من هدى القرآن - ج ١١

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١١

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-14-9
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٤٩

الخنجر في أوله وأقربة السيوف قبل ان يتشقق عن شماريخ البسر والرطب ، وربما سمي طلعا لطلوعه بما يشبه طلوع الهلال ، أو لأنه أول ما يطلع من الثمر.

[٦٦] ولان أصحاب النار يشعرون بضراوة الجوع ولا يجدون ما يأكلون ، فإنهم يأكلون طلع الزقوم وثمرها.

(فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ)

كما ملأوا بطونهم بالحرام في الدنيا.

[٦٧] وبعد الاكل من الزقوم يحسون بأشد العطش ، فيطلبون الماء فيشربون السوائل الحارة ليطفؤوا حرارة النيران التي أكلوها ، وإذا بها تزيدهم عذابا الى عذابهم.

(ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ)

وفي الرواية :

فيستسقون فيسقون شربة من الماء الحار الذي بلغ نهايته في الحرارة فاذا قربوها من وجوههم شوت وجوههم ، فذلك قوله : «يَشْوِي الْوُجُوهَ» فاذا وصل الى بطونهم صهر ما في بطونهم(١٣)

[٦٨] إنّهم يتصورون الماء الذي يطلبونه سوف يخرجهم من هذا العذاب والاحتراق ولكنه ينتهي بهم الى ذات العذاب.

(ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ)

__________________

(١٣) نور الثقلين / ج (٤) / ص (٤٠٤).

٢٤١

ولعل هذه الحالة من النهم الى الزقوم والحميم في النار تجسيد لنهمهم في الدنيا بأكل اموال الحرام ، ومداومة الشراب الحرام ، أعوذ بالله منهما.

[٦٩ ـ ٧٠] وفي النهاية يصرّح السياق بالضغط التاريخي ، الذي يتسبب في إضلال الكثير من الناس.

(إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ)

وكان يفترض فيهم ان لا يتبعوهم بل يبحثوا عن الحق ، وتوجّهنا الآية الى ضرورة المسيرة الواعية في حياة الإنسان ، حيث ينبغي له ان ينظر ويفكر فيها ، فيلتزم الحق عن وعي لا عن وراثة وعادة ، ثم ما يدري الفرد أو المجتمع ان مسيرته خاطئة والله يقول : «فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ» ، اي غذائه الجسمي والروحي ليتأكد من سلامته ، ولكن هؤلاء لم يتعبوا أنفسهم في البحث عن الحق ، انما اتبعوا الاباء وتأثروا بهم.

(فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ)

ولم يقل القرآن يهرعون (بالفتح) ، لان حركة الإنسان باتجاه التقليد ليست حركة ارادية بصورة كاملة ، انما هي مجموع دوافع ذاتية ، وضغوط خارجية من الآخرين ، والآية تبين الضغط الذي يمارسه الاباء على أبنائهم لكي يتبعوهم.

فعلى الإنسان اذن ان يقطع السبب المباشر ، فهو إذا لم يتأثر بذروة الضغط التاريخي المتمثلة في الاباء فلن يتأثر بالجيل السابق ، وإذا لم يتأثر بذروة الضغط الاجتماعي المتمثل في الإقران فلن يتأثر بالمجتمع المعاصر ، والترفع عن هذه الضغوط ، هو الذي يسمو بالإنسان الى الخلوص التوحيدي.

٢٤٢

وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (٧١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (٧٢) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (٧٤) وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (٧٥) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (٧٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (٧٨) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (٧٩) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (٨١) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٨٢) وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (٨٣) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٤) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ (٨٥) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ (٨٦) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٨٧) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (٨٨) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (٨٩) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (٩٠) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٩١) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (٩٢) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (٩٣) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (٩٤) قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ

___________________

(٩٤) [يزفون] : يسرعون في المشيء ، فإنّ زفّ بمعنى الإسراع في المشيء لنيل مطلوب أو الانتقام من عدوّ وما أشبه.

