بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٨

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٨

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-351-4
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٨٢٠

في بيان تقديم الترجيح من حيث الدّلالة

على سائر وجوه التّرجيح

أمّا الموضع الأوّل : فملخّص القول فيه : أنّه لا إشكال بل لا خلاف عند بعض ، بل الإجماع عليه عند آخر : في تقديم المرجّح من حيث الدّلالة على سائر المرجّحات على ما هو مقتضى الأخبار أيضا كما عرفت الإشارة إليه ؛ فإنّ مصبّ التّرجيح بها في الأخبار العلاجيّة المذكورة في « الكتاب » سؤالا وجوابا ـ كما لا يخفى على من أعطى حقّ النّظر فيها ـ فيما لم يمكن رفع التّعارض بين الخبرين بجعل أحدهما بالخصوص قرينة على المراد من الآخر بحكم العرف حتّى يتحقّق هناك التّحيّر المحوج إلى السّؤال بلفظة « أيّ » هذا.

مضافا إلى قوله عليه‌السلام ـ فيما مرّ عليك من الأخبار ـ : ( أنتم أفقه النّاس إذا عرفتم معاني كلامنا ) (١) الحديث ، بالتّقريب الّذي عرفت الإشارة إليه.

وقوله عليه‌السلام : ( إنّ أمر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كأمر القرآن فيه عام وخاصّ ومحكم ومتشابه وناسخ ومنسوخ ) (٢) الحديث.

__________________

(١) بصائر الدرجات : ٣٤٩ الباب التاسع « في الأئمة انّهم يتكلّمون على سبعين وجها في كلّها المخرج ويفتون بذلك » ـ ح ٦ ، معاني الأخبار : ١ ـ ح ١ ، عنه الوسائل : ج ٢٧ / ١١٧ باب « وجوه الجمع بين الاحاديث المختلفة » ـ ح ٢٧.

(٢) الكافي الشريف : ج ١ / ٦٢ باب « اختلاف الحديث » ـ ح ١ وكتاب الغيبة للنعماني : ٨٠

٢٦١

وقوله عليه‌السلام : ( إنّ في كلامنا محكما ومتشابها فردّوا متشابهها إلى محكمها ) (١) الحديث ، بناء على إرادة المؤوّل من المتشابه. وهذا كما ترى ، من إقرار الجمع الّذي عرفت تقديمه على الطّرح مطلقا وإن كان من التّرجيح بحسب الدّلالة حقيقة لعدم التّنافي بينهما أصلا على ما أسمعناك شرح القول فيه في المراد من القاعدة.

وإن شئت قلت : في تقريب المدّعى : إنّ وجوه التّراجيح لا يجعل الرّاجح أعلى ممّا يقطع بصدوره إذا عارضه ما كان أقوى منه دلالة كالخبر المتواتر اللّفظي والكتاب إذا كانا عامّين أو مطلقين ، وكان هناك ما يوجب تخصيصهما أو تقييدهما وإن كان موافقا للعامّة إذا كان طريقه من الآحاد الغير المحفوف بالقرينة القطعيّة على ما بنينا عليه الأمر في مسألة حمل العام على الخاصّ : من جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد ، وإلاّ فيخرج عن مسألة التّعارض كما هو ظاهر.

ثمّ إنّ المخالف في المسألة كالشّيخ قدس‌سره (٢) في « الإستبصار » (٣) و « العدّة » (٤) لمّا كانت كلماته مختلفة في باب التّعارض وبناء العام على الخاصّ ، ككلام المحقّق القمّي قدس‌سره لم ينظر إلى مخالفته ، فلا يوهن الإجماع المدّعى في كلام غير واحد على

__________________

الباب الرابع : ـ ح ١٠ عن كتاب سليم بن قيس الهلالي : ١٠٣ ـ ١٠٨ ، وعنه المستدرك : ج ١٧ / ٣٣٩ باب « حكم استنباط الأحكام النظرية من ظواهر كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » ـ ح ٩.

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : ج ٢ / ٢٦١ ـ ح ٣٩ ، عنه الوسائل : ج ٢٧ / ١١٥ باب « وجوه الجمع بين الأحاديث المختلفة » ـ ح ٢٢.

(٢) أقول : لاحظ تعليقة المحقق الخراساني قدس‌سره في درر الفوائد / ٤٦٠ فإنّها لا تخلو من فائدة.

(٣) الإستبصار : ج ١ / ٤.

(٤) عدّة الأصول : ج ١ / ١٤٧ ـ ١٤٨ ط ستارة قم سنة ١٤١٧ ه‍.

٢٦٢

تقديم التّرجيح من حيث الدّلالة على سائر وجوه التّراجيح بملاحظته ، كيف؟ وكلام الشّيخ قدس‌سره يشمل تعارض النّص والظّاهر ، مع أنّك قد عرفت خروجه عن مسألة التّعارض حقيقة.

ولك أن تقول في تقريب المدّعى مرّة أخرى : أنّ الأخذ بدليل التّعبّد بالصّدور مثلا بالنّسبة إلى الظّاهر والأظهر ليس هناك ما يزاحمه أصلا ؛ فإنّ رفع اليد عن أصالة الظّهور في الظّاهر إذا كان مستندا إلى ما هو القرينة الصّارفة عن الظّهور بحكم العرف وهو الأظهر ، فليس هناك طرح لأصالة الظّهور ؛ ضرورة كونها تعليقية بالنّسبة إلى القرينة فلا دوران حقيقة بين طرح الظّهور في الظّاهر وطرح دليل الصّدور في الأظهر كما هو الشّأن في الظّاهرين ، فحال الأظهر حال النّص الظّني بحسب الصّدور : من حيث رجوع معنى دليل التّعبّد بصدوره إلى جعله قرينة للظّاهر وإن افترقا من حيث إمكان التّصرّف في الأظهر بخلاف النّص.

