بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٨

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٨

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-351-4
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٨٢٠

أمّا الكلام في المقام الأوّل فحاصله :

أنّ قضيّة صريح « الكتاب » بعد ذلك استظهار تقديمه على المرجّح من حيث الجهة ؛ نظرا إلى تأخّر عنوان صدور الخبر عن صدوره مرتبة. فإذا حكم بعدم صدور المرجوح صدورا وبنى عليه بمقتضى دليل التّرجيح من حيث الصّدور ، فليس هناك خبر صادر عن الحجّة حتّى يحكم بأنّ صدوره لبيان الحكم الواقعي من جهة الأمارة القائمة عليه في قبال الآخر المرجوح من حيث جهة الصّدور.

ومرجع هذا كما ترى ، إلى تحكيم التّرجيح الصّدوري على التّرجيح الجهتي. وإليه يرجع ما أفاده في « الكتاب » بعد ذلك في تقريبه بقوله : ( لأنّ هذا التّرجيح ملحوظ في الخبرين بعد فرض صدورهما قطعا ... إلى آخره ) (١) هذا. مضافا إلى دلالة المقبولة على ذلك فتأمّل (٢).

لا يقال : مقتضى دليل التّعبد بصدور الخبرين مهما أمكن هو الحكم بصدورهما وإن أوجب حمل أحدهما على التّقيّة والتّصرّف في جهة صدوره لمكان المرجّح ، كما يلتزم بذلك في تعارض الظّاهر والأظهر سيّما على القول بلزوم التّورية على الإمام عليه‌السلام في مقام التّقيّة وإرادة خلاف الظّاهر وإن لم نقل بلزومها على غيره وجواز الكذب له كما سيصرّح به في « الكتاب ».

لأنّا نقول : معنى التّعبّد بالصّدور هو العمل بالخبر وترتيب الآثار عليه ، وهذا

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٤ / ١٣٧.

(٢) وجه التأمّل : أن الإستدلال بالمقبولة على المدّعى إنّما يستقيم على تقدير الإقتصار على المرجّحات المنصوصة والأخذ بالترتيب الملحوظ فيها وإلاّ فلا معنى له جدّا. منه دام ظلّه العالي.

٣٠١

المعنى لا يمكن تحقّقه مع حمل الخبر على التّقيّة حتّى على القول بلزوم التّورية على الإمام عليه‌السلام ؛ فإنّ مجرّد الحكم بإرادة خلاف الظّاهر من الخبر مع عدم تبيّن المراد منه لا يجدي في التّصديق ، بمعنى : ترتيب الأثر.

ومن هنا لا يحكم بشمول دليل التّصديق لما يتعيّن حمله على التّقيّة من الأخبار الظّنية الغير المتعارضة.

نعم ، فيما يعلم بصدوره يتعيّن حمله على التّقيّة إذا لم يمكن التّصرف في دلالته من جهة كونه نصّا من غير فرق بين الأخبار المتعارضة أو السّليمة ، لكنّه لا تعلّق له بالمقام ؛ من حيث إنّ الحكم بالصّدور في الفرض من جهة العلم لا من جهة حكم الشّارع حتّى يحمل على ما ذكرنا. وليس معنى التّعبّد بالصّدور ، ترتيب آثار القطع بالصّدور بل وترتيب آثار الواقع هذا. مع أنّ الأثر المذكور من اللّوازم العقليّة للعلم بالصّدور ، فلا يقبل لتنزيل الشّارع كما هو ظاهر.

وممّا ذكرنا يظهر : فساد قياس المقام بالظّاهر والأظهر ؛ حيث إنّه يبنى فيهما على الأخذ بصدورهما وجعل الأظهر قرينة للظّاهر ؛ فإنّ مرجع التّصديق فيهما إلى العمل بكلّ منهما في الجملة ، وهذا بخلاف الخبر الّذي يتعيّن حمله على التّقيّة على تقدير تصديقه ؛ فإنّ الحمل على التّقيّة ينافي دليل التّصديق حقيقة ، فكيف يجعل موجبا له؟

وإلى ما ذكرنا يرجع ما أفاده في الفرق بينهما فيما سيجيء من كلامه بقوله :

( والفرق بين هذا والتّرجيح في الدّلالة المتقدّم على التّرجيح بالسّند ... إلى

٣٠٢

آخره ) (١) وهذا الّذي أفاده قدس‌سره هو الحقّ الّذي لا محيص عنه ، ولازم بعض أفاضل العصر ممّا تقدّم من كلامه في المناقشة في تقديم المرجّح من حيث الدّلالة على المرجّح من حيث جهة الصّدور خلاف ما ذكرنا ، لكنّه بمعزل عن التّحقيق.

وأمّا الكلام في المقام الثّاني : وهو تقديم المرجّح من حيث الصّدور على المرجّح من حيث المضمون ، أو تأخيره عنه. فقد اختار في « الكتاب » تقديم المرجّح من حيث المضمون ؛ من حيث إنّ التّرجيح بحسب الصّدور إنّما هو من حيث كون الرّاجح صدورا أقرب إلى حكم الله الواقعي ، كما هو الشّأن بالنّسبة إلى العمل بالخبر الصّادر يقينا عن الحجّة ؛ فإنّه من حيث كونه طريقا إلى الواقع حقيقة وكاشفا عنه ؛ ضرورة كون وجوب إطاعة ولي الله في أحكامه من حيث كونها إطاعة الله تبارك وتعالى لا من حيث ذاتها.