٢٤٣

(٩٥) وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (٩٦) قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (٩٧) فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (٩٨) وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (٩٩) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠٠) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (١٠١) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (١٠٢) فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٠٥)

٢٤٤

إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ

هدى من الآيات :

حينما يبيّن لنا القرآن حقيقة أو حكما ، لا يلبث ان يضرب لذلك امثلة عديدة ليس للإيضاح وحسب ، انما لبيان الابعاد والحدود أيضا ، ذلك لان النفس البشرية قادرة على تحوير الألفاظ وتفريغها عن معانيها الحقيقية ، وتحويلها الى ألفاظ قشرية غير مؤثرة ، بل وقد تعطي معاني غريبة عن المعنى الحقيقي.

فلكي لا يأتي بعض المفسرين القشريين ، أو بعض من تسوّل لهم أنفسهم تبرير الأفعال والانحرافات للناس ، ويفسروا القرآن على أهوائهم وآرائهم ، لم يترك ربّنا كلمة في القرآن الحكيم الا وأوضحها بالامثلة التاريخية التي لا يمكن نكرانها ، أو تبديلها وتأويلها الى غير مضامينها.

وإذ ذكّرنا الله في الدروس الماضية بعبادة المخلصين ، الذين يدخلون الجنة بغير حساب ، كنا بحاجة إلى الامثلة التاريخية التي من شأنها احاطتنا بصفاتهم وخطهم

٢٤٥

والطريق الى هذه القمة السامقة ، فربما زعمنا اننا من المخلصين ، أو منينا أنفسنا بذلك ، ولكنّ القرآن يقطع طريق التمني ، حينما يضرب لنا أمثلة من حياة أنبياء عظام كنوح وإبراهيم وإسحاق ويعقوب ـ عليهم السلام ـ ، ويبين لنا مواقفهم الربانيّة في تحدي الجبت والطاغوت ، ليقول لنا : بان من لا يتحدى الجبت الداخلي ، فيصرع هوى نفسه ، لا يستطيع ان يتحدى الطواغيت ويصرعهم.

ولأن هذه السورة تعالج في جانب منها مرض الاستكبار ، الذي يتعالى المبتلى به على الحق كذبا وزورا ، وتوضح كيف انه سينتهي بالإنسان الى جهنم انها توضح ـ في مقابل الاستكبار ـ صفة الإحسان ، فبينما تعني الاولى المبالغة في حب الذات والتمحور حولها ، تعني الاخرى التنازل عنها وعما يملك الإنسان من الطاقات والقدرات في سبيل الحق والناس. ان الإحسان هو خروج الفرد عن ذاته ، ودخوله في رحاب المجتمع ، وكما يدخل الاستكبار الإنسان النار ، ويجعله لعنة الأجيال ، فان الإحسان يدخل صاحبه الجنة ، ويخلّد ذكره الحسن ومديحه على ألسن الناس في كل أفق وزمان.

والقرآن في هذا الدرس ، يؤكد بان المحسن ليس يجازى من قبل الله ، في الدنيا والآخرة وحسب ، وانما يمشي ثناؤه كالطيب بين الناس ، وقد أكد ربّنا هذه الحقيقة في أكثر من آيتين بالنسبة لنبيه إبراهيم (ع) ، مما يدل على اهمية دور الإحسان في رسالة الأنبياء ونبوتهم (ع).

بينات من الآيات :

[٧١] بعد ان يبين القرآن في الآيتين الأخيرتين من الدرس السابق دور الضغط من قبل الآباء في حياة الأجيال ، يبين لنا هنا ان هذه مشكلة البشر منذ القديم.

٢٤٦

(وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ)

بذات العامل ، وهو الاتباع الخاطئ للآباء.

[٧٢] ولكنّ الله بعث لهم الأنبياء والمرسلين ، يحذرهم من عاقبة الضلال بالإنذار ، لعلهم يهتدون للحق.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ)

[٧٣] لكنهم كذّبوا النذر ، وحاربوا الأنبياء ، فدمرهم الله ، وأبقى آثارهم وأخبارهم ليكونوا عبرة لمن بعدهم.

(فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ)

وهذه مسئولية الإنسان في قبال التاريخ ، ان يستفيد منه لحياته ومستقبله ، وحين يدعو الله نبيه للنظر فيه ، فلأنّ وعي التاريخ يعطي الرساليين ثقة بأنفسهم وخطّهم ، وبصيرة في التحرك.

وبالتدبر في هذه الآيات والآية التي تليها يمكننا القول بان القرآن يختصر الدورات الحضارية في هذا المقطع.

[٧٤] إنّ الله ليس يهب الجنة للمخلصين وحسب ، بل وينصرهم في الدنيا وينجّيهم من الهلكات.

(إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ)

ونستوحي من الآية : أنّ الذين ينجّون من أنواع العذاب الالهي والنقمات ، هم المخلصون وحسب ، حتى جاء في الأحاديث ان الصواعق لا تصيب المؤمنين

٢٤٧

الذاكرين ، ومعنى ذلك اننا لو قسمنا الناس الى ثلاثة : الكفار ، والمخلصين ، وآخرين بينهم ، فان المخلصين وحدهم الناجون ، اما الكفار فيخلدون في النار ، والذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا يعذّبون كل حسب عمله.

[٧٥] وكمثال على نجاة المخلصين يذكّرنا الله بنبيّه نوح (ع) ، والذين آمنوا معه ، فقد دعا نوح ربّه على قومه فأرسل عليهم الطوفان ، فما نجى منه غير نوح ومن آمن معه وركب السفينة ، ممن أدخلهم القرآن مع أهله في مقابل إخراجه كنعان منهم ، ليهدينا الى أنّ النسب الحقيقي بين الإنسان والآخرين هو تجانس القيم والعمل في الحياة بينه وبينهم ، اما الاعتبارات الاخرى فهي غير سليمة. قال ابو عبد الله (ع) : ان الله قال لنوح : «إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ» لأنه كان مخالفا له وجعل من اتبعه من أهله (١) ويبدأ القرآن بذكر نوح (ع) لأنه كما يسميه المؤرخون الأب الثاني للبشرية بعد آدم (ع).

(وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ)

ولكن ماذا أراد نوح (ع) من ربه عز وجل حين ناداه؟

قال بعض المفسرين إنّه أراد هلاك قومه حينما عصوه ، واستدلوا بقوله تعالى عن لسانه (ع) : «رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً» (٢). وقال آخرون إنّه أراد من الله ان ينقذه من الكفار بعد سنين من الدعوة والأذى الذي يلحقه بسببها. وربما تفسر الآية بانّه عليه السلام أراد من ربه الهداية وتشريفه بالرسالة لانقاذ الناس ، فربما كان الأنبياء (ع) يعرفون بأنهم سوف يبعثون ، ولكن لا يتنافى ذلك مع

__________________

(١) بح / ج (١١) ص (٣٠٥).

(٢) نوح / (٢٦).

٢٤٨

عدم معرفتهم متى سيكون بعثهم ، ولهذا نجدهم في البدء يتعجبون أو يخافون ، فلم يكن النداء الذي انبعث من جانب الطور الأيمن أمرا عاديا بالنسبة لموسى (ع) ، وكذلك نبينا الأكرم (ص) ، حينما نزل عليه جبرائيل بالرسالة لاول مرة ، ذهب الى البيت وتدثر.

وحينما يدعو الأنبياء ربهم بالهداية والبعثة ، يستجيب لهم وقد هيّأو أنفسهم لتحمل مسئوليات هذا العمل العظيم ، والله سبحانه اعطى نوحا عليه السلام أكثر مما كان يتوقعه وربما هذا معنى قوله «فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ».

[٧٦] وبعد ان استجاب الله لنوح بالرسالة وأيده على قومه المنكرين بالطوفان الذي علا الأرض حتى غمر الجبال العالية ، أنجى نوحا والذين آمنوا معه.

(وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ)

[٧٧] وربما أسمى الله الغرق بالكرب العظيم ، لأنه من أفظع صور الموت للإنسان فكيف وهو مقدمة لعذاب النار الخالد؟ ، وتركيز القرآن على أهل نوح (ع) عند التعرض لقصصه ، لان الله حفظ بهم النوع البشري عن الانقراض ، وأهم من ذلك جعل فيهم النبوة ، والكتاب وهما الحبل الممتد بين الناس وربهم.

(وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ)

قال الامام الباقر (ع) في تفسيرها :

«الحق والنبوة والكتاب والايمان في عقبه ، وليس كل من في الأرض من بني آدم من ولد نوح ، قال الله في كتابه : (احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ)» وقال أيضا :

٢٤٩

«ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ» (١) (٢). ومضى نوح وبقي ذكره الطيب تتوالى الأجيال بالسلام عليه»

[٧٨ ـ ٧٩] (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ* سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ)

وكان من الممكن ان تجعل صيغة الكلمة : وتركنا عليه سلاما. الا ان الصيغة طوّرت لتكون كلمة السلام تامة حتى يجري على لسان كل قارئ للقرآن سلام خاص لنوح عليه السلام.

[٨٠] لقد استجاب الربّ لنوح لأنه كان محسنا.

(إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)

وهذا الجزاء سنة إلهية ذلك ان من يحسن للناس يذكره الناس بالمدح والخير ، فكيف وقد أخذ الله على نفسه ان يجزي المحسنين بذلك؟

والملاحظ ان الله وبعد ذكر هباته لنوح (ع) الذي جعله مثلا للعبد المخلص وهي ، استجابة دعائه ، ونجاته واهله والمؤمنين معه ، وجعل البشرية من ولده والنبوة فيهم ، واخلاده بالذكر الحسن على ألسن الناس ، ذكّرنا بصفة الإحسان فيه ، وذلك ليطلعنا على التفسير الحقيقي للإخلاص بأنه المنطلقات التوحيدية الخالصة ، التي تتحول الى سعي وعمل يتجاوز القيام بالواجب الى الزيادة والإحسان.

[٨١] والايمان بالله هو أعظم دافع للإنسان نحو الإحسان ، وهكذا نعت ربنا نوحا (ع) بعد الإحسان بالايمان لأنّه أصل كل خير وفضيلة فقال :

__________________

(١) الإسراء / (١٧).

(٢) بح / ج (١١) / ص (٣١٠).

٢٥٠

(إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ)

والمؤمن لا يتخوف من البذل والإنفاق للآخرين في سبيل ربه ، لأنه يعلم بان كل ما ينفقه سوف يعود عليه أضعافا مضاعفة ويزداد إحسانا كلما تعمق ايمانه بان مستقبله في الدنيا والآخرة رهين عمله وتضحياته.

ان السبيل الى الإحسان ، الذي هو الطريق الى المكاسب الجسيمة ، كالتي ظفر بها نوح (ع) ، هو الايمان بالله عز وجل وبجزائه الأوفى.

[٨٢] ثم ان المنجي الحقيقي لنوح ومن آمن معه لم تكن السفينة التي صنعوها ، فلو ان الكافرين ركبوا سفنا أكبر وأفضل منها ، لم تكن لتنقذهم من الغرق في موج كالجبال ، وماء منهمر كالانهر من السماء ، انما نجوا بايمانهم الذي تميزوا به عن غيرهم ، وانما أمر الرب نبيه والمؤمنين بصنع الفلك ، اثباتا لمسؤولية الإنسان في الحياة وتأكيدا لها ، والا فانّه قادر على إنقاذهم بكلمة من عنده.

(ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ)

وهم الكفار.

[٨٣] ثم يأتي لنا القرآن بمثل من الآخرين ، الذين ترك فيهم سلاما على نبيه نوح (ع) ، وهم الذين جسدوا امتدادا لرسالته في البشرية عبر التاريخ ، من الأنبياء والرسل ، والصالحين.

(وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ)

والشيعة هم الذين يتبعون شخصا أو خطاما ، فيقال لهم شيعة فلان.

