ، بيد أنّ العقل بدوره موهبة إلهيّة إن شاء وأراد الله سلبها ، وفعلا إنّه يسلبها عند ما يبلغ الإنسان أرذل العمر فلا يعلم بعد علم شيئا.

(وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ)

١٦٢

فبدل أن ينمو ويتكامل باستمرار تراه يبلغ قمة رشده البدني والعقلي في حدود الأربعين ، ولا يلبث أن يسير القهقرى ، لأنّ خلايا المخ التي تنتشر في أطراف الجسد في صورة أعصاب ، وتقوم بالدور الرئيسي في بناء الجسم ، إنّها تستهلك مع الزمن ولا تعوّض أبدا ، ويقول العلم : إذا بلغ المرء الثمانين من عمره فقد نصف خلايا مخّه.

والتنكيس الذي يصيب البشر يشمل الجوانب المادية ، كطريقة مشيه ووقوفه وفقد أسنانه وضعف قواه ، كما يطال الجوانب المعنوية ، فهو يفقد قدراته العلمية وخصائصه النفسية فتراه يرجع طفلا يحرص على ما يخصه ، ويعضّ بنواجذه على حياة ، ويضحى خائفا يلاحقه هاجس الزائر المخيف الذي قد يدخل عليه في أيّة لحظة وبلا استئذان ألا وهو الموت.

(أَفَلا يَعْقِلُونَ)

ليذعنوا لله الذي أسبغ عليهم تلك النعم الآن ، ويسلبها منهم عند الشيخوخة.

[٦٩] والله الذي أعطانا جوارح لنهتدي بها في حياتنا من سمع وبصر وعقل هو الذي أنزل الكتاب ليهدينا به الى الصراط المستقيم.

ونحن بحاجة إليه ، ولا يمكننا الاستغناء عنه بالثقافات الموجودة لدينا التي هي أقرب الى الشعر منه الى بيان الحقائق.

بينما القرآن جاء ذكرا وبيانا وإنذارا وتبشيرا.

(وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ)

١٦٣

ذلك أنّ الشعر يتميّز بالخصائص التالية :

أوّلا : يعكس ثقافة المجتمع السائدة ويسير بها دون أن ينتقدها أو يثور عليها.

ثانيا : يكرّس الواقع الفاسد بتبريره وتلميع رموزه وستر اخطائه.

ثالثا : يخدّر الإنسان ويرضيه بوضعه بإثارة مشاعره الجاهلية من الفخر والعصبية والاعتزاز بالإثم.

وبكلمة إذا كان للإنسان بعدان : بعد جاهلي يعكس شهواته وأمنيّاته ونوازع الشر عنده ، وبعد رسالي يعكس عقله وعواطف الخير فيه ، فإنّ الشعر إفرار للبعد الجاهلي وتكريس له ، سواء عبّر عنه بقصائد موزونة ومنسقة أو بتعابير نثرية وعادية ، ولكن بما أنّ الباطل مرفوض عند البشر بذاته فإنّ أصحاب الثقافة الجاهلية يزينونها للناس تارة بأنغام الشعر ، وأخرى بأنواع البديع والبلاغة.

بينما الحق ليس بحاجة الى كل ذلك ، وإن كان الأدب الرفيع والحلة القشيبة ، والبلاغة النافذة يزيدها جمالا وبهاء ، إلّا أنّ قدرته ليست في حلته إنّما في محتواه ، بينما قدرة الثقافة الجاهلية في التعبير عنها ، ولذلك سمّي شعرا ، إشارة إلى أنّه لو لا وزنه وقافيته والتشبيهات الخيالية فيه لا يعتني به أحد ، حتى قالوا : الشعر أعذبه أكذبه.

وهكذا جاء في الحديث في تفسير قوله تعالى في سورة الشعراء : «وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ» قال :

«نزلت في الذين غيّروا دين الله ، وخالفوا أمر الله عزّ وجل. هل شاعرا قط يتبعه أحد؟ إنّما عنى بذلك الذين وضعوا دينهم بآرائهم فيتبعهم الناس على

١٦٤

ذلك» (٣)

وفي رواية مأثورة عن أبي جعفر الباقر (ع) في تفسير ذات الآية قال :

«هل رأيت شاعرا يتبعه أحد؟ إنّما هم قوم تفقّهوا لغير الدين فضلّوا وأضلّوا» (٤)

هذا عن الثقافة الجاهلية أمّا عن رسالات الله فإنّها تتميز بما يلي :

أولا : إنّها تذكرة ، فهي إثارة للعقل ، وإيقاظ للضمير ، وتحريض للفكر ، وأبلغ حجة لصدقها أنّها تتوافق وعقل الإنسان وما أودعه الله فيه من فطرة التوحيد.

