ثمّ بيّن الله سبحانه أنّ عدولهم عن الإيمان إنّما هو لإيثارهم الحياة الدنيا ، فقال : (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا) حسنت في أعينهم ، وأشربت محبّتها في قلوبهم ، حتى تهالكوا عليها وأعرضوا عن غيرها. والمزيّن هو الشيطان ، حسّنها في أعينهم بوساوسه ، فلا يريدون غيرها. ويجوز أن يجعل ما خلق الله فيها من الأشياء المشتهاة وما ركّبه فيهم من الشهوة لها تزيينا ، لأنّ التكليف لا يتمّ إلا مع الشهوة.
(وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) يريد فقراء المؤمنين ، كبلال وعمّار وصهيب ، أي : يسترذلونهم ويستهزءون بهم على رفضهم الدنيا ، وإقبالهم على العقبى. و «من» للابتداء ، كأنّهم جعلوا مبدأ السخريّة.
(وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) لأنّهم في علّيين ، وهم في أسفل السافلين في سجّين. أو حالهم عالية رفيعة ، لأنّهم في كرامة وهم في هوان ومذلّة. أو لأنّهم يتطاولون عليهم ، فيسخرون منهم كما سخروا منهم في الدنيا. وإنّما قال : (وَالَّذِينَ اتَّقَوْا) بعد قوله : (مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) ليدلّ على أنّهم متّقون ، وأنّ استعلاءهم للتقوى ، ليكون حثّا وبعثا للمؤمنين على التقوى إذا سمعوا ذلك.
(وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ) في الدارين (بِغَيْرِ حِسابٍ) بغير تقدير ، فيوسّع في الدنيا استدراجا تارة وابتلاء أخرى ، أو يعطي أهل الجنّة ما لا يأتي عليه الحساب.
(كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢١٣))