ومن هنا حكمنا فيما أسمعناك في شرح قاعدة « أولويّة الجمع على الطّرح » بثبوت الأولويّة فيما كان أحد الدّليلين صالحا لصيرورته قرينة للآخر بحكم العرف وأهل اللّسان ومنعها في غيره كما في الظّاهرين ، وإن حكمنا بعدم أولويّة للطّرح على الجمع أيضا بالنّظر إلى دليلي التّعبّد بالصّدور والدّلالة من غير فرق بين صور تعارض الظّاهرين حتّى فيما يحصل الجمع بالتّصرف في أحدهما ، ولو فيما كان لكلّ من المتعارضين مادّة سليمة كما في العامّين من وجه ؛ حيث إنّ الطّرح فيه يوجب التّبعيض الظّاهري في الصّدور.

ومن هنا توهّم تقديم الجمع فيه على الطّرح ، بل لم يستبعد أولويّة الطّرح في الظّاهرين مطلقا فيما آل الجمع إلى الحكم بالإجمال والرّجوع إلى الأصل ؛ من

٢٦٣

حيث إنّه يؤول إلى طرح دليل التّعبّد بالصّدور والدّلالة معا ، فراجع إلى ما ذكرنا ثمّة حتّى تقف على حقيقة الأمر.

وممّا ذكرنا كلّه في المقام وفيما تقدّم في شرح « قاعدة الجمع » يظهر : تطرّق المناقشة إلى ما أفاده شيخنا قدس‌سره : من الإشكال فيما يحصل الجمع بالتّصرّف في أحدهما بقوله : ( نعم ، يبقى الإشكال في الظّاهرين اللّذين ... إلى آخره ) (١) ؛ فإنّه يظهر منه كون جريان قاعدة الجمع فيه مطلقا أولى من جريانها فيما يتوقّف الجمع على التّصرف في المتعارضين. مع أنّك قد عرفت مساواتهما من حيث جريانها هذا.

كلام المحقّق الرّشتي وما يرد عليه

وقد وقفت ـ بعد ما أسمعناك في تحقيق المقام تبعا للقوم ـ على كلام لبعض أفاضل العصر فيما أملاه في المسألة يخالف فيه كلام القوم : من تقديم المرجّح من حيث الدّلالة على غيره من المرجّحات مطلقا في خصوص المرجّح من حيث جهة الصّدور ، فحكم بتقدّمه على المرجّح من حيث الدّلالة بحسب المرتبة ، بل زعم ذهاب الأكثر بل المعظم إلى ذلك في الفروع في موارد تعارض الأخبار وعلاجه ، بل صرّح في طيّ كلامه على المعاملة المذكورة بين النّص والظّاهر أيضا ، فضلا عن الأظهر والظّاهر ، لا بأس بنقله والإشارة إلى ما يتوجّه عليه.

قال رحمه‌الله ـ بعد الإشارة إلى ما اختاره سابقا في طيّ بيان « قاعدة الجمع » : من

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٤ / ٨٦.

٢٦٤

تقديم المرجّح من حيث الدّلالة على المرجّح من حيث الجهة ـ ما هذا لفظه :

« ولكن في النّفس الآن منه شيء والتّحقيق : هو أنّهما إمّا قطعيّان ، أو ظنّيان ، أو مختلفان ، فإن كانا قطعيّين قدّم ترجيح الدّلالة ، فلو تعارض العام والخاصّ وكان الثّاني موافقا للعامّة عمل بالخاصّ كأخبار بطلان الصّلاة بزيادة الرّكعة ، وأخبار صحّتها إذا جلس بعد الرّابعة بقدر التّشهّد ؛ فإنّها موافقة لمذهب العامّة ؛ لأنّ المدار في التّرجيح على الظّن. ولا شكّ أنّ التّخصيص أغلب وأظهر من التّقيّة في الأخبار ، هذا إذا قطعنا النّظر عن النّص ومشينا على موجب القاعدة.

وأمّا بعد ملاحظة كون موافقة العامّة أمارة تعبّديّة على التّقيّة ، أو جاريا مجرى القرينة العامّة ـ حسبما شرحنا مفصّلا فيما سبق ـ فمقتضى القاعدة : أن يكون الأمر بالعكس ، فيجب حمل الخاصّ على التقيّة ولو كان قطعيّ السّند والدّلالة ؛ لأنّ الشّك في التّخصيص بعد قطعيّة الخاص مسبّب عن الشّك في صدوره تقيّة ، وبعد قيام الدّليل على صدور الخاصّ تقيّة كان حاكما على أصالة العموم. وهذا التّسبّب وإن كان موجودا مع قطع النّظر عن الأخبار ، إلاّ أنّ أصالة عدم التقيّة لا مانع من العمل به حينئذ ، ولا يعارضه أصالة العموم للتسبّب القاضي بالتّقديم. والحاصل : أنّ قضيّة التّسبّب العمل بما يقتضيه الأصل السّببي ، فإن كان الأصل عدم التقيّة عمل بالخاصّ. وإن كان هي التقيّة عمل بالعام. ففي المثال المذكور ينبغي حمل أخبار الصّحة بعد الجلوس على التّقيّة ، كما فعله صاحب « الرّياض » (١) وهذا هو الأصحّ وعليه عمل غير واحد في الكتب الفقهيّة كما لا

__________________

(١) رياض المسائل في تحقيق الأحكام بالدلائل : ج ٤ / ٢٠٩.