ثانيا : إنّها بلاغ مبين ، فليس فيه لف ودوران ، وتعابير غامضة ، وكلمات جوفاء ، وتشبيهات خيالية ، إنّما بيان للحقائق بوضوح شديد.

ثالثا : إنّها تنذر بالأخطار التي تهدّد الفرد والمجتمع ، فهي تفجّر الطاقة بدل أن تخدّرها ، وتنتقد الواقع الفاسد بدل أن تبرّره ، وتواجه الانحراف والضلال ، وتتحدى الظلم والطغيان.

والرسول الذي حمل مشعل الهداية ، وتحدّى قوى الكفر والضلال ، وأعلن منذ البدء أنّه النذير المبين ، والذي جانب ومنذ صباه اللهو والعبث ، واتسمت حياته الرسالية بأقصى درجات الصراع ضد الباطل ، والاجتهاد في إبلاغ الدعوة ، والجهاد والقتال في سبيل إعلاء كلمة الله ، إنّه لا تتناسب حياته والشعر (تلك الثقافة الجاهلية) فكلّ شيء في حياته مناقض للشعر ، لذلك قال ربنا عنه : «وَما يَنْبَغِي لَهُ».

__________________

(٣) نور الثقلين / ج (٤) / ص (٧٠) نقلا عن تفسير علي بن إبراهيم.

(٤) المصدر.

١٦٥

ولذلك فقد ترك الرسول حتى هذا الشعر المعروف والكلام المقفّى ، لأنّه أضحى لباسا للفكر الجاهلي يومئذ ، وكان إذا قرأ شيئا منه غيّره بما يتناسب والحقيقة ، ولكن ذلك لا يعني أنّ الرسول كان مخالفا أساسا للوزن والقافية ، كلّا ... بل نجده يشجّع بعض أصحابه على ذلك تشجيعا كبيرا.

[٧٠] بلى. الرسول منذر يصدع بالحق ، ويقاوم أهل الباطل ، ويتحدّى الثقافة الجاهلية.

(لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا)

فهو النذير المبين لمن كان في قلبه إحساس بتقبل الإنذار.

أمّا بالنسبة الى غيرهم فإنّ الكتاب حجّة بالغة عليهم تمهّد لإنزال العقاب عليهم.

(وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ)

وهم الذين لا حياة لقلوبهم ، ولكن لا يعني ذلك أنّ الله أجبرهم على الكفر ، كلّا ... بل هم الذين كفروا ففقدوا حياة الإيمان فلم يستجيبوا للنذر.

١٦٦

أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (٧١) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (٧٢) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (٧٤) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (٧٥) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٦) أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٧٧) وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (٨٠) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨١)

___________________

٧٨ [رميم] : بالية متفتتة.

١٦٧

إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٨٢) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٣))

___________________

٨٣ [ملكوت] : هو الملك ، وزيد فيه التاء للعظمة نحو جبروت ، وملكوت كلّ شيء ما يقوم به ذلك الشيء.

١٦٨

قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ

هدى من الآيات :

تنبض سورة يس بالحقائق الكبرى التي تذكّر بها آيات الذكر في نسق بديع. أو ليست هي قلب القرآن الحكيم ومحور الحديث فيها الرسالة ، ولكنّ الرسالة تتصل بحقيقة البعث ، لأنّها تذكّر به ، ولأنّ الرسالة دليل المسؤولية ، وتتجلّى مسئولية الإنسان في الآخرة.

وفي الدرس الأخير من سورة يس تذكّرنا الآيات بهذه الحقيقة عبر بيان شواهد تدبير الله لحياة البشر.

