إذا عرفت عدم صحّة الوجوه التي استدلّ بها لعدم وجود الملازمة فنقول : دليلنا على الملازمة وعلى أنّ
الأحكام الشرعيّة تابعة للمصالح والمفاسد أمران :
الأوّل : أنّ العقل يحكم بأنّه قبيح على الحكيم أن يأمر بغير مصلحة وينهى بغير مفسدة.
الثاني : الآيات والرّوايات التي علّلت الأحكام وإشارات إلى مصالحها أو مفاسدها : فمن الآيات قوله تعالى في الصّيام : ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) (١) وقوله في الحجّ : ( لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ ) (٢) وقوله في الزّكاة : ( خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا ) (٣) وقوله في الصّلاة : ( إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ) (٤) وقوله في القصاص : ( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) (٥) وقوله في الجهاد : ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ) (٦).
ومن الرّوايات ما ورد في رواية تحف العقل وحاصله : أنّ كلّ ما هو مأمور به على العباد وقوام لهم في امورهم من وجوه الصلاح الذي لا يقيمهم غيره ممّا يأكلون ويشربون ويلبسون وينكحون ويملكون ويستعملون فهذا كلّه حلال بيعه وشراؤه وهبته وعاريته ، وكلّ أمر يكون فيه الفساد ممّا قد نهى عنه من جهة أكله وشربه ولبسه ... فحرام ، هذا هو المستفاد من مجموع ما ورد في تلك الرّواية الطويلة ، فإنّ هذه الرّواية تنادي بأعلى صوتها بأنّ الحلال تابع للمصلحة والحرام تابع للمفسدة وكذلك غيرها من الرّوايات الكثيرة المذكورة في كتاب علل الشرائع وغيره.
أمّا الاحتمال الثالث ( وهو أن يكون المراد إنكار قدرة العقل على إدراك المصالح والمفاسد ) والاحتمال الرابع ( وهو أن يكون مرادهم عدم إدراك العقل لموانعها ومعارضاتها ) فجوابهما واضح لأنّه لا إشكال في أنّ العقل ولو بنحو الموجبة الجزئيّة يمكن أن يدرك المصالح الملزمة
__________________
(١) سورة البقرة : الآية ١٨٣.
(٢) سورة الحجّ : الآية ٢٨.
(٣) سورة التوبة : الآية ١٠٣.
(٤) سورة العنكبوت : الآية ٤٥.
(٥) سورة البقرة : الآية ١٧٩.
(٦) سورة البقرة : الآية ٢١٦.