٢٦٥

يخفى على أهل الخبرة.

فإن قلت : ما ذكرت من القاعدة من تقديم الأصل الجاري في السّبب على الأصل الجاري في المسبّب لا يتمّ على ما أنت عليه : من إنكار هذه القاعدة في بابها.

قلت : بناؤنا على معارضة الأصلين دون التّحكيم إنّما هو في الأصول التّعبّدية ، وأمّا الأصول الجارية في الألفاظ فهي طرق عقلائيّة أمضاها الشّارع وليست من الأصول الظّاهريّة التّعبديّة كأصالة الطّهارة مثلا. وقد نبّهنا في محلّه : على أنّه لا بدّ من إجراء قاعدة التّسبّب والعمل بالأصل الجاري في السّبب المسمّى بالمزيل في ألسنة المتقاربين لعصرنا في الأصول اللّفظيّة وما يجري مجراها من الأصول العقلائيّة المعتبرة طريقا إلى الواقع وتمام الكلام في محلّه هذا.

ولو تعارض الأصل اللّفظي مع الأصل المعمول في الجهة غير التّقيّة كأصالة عدم السّهو ، وعدم المزاح ، وعدم الإكراه ، وعدم الكناية ، وعدم التّعريض ، وعدم القصد والتّصوّر ، وأشباهها من الأصول الجارية في الألفاظ من غير أن يرجع إلى حقيقة أو مجاز في غير أدلّة الأحكام ، قدّم الأصل اللّفظي. فلو توقّف رفع التّناقض والتّنافي في كلام متكلّم على ارتكاب أحد الأمرين : إمّا التّخصيص ، أو حمل الخاصّ على المزاح مثلا ، تعيّن التّخصيص ؛ لأنّه أغلب وأظهر.

فإن قلت : مقتضى القاعدة التّوقف والإجمال ؛ لأنّ التّرجيح على خلاف الأصل ؛ إذ الأصل في الطّرق والأصول المتعارضة التّوقف دون الأخذ بالرّاجح

٢٦٦

والقدر الخارج منه العمل بالأقوى والأرجح في أدلّة الأحكام دون غيرها.

قلت : الظّاهر أنّه لا إشكال بل لا خلاف : في أنّ تقديم النّص على الظّاهر ، أو تقديم الأظهر على الظّاهر في الأصول اللّفظيّة المتعارضة بعضها مع بعض الرّاجعة إلى تعارض الأحوال في كلام أو كلامين لا اختصاص له بأدلّة الأحكام ، والظّاهر : أنّ حكم تعارض بعض الأصول اللّفظيّة مع الأصل في جهات الكلام حكم تعارض الأصول اللّفظيّة بعضها مع بعض ، فكما ثبت التّرجيح ووجوب العمل بالأرجح هناك فكذلك هنا » (١). انتهى كلامه رفع مقامه.

ويتوجّه عليه :

أوّلا : النّقض بالمرجّح من حيث الصّدور ؛ فإنّه إذا فرض تسبّب الشّك في التّخصيص مع صلاحيّة الخاصّ له عن الشّك في صدوره وحكمنا بمقتضى دليل التّرجيح فيما كان الخاصّ مرجوحا كما هو المفروض بعدم صدوره ، فيرتفع الشّك بحكم الشّارع.

وثانيا : بالحلّ حيث إنّ مصبّ التّرجيح بالمرجّحات على ما أسمعناك مرارا فيما لم يمكن الجمع بين الدّليلين بصرف أحدهما عن ظاهره بحكم العرف حتّى يتحقّق هناك التّحيّر المحوج إلى السّؤال بلفظة « أي » فإذا كان الخاصّ نصّا بحسب الدّلالة ، أو أظهر فلا يتحقّق هناك تحيّر أصلا ، فلا يدخل الفرض في مورد الأخبار العلاجيّة لكي يجري فيه ما ذكره من « قاعدة التّسبّب » ، فأمارة التّقيّة إنّما تجدي فيما دار الأمر بين الحكم بصدور الموافق تقيّة أو المخالف لا فيما لم يكن هناك

__________________

(١) بدايع الأفكار : ٤٥٨.

٢٦٧

دوران بحكم العرف أصلا كما لا يخفى.

فالفرق بين أصالة عدم التّقيّة والحكم بها من جهة الأخبار العلاجيّة لا يجدي في الفرض أصلا.

نعم ، يستثنى ممّا ذكرنا الخاصّ الّذي فهم من الخارج كون وروده للتّقيّة كالخبر الوارد في عدم قدح زيادة الرّكعة إذا جلس في الرّابعة بقدر التّشهّد ؛ فإنّ حملهم له على التّقيّة ليس من جهة مجرّد موافقته للعامّة وإلاّ لسلكوا هذا المسلك في جميع موارد تعارض العامّ والخاصّ.

وثالثا : أنّ ما ذكره من الفرق في « قاعدة التّحكيم » بين الأصل اللّفظي وشبهه وبين الأصل التّعبدي لا محصّل له أصلا على ما عرفت شرح القول فيه مرارا.