بينات من الآيات :

[٧١] ظواهر كثيرة نتعامل معها يوميا ، ولكن دون أن نتبصّر ما وراءها من حقائق ، وأعظمها نعم الله السابغة التي تهدينا الى حبّه وشكره ومعرفة أسمائه الحسنى ، ومن أبرزها قدرته وحكمته ، وهما اسمان كريمان يدلان على يوم البعث.

١٦٩

من تلك الظواهر امتلاك ناصية الأنعام ، فلقد خلقها الله بيد قدرته خلقا ، ثم أودع فيها منافع شتّى ، وسخّرها للإنسان ، ولو شاء لجعلها وحشيّة صعبة المراس ، كما جعل في البشر حبّ التملك وقدرة التملك. أرأيت لو لم يكن البشر يحب السيطرة هل كان يسخّر شيئا مما حوله؟!

(أَوَلَمْ يَرَوْا)

هذه الظاهرة المتكررة التي يمرون عليها دون أن يتفكروا فيها ، وإذ هم لا يتفكرون فكأنّهم لا يرون شيئا.

(أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا)

والله لم يخلق الأنعام خلقا مباشرا ، بأن يقول لها : كوني فكانت ، إنّما خلقها عبر شبكة من الأنظمة والسنن لا تحصى عددا ، ولعل قوله تعالى : «مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا» إشارة الى هذه الحقيقة التي تجعلنا أكثر امتنانا لبارئنا ، وأكثر وعيا بقدرة ربنا وحكمته ، وبالتالي بيوم الجزاء الأوفى.

(أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ)

فهم الآن يملكون تلك الأنعام فعلا ، ويسيطرون عليها ويسخّرونها لمنافعهم.

[٧٢] تكاملية نعم الله دليل علمه وقدرته. إنّك تجد الإبل ـ مثلا ـ يقوم بذات الحاجات المتنوعة التي يعيشها البشر ، فهو يحمله مسافات شاسعة دون كلل. أرأيته كيف يقطع الربع الخالي في الجزيرة العربية معتمدا على ما فيه من اشواك حادة وماء قليل؟! أرأيته كيف يتحمّل وعثاء السفر والعواصف الرملية الهوج ، ويجري في الرمال المتحركة كما تجري السفن بين الأمواج؟! وفي ذات الوقت تراه

١٧٠

يسقي الإنسان لبنا سائغا ، وإذا اشتهى لحما نحره واستفاد منه ، وفيه بعد كل ذلك جمال وعزّة ، وكما الإبل سائر نعم الله.

(وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ)

[٧٣] وتجد في أوبارها وأشعارها وجلودها متاعا ولباسا وبيوتا خفيفة.

(وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ)

والهدف الأسمى من نعم الله ليس مجرد الانتفاع بها ولكنّه التسامي الروحي الى معرفة الرب وشكره.

(أَفَلا يَشْكُرُونَ)

[٧٤] والبشر يبحث عن قوّة ، ولقد أودع في ضميره الإحساس بالضعف الذي يهديه ـ إن أحسن التفكّر ـ الى ربه ، ولكنّ الشيطان يغويه عن السبيل القويم ، ويوحي إليه أنّ القوة عند الآلهة التي تعبد من دون الله.

(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ)

فهم يعبدون القوة السياسية والقوة الاقتصادية والوطن والعشيرة والحزب والشمس والقمر والنجوم والأحجار التي ترمز إليها ، ويبتغون عندهم القدرة عند الصراع ، لعلهم ينصرونهم أمام القوى المعادية.

هكذا بيّنت الآية الكريمة خلفية الشرك بالله ، وهي البحث عن قوة تنصرهم في مواجهة الطبيعة أو الأعداء.

[٧٥] ولكن من ينصر من؟ هل الآلهة تنصرهم أم هم ينصرونها؟

١٧١

(لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ)

يقول ربنا بصراحة بالغة ، ولو لم يكن في القرآن إعجاز إلّا هذه الآية لكانت شاهدة صدق على أنّه من عند الله ، إذ يزعم الناس ـ إلّا قليل ممن هداهم الله ـ أنّ الطاغوت أو أولي الثروة والجاه والعشيرة ينصرون من يشرك بهم ، بينما يؤكد ربنا أنّ العكس هو الصحيح ، وعند ما نتفكر جيدا نعرف أنّ الآلهة هم الذين يتبعونهم ، فمن الطاغوت لو لا اتباعه الذين استسلموا له رغبا ورهبا أو ضلالة؟ الأثرياء فظلمهم واستضعافهم إنّما بسكوت الناس عنهم أو طمعهم في أموالهم ، وهكذا العشيرة والوطن والحزب.

(وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ)

ولعل هذا التعبير يوحي بأنّ قوة الآلهة هي مجموع قوة التابعين ، فهم رمز التجمع لا أكثر ولا أقل.

وقال المفسرون : إنّما عنى الله بذلك يوم القيامة حيث يصطف المشركون خلف آلهتهم المزعومة ويساقون الى النار زمرا ، ولا ريب أنّ الأمر لكذلك ، ولكن ـ يبدو لي ـ أنّ الآية تشمل الدنيا أيضا ، إذ المشركون هم أنصارها هنا ، وفي الآخرة تتجلّى هذه الحقيقة أكثر فأكثر ، قال ربنا سبحانه : «وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا* كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا» (١)

وكلمة أخيرة : إنّ العوامل المؤثرة في حياة البشر ليست جميعا ظاهرة بل هي عوامل غيبية ، وحتى العوامل الظاهرة كالسياسة والإقتصاد وما أشبه فهي ـ لو أمعنا النظر ـ تتصل بعوامل غيبية ، وبالتالي لا تستطيع القوى المعبودة من دون الله

__________________

(١) مريم / (٨١ ـ ٨٢).

١٧٢

أن تؤثر فيها شيئا ، ثم إنّ قوتها الموهوبة محدودة بعالم الدنيا ، وهي وبال في العالم الثاني. إنّ الغباء يبلغ مداه حين يتخذ الإنسان نظيره الإنسان إلها من دون ربّ العزة لينصره أمام سنن الله وقدره وقضائه ، ولكنّ هذا الغباء هو بالضبط ما يركبه الإنسان إلّا من عصمه الله ، فأغلب الناس يشركون بربهم ، ويعبدون بنسبة معينة آلهة القوة والثروة والجاه ، فيفقدون بذات النسبة قوتهم التي وهبها الله لهم لمصلحة تلك الآلهة ، وهم يزعمون أنّهم يكتسبون منها قوة ومنعة وعزا.

كما أنّهم بشركهم يفقدون نصر الله لهم ، ولو أنّهم توكّلوا على الله ، وتوجّهوا تلقاء نعمه التي أسبغها عليهم ظاهرة وباطنة ، وفجّروا طاقاتهم التي لا تحدّ ، واستخرجوا من أنفسهم كنوزها التي لا تنفد ، إذا حقّقوا المزيد من تطلعاتهم بتأييد ربهم وتسديده.

ولعمري هذا سر العظمة ومفتاح الفلاح لو كانوا يعقلون.

[٧٦] وحين يتخلّص الإنسان من حجاب الشرك يتهيّأ نفسيا ومن ثم عقليا لتقبّل المسؤولية ، لأنّ أعظم دافع للبشر نحو الشرك الهروب منها ، والتخلّص من جزاء أعماله حسب زعمه ، وهكذا يذكّرنا السياق بيوم الجزاء الأوفى بعد أن يرفع شبهة المجادلين فيه ، القائلة : كيف يحيي الله الموتى؟ إنّ هذه الشبهة آتية من نسيان الخلق ، وعظمته التي تدل على عظمة الخالق ، أمّا إذا تذكّرناه فإنّ الشبهة تتلاشى.

ويبدأ الحديث ببيان أنّ كلامهم الجدلي يجب أن لا يحزن أصحاب الرسالة ، لأنّه محفوظ عند الله ، يعلم الله خباياه كما يعلم ظاهره ، فلا ينبغي أن يقرّبه ويؤخذ مأخذ الجد.

١٧٣

(فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ)

ويبدو أنّ الحزن بالكلام قد يجر الى التنازل لهم تحت ضغطة فلذلك نهي عنه.

(إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ)

من نيّات مغايرة للكلام حيث أنّهم يعلمون أنّهم كاذبون وإنّما يتكلمون جدلا.

(وَما يُعْلِنُونَ)

فيسجل عليهم للجزاء.