ومن هنا لا يترتّب ثواب آخر على إطاعته ولا عقاب آخر على معصيته ، فإذا كان الوجه في التّرجيح من حيث الصّدور كون الرّاجح أقرب إلى الواقع نوعا من المرجوح ، فلا يزاحم القرب الشّخصي الحاصل للمرجوح بالنّسبة إلى الواقع من جهة الأمارة الكاشفة عنه ، وإليه يرجع ما أفاده في « الكتاب » في تقريب ذلك بقوله : ( لأنّ رجحان السّند إنّما اعتبر لتحصيل الأقرب إلى الواقع ... إلى آخره ) (٢).

هذا كلّه فيما لم يوجب الأمارة الخارجيّة سقوط المرجوح عن الحجّيّة لو لا المعارض ، وإلاّ خرج الأخذ بالرّاجح عن عنوان التّرجيح كما هو ظاهر. وهذا

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٤ / ١٣٨.

(٢) نفس المصدر : ج ٤ / ١٤٥.

٣٠٣

الّذي ذكر وإن لم يساعده المقبولة بل ظاهرها في باديء النّظر خلافه كما هو ظاهر ، حيث إنّه قدّم فيها التّرجيح الصّدوري على التّرجيح المضموني ، إلاّ أنّك عرفت غير مرّة : عدم إرادة التّرتيب منها بعد استفادة الكلّيّة منها لعدم إمكان الجمع بينهما هذا.

وأمّا الكلام في المقام الثّالث : وهو تقدّم المرجّح من حيث جهة الصّدور على المرجّح المضموني أو تأخّره عنه ، فحاصله :

أنّه لا إشكال في تأخّره عنه بناء على تأخّر المرجّح الصّدوري عنه مع تقدّمه على المرجّح الجهتي حسبما عرفت في المقام الأوّل.

ثمّ إنّه لو وجد لمرجّح عنوانان كالتّرجيح من حيث الصّدور والمضمون كما في الأفقهيّة ، وشهرة الرّواية فيما كشفت عن شهرة العمل ، أو المضمون ، وجهة الصّدور على تقدير إمكان اجتماعهما كمخالفة القوم ، روعي في مقام التّعارض العنوان الأقوى الأعلى ، ووجهه ظاهر لا يحتاج إلى البيان أصلا.

(٢١) قوله قدس‌سره : ( هذه جملة من المرجّحات السّنديّة الّتي توجب القوّة من حيث الصّدور ... إلى آخره ). ( ج ٤ / ١١٦ )

تتميم البحث عن المرجّحات وكيفيّة ترتيبها

أقول : لا يخفى عليك أنّ عمدة الدّاعي على التّعرض لأقسام المرجّحات ـ مع ابتناء التّرجيح على الكلّيّة المستفادة من أخبار العلاج وغيرها المغنية عن التّعرّض للصّغريات ـ : هو تشخيصها وتمييزها حتّى يترتّب عليه ما أسمعناك عن

٣٠٤

قريب : من ثمرة التّقديم والتّأخير بحسب المرتبة ؛ فإنّه كثيرا مّا يشتبه أمر المرجّح من حيث كونه راجعا إلى ترجيح الدّلالة ، أو الصّدور ، أو جهته ، أو المضمون ، وإن ترتّب عليه بعض ثمرات آخر : كالتّنبيه على أصل المرجّح والصّغرى ؛ فإنّه ممّا تمسّ الحاجة إليه.

ومن هنا وقع ذكر جملة منها في الأخبار العلاجيّة مع التّصريح فيها بما يدلّ على إناطة التّرجيح بمطلق الأقربيّة كتعليل التّرجيح بالشّهرة ومخالفة القوم ، لكن عمدة الثّمرة ما عرفت.

وقد عدّ بعض أفاضل مقاربي عصرنا بعض المرجّحات الصّدوريّة : كالفصاحة في عداد مرجّحات الدّلالة (١) على ما حكاه عنه شيخنا العلاّمة في « الكتاب » (٢) مع كونه وهما ظاهرا.

وقد عدّ شيخنا في جملة كلمات له الشّهرة من حيث الرّواية من المرجّحات المضمونيّة مع كونها عند التّحقيق من المرجّحات الصّدوريّة ، إلاّ إذا كشفت عن الشّهرة العمليّة ، فيكون لها جهتان حينئذ ؛ فإنّ تقوية الصّدور لا ينفكّ عنها أصلا ، فيراعى في مقام التّعارض حينئذ الجهة الأعلى ، وهي التّرجيح من حيث المضمون على ما أسمعناك من تقديمه على التّرجيح من حيث الصّدور وجهته.

ثمّ إنّ المناط في المرجّحات السّندية الرّاجعة إلى المرجّح الصّدوري ـ كما هو الشّأن بالنّسبة إلى سائر المرجّحات على ما أسمعناك في مطاوي كلماتنا

__________________

(١) السيّد المجاهد في المفاتيح : ٦٩٩ وفاقا لجماعة كالمحقق القمي في القوانين : ج ٢ / ٢٨٥.

(٢) فرائد الأصول : ج ٤ / ١١٧.