ورابعا : أنّ ما ذكره أخيرا : من تقديم التّرجيح من حيث الدّلالة على سائر الأصول الجارية في الجهة وإن كان مسلّما في الجملة ، إلاّ أنّه غير مسلّم على إطلاقه ؛ فإنّه إذا كان العام والخاصّ في كلام غير المعصوم ولم يكن الخاص متّصلا بالعام حمل على كونه رجوعا ، كما في الفتاوي والوصايا إلى غير ذلك ممّا يتوجّه عليه.

ثمّ إنّ المدار على قوّة الدّلالة وضعفها في التّقديم من غير فرق بين أن يكونا بالخصوص والعموم أو التّقييد والإطلاق أو غيرهما ، كما أنّ المدار في تقديم النّص على النّصوصيّة في ضمن أي شيء حصلت ؛ ضرورة عدم اعتبار خصوصيّة في التّقديم ودورانه مدار النّصوصيّة وقوّة الدّلالة.

٢٦٨

ومنه يظهر جودة ما أفاده شيخنا العلاّمة قدس‌سره في تضعيف ما تخيّله بعض المحدّثين من الفرق والتّفصيل ، ويحتمل أن يكون مبنى تخيّله على اشتباه الأمر عليه في تشخيص الصّغرى.

القوّة والضّعف والضابطة فيهما

ثمّ إنّ القوّة والضّعف ـ كما ذكر في « الكتاب » ـ قد يكونان بحسب خصوصيّات المقامات. وهذا القسم لا يدخل تحت ضابطة بل موكول إلى نظر الفقيه ؛ لعدم إمكان جعل ضابطة له قطعا. ومن هنا قد يقدّم العام على الخاصّ ، والمطلق على المقيّد ، والمفهوم على المنطوق. وهكذا الأمر في كلّ ما يكون بحسب النّوع أو الصّنف أقوى من غيره بحسب الدّلالة مع كونه أضعف منه في خصوص المقام بنظر الفقيه ، بل ربّما لا يكون للّفظ ظهور نوعا أصلا في معنى ، ويكون له الظّهور فيه في خصوص المقام بنظره.

ألا ترى إلى ما أفاده المحقّق القمّي قدس‌سره في دلالة آية النّبأ باعتبار التّعليق على الوصف على المفهوم في خصوص الآية؟ مع قوله بعدم دلالة التّعليق المذكور نوعا على المفهوم ، عكس ما ذكره غير واحد : من أنّه على تقدير القول بدلالته على المفهوم نوعا لا دلالة له في خصوص المقام على ما أسمعناك في الجزء الأوّل من التّعليقة.

وقد يكون بحسب الصّنف كألفاظ العموم والتّعليقات الدّالة على المفهوم ؛ فإنّ لفظة « كلّ » ونحوه أقوى دلالة على العموم من النّكرة في سياق النّفي ، وهي

٢٦٩

أقوى دلالة عليه من الجمع المحلّى ، وهو أقوى دلالة عليه من الجمع المضاف ، وهو أقوى دلالة عليه من المفرد المحلّى ، وهو أقوى دلالة عليه من المفرد المضاف. ومن هنا وقع الاختلاف في غير لفظة « كلّ » شدّة وضعفا بحسب ما عرفت. وهكذا الأمر فيما دلّ على المفهوم ؛ فإنّ ألفاظ الحصر أقوى دلالة من جميع ما دلّ عليه.

ومن هنا قيل بكون دلالتها بالمنطوق والتّعليق بالغاية أقوى دلالة على المفهوم من التّعليق على الشّرط ، وكذا أدوات الشّرط بعضها بالنّسبة إلى بعض ك « إن » بالنّسبة إلى « إذا » وهكذا. والحروف بالنّسبة إلى الأسماء المتضمّنة لمعنى الشّرط. والتّعليق بالشّرط أقوى دلالة عليه من التّعليق بالوصف ، وهو أقوى دلالة من العدد ، وهو أقوى دلالة من اللّقب على القول بثبوت المفهوم لها ، وهكذا الأمر في المجازات قربا وبعدا ، وكذا الأمر في الألفاظ الدّالّة على التّأبيد والعموم الزّماني هذا كلّه في الصّنفين المختلفين.

وقد يوجد الاختلاف في الصّنف الواحد بحسب جزئياته الكلّية كالعام الغير المخصّص بالنّسبة إلى المخصّص مع وحدة اللّفظ الدّال على الجمع كالجمع المحلّى مثلا ، والعام الّذي ما يكون أقلّ أفرادا بالنّسبة إلى ما يكون أكثر أفرادا وإن كان الدّال واحدا ، والعام الّذي ورد عليه التّخصيص كثيرا بالنّسبة إلى ما ورد عليه قليلا وهكذا.

وقد يكون بحسب النّوع وقد عقدوا لذلك بابا وسمّوه بتعارض الأحوال ، وهذا العنوان وإن لم يكن من خصائص تعارض الأدلّة ؛ فإنّه قد يتحقّق بالنّسبة إلى دليل واحد كما هو ظاهر ، إلاّ أنّ تحقّقه بالنّسبة إلى الدّليلين المتعارضين أوجب

٢٧٠

عنوانه والبحث عنه في المقام ولو على سبيل الإجمال ، ومن هنا تعرّض له شيخنا العلاّمة قدس‌سره في « الكتاب ».