[٧٧] ثم يعرف ربنا أكبر شبهاتهم التي تشكّك بقدرته ـ تعالى ـ ويقول :

(أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ)

قالوا : إنّ الرؤية هنا تعني العلم ، أي أو لم يعرف الإنسان ، ونقول : نعم. ولكن مثل هذا العلم لا يحتاج الى أكثر من نظر ، ونحن لم نشهد خلق أنفسنا ، ولكنّا شهدنا كيف خلق نظراؤنا من الناس حتى لكأنّنا شهدنا خلق أنفسنا.

(أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ)

هذا الماء المهين هذا ما نراه ، أمّا ما نعلم فإنّ الخلق تمّ بجزء بسيط جدا من هذه القطرة الدافقة من الماء. انها الخلية المتناهية في الصغر من ماء الرجل وماء المرأة.

وبعد أن خلق من الماء المهين ربّاه الله من خلق لخلق ، ومن طور لطور ، ومن مرحلة لأخرى حتى سوّاه رجلا ناطقا.

١٧٤

(فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ)

وقد بلغ به الكمال مداه حتى اغترّ به ، وأخذ يجادل ـ وبوضوح تام ـ خالقه ورازقه!

[٧٨] ومن مظاهر جدلهم الباطل أنّ الواحد منهم يأتي بقطعة عظم بالية ، ويسعى الى رسول الله ، ويزعم أنّه سوف يخصمه به.

(وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً)

يبدو أنّ المثل هو الواقعة التي يستشهد بها على فكرة أو حقيقة ، وإنّما يقال ضربه لأنه يشبه غيره والضرب هو الشبيه.

(وَنَسِيَ خَلْقَهُ)

ولو لم ينسه خلقه لما ضربه مثلا.

أفلم ير أنّه قد خلق من غير مثال يحتذي؟! فكيف يستعبد قدرة الله على الخلق؟

(قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ)

لقد جاء أبيّ بن خلف الجمحي معه عظم نخر ففركه ثم قال : يا محمد من يحيي العظام وهي رميم؟! فأنطق الله محمدا بمحكم آياته وبهته ببرهان نبوته قال : «قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ» فانصرف مبهوتا.

[٧٩] لقد كانت إزالة الشبهة قد بدأت مع بداية هذه المجموعة من الآيات حيث مهّد الله لها بالنهي عن الحزن لما يقولونه لأنّه بعلم الله ، ثم ذكّر الإنسان بأصل خلقه من النطفة مشيرا الى تلك البداية البسيطة التي يراها الإنسان ، ثم نوّه بذلك مرة أخرى حين قال : ونسي خلقه ، ثم قال :

١٧٥

(قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ)

هنالك أنشأها إنشاء وابتدعها ابتداعا من غير مثال يحتذي ، ولا أدوات تستخدم ، ولا أنصار وشركاء يساهمون. إنّ تذكّر هذه الحقيقة تذهب أيّ شك في قدرة البارئ في ذلك ، بلى. يبقى تساؤل قد يلقيه الشيطان في قلب الإنسان الذي يسعى بدوره للتخلص من ثقل المسؤولية وهاجس الجزاء ، والتساؤل هو : كيف يجمع الله الأجزاء المتناثرة في أقطار الأرض حول هذا البدن؟

فيقول ربنا وهو يشير الى تنوّع خلق الله ، الذي يهدينا الى علمه المحيط :

(وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ)

فأنّى ألقيت بصرك وأدرت بصيرتك رأيت خلقا عجبا ، حسن التقدير ، جميل الظاهر ، متين الصنع ، متناسبا مع هدفه ، متناغما مع نظائره ، ثم رأيت من أنواع الأحياء ، وألوان النباتات ومختلف المعادن ، وصنوف الجمادات ، ما لا يدع عندك شبهة في سعة قدرة بارئها ، ومحيط علمه وقديم خبره ، فكيف يشك في إمكانية إعادة الخلق؟!

جاء رجل الى الإمام الصادق (ع) وقال منكرا للبعث : وأنّى له بالبعث والبدن قد بلي ، والأعضاء قد تفرّقت ، فعضو ببلدة يأكله سباعها ، وعضو بأخرى تمزّقه هوامها ، وعضو قد صار ترابا يبنى به مع الطين في حائط؟!

قال الإمام مجيبا :

«إنّ الذي أنشأه من غير شيء ، وصوّره على غير مثال كان سبق إليه ، قادر أن يعيده كما بدأه.