٣٠٥

السّابقة ـ هو اشتمال السّند على ما يوجب قربه إلى الصّدور بالإضافة إلى صاحبه وإن لم يفد الظّن بالصّدور فعلا ، بل ولا نوعا وشأنا ، كما يقتضيه تعليل تقديم المشهور على الشّاذّ على ما عرفت : من كون مقتضاه التّرجيح بقوّة الاحتمال وضعفه ، وقلّة الاحتمال وكثرته.

وإلى ما ذكرنا يشير ما أفاده في « الكتاب » بقوله : ( والغرض من إطالة الكلام هنا أنّ بعضهم تخيّل ... إلى آخره ) (١) فإنّه في كمال الجودة ، وإن أوهم منه كون المدار في التّرجيح على الظّن ولو شأنا ، إلاّ أنّه يعلم بعد التّأمّل فيه كون مراده ما ذكرنا كما صرّح به في غير موضع من كلماته.

نعم ، ما أفاده بقوله : ( ولو فرض شيء منها كان في نفسه موجبا للظّن بكذب الخبر ... إلى آخره ) (٢).

قد يناقش فيه بعدم استقامته على سبيل الموجبة الكلّيّة ، إلاّ بناء على القول بدوران الحجّيّة في الأخبار على الظّن الشّأني المقيّد بعدم الظّن على الخلاف ، أو الظّن الشّخصي بالصّدور حتّى يصحّ ما أفاده على سبيل الموجبة الكلّيّة ، وإن كان الثّاني في كمال الضّعف ، والأوّل ضعيفا على ما عرفت شرح القول فيه منه قدس‌سره ومنّا في الجزء الأوّل من « الكتاب » والتّعليقة وقد وافق فيه بعض أفاضل من تأخّر وإن خالف سيّد مشايخه في « المفاتيح » وهو المراد من البعض في كلامه المتقدّم ذكره.

__________________

(١) المصدر السابق : ج ٤ / ١١٦.

(٢) نفس المصدر : ج ٤ / ١١٧.

٣٠٦

« كلام المحقّق الرشتي قدس‌سره »

وقد وقفت بعد هذا على كلام بعض أفاضل العصر فيما أملاه في المسألة يخالف فيه شيخنا وشيخه لا بأس بنقله والإشارة إلى ما يتوجّه عليه :

قال رحمه‌الله ـ بعد نقل كلام شيخنا العلاّمة المتقدّم ذكره ـ ما هذا لفظه :

« وحاصل ما أفاده هنا وقبل ذلك : أنّ الظّن بالواقع غير القرب منه أو البعد عن الخطأ ومعنى كون الشّيء مرجّحا هو كونه سببا للمعنى الثّاني دون الأوّل وهذا المعنى موجود في هذه المزيّة ».

إلى أن قال : « ويقرب من ذلك ما صرّح به بعض الأفاضل ».

وقال بعد نقل كلام بعض الأفاضل :

« قلت : ويشكل ذلك بعدم الدّليل على الخروج عن أصالة التّخيير ، أو أصالة التّساقط بمجرّد وصف تعبّدا من دون إفادته الظّن لقصور الإجماعات والأخبار عن ذلك ، وأمّا الإجماع فواضح ، لتصريح الكلّ : بأنّ الاعتماد في وجوه التّراجيح إنّما هو لأجل إفادته الظّن فراجع كلماتهم ولاحظ ».

إلى أن قال :

« وأمّا الأخبار فلما عرفت من المباحث الواردة عليها لو دلّت على صرف التعبّد ولم ينزل على ما يقتضيه « قاعدة الجمع » والعمل بأقوى الدّليلين ؛ لأنّها لا تفيد سوى العمل بالظّن في التّرجيح كما سيجيء ذلك في المقام الثّالث ؛ حيث تبيّن

٣٠٧

فيه : أنّ المستفاد منها قاعدة كلّية وأنّ المرجّحات المنصوصة لا خصوصيّة لها ولا ريب في ظهورها في المعنى الأوّل القاضي باعتبار الظّن ، ففي صورة عدم الظّن لا ترجيح ، وإن كان الرّاجح أقرب إلى الواقع وأبعد عن الخطأ عند الدّوران بين كذب أحدهما عملا بالأصل القاضي بالاقتصار على القدر المتيقّن بعد عدم نهوض الأدلّة بالعموم.

إذ من الواضح أنّ الغرض من إعمال المرجّحات هنا هو استكشاف الواقع دون التّعبّد الصّرف المبني على الموضوعيّة كالمرجّحات المرعيّة في أئمّة الجماعة ، أو القاضي ، أو الشّاهد مثل الحرّيّة ، أو الهاشميّة ، وأمثالهما وسيأتي في بعض المرجّحات الخارجيّة كمخالفة العامّة التّصريح بعدم ابتنائه على صرف التّعبّد » (١). انتهى ما أردنا نقله وقد أطال في النّقض والإبرام سؤالا وجوابا بما يطول المقام بذكره من أراده راجع إلى ما أعمله في المسألة.