ثمّ إنّ قوّة الدّلالة قد تستند إلى الوضع كالألفاظ الموضوعة للعموم بالنّسبة إلى الألفاظ المطلقة على مذهب السّلطان (١) القائل : بكون لفظ المطلق موضوعا للماهيّة المهملة ، ومن هنا ذهب : إلى كون التّقييد حقيقة إذا لم ترد الخصوصيّة من اللّفظ ؛ حيث إنّ ظهوره في الإطلاق والانتشار مستند إلى الحكمة ، نظير دلالة المفرد المحلّى على العموم على مذهب الشّيخ قدس‌سره.

وقد تستند إلى الظّهور الوضعي مع كون دلالة المقابل بالوضع أيضا كألفاظ العموم بالنّسبة إلى لفظ المطلق على ما ذهب إليه المشهور من كونه موضوعا للحصّة المنتشرة بحيث يكون الانتشار قيدا للموضوع له. ومن هنا ذهبوا : إلى كون التّقييد مجازا.

وقد تستند إلى المطابقة بالنّسبة إلى ما كانت دلالته بحسب الالتزام كالمنطوق بالنّسبة إلى المفهوم مع كون الدّلالة في كلّ منهما وضعيّة.

وقد تستند إلى قلّة إرادة خلاف الظّاهر كاللّفظ الدّال على دوام الحكم بدوام الشّرع بالنّسبة إلى ما دلّ على العموم الأفرادي. ومن هنا قالوا : بكون التّخصيص أولى من ارتكاب النّسخ عند الدّوران ؛ حيث إنّ النّسخ بالنّسبة إلى كلّ شريعة قليل في الغاية وإن ورد النّسخ على جميع الشّرائع إلاّ شريعة واحدة واللّفظ

__________________

(١) سلطان العلماء في حاشيته على المعالم في مباحث المطلق والمقيّد ، انظر معالم الأصول ( الطبعة الحجريّة ) الصفحة : ١٥٥ ، الحاشية المبدّوة بقوله : « الجمع بين الدليلين ... الى آخره ).

٢٧١

الدّال بالوضع على معنى مع ألفاظ العموم وإن كانت الدّلالة في كلّ منهما مستندة إلى الوضع.

ومن هنا قالوا : بأنّ التّخصيص أولى من المجاز ، ولو لم نقل بكون التّخصيص مجازا ؛ حيث إنّ إرادة خلاف الظّاهر من اللّفظ كثيرا يوجب وهن الظّهور ، بل قد يوجب الإجمال في بعض مراتبه. ومن هنا ذهب المشهور : إلى التّوقف في المجاز المشهور. كيف؟ وقد تبلغ كثرة إرادة المعنى المجازي إلى حدّ الوضع كما في الوضع التّعيّني.

ثمّ إنّه لا فرق فيما ذكرنا : من الالتزام بالتّخصيص عند دوران الأمر بينه وبين النّسخ كما يلتزم بارتكاب خلاف جميع الظّواهر عند الدّوران بينه وبين النّسخ بين أن يكون احتمال النّاسخيّة في الخاصّ كما إذا تأخّر عن العام أو في العام كما إذا تأخّر عن الخاص لاتّحاد الوجه.

نعم ، لو كان هناك مانع عن الالتزام بالتّخصيص مثل لزوم تأخير البيان عن وقت الحاجة كما إذا ورد الخاصّ بعد العمل بالعام في مدّة تعيّن فيه الالتزام بالنّسخ لو لم يحتمل ورود الخاصّ وقت الحاجة واختفائه ولم نقل بجواز تأخير البيان عن وقت الحاجة فيما كانت هناك مصلحة مجوّزة ، وإلاّ لم يتعيّن ارتكاب النّسخ أيضا هذا في المخصّصات الواردة في كلام النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد العمل بالعمومات.

* * *

٢٧٢

بيان حال المخصّصات الواردة بعد العمومات النّبويّة

أو الولويّة في كلام الأئمة المتأخرين عليهم‌السلام

وأمّا المخصّصات الواردة في كلام بعض الأئمّة عليهم‌السلام بعد العمومات الواردة في كلام النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو بعض الأئمّة المتقدّمة عليه‌السلام أو الإمام الوارد في كلامه الخاصّ بعد مضي زمان العمل بالعام ، ففيها وجوه واحتمالات مذكورة في « الكتاب ».

أحدها : جعلها ناسخة بالتزام إيداع النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم النّاسخ عند الإمام عليه‌السلام حتّى لا ينافي تكميل الدّين في زمان النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّذي قضى به العقل والنّقل ح حيث إنّ الوصيّ حافظ لما بلغه الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الله تعالى إلى الخلق.

ثانيها : الالتزام بكونها مخصّصة ، بمعنى كونها كاشفة عن المخصّصات المتّصلة المختفية من جهة العوارض.

ثالثها : جعلها مخصّصة من دون التزام بالاختفاء.

وهكذا الكلام في المقيّدات الواردة في كلام بعض الأئمّة عليهم‌السلام بعد العمل بالمطلقات الواردة في كلام النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو الأئمّة عليهم‌السلام فإنّه يجري فيها الوجوه المذكورة. وخير هذه الوجوه الأخير منها.

فإنّ الوجه الأوّل ، وإن كان متصوّرا معقولا من حيث الكشف عن نسخ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإيداعه عند الوصيّ عليه‌السلام على ما عرفت ، إلاّ أنّه يبعّده منتهى البعد كثرة هذه التّخصيصات والتّقييدات غاية الكثرة ، مع كون أصل النّسخ قليلا غاية القلّة ،

٢٧٣

فلا معنى لحملها عليه.