٢٥١

وقال المفسرون : ان الضمير في شيعته يعود الى نوح (ع) ، فيكون المعنى ان ممن سار على دربه كان إبراهيم (ع).

وقال آخرون : إنّه يعود الى النبي محمد ـ صلّى الله عليه وآله ـ والواقع ان التشيع للحق ومتابعة رسل الله واحد ، فسواء نسب الى نوح (ع) أو الى محمد (ص) أو الى أوصيائه الطاهرين فانه نهج واحد وصراط مستقيم.

[٨٤] والقرآن يبيّن المعنى الحقيقي للتشيع ، الذي هو رفض الجبت الداخلي بالتوحيد الخالص ، ورفض الطاغوت الخارجي بمقاومة الانحراف الاجتماعي والسياسي والثقافي و... و... في الواقع القائم والذي هو صورة ظاهرية للجبت الداخلي ، ثم التسليم لله والتضحية والاستقامة في سبيله.

بلى. إنّ إبراهيم (ع) من شيعة نوح (ع) ، ولكن كيف وصل الى هذا المقام الرفيع؟

يجيبنا القرآن على ذلك ب :

(إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)

وهو الذي سلم من كل الأمراض ، كالحسد والحقد والجبن والخوف ، والتي يسميها القرآن بالاغلال ، إذ يحدثنا عن اهداف بعثه رسول محمد (ص) فيقول : «وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ» (١) وهذه الأمراض والأغلال انما تتفرع من شجرة الشرك بالله ، وانما سماها القرآن بالاغلال والأصر تارة وبالمرض تارة أخرى ، لان الأغلال والأصر كما المرض كلها تقعد الإنسان وتكبل عقله وطاقاته الخيرة.

__________________

(١) الأعراف / (١٥٧).

٢٥٢

قال علي بن إبراهيم «إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ» :

«القلب السليم من الشك» (١)

وقال :

«القلب السليم الذي يلقى الله وليس فيه أحد سواه» (٢)

وهذا التفسير يتناسب مع سياق الآيات الذي يحدثنا عن العباد المخلصين.

[٨٥] ولن يصبح القلب ابراهيميا خالصا من الشرك ، الا إذا تعالى على العوامل الأساسية التي تؤثر سلبيا عليه ، بل وقاومه ، إذ لا بد للإخلاص من حقيقة خارجية ، وهي محاربة الشرك ، وهكذا كان إبراهيم (ع) ، حيث حارب الانحراف الاجتماعي المتمثل في الخط الشركي لأبيه وقومه ، والانحراف السياسي الذي جسده الطاغية نمرود.

(إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ)

ولم يكن سؤاله استفساريا ، انما كان يستنكر الانحراف الاجتماعي القائم ، وهذا ما يجب على الإنسان تجاه أبيه ومجتمعة ، فليس من السليم ان يستقبل منهما كل شيء ، ويفقد استقلاله امامهما ، انما يتقبل الجيد ويعترض على ما هو سلبي بالاسلوب المناسب.

والنبي إبراهيم (ع) مثل للثائر الرافض للخطأ الاجتماعي ، ولخطأ الآباء ، والله

__________________

(١) نور الثقلين / ج (٤) ص (٤٠٦).

(٢) المصدر.

٢٥٣

يأتي به حجة على الذين أشركوا بهما فحكى عنهم القرآن : (إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ* فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ) (١) ، فإبراهيم (ع) ـ على خلاف هؤلاء ـ تحمل مسئوليته ، واعمل عقله ولم يقدس الأشخاص ولا التراث على حساب القيم.

[٨٦] واهتدى (ع) الى زيف الشركاء ، وضلال الثقافة التي انتهت بالمجتمع الى هذه النهاية الموغلة في الانحراف.

(أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ)

والافك هو الكذب المبالغ فيه.

قال المفسرون انما قدم كلمة «أإفكا» وهي مفعول مطلق ، للعناية الخاصة بها ولبيان ان كل تبريراتهم لعبادة الآلهة خاطئة فليسوا هم الّا كاذبين.