١٧٦

قال : أوضح لي ذلك؟

قال : إنّ الروح مقيمة في مكانها ، روح المحسن في ضياء وفسحة ، وروح المسيء في ضيق وظلمة ، والبدن يصير ترابا كما منه خلق ، وما تقذف به السباع والهوام من أجوافها ، فما أكلته ومزّقته كل ذلك في التراب محفوظ عند من لا يعزب عنه مثقال ذرة في ظلمات الأرض ، ويعلم عدد الأشياء ووزنها ، وإنّ تراب الروحانيين بمنزلة الذهب في التراب ، فإذا كان حين البعث مطرت الأرض مطر النشور ، فتربو الأرض ، ثم يمخض مخض السّقاء ، فيصير تراب البشر كمصير الذهب من التراب إذا غسل بالماء ، والزبد من اللبن إذا مخض ، فيتجمع تراب كلّ قالب الى قالبه فينقل بإذن الله تعالى القادر الى حيث الروح ، فتعود الصور بإذن المصوّر كهيئتها ، وتلج الروح فيها ، فإذا قد استوى لا ينكر من نفسه شيئا» (٢)

ولعل إشارة القرآن الى بداية الخلقة توحي بنظرية تقول : إنّ الخلية الأولى التي تلاقحت في الرحم تبقى على حياتها ثم تنمو في رحم الأرض كما نمت أولا في بطن الأم ، ولكنّ الحديث المذكور آنفا صريح في أنّ ذرأت البدن المتناثرة في الأرض تلتحق به أنّى كانت عن طريق المخض ، ولنا أن نشبّه ذلك بقطعة مغناطيس إذا حرّكت في تراب مخلوط بذرات الحديد. كيف تجتمع عليها تلك الذرات؟!

[٨٠] ثم يمضي السياق قبلا في أنّ البعث حق ، ويضرب مثلا من الشجر الأخضر الذي جعل الله للناس منه نارا ووقودا ، ويقول :

(الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ)

__________________

(٢) نور الثقلين / ج (٤) / ص (٣٩٥).

١٧٧

ويقف الإنسان حائرا : لماذا ضرب الله مثلا بالشجر الأخضر ، وما هي صلته بواقع النشور؟

قالوا : إنّ العرب كانوا يستخدمون نوعين من النباتات كالزناد لإنشاء النار كما نستخدم نحن الكبريت ، وسمّيا ب (صرخ) و (عفار) وكانا رطبين ، إلّا أنّ احتكاكهما كان يولّد النار ، فضرب الله بهما مثلا على قدرته أو على انبعاث النار الخفية كما ينبعث الجسد الميت حيّا يوم النشور.

وقال البعض : إنّ البحث العلمي أكّد أنّ كلّ أنواع الوقود من أشعة الشمس ، وحتى اتقاد الخشب إنّما هو بتخزّن هذه الأشعة فيه ، وإلّا فإنّ عناصره الأخرى كالماء والتراب لا نار فيها.

ذلك أنّ كلّ عملية تركيب كيماوية بحاجة إلى امتصاص الطاقة أو بثّها ، وعملية امتصاص الأشجار لثاني اكسيد الكربون بحاجة ـ حسب هذا القانون ـ الى الطاقة ، وهكذا فهي تستفيد من الطاقة الشمسية ، وتستمر الأشجار في اختزان الطاقة بصورة منتظمة.

وهذه العملية لا تقوم بها الأخشاب اليابسة بل الشجر الأخضر ، ولذلك ركّز الحديث حوله ، بالرغم من أنّ الناس يعرفون أنّ الخشب اليابس أسرع اشتعالا إلّا أنّه لا يحزّن الطاقة. (٣)

ولكن يبقى السؤال : لماذا ضرب الله بهذا مثلا؟! الجواب :

أولا : إنّ ذلك يهدينا الى قدرة الله الذي ضغط النار في الماء. أو ليس الشجر الأخضر ينضح بالماء؟ فأبصر بربّ يحزن الوقود في الماء!

__________________

(٣) بتصرّف من تفسير نمونه / ج (١٨) / ص (٤٦٤).