والوجه الثّاني ، يبعّده أيضا بل يحيله العادة بعد ملاحظة عموم الابتلاء بها علما وعملا ، وكثرتها وانتفاء دواعي الاختفاء ومقتضياته.

وأمّا الوجه الأخير ، فهو وإن كان منافيا لقاعدة قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة في ظاهر النّظر ، إلاّ أنّه بعد التّأمّل يعلم بعدم التّنافي بينهما أصلا ؛ لأنّ القاعدة كما برهن عليها في محلّه إنّما يقتضي البيان فيما لم يقتض المصلحة تأخيره ، وإلاّ فلا قبح في تأخيره أصلا ، فيكون تكليف المخاطبين بتلك الخطابات المشتملة على الظّواهر أو المطّلعين عليها ما يقتضيه ظواهرها ظاهرا اتّكالا على الأصول اللّفظيّة المعتبرة عند العقلاء وأهل اللّسان ولا بعد فيه أصلا.

فإنّه كما إذا اقتضت المصلحة بيان الأحكام تدريجا والرّجوع إلى الأصول العقليّة قبل البيان ـ حتّى أنّه ورد عدم تكليف المكلّفين في أوائل البعثة في مدّة عشر سنين إلاّ بالتّوحيد والاعتقاد بالرّسالة ـ كذلك اقتضت تأخير بيان الصّوارف عن زمان العمل بالظّواهر.

بل التّأمّل في الآثار والأخبار الواردة عن النّبي المختار والأئمّة الأبرار ( سلام الله عليهم ) يوجب القطع بكون مبنى البيانات المتأخّرة على ما ذكرنا سيّما ما ورد في بيان معاملة الحجّة المنتظر ( عجّل الله فرجه ، وسلامه عليه وعلى آبائه الطّاهرين ) في زمان ظهوره وأنّه يحكم ببطون كلام الله تعالى وما انطوت عليه الصّحيفة الفاطميّة (١) ( سلام الله عليها ) كما يظهر من رواية

__________________

(١) أقول : الظاهر انه يقصد بها مصحف فاطمة صلوات الله تعالى عليها والروايات الواردة في

٢٧٤

__________________

بيان ما فيه خالية عن ذكر ما أفاده الميرزا الآشتياني قدس‌سره ؛ إذ ليس في مصحف السيّدة سلام الله تعالى عليها شيء من الأحكام وإنّما هو مشتمل على المغيّبات وذكر ما يجري على أولادها وذريّتها إلى يوم القيامة ومن يملك منهم ومن لا يملك.

اللهم إلاّ أن يكون قد خلط بين الجامعة التي هي من إملاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخطّ علي عليه‌السلام وفيها كل شيء حتى أرش الخدش.

وجه الخلط : انه وردت رواية في « البصائر » تصف الجامعة بالوصف الذي أشرنا إليه من دون ذكر لفظ الجامعة ، ووردت رواية أخرى فيه تذكر مصحف السيّدة فاطمة سلام الله تعالى عليها وتقول : إنها من املاء رسول الله وخطّ علي عليه‌السلام.

وربّما يتوهّم من ذلك ان المراد برسول الله في الروايتين شخص واحد وهو الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما يظهر من صاحب كتاب « بهجة قلب المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » حيث قال : ان لفاطمة مصحفا أملاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على علي عليه‌السلام أيام حياته.

والحق انه ليس كذلك ؛ إذ المراد بالأوّل أي الذي أملى الجامعة على أمير المؤمنين عليه‌السلام هو رسول الله الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما ان المراد بالثاني أي : الذي أملى المصحف على أمير المؤمنين عليه‌السلام هو جبرئيل عليه‌السلام وهو رسول الله بلا إشكال. أنظر بصائر الدرجات : ١ / ٣٠٤ ـ ٣٢٥ ـ الباب ١٤ منه.

ومن الغريب : ان صاحب الكتاب المزبور صوّر للسيّدة سلام الله عليها مصحفا آخر أوحاه الله جل جلاله إليها غير المصحف الذي أملاه جبرئيل عليه‌السلام وخطّه عليّ عليه الصلاة والسلام إستنادا إلى الرواية الثالثة من الباب الرابع عشر من « البصائر » للصفّار المعقود في الأئمة عليهم‌السلام أنهم أعطوا الجفر والجامعة ومصحف فاطمة عليها‌السلام.

ولم يلتفت رحمه‌الله إلى ان روايات الباب جميعا تشير إلى مصحف واحد لفاطمة صلوات الله تعالى عليها وهو ما ذكرناه لا غير ، واختلاف الرّوايات في التعبير عنه ليس إلاّ لمجرّد بيان

٢٧٥

جابر (١) وغيرها ، وما ورد في بيان إخفاء الأمير ( سلام الله عليه ) ما جمعه من

__________________

شأن السيّدة سلام الله عليها وعظمة ما أوحى الله تعالى إليها بواسطة جبرئيل عليه‌السلام وأنّها بالمكان الرفيع لدى الرحمن عز وجل في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

نعم ، وردت رواية في « دلائل الإمامة » للطبري منفردا بمسند ضعيف عند المشهور عن أبي بصير تذكر مصحفا للسيّدة صلوات الله تعالى عليها نزل به جبرئيل وميكائيل وهو من درّ أبيض ... إلى آخر الخبر المزبور ، وعلمه مردود إلى أهله.