وهذا يمثل قمة التحدي ، من إبراهيم عليه السلام لذلك الضلال المنتشر بين قومه.

[٨٧] ثم سأل قومه بعد بيان خطأ الشرك ، وهو يبيّن لهم الإله الحق :

(فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ)

وهكذا تكون حركة الرساليين قائمة على هدم الفكر والواقع الباطل ، وبناء الفكر والواقع الحق بدلهما.

ويبدو ان إبراهيم (ع) وجههم ـ بهذه الكلمة ـ الى المنهج السليم للتخلص من ضغوط الشرك ، والتوجه الى الله. فمن تصور آيات الله وتذكر أسماءه وصفاته.

__________________

(١) الصافات / (٦٩ ـ ٧٠).

٢٥٤

علم بأنه لا يرضى لعباده الكفر والشرك ، وأنّه يعاقب عليه أشد العقاب ، وانه ينتصر للذين يقاومون المشركين.

وكذلك نظن ان كلمات المفسرين هنا في أبعاد الظن قد تكون جميعا من أبعاد الآية بالرغم من ان كل واحد منهم ذهب الى بعد منها وظنه المراد الوحيد منها.

[٨٨ ـ ٨٩] ولان نبي الله إبراهيم (ع) جوبه بالرّد ، والأذى خطط لعمل واقعي يبلّغ من خلاله الرسالة بشكل أعمق أثرا ، وما دام يعرف بان الأصنام باطل فما يضره ان يبادر هو بنفسه لتحطيمها ، ولو لم يكن المجتمع قد اقتنع بذلك.

(فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ* فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ)

وكان قد اختار يوم عيدهم فرصة سانحة للقيام بمهمته ، وخادعهم إذ أظهر لهم معرفته بالنجوم وذلك اتباعا لمنهج التقاة والعمل السري وتغطية على ما سيقوم به في المستقبل ، وقد استفاد (ع) في ثورته من العادة الاجتماعية القاضية بالاعتقاد بالنجوم ، حيث كان قومه يتشاءمون أو يتفاءلون من خلال نظرهم إليها. وقد نهى الإسلام عن الاعتقاد بما يقوله المنجمون الا ما كان يستند على دليل منطقي. وغاية معقولة. قال الامام علي (ع) :

«ايها الناس إياكم وتعلم النجوم الا ما يهتدى به في برّ أو بحر ، فانّها تدعو الى الكهانة ، والمنجم كالكاهن ، والكاهن كالساحر ، والساحر كالكافر ، والكافر الى النار» (١)

ويبدو ان علم النجوم بذاته غير محرم الا ان جعل خرافات المنجمين في مقام رسالات الله والعمل بالنجوم من دونها هو المحرم ، فقد جاء في الحديث عن عبد

__________________

(١) نور الثقلين / ج (٤) / ص (٤٠٨).

٢٥٥

الملك بن أعين قال : قلت لابي عبد الله : اني قد ابتليت بهذا العلم ، فأريد الحاجة فاذا نظرت الى الطالع ورأيت طالع الشر جلست ولم اذهب فيها ، وإذا رأيت طالع الخير ذهبت في الحاجة؟

فقال لي : تقضي؟

قلت : نعم ، قال : أحرق كتبك (٢)

وجاء حديث آخر مأثور عنه عليه السلام انه قال : بعد ان سئل عن النجوم :

«هو علم قلت منافعه ، وكثرت مضاره ، لأنه لا يدفع به المقدور ، ولا يتقى به المحذور ، ان خبر المنجم بالبلاء لم ينجه التحرز من القضاء» (٣)

وقال الامام الصادق (ع) :

«ما كان إبراهيم سقيما وما كذب ، انما عنى سقيما في دينه مرتادا» (٤)

وحينما نقرأ الأحاديث الواردة في تفسير هذه الآية الكريمة ، نجدها تؤكد على رفع الشبهة القائلة بأن التقية حرام لأنها تضطر العاملين للكذب ، بل انها من دين الله ويستدل الأئمة على ذلك بالقرآن الحكيم.

