المؤمنين أن ينفروا إلى الجهاد كافّة وتأمرهم بالانقسام إلى طائفتين : فطائفة منهم تنفر إلى الجهاد ، وطائفة اخرى تبقى عند الرسول للتفقّه في الدين.
والقائلون بهذا الوجه استشهدوا له بصدر الآية وهو قوله تعالى : ( وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً ) فإنّه يدلّ على أنّهم كانوا ينفرون كافّة إلى الجهاد وذلك لكي لا تشملهم الآيات النازلة في المنافقين القاعدين ، فتنهيهم الآية عن هذا النحو من الخروج وتقول : الجهاد مع الجهل واجب كالجهاد مع العدوّ.
وهذا الوجه مخالف لظاهر الآية من بعض الجهات : أوّلاً : أنّه يحتاج إلى تقدير جملة « وتبقى طائفة » وثانياً : لابدّ من رجوع الضمير في قوله « ليتفقّهوا » إلى الطائفة الباقية مع أنّ الظاهر رجوعه إلى الفرقة النافرة المذكورة في الآية ، وثالثاً : من ناحية رجوع الضمير في « ولينذروا » إلى الطائفة الباقية أيضاً مع أنّ ظاهره أيضاً الرجوع إلى النافرة.
الوجه الثاني : أن يكون المراد من النفر النفر إلى الجهاد أيضاً مع عدم التقدير المذكور في الوجه الأوّل ، فيرجع الضميران إلى الطائفة النافرة ، أي التفقّه والإنذار يرجعان إليهم ، والله تعالى حثّهم على التفقه في ميدان الحرب لترجع إلى الفرقة المتخلّفة فتحذّرها.
إن قلت : كيف يمكن التفقّه في ميدان الجهاد.
قلت : يحصل التفقّه هناك بالتبصّر والتيقّن بما يريهم الله من الظهور على المشركين ونصرة الدين وظهور صدق قوله تعالى : ( كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ ) (١) وكذلك قوله تعالى : ( إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ) (٢).
وهذا الوجه أيضاً مخالف للظاهر من وجهين :
الوجه الأوّل أنّه خلاف ظاهر التفقّه في الدين وخلاف قوله : « ليتفقّهوا » بصيغة المضارع ، فإنّه ظاهر في الاستمرار لا في التفقّه في مقطع خاصّ وزمان معيّن ( هو زمان الجهاد ) كما أنّ كلمة الدين أيضاً ظاهرة في جمّ غفير من المسائل والمعارف الدينيّة لا في خصوص صفة من صفات الباري تعالى كقدرته ونصرته.
الوجه الثاني : أنّه يبقى السؤال في الآية بعدُ من أنّه لماذا منع من نفر الجميع للتفقّه في الدين؟
__________________
(١) سورة البقرة : الآية ٢٤٩.
(٢) سورة الأنفال : الآية ٦٥.