بقي شيء :

ورد في الخبر الأوّل من الباب ١٤ من الجزء الثالث من المجلّد الأوّل من « بصائر الدرجات » للشيخ محمد بن الحسن الصفّار رحمه‌الله :

« عن الحسين بن أبي العلاء قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : عندي الجفر الأبيض.

قال : قلنا : وأيّ شيء فيه؟

قال : فقال لي : زبور داود وتوراة موسى وإنجيل عيسى وصحف إبراهيم والحلال والحرام ومصحف فاطمة ، ما أزعم أنّ فيه قرآنا ، وفيه ما يحتاج الناس إلينا ولا نحتاج إلى أحد شيء حتى أنّ فيه الحدّ بالجلدة ونصف الجلدة وثلث الجلدة وربع الجلدة وأرش الخدش » الحديث.

وأورده الكافي في الأصول : ج ١ / ٢٩٨ باب ٤٠ الحديث ٣.

وظاهره أن مصحف السيّدة مشتمل على الأحكام الفرعيّة ، إلاّ انه لا بد من رفع اليد عن ذلك وإرجاع الضمير إلى الجفر المشتمل على ذلك كلّه.

ويؤيّده خبر حماد بن عثمان عن أبي عبد الله عليه‌السلام في وصف مصحف السيّدة عليها‌السلام حيث يقول : أمّا إنّه ليس فيه شيء من الحلال والحرام ولكن فيه علم ما يكون.

وكيف كان : فإن خبر الحسين بن أبي العلاء يمكن أن يكون مستمسكا للميرزا الآشتياني قدس‌سره فيما أفاد إلاّ انه لا يصلح للإعتماد لما عرفته.

(١) لم نجد لجابر رواية بهذا المضمون ، لا الجعفي ولا الأنصاري اللهم إلاّ أن يريد حديث

٢٧٦

آيات الكتاب (١) بعد رحلة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ ضرورة عدم نسخ الدّين في زمان ظهور الحجّة ، فليس الوجه إلاّ أنّ الأئمّة عليهم‌السلام كانوا مكلّفين بإظهار ما أمروا بإظهاره في أزمنتهم كلّ بحسب ما يقتضيه تكليفه حسب المصلحة.

لا يقال : ما ذكر ينافي شأن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سيّما بملاحظة ما ثبت عنه في حجّة الوداع كما في « الكتاب » وغيره : من بيانه جميع ما يحتاج إليه الأمّة ، وأنّه أكمل الدّين ، وبلّغ جميع ما أمر بتبليغه.

لأنّا نقول : ما ذكرنا لا ينافي كونه رسولا مبلّغا تمام الدّين إلى الأمّة ؛ فإنّ بيانه جميع الأحكام لا ينافي إيداعه جملة من الأحكام عند الأوصياء يبيّنونها للأمّة حسب اقتضاء المصلحة في مرور الأعصار.

فإن قلت : ما ذكر يوجب سدّ باب التّمسك بالظّواهر للمخاطبين وغيرهم ؛ إذ بعد تجويز تأخير البيان عن وقت الحاجة ليس هنا ما يقضي بإرادة المتكلّم ظاهر كلامه ، فيوجب ذلك إجمال جميع الخطابات بل الألفاظ ؛ إذ غاية ما يدفع بالأصول العقلائية هو احتمال السّهو والخطأ والاشتباه ونحوها ، وأمّا احتمال التّعمّد في ترك

__________________

اللّوح الذي رواه جابر الأنصاري وهو أجنبي عن محل البحث كما هو واضح ، والله العالم.

نعم ، وردت روايات كثيرة في انه روحي وأرواح العالمين لتراب مقدمه الفداء يحكم بحكم داود وما هو مدّخر عنده من مواريث آبائه صلوات الله تعالى عليهم كالجامعة وكتاب علي عليه‌السلام والجفر الأبيض المشتمل على مواريث الانبياء.

(١) أنظر الحديث الثالث من الباب السادس ( في الأئمة : ان عندهم جميع القرآن الذي أنزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) من الجزء الرّابع من المجلّد الأوّل من « بصائر الدرجات » للشيخ محمد بن الحسن الصفّار القمّي.

٢٧٧

نصب القرينة والصّارف فليس هناك ما يدفعه ، وليس مرجوحا أيضا بعد كثرة وقوعه ، وهذا ما ذكرنا من إداء ذلك إلى إجمال الألفاظ بأسرها.

قلت : إيجاب ما ذكرنا لسدّ باب التّمسك بالظّواهر توهّم فاسد ؛ إذ التّعمّد في ترك نصب القرينة لرعاية المصلحة في اختفاء المراد على خلاف ما يقتضيه الأصول ، ووضع التّخاطب والمحاورات ، فلا يعتنى باحتماله عند أهل اللّسان ، فهو نظير التّورية فيما كان هناك ما يقتضي إخفاء المراد. مع أنّ تجويزها لا يوجب التّوقّف والإجمال وسدّ باب التّمسّك بالظّواهر عند احتمالها. وهذا هو المراد بما أفاده شيخنا العلاّمة في الجواب عن السّؤال المذكور بقوله : ( قلت : المستند في إثبات أصالة الحقيقة ... إلى آخره ) (١).

ثمّ إنّ ما ذكرنا لا يختصّ بالمخصّصات والمقيّدات المتأخّرة الواردة بعد العمل بالعمومات والمطلقات ، بل يجري في جميع الصّوارف المتأخّرة عن أزمنة العمل بالظّواهر ؛ فإنّه وإن احتمل كونها كاشفة عن القرينة المختفية عن أهل زمان الاطّلاع على الصّوارف ، إلاّ أنّ المتعيّن على ما عرفت جعلها قرينة بأنفسها مختفية عن أهالي أزمنة ورود الظّواهر في حقّهم أو مخاطبتهم بها وكون تكليفهم ظاهرا العمل بتلك الظّواهر.