١٧٨

ثانيا : إنّ السنن الإلهية الخفيّة أكثر من الظاهرة للإنسان منها ، وما أوتينا من العلم إلّا قليلا ، وإنّنا نستبعد أشياء لأنّنا لا نعرف الأنظمة ، فلو قيل لأحد من أجدادنا : سيأتي يوم يطير جهاز بعشرات الأطنان من الحديد في الفضاء ، بسرعة فائقة لما صدّق ، لأنّه لم يكن يعرف قوانين فيزيائية يعرفها الإنسان اليوم ، وقديما قال الإمام علي (ع) :

«الناس أعداء ما جهلوا» (٤)

وكذلك البشر ينكر البعث لأنّه لا يعرف ما أودع الله في ضمير الوجود من أنظمة ، كما لم يكن يعرف الإنسان كيف يجعل الله من الشجر الأخضر نارا ، فلعل ذرّات البدن التي تنفصل عنه بعد الموت تبقى ذات صلة خاصة به إلى أن يبعث الله من في القبور ، أو تطبع عليها سمات تشير الى مصدرها.

ثالثا : إنّ ذرّات الحرارة التي تنفصل عن الشمس وتخزن في الشجر الأخضر تبعث مرّة أخرى إليها ، ولكن دون أن يعدم منها شيء كما يحسب الجاهل ، كذلك ذرأت الجسم.

رابعا : ولعلّ في الآية إشارة لطيفة الى قانون الهيّ في الوجود أنّ فيه الغيب والشهود ، فهناك الشجر الأخضر تحسبه لجة ماء ، فإذا فيه كتلة وقود مختزنة ، كذلك الدنيا شهود الآخرة ، بينما الآخرة غيب الدنيا ، فأنت ترى جسد الميّت المسيء بينما هو في النار كما الزناد احتوى على نار مختزنة ، كما أنّ آكل مال اليتيم يحسب أنّه يتناول طعاما شهيّا ، ولكنّه ـ في الواقع ـ إنّما يأكل في بطنه نارا ، والذي يكذب لا يعرف أنّ نتنا خبيثا يخرج من فيه يلعنه به الملائكة ، وهكذا.

__________________

(٤) نهج البلاغة / خ (١٧٢) / ص (٥٠١).

١٧٩

وهكذا يأتي رجل الى الإمام أمير المؤمنين (ع) وقد جاء بعظم كافر فيقول : أنتم تقولون أنّه معذّب فأين النار التي يعذّب بها الآن؟! فيأتي إليه الإمام بزناد فيقدحه فيقول : أين كانت النار في هذا الزناد؟!

[٨١] البعث والنشور حقيقة فطرية. أو ليست نفوس البشر تنزع الى الخلود؟ وهذه الجهود الهائلة التي يبذلها البشر من أجل الخلود ، دليل عمق الإحساس بالخلود ، وما أكره الموت في نظر الإنسان إلّا ايمانه بأنّه جاء ليبقى ، وفقط أولياء الله الذين يظنون أنّهم ملاقوا ربّهم لا يهابون الموت ، ولو أحصيت أهداف الناس من مساعيهم المختلفة لكان لهدف استمرار البقاء حصة الأسد فيها ، يقول الله تعالى لبيان هذه الحقيقة : «وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ» (٥)

وحيث علم البشر أنّه لا محالة ميت ، فتّش عن بقاء اعتباري أن فقد القدرة على البقاء الحقيقي ، فإذا به يسعى للامتداد عبر أبنائه أو آثاره أو حتى تحنيط جسده الميت وبناء المقابر الضخمة عند رفاته.

وحين أراد إبليس إغواء أبينا آدم وزوجه حوّاء وإخراجهما من الجنة ، قال لهما : «هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى» (٦)

هكذا تراه يثير فيهما حبّ الخلود ، ويربطهما بالمعصية ، وكذلك يصنع بأبناء آدم ، فإنّه من أعظم أسباب الذنوب حبّ الخلود.

ومن هنا فإنّ الإمام علي (ع) حين يسأله أحدهم : ما هو الحق الشبيه بالباطل؟! يقول : الموت ، لأنّ نزعة الخلود لا تدعه يذعن للموت هذا الذي لا ينجو

__________________

(٥) الشعراء / (١٢٩).

(٦) طه / (١٢٠).

١٨٠