ويتوجّه عليه : بأنّ الإجماعات المنقولة وإن لم يساعد على التّعميم ، ولم نقل : بأنّ الإجماع على وجوب الأخذ بأقوى الدّليلين يقضي بوجوب الأخذ بكلّ ما يكون أقرب بالنّسبة إلى صاحبه وإن لم يفد الظّن بالواقع في نفسه ، إلاّ أنّ التّعليلات المذكورة في الأخبار العلاجيّة ـ على ما أشبعنا القول فيه ـ يقضي بالتّعميم جدّا. وأين هذا من التّعبّد الصّرف الآبي عنه أخبار العلاج نظير مرجّحات أئمّة الجماعة والقاضي؟ فإنّ اعتبار القرب الإضافي ينافي التّعبّد قطعا. وقد عرفت انطباق التّعليل في تقديم مخالف القوم على الضّابط المذكور ، ولعلّنا نتكلّم فيه بعد ذلك إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) بدائع الأفكار : ٤٣٨.

٣٠٨

(٢٢) قوله قدس‌سره : ( أقول : توضيح المرام في هذا المقام ، أنّ ترجيح أحد الخبرين ... إلى آخره ). ( ج ٤ / ١٢١ )

الترجيح بمخالفة العامّة

أقول : لا يخفى عليك أنّ التّرجيح بمخالفة العامّة مع دلالة أكثر الأخبار العلاجيّة المتقدّمة عليه وإن اختلفت من حيث عنوان التّرجيح بها ، قد اختلفت فيه كلماتهم. فعن غير واحد نفيه ، ولعلّه لما عرفت الإشارة إليه من عدم تماميّة الأخبار عندهم ، أو عدم وقوفهم عليها على أضعف الاحتمالات ، أو عدم إمكان تحصيل هذا المرجّح بحسب العادة بعد ابتنائه على مخالفة الخبر للعامّة في زمان صدوره لا مطلقا إلى غير ذلك ممّا ذكر أو يذكر.

وعن المحقّق في « المعارج » بعد نقل القول بثبوت التّرجيح بها عن الشّيخ قدس‌سره كما في « الكتاب » ردّه : بأنّ مستنده ظاهرا رواية رويت عن الصّادق عليه‌السلام وهو إثبات مسألة علميّة بخبر واحد ، ولا يخفى عليك ما فيه. مع أنّه قد طعن فيه فضلاء من الشّيعة كالمفيد وغيره ... إلى آخر ما حكاه عنه في « الكتاب » (١).

وقوله : ( مع أنّه قد طعن ... إلى آخره ) (٢) راجع إلى جواب آخر. وقوله بعد ذلك : ( وإن احتجّ ... إلى آخره ) (٣) ناظر إلى منع حصول الظّن منها فلا تدخل في الكلّية المسلّمة عنده.

__________________

(١) انظر فرائد الأصول : ج ٤ / ١٢٠.

(٢) نفس المصدر.

(٣) نفس المصدر.

٣٠٩

ومن هنا أورد عليه في « المعالم » بغلبة التقيّة بالنّسبة إلى التّأويل (١) ، وإن منعها غير واحد. والمصرّح به في كلام غير واحد منهم : الشّيخ وصاحب « المعالم » ( قدس الله أسرارهما ) بل الأكثر ثبوته وهو الحقّ كما صرّح به في « الكتاب » لدلالة أكثر الأخبار عليه وإن اختلفت من حيث بيان عنوان التّرجيح بها ، لكنّه لا يقدح في أصل ثبوت التّرجيح في قبال السّلب الكلّي ، مضافا إلى كفاية الكلّيّة المستفادة من الأخبار.

وأمّا ما أفاده في « المعارج » فيتوجّه عليه :

أوّلا : عدم الفرق في حجّيّة خبر الواحد بين المسألة الأصوليّة العمليّة والفرعيّة كما ذكر في « المعالم » وغيره.

نعم ، المسألة العلميّة المجرّدة لا يثبت بخبر الواحد على ما أسمعناك في الجزء الأوّل من التّعليقة.

وثانيا : بأنّ التّرجيح بها ممّا دلّ عليه الأخبار المستفيضة من المقبولة والصّحاح وغيرها وليس المستند فيه مجرّد رواية عبيدة (٢) بن زرارة عن الصّادق عليه‌السلام : ما سمعت منّي يشبه قول النّاس ففيه : التّقيّة (٣). الحديث ، حتّى يتوجّه عليه : طعن فضلاء الشّيعة كالمفيد وغيره ، مع أنّ في أصل دلالة الرّواية إشكالا قد

__________________

(١) معالم الدين وملاذ المجتهدين : ٢٥٥.

(٢) كذا والصحيح : عبيد بن زرارة.

(٣) التهذيب : ج ٨ / ٩٨ باب « الخلع والمبارات » ـ ح ٩ ، والإستبصار : ج ٣ / ٣١٨ باب « الخلع » ـ ح ١٠ ، عنهما الوسائل : ج ٢٢ / ٢٨٥ باب « ان المختلعة لا تبين حتى تتبع بالطلاق » ـ ح ٧.

٣١٠

أشرنا إليه في مطاوي كلماتنا السّابقة ، فلا يتوجّه ما ذكره ثانيا.

وثالثا : بأنّ احتمال التّأويل مشترك فلا يقدح في التّرجيح بها من جهة رعاية التّقيّة وإن لم يحصل الظّن بها ؛ نظرا إلى ما عرفت : من الكلّيّة المستفادة من الأخبار وهي كفاية مطلق القرب الإضافي في التّرجيح كما صرّح به في « الكتاب » وهامش « المعالم » لسلطان العلماء ، فلا يحتاج إلى دعوى غلبة التّقيّة كما صنعه في « المعالم » حتّى يتوجّه عليه : المنع.

