بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٨

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٨

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-351-4
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٨٢٠

وفي العمل بدليل حجيّتهما صدورا فيكون كالجمع بين البيّنتين كما ستقف على شرح القول فيه.

وقد وقع التّصريح بما ذكرنا في المراد من « الجمع » مع كمال ظهوره في « الكتاب » وفي كلام غير واحد فلا تغرّنك ما تراه في كلام بعض ، هذا بعض الكلام في الجمع.

وأمّا « الإمكان » فكلماتهم غير نقيّة عن التّشويش والاختلاف في المراد منه وقد صرّح شيخنا الأستاذ العلاّمة قدس‌سره في « الكتاب » : بأنّ المراد منه الإمكان العرفي في مقابل الامتناع عندهم ؛ حيث إنّ الحكم بإرادة خلاف الظّاهر من اللّفظ من دون قرينة وشاهد ممتنع عند العرف والعقلاء وأهل اللّسان ، وإلاّ لم يكن الظّهور معتبرا عندهم وهو خلف.

ووافقه في ذلك غير واحد ، بل استظهره من كلام صاحب « الغوالي » المدّعي للإجماع على تقديم الجمع على الطّرح (١) ؛ إذ لو لا إرادة هذا المعنى لم يبق مورد للعمل بالمرفوعة ، مع أنّه صرّح بوجوب الرّجوع إليها فيما لم يمكن الجمع بين الخبرين المتعارضين ؛ إذ على تقدير إرادة الإمكان العقلي وحمل المتعارضين أو أحدهما على معنى لا شاهد له أصلا ، بمجرّد إمكان إرادته واحتماله بضرب من التّأويل لم يبق مورد للعمل بالحديث.

وحاصل هذا المعنى كما ترى بعد خروج فرض وجود الشّاهد من الخارج على إرادة خلاف الظّاهر من المتعارضين عن محلّ الكلام ، وخروج النّص

__________________

(١) غوالي اللئالي : ج ٤ / ١٣٦.

٨١

والظّاهر عن عنوان المتعارضين ـ على ما عرفت وستعرف ـ يرجع إلى بيان لزوم تقديم التّرجيح من حيث الدّلالة وقوّة الظّهور على سائر وجوه التّراجيح كتقديمه وتقديمها على التّخيير اتّفاقا في قبال من أوهم كلامه تقديمها عليه كالشّيخ قدس‌سره في بعض كلماته على ما ستقف عليه ، ولو جعل تقابل النّص والظّاهر من التّعارض مسامحة أمكن التّعميم له فتكون القاعدة مسوقة لبيان تأخّر مرتبة سائر وجوه التّراجيح عمّا كان في المتعارضين من الشّاهد على التّصرّف سواء كان بالنّصوصيّة أو قوّة الظّهور والدّلالة هذا.

والظّاهر من غير واحد : هو الإمكان العقلي ، تحكيما لدليل الصّدور مثلا على دليل اعتبار الظّهور فيحكم لأجله بإرادة ما لا يساعده ظاهر المتعارضين منهما أو من أحدهما ، فيحكم بإرادة عذرة غير المأكول ممّا دلّ على كون ثمن العذرة سحتا ، وبإرادة خرء المأكول وبوله ممّا نفى البأس عن خرء الطّير وبوله جمعا وهكذا ، إذا لم نقل بتيقّن إرادة غير المأكول من الحديث الأوّل ، والمأكول من الثّاني فيكون كلّ منهما نصّا من جهة وظاهرا من أخرى فيدفع ظاهر كلّ منهما بنصّ الآخر. أو قلنا بذلك مع الالتزام بعدم تأثير متيقّن الإرادة في النّصوصيّة بحسب اللّفظ كما ستقف على شرح القول فيه.

ومثله : ما إذا ورد في العرف من المولى الأمر بإكرام العلماء والنّهي عن إكرامهم فيحمل الأوّل على إرادة العدول والثّاني على إرادة الفسّاق منهم جمعا ، وبهذا سلك جماعة في الفقه منهم : ثاني الشّهدين في مواضع من كتبه ، والمتصوّر المعقول من هذا الوجه : ما إذا أمكن حمل المتعارضين أو أحدهما على خلاف الظّاهر بضرب من التّأويل والتّصرّف من غير قرينة من الدّاخل والخارج كما

٨٢

عرفته في المثالين ، وأمّا مجرّد الحكم بإرادة خلاف الظّاهر على سبيل الإجمال