يقول أبو بصير : قال الامام ابو عبد الله (ع) : التقية من دين الله ، فقلت له : من دين الله؟ قال : اي والله من دين الله ، ولقد قال يوسف : «أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ» والله ما كانوا سرقوا شيئا ، ولقد قال إبراهيم : «إِنِّي سَقِيمٌ» والله ما

__________________

(٢) المصدر / ص (٤٠٧).

(٣) المصدر

(٤) المصدر / ص (٤٠٦).

٢٥٦

كان سقيما (١)

ولعل نظر إبراهيم (ع) الى النجوم في ذلك المجتمع الزراعي الذي اعتقد بانّها ذات تأثير حاسم في حياته كان للايحاء إليهم بأنّه يؤمن بها كما يؤمنون ، فيبعد عن نفسه شبهة الكيد بأصنامهم فلا يأخذوه الى عيدهم عنوة ويفشلوا خطته.

وربما قال سقيم تورية إذ انه من دون تحطيم الأصنام كان سقيما ، أو ليست الأصنام كانت تعبد من دون الله جهارا ، فكيف لا يكون مريض القلب مهموم الفؤاد ، دائم الكابة وهو لما يقض على الأصنام.

ولعل هذا هو مراد الامام الصادق عليه السلام انه كان سقيما في دينه ، إذ لا ريب ان إبراهيم (ع) كان مخلصا طاهرا حنيفا وهو الذي قال عنه الرب : «إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ».

[٩٠] وبالفعل نجح نبي الله في مهمته ، حيث اطمئن القوم الى كلامه وذهبوا جميعا الى عيدهم.

(فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ)

وفي هذا التعبير افصاح عن مدى الاطمئنان من قبل القوم ، حيث وصفهم القرآن بالادبار ، ولو لم يكونوا كذلك لكانوا يلتفتون الى ورائهم فلا يصح وصفهم به. والحركة الناجحة هي التي يتمكن افرادها من التغطية على تحركهم بحيث يسلبون النباهة والحذر من العدو ليفاجئوه بالضربة القاضية ، وفي نفس الوقت لا

__________________

(١) المصدر

٢٥٧

يتركون أثرا يدل على خطتهم.

[٩١ ـ ٩٢] وقد عمد إبراهيم (ع) بعد ان اختار الوقت المناسب ، والأسلوب الناجح ، لتوجيه ضربته للواقع الفاسد ، فتسلل الى موطن الأصنام سرا وهدمها.

(فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ* ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ)

ان الذي لا تتوفر فيه ارادة الاكل والنطق كيف يكون بمستوى الربوبية التي تستدعي القدرة على الخلق؟!

وفي مطلع الآية نجد كلمة «راغ» التي عبر بها الله عن وثوب إبراهيم (ع) على الأصنام ، وهي من البلاغة بمكان رفيع ، إذ تفيد معنيين ، هما المكر والشدة ، وهكذا كان إبراهيم (ع). وراغ مستأسدا في الله يحطم رموز الباطل ، ومما يتضح من نصوص التاريخ ان آزر ـ أبو إبراهيم بالتربية ـ كان سادنا للأصنام وبيده مفاتيح بيتها ، فلما ذهب مع القوم للعيد سلم المفاتيح بيد إبراهيم فكانت كل الظروف مواتية لتنفيذ خطته ، ومن نافلة القول انه يتبين من تاريخ البابليين بان القوى الحاكمة للجماهير في زمنهم هما طائفتان ، طائفة السدنة والكهنة التي تمثل القوة الدينية ، وطائفة السلاطين التي تمثل القوة السياسية ، وكانتا تتعاونان على استغلال الناس واستعبادهم ، ولعل الأصنام كانت لديهم مجرد وسيلة للسيطرة على المحرومين.