مضافا : إلى ما ذكر من اشتراك احتمال التّأويل فلا يصلح للمعارضة ؛ فإنّ غرض المحقّق معارضة احتمال التقيّة في الموافق باحتمال التّأويل في المخالف. فإذا كان الاحتمال المذكور متطرّقا في الموافق أيضا فلا يصلح للمعارضة والتّأويل سواء كان قليلا أو كثيرا يحتمل فيهما فيبقى احتمال التّقيّة سليما فيصلح للتّرجيح لعدم مانع منه إلاّ المعارضة على ما يظهر من هذا الكلام.

والحاصل : أنّ الكلّيّة المستفادة من أخبار الباب تغنينا عن التّكلّم في إثبات كون مرجّح مخصوص ممّا نصّ عليه أم لا من غير فرق بين أقسام المرجّح صدورا أو جهة أو مضمونا.

ثمّ لا يخفى عليك استقامة ما أفاده في « الكتاب » من ضعف الوجه الأوّل والثّالث في عنوان التّرجيح بمخالفة العامّة.

أمّا الثّالث : فظاهر ؛ لأنّه ـ مضافا إلى منافاته لمقام التّرجيح ، بل اعتبار المتعارضين من حيث الطّريقيّة كما هو ظاهر ـ لا يدلّ عليه شيء من الأخبار ؛ فإنّ الغرض من أمثال ما حكاه في « الكتاب » الحثّ على متابعة طريقة الأئمّة الهداة ( صلوات الله عليهم ) قولا وعملا ، والإعراض عمّا عليه المذبذبون من الميل إلى

٣١١

طريقة المخالفين ، ويشهد له مساقها عند التّأمّل ؛ فإنّه لا تعلّق لها بالمتعارضين أصلا ، فالغرض منها الحثّ على ترك التّسنّن وطريقة العامّة ليس إلاّ.

وأمّا الأوّل : فلأنّه يتوجّه عليه ـ مضافا إلى بعده عن مقام التّرجيح ومساق أخبار العلاج وإن دلّ عليه أكثر ما دلّ على التّرجيح بمخالفة العامّة في ابتداء النّظر كما في « الكتاب » بل ذكر فيه : أنّه ممّا استظهره المحقّق من الشّيخ ( قدّس أسرارهما ) مع أنّ كلامه صريح في استظهار الوجه الرّابع منه على ما عرفت منّا ومن « الكتاب » ؛ حيث إنّ مفاد الرّواية المرويّة عن الصّادق عليه‌السلام هو الوجه الرّابع ـ : كون دليله محكوما بما دلّ على كون عنوان التّرجيح بمخالفة القوم الطّريقيّة ؛ حيث إنّ سكوت كثير من الأخبار عن عنوان التّرجيح لا ينافي ما بيّن فيه عنوانه ، فلا تعارض بينهما حقيقة.

فيبقى الوجهان الآخران المبنيّان على الطّريقيّة ويضعّف الوجه الرّابع أيضا ؛ من حيث استفادته من الأخبار لعدم دليل عليه منها إلاّ رواية عبيدة (١) بن زرارة المضعّفة ، وإن قيل بعدم قدح ضعفها : من حيث انجبارها بالعمل ، والظّاهر منها بعد التّأمّل ما احتمله شيخنا بقوله : ( لاحتمال أن يكون المراد من شباهة أحد الخبرين ... إلى آخره ) (٢) فلا تعلّق لها بمسألة التّعارض.

إذ على هذا المعنى الظّاهر منها يحكم بالتقيّة في الخبر الجاري على أصولهم الباطلة وعدم حجّيّته ، فلا معنى لما قيل : من أنّه لا بدّ من حمل الخبر على صورة

__________________

(١) مرّ أن الصحيح عبيد.

(٢) فرائد الأصول : ج ٤ / ١٢٤.

٣١٢

التّعارض لكون إطلاقها على خلاف الإجماع ، ولا لما قيل فيما يتوجّه على الاستدلال بها من اختصاصها بالأخبار المسموعة : من أنّ مقتضى دليل حجّيّة الخبر الظّني تنزيله منزلة المسموع ، مضافا إلى عدم القول بالفصل ، حتّى يتوجّه عليه : بقصور دليل التّنزيل عن ذلك من حيث إنّ الأثر المزبور مترتّب على المعلوم بعنوان السّماع وإن كان محلاّ للتّأمّل.

نعم ، لا ريب في إثباته من حيث الكلّية المستفادة من أخبار العلاج على ما أسمعناك غير مرّة وليس بين التّنصيص والاستفادة من العموم ثمرة عمليّة حتّى يتعب النّظر في إثبات التّنصيص.

ومن هنا قال شيخنا في « الكتاب » ـ بعد تضعيف الوجه المذكور ـ : ( ويمكن توجيه الوجه الرّابع بعدم انحصار دليله في الرّواية المذكورة ... إلى آخره ) (١).

