أصرح دلالة وأكثر عدداً ، مضافاً إلى ما مرّ من المناقشة في كلّ واحد من روايات الطائفة الاولى دلالة أو سنداً ، ويتلخّص من جميع ما ذكرنا أنّه لا دليل على حرمة التجرّي من العقل والنقل.
في ما ذهب إليه صاحب الفصول من التفصيل ، وإليك نصّ كلامه : « أنّ قبح التجرّي ليس عندنا ذاتياً بل يختلف بالوجوه والاعتبار فمن إشتبه عليه مؤمن ورع عالم بكافر واجب القتل ، فحسب إنّه ذلك الكافر فتجرّى ولم يقدم على قتله فإنّه لا يستحقّ الذمّ على هذا التجرّي عقلاً عند من انكشف له الواقع ، وإن كان معذوراً لو فعل ، وأظهر من ذلك ما لو جزم بوجوب قتل نبي أو وصي نبي فتجرّى ولم يفعل ، ألا ترى أنّ المولى الحكيم إذا أمر عبده بقتل عدوّ له فصادف العبد إبنه وقطع بأنّه ذلك العدو فتجرّى ولم يقتله فاذا اطّلع المولى على حاله لا يذمّه بهذا التجرّي بل يرضى به وإن كان معذوراً لو فعل ... إلى أن قال : ومن هنا يظهر أنّ التجرّي على الحرام في المكروهات الواقعيّة أشدّ منه في مباحاتها ، وهو فيها أشدّ في مندوباتها ، ويختلف باختلافها ضعفاً وشدّة كالمكروهات ويمكن أن يراعى في الواجبات الواقعيّة ما هو الأقوى من جهاتها وجهات التجرّي » (١). ( انتهى ).
أقول : الظاهر من كلامه هذا أنّ حكم التجرّي لديه يختلف بعدد الأحكام الخمسة ، ولعلّ وجهه عنده هو نفس ما ادّعاه المحقّق الخراساني رحمهالله على مذهبه ( وهو حرمة التجرّي مطلقاً ) من حكومة الوجدان ، فكأنّ صاحب الفصول يقول : كما أنّ الوجدان يحكم بقبح التجرّي في بعض الموارد يحكم أيضاً بعدمه في موارد اخرى.
ولكن يجاب عنه
أوّلاً : بأنّه ليس تفصيلاً في المسألة بل هو يساوق حقيقةً القول بحرمة التجرّي مطلقاً لكنّها حرمة اقتضائيّة تتغيّر بطروّ عناوين ثانوية كما هو كذلك في غالب العناوين المحرّمة ، فإنّ الكذب مثلاً حرام باعتبار وجود مفسدة فيه ، وتتغيّر حرمته إذا طرأ عليه مصلحة أقوى.
__________________
(١) الفصول : الفصل الأخير من الاجتهاد والتقليد.