حالهم مع مثل ذلك البرق؟ فقيل : (يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ) فهو استئناف ثان. و «كاد» من أفعال المقاربة ، وضعت لدنوّ الخبر من الوجود لعروض سببه ، لكنّه لم يوجد إمّا لفقد شرط أو لعروض مانع. و «عسى» موضوعة لرجائه ، فـ «كاد» خبر محض ، ولهذا جاءت متصرّفة ، بخلاف عسى. وخبرها مشروط فيه أن يكون فعلا مضارعا ، تنبيها على أنّه المقصود بالقرب ، من غير «أن» ، ليؤكّد القرب بالدلالة على الحال. وقد تدخل عليه حملا لها على عسى ، كما تحمل عليها بالحذف من خبرها ، لمشاركتهما في أصل معنى المقاربة. والخطف : الأخذ بسرعة.
وقوله : (كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا) استئناف ثالث ، كأنّه جواب لمن يقول : كيف يصنعون في حالتي خفوق البرق وخفيته؟ فأجيب بذلك. و «أضاء» إمّا متعدّ والمفعول محذوف بمعنى : كلّما نوّر لهم ممشى شرعوه ، أو لازم بمعنى : كلّما لمع لهم مشوا في مطرح نوره. وكذلك أظلم ، فإنّه جاء متعدّيا منقولا من ظلم الليل ، ويشهد له قراءة «أظلم» على البناء للمفعول. وإنّما قال مع الإضاءة : كلّما ، ومع الإظلام : إذا ، لأنهم حراص على المشي ، فكلّما صادفوا منه فرصة اغتنموها ، ولا كذلك التوقّف. ومعنى قاموا : وقفوا وثبتوا ، ومنه : قامت السوق إذا ركدت ، وقام الماء : إذا جمد.
(وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ) أي : ولو شاء أن يذهب بسمعهم بقصيف الرّعد وأبصارهم بوميض البرق لذهب بهما ، فحذف المفعول لدلالة الجواب عليه. ولقد كثر حذفه في «شاء» و «أراد» حتى لا يكاد يذكر إلّا في الشيء المستغرب ، كقوله :
فلو شئت أن ابكي دما لبكيته
وكقوله تعالى : (لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا) (١).
__________________
(١) الأنبياء : ١٧.