فيتعيّن إذن الوجه الثّاني من الوجوه المذكورة في « الكتاب » بالنّظر إلى التّنصيص ، وإن استشكل فيه أيضا في « الكتاب » : ( بأنّ التّعليل المذكور في الأخبار بظاهره غير مستقيم ... إلى آخر ما أفاده بقوله : فيرجع الأمر بالأخرة إلى التّعبّد بعلّة الحكم وهو أبعد من التّعبّد بنفس الحكم ) (٢)(٣).

__________________

(١) نفس المصدر : ج ٤ / ١٢٥.

(٢) فرائد الأصول : ج ٤ / ١٢٣ ـ ١٢٤.

(٣) قال المحقّق الخراساني قدس‌سره :

« لا يخفى ان التعليل المذكور وهو كون الرشد في خلافهم بذكر لفظة « في » المفيدة للظرفية لا يستدعي ان يكون خلافهم حكما واحدا ، كي لا يستقيم بظاهره ، بل غاية ما يستدعي انه

٣١٣

ولكنّك خبير بما يتوجّه على الإشكال المذكور واندفاعه بعد تسليم غلبة البطلان في أحكامهم ، كما يشهد به الوجدان والأخبار الكثيرة وإن رماه في « الكتاب » بكونه خلاف الوجدان في تقريب الإشكال ، مع رجوعه بعد ذلك لما أفاده في دفعه بقوله : ( ويمكن دفع الإشكال في الوجه الثّاني ) (١) وفاقا للسيّد الكاظمي في « شرح الوافية » ، بل لأنّ غلبة البطلان توجب صيرورة المخالف أقرب إلى الحقّ وأبعد عن الباطل كما اعترف قدس‌سره به بقوله : ( نعم ، ينفع في الأبعديّة عن الباطل ) (٢) وهذا المقدار يكفي في التّرجيح كما عرفت استفادته عن تعليل ترجيح المشهور على الشّاذّ ، فينطبق التّعليل المذكور على ذلك التّعليل هذا.

وقد دفع بعض أفاضل معاصرينا الإشكال بعد تسليم الغلبة : « بأنّ الخبر المخالف في الفرض وإن لم يظنّ مطابقته للواقع بعد منع الغلبة المدّعاة في كلام

__________________

لو كان الاحتمال المخالف منحصرا في واحد كان هو الحق والرشد ، وإلاّ ففي جملة محتملاته والغاء الاحتمال الموافق من بين الاحتمالات والمعاملة معها في الرجوع الى الاصول والقواعد ، كما اذا لم يكن ذاك الاحتمال أصلا في البين من أعظم الفوائد ، ويكفي في مقام الترجيح ، بل يكفي ما دونه وهو المرجح موجبا لأبعدية مورده عن الباطل على تقدير دورانه بينه وبين فاقده ، مع احتمال بطلان كليهما على ما اعترف به قدس‌سره في مواضع من كلامه ، فضلا عن مثل المرجح في المقام ، فانه يوجب كون كل من هذه الاحتمالات المخالفة أقرب الى الحق والرشد من ذاك الاحتمال ، فانقدح بما ذكرنا ما في قوله قدس‌سره : « وكون الحق والرشد فيه بمعنى وجوده في محتملاته لا ينفع ... الخ ». فتدبر جيّدا » إنتهى.

أنظر درر الفوائد : ٤٧٠.

(١) فرائد الأصول : ج ٤ / ١٢٤.

(٢) نفس المصدر : ج ٤ / ١٢٣.

٣١٤

شيخنا العلاّمة وفاقا للسيّد المحقّق الكاظمي ( قدس أسرارهما ) في دفع الإشكال ، إلاّ أنّ الخبر الموافق لهم يصير موهونا من جهة الظّن بكونه على خلاف الواقع فيسقط عن الحجّيّة » (١). هذا حاصل كلامه بعد طوله.

لكنّه كما ترى ؛ إذ مقتضاه طرح الخبر الموافق لهم وإن كان سليما عن المعارض وهو كما ترى ، خلاف الإجماع هذا. مضافا إلى أنّ المستفاد من أخبار الباب : وجوب الأخذ بالمخالف من حيث كونه راجحا لا من حيث كون الموافق مرجوحا.

نعم ، هنا كلام لا في جواز جعل المخالفة من المرجّحات وإن لم يحمل التّعليل الوارد في الأخبار على الغلبة : بأن يكون المراد من كون الرّشد في خلافهم كون خلافهم في معرض الحقّ من حيث كثرة البطلان في أحكامهم ، وإن لم تبلغ مبلغ الأكثريّة فضلا عن الغلبة فلا يحمل التّعليل على التّعبد حتّى يكون أسوأ من التعبّد في أصل الحكم بالتّقديم والتّرجيح ؛ لأنّ فيه نوعا من الطّريقيّة أيضا فينطبق على التّعليل المستفاد من الأخبار في تقديم المشهور على الشّاذّ.

وهذا الكلام كما ترى ، يفيد في دفع الإشكال أيضا بالتّقريب الّذي عرفته على تقدير حمل القضيّة على الغلبة.

فقد تحصل ممّا ذكرنا كلّه : أنّ مخالفة القوم يجتمع فيها عنوانان من المرجّح ، أحدهما : مرجّح الجهة وإن لم يقع التّصريح به في الأخبار بناء على منع دلالة خبر

__________________

(١) بدايع الأفكار : ٤٤٤.

٣١٥

عبيدة (١) بن زرارة عليه على ما عرفت. ثانيهما : مرجّح المضمون كما نصّ عليه في الأخبار فيجوز التّرجيح بها في الأخبار النّبويّة القطعيّة ؛ نظرا إلى الجهة الثّانية وإن لم يجز بالنّظر إلى الجهة الأولى كما أنّ التّرجيح بها مقدّم على المرجّحات الصّدوريّة ؛ نظرا إلى الجهة الثّانية وإن لم يتقدّم عليها بالنّظر إلى الأولى على ما عرفت : من تقديم المرجّح المضموني على الصّدوري وتأخير الجهتي عنه.

(٢٣) قوله قدس‌سره : ( ومن هنا يظهر أنّ ما ذكرنا من الوجه ... إلى آخره ) (٢). ( ج ٤ / ١٢٦ )

أقول : قد أسمعناك مرارا : عدم الفرق في جريان المرجّحات بين أقسام المتعارضين فيما لم يكن هناك قوّة لأحدهما بحسب الدّلالة ، فالمتباينان والعامّان

__________________

(١) أقول : مرّ انّ الصحيح عبيد بن زرارة لا عبيدة.

(٢) قال المحقّق آغا رضا الهمداني قدس‌سره :

« أقول : هذه العبارة الى آخرها لا تخلو عن تشويش ، ولذا أسقطت في كثير من النسخ المصححة ، ولعلّ منشأ سقطها عدم تحصيل مفادها كما هو حقه ، ومحصلها : أن وجه الترجيح بمخالفة العامة ان كان منحصرا في الوجوه الأربعة المزبورة ، فيختص مورده بالمتباينين ، دون ما اذا كان من قبيل العامّين من وجه بالنسبة الى مورد اجتماعهما ، الذي يتحقق فيه المعارضة ، لأن هذه الوجوه بأسرها مقتضاها طرح الخبر الموافق رأسا ، لا في خصوص مورد الاجتماع ، فالعمدة في الترجيح بمخالفة العامة وشبهها بناء على جريانه فيه في هذا القسم من المتعارضين ، هو ما تقدم من الترجيح بكلّ مزية في أحد المتعارضين مفقود في الآخر ، فالخبر الموافق بواسطة ما فيه من احتمال التقية ، يرفع اليد عنه في مورد المعارضة ، بواسطة ابتلائه بمعارض ليس فيه هذا الاحتمال ، واما فيما عدى مورد المعارضة فحاله حال سائر الأخبار الموافقة للعامة ، التي يتطرق فيها احتمال التقية ، ولا يلتفت اليه ما لم يعارضها معارض مكافىء فافهم » انتهى. أنظر حاشية فرائد الأصول : ٥٣٥.

٣١٦

من وجه متساويان من حيث الرّجوع فيهما إلى المرجّحات من غير فرق بين المرجّح الصّدوري والجهتي والمضموني.

فكما أنّ ما أفاده في « المعالم » لا يستقيم بالنّسبة إلى العامّين من وجه ، كذلك لا يستقيم بالنّسبة إلى المتباينين. والوجه القاضي بوجوب الأخذ بمخالف القوم وطرح ما يوافقهم لا يفرّق فيه بين القسمين.

نعم ، الحكم بصدور الموافق تقيّة بالنّسبة إلى خصوص مورد التّعارض في العامّين من وجه مستبعد جدّا ، كالحكم بطرح أصل صدور المرجوح منهما في مادّة التّعارض ، لكنّه استبعاد قد يقال بالفرق من جهة بقول مطلق من غير فرق بين أقسام المرجّحات على ما عرفت شرح القول فيه.

(٢٤) قوله قدس‌سره : ( الأوّل : أنّ الخبر الصّادر تقيّة ... إلى آخره ). ( ج ٤ / ١٢٨ )

حمل موارد التقيّة على التورية

أقول : لمّا كان المراد من حمل الخبر على التقيّة في المقام هو حمله على التّقيّة من حيث القول لا العمل ؛ لأنّه يرجع إلى بيان الحكم الواقعي الاضطراري ولا تعلّق له بمسألة التّعارض ـ على ما أشرنا إليه في أوائل المسألة عند البحث عن حقيقة التّعارض ـ فلا محالة يرجع التّقيّة إلى الكذب لمصلحة إن لم يقصد التّورية من القول الصّادر تقيّة ، فلمّا كان الكذب قبيحا عقلا وحراما شرعا جوّز في حقّ غير الإمام عليه‌السلام من جهة الاضطرار من جهة عدم إمكان التّورية في حقّه غالبا من جهة الغفلة وإدّاء التّورية في حقّه غالبا إلى العلم بالحال.

٣١٧

ومن هنا جوّز الشّارع له ذلك مطلقا من جهة الوقوع في محذور خلاف المقصود والحرج ، وهذا بخلاف الإمام عليه‌السلام ؛ فإنّه لا محذور لاختيار التّورية في حقّه فيلزم عليه في مقام التّقيّة كما يظهر ممّا رواه في « الكتاب » من الأخبار وغيره ، إلاّ أنّه لا يخرج عن المرجّح الجهتي على ما أشرنا إليه سابقا.