ثمّ إنّا وإن أشرنا إلى جملة من المرجّحات الصّنفيّة والنّوعيّة بحسب الدّلالة في مطاوي كلماتنا إلاّ أنّه لا بأس في شرح القول في بعضها اقتفاء لأثر شيخنا الأستاذ العلاّمة.

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٤ / ٩٧.

٢٧٨

فمنها : ما إذا ورد هناك عام ومطلق تعارضا في بعض مصاديقهما كقوله يجب إكرام العلماء ، ويستحبّ إكرام الشّاعر ، بناء على القول بظهور الجمع المحلّى في العموم ، والمفرد المحلّى في الإطلاق ، وقوله أكرم عالما ولا تكرم شاعرا ؛ فإنّهما كما ترى يتعارضان في مادّة الاجتماع منهما وهو العالم الشّاعر بالعموم والإطلاق. ولا إشكال في ترجيح العموم على الإطلاق نوعا وجعله صارفا عن الإطلاق وقرينة للتّقييد. وهذا معنى قولهم : إنّ التّقييد أولى من التّخصيص ، فيحكم في المثال الأوّل بوجوب إكرام العالم الشّاعر ، وفي الثّاني بحرمته.

أمّا على ما اختاره سلطان العلماء في حقيقة المطلق : من كونه موضوعا للماهيّة المهملة ، وكون التّقييد حقيقة إذا لم يكن باستعمال المطلق فيه فواضح ؛ لأنّ ظهوره على هذا القول في الإطلاق بعد اجتماع الشّرائط ليس مستندا إلى الوضع بل إلى الحكمة وعدم بيان القيد فيما كان المقام مقام البيان ، فأصالة الإطلاق أصل تعليقي بالنّسبة إلى ما يدلّ على التّقييد ولا تكون في مرتبته ، وهذا بخلاف العموم فإنّه مستند إلى الوضع فيكون الدّال عليه نفس اللّفظ ، فيكون دليلا على التّقييد وبيانا له بحكم العرف والشّرع من حيث كونه دليلا تنجيزيّا بالنّسبة إلى أصل الإطلاق ، وإن كان تعليقيّا بالنّسبة إلى الخاصّ أيضا.

فلو جعل نفس الإطلاق مانعا عن العمل بالعموم والحال هذه لزم الدّور جزما ؛ حيث إنّ ظهور اللّفظ في الإطلاق المعلّق على عدم العموم موقوف على عدم العموم المستندة إلى الإطلاق بالفرض ، فيلزمه ما ذكر من الدّور. نظير جعل قاعدة لزوم دفع الضّرر المحتمل مانعا عن العمل بقاعدة « قبح العقاب بلا بيان » في موارد البراءة العقليّة على ما نبّهناك عليه في الجزء الثّاني من التّعليقة.

٢٧٩

فإن قلت : كما أنّ الحكم بمقتضى الإطلاق موقوف على نفي ما يصلح للتّقييد كذلك الحكم بالعموم موقوف على نفي التّخصيص ولو بالأصل ، ضرورة أنّ الوضع ليس علّة تامّة للظّهور وإنّما هو مقتض له ، فيتوقّف ظهور اللّفظ على نفي القرينة الصّارفة ، فكما أنّ الإطلاق يتوقّف على نفي التّقييد ولو بالأصل ، كذلك العموم يتوقّف على نفي المخصّص ولو بالأصل ، فظهور اللّفظ في المراد في كلّ منهما يتوقف على الإطلاق ، غاية ما هناك : كون عدم القيد جزءا للمقتضي على مذهب السّلطان وعدم التّخصيص معتبرا في ظهور العام من حيث عدم المانع وهذا المقدار لا يؤثّر في التّوقف قطعا.

فإذا أريد التّمسّك بالعموم فيما كان هناك مطلق لا يجامع إطلاقه مع إرادة العموم ، فلا بدّ من رفع إطلاقه فإذا استند إلى نفس العموم فيتوجّه عليه ـ لا محالة ـ : لزوم الدّور من حيث توقّف رفع الإطلاق على العموم المتوقّف على رفعه. وهذا معنى ما يقال : من تعاكس الدّور في المقام ، فلا بدّ من الحكم بكونهما في مرتبة واحدة ، فلا ترجيح للعموم على الإطلاق ولا للإطلاق ترجيح عليه.

قلت : ما ذكر من لزوم الدّور في جانب العكس توهّم فاسد ؛ فإنّ التمسّك بالعموم في الفرض لا يتوقّف على رفع الإطلاق ؛ حيث إنّه لا مقتضى لوجوده حتّى يتشبّث في رفعه إلى العموم ، لما عرفت : من كون التّمسّك به دوريّا كما هو الشّأن في التّمسّك بكلّ تعليقي في مقابل التّنجيزي ، فالإطلاق وإن كان من الظّواهر المعتبرة إلاّ أنّه بمنزلة الأصل بالنّسبة إلى العموم ، وهو بمنزلة الدّليل بالنّسبة إليه. هذا كلّه على ما اختاره سلطان العلماء في حقيقة المطلق.

وأمّا على ما ذهب إليه المعظم في حقيقته : من كون الانتشار والعموم البدلي

٢٨٠