[٩٣] (فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ)

وقد أراد إبراهيم (ع) من تحطيمهم ان يوجه ضربة للقوتين ، وللثقافة المتخلفة التي تحكم المجتمع وتسهّل لهما السيطرة عليه ، ولعل التعبير باليمين للدلالة على شدة الضرب بلا تردد أو خشية.

٢٥٨

[٩٤] وهذا بلا شك يعتبر تحديا عنيفا للجميع ، جعل إبراهيم (ع) يقف امة لوحده بما يختص به من اعتقاد وثقافة وسلوك ، في مقابل مئات الآلاف من الناس ، ولا غرابة فان رسالة الله والتوكل عليه تحملان الفرد الواحد على التحدي ولو لأمة بأجمعها دون ان يضعف أو يستوحش ، لان ارادة المؤمن أقوى من الجبل ، لان الجبل تحطمه الفؤوس بينما لا تنال من ارادة المؤمن شيئا. وما دام المؤمن على الحق يجب ان لا يخشى الباطل ولو اتبعه الناس جميعا.

(فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ)

لأنه الوحيد الذي بقي في المدينة ، ولان بيده كانت مفاتيح بيت الأصنام.

والزف تعبير عن مشية معينة ، تشبه بداية مشية النعامة ، ولعلها توحي بضرب الأرجل على الأرض ، مع سرعة واهتمام.

[٩٥ ـ ٩٦] ولكنه بقي رابط الجأش ، وعازما على المواجهة.

(قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ* وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ)

والخالق هو المعبود الحقيقي الذي يجب على الإنسان التسليم والانقياد له.

في البدء أخلص إبراهيم (ع) نفسه فأخلصه الله من تأثير الأجيال السابقة المتمثلة في عمه آزر ، ثم أخلصه من الخوف والتسليم للطاغوت بل للمجتمع ، فهو (ع) بدأ من الصفر حيث لا ناصر له الا ربّه ، فضرب مثلا على الإخلاص ، بانطلاقه في حركته من الايمان بالله ، والعمل بوحيه ، بعيدا عن أيّة دافع آخر.

[٩٧] ولان إبراهيم (ع) تحدى الانحراف بهذا المستوى ، والأسلوب الخطير ، عزموا على قتله بأبشع صورة ممكنة في نظرهم ، لكي لا يفكر الآخرون في السير على

٢٥٩

نهجه ، وهذا هو ديدن الطغاة الى اليوم.

(قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ)

وكان نمرود وسائر القوى التي تهددها حركة إبراهيم (ع) قد اتفقوا على إشعال نار عظيمة ثم يلقونه فيها بالمنجنيق ، علما بان نارا أقل من التي اشعلوها بكثير ، كانت كافية لتحويله ـ في الظروف العادية ـ الى رماد ، ولكنهم أرادوا ان يورطوا جميع الناس في مواجهة النبي (ع) بجمعهم الحطب لها.

ونحن نجد حالة التعبئة العامة التي يعلنها الطغاة عند ما تواجه سلطاتهم أخطارا حقيقية ، ويعملون المستحيل لاشراك الناس فيها بغية أمرين :

أولا : الهاء الناس عن حقيقة ما يجري.

ثانيا : توريط الناس في الجريمة حتى لا يميلوا ناحية المصلحين.

ففرعون دعا الناس الى الاجتماع في يوم الزينة ليشهدوا غلبة السحرة في ظنه ، وأصحاب الأخدود جلسوا على حافتيه يشهدون ما يفعلون بالمؤمنين.

[٩٨] ولكنّ يد الله فوق أيديهم ، وإرادته غالبة ينصر بها عباده المؤمنين ، فقد أحبط الله عملهم ، وافشل مخططاتهم.

(فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ)

لقد كانوا يهدفون من وراء القضاء على إبراهيم ان تتم لهم السلطة والسيطرة ، بإثبات قوتهم القمعية وصحة افكارهم ، ولكنّ الله أوصلهم الى نقيض تطلعاتهم. وكلما كان كيد الكفّار والطغاة أشد ، كلما كانوا أعمق فشلا وخزيا.

٢٦٠