(٢٥) قوله قدس‌سره : ( وربّما يستفاد من قول السّائل في المقبولة ... إلى آخره ). ( ج ٤ / ١٣٤ )

أقول : وجه الاستفادة ظاهر من حيث إنّ مخالفة المتعارضين لهم وكذا موافقتهما لهم لا يمكن إلاّ بإرادة البعض ، اللهمّ إلاّ أن يكون مراد السّائل من التّعبير المذكور عدم وجود هذا المرجّح رأسا كما يحمل على هذا المعنى قوله بعد ذلك ( قلت : جعلت فداك كلاهما موافقان للاحتياط ، أو مخالفان له ) (١) فإنّه لا معنى لهذا السّؤال إلاّ بإرادة المعنى المذكور ؛ ضرورة عدم إمكان موافقة الخبرين للاحتياط. ومن هنا أورد عليه في « الكتاب » بقوله : ( ويردّه : أن ظهور الفقرة الأولى ... إلى آخره ) (٢).

نعم ، لا إشكال في كون موافقة البعض في الفرض من المرجّحات بالنّظر إلى الكلّيّة المستفادة من أخبار الباب ، وقد أسمعناك مرارا : عدم الثّمرة بين التّنصيص والاستفادة من الكلّيّة في مسألة التّرجيح.

ثمّ إنّه يتقوّى التّرجيح الجهتي فيما كان البعض من المعروفين منهم سيّما إذا كان مرجعا لهم في عصر الإمام عليه‌السلام المحكي عنه الحديث.

ثمّ إنّ الظّاهر من وصفي المخالفة والموافقة المضافتين الظّاهرين فيما أفاده

__________________

(١) مقبولة عمر بن حنظلة وقد تقدّم تخريجها.

(٢) فرائد الأصول : ج ٤ / ١٣٤.

٣١٨

من اعتبار الإضافة إلى الجميع أو الجمع العرفيّ المتحقّق بذهاب المعظم ، أو الأكثر ، أو الكثير لا يختصّ بعصر الإمام عليه‌السلام بل يعمّه وغيره من الأعصار. ومن هنا يشكل تحصيله إلاّ في المسائل الإجماعيّة عندهم في الجملة ؛ إذ لا يعتبر في الإجماع اتّفاق أهالي جميع الأعصار.

ومن هنا قيل بكون المراد من الوصفين المضافين أعمّ من البعض من حيث لزوم اعتبار الجميع سدّ باب هذا التّرجيح مع مزيد الاهتمام بشأنه من بين المرجّحات المنصوصة من حيث ذكره في أكثر أخبار الباب كما جزم به بعض أفاضل عصرنا.

نعم ، فيما لم يعلم به يمكن الحكم بحجّيّة الظّن المطلق القائم عليه بإجراء دليل الانسداد في خصوص هذه المسألة الشّخصيّة أو كثير من المرجّحات على ما أسمعناك سابقا ، هذا على تقدير اعتبار المرجّحات المنصوصة.

وأمّا بناء على اعتبار الكلّيّة المستفادة من الأخبار فيتسرّى الحكم إلى الظّن بوجود المرجّح ، بل شكّه بمقتضى نفس الأخبار العلاجيّة فينتفي مورد الرّجوع إلى دليل الانسداد ؛ ضرورة كون المظنون مخالفته للقوم أقرب إلى الواقع بالنّسبة إلى ما ظنّ موافقته لهم ، وهكذا الأمر بالنّسبة إلى المشكوك والمحتمل منهما. وليس مبنى ما ذكر كما عرفت على التّمسّك بالنّص على التّرجيح بالوصفين حتّى يمنع منه ؛ نظرا إلى الشّك في الموضوع ، بل على التّمسّك بالكلّيّة الصّادقة مع العلم والظّن بهما ، بل مع احتمالهما فافهم. وقد أشرنا إلى ما ذكرنا في مطاوي كلماتنا السّابقة.

٣١٩

المرجّحات الخارجيّة

(٢٦) قوله : ( فمن الأوّل : شهرة أحد الخبرين : أمّا من حيث الرّواية ... إلى آخره ). ( ج ٤ / ١٣٩ )

شهرة أحد الخبرين

أقول : قد أسمعناك : أنّ الشّهرة من حيث الرّواية من المرجّحات الدّاخليّة الموجبة لرجحان صدور المشهور ، غاية ما هناك ترجيحها للمظنون أيضا إذا اتّفق عمل المشهور به ، فيكون لها جهتان من التّرجيح : التّرجيح من حيث الصّدور ، والتّرجيح من حيث المضمون. كما أنّا أسمعناك : أنّ مخالفة العامّة من المرجّحات الدّاخليّة سواء كانت من المرجّحات المضمونيّة ، أو الجهتيّة ، أو منهما معا كما هو الصّواب.

فالتّفكيك في جعل مخالفة العامّة من المرجّح الدّاخلي بين كونها من المرجّح المضموني ، أو الجهتي ـ كما يظهر من كلامه في المقام وبعد ذلك ـ كما ترى. وكذا حال الأفقهيّة ؛ فإنّها من المرجّحات الدّاخليّة الصّدوريّة كالأعدليّة ، وإن ترجّح المضمون بها إذا قارنت فتوى الأفقه بالخبر ، فما أفاده من الأمثلة للمرجّح الخارجي محلّ مناقشة وإن كانت المناقشة في المثال هيّنة.

ثمّ إنّ ما أفاده قدس‌سره في الاستدلال على لزوم التّرجيح بالمرجّح الخارجي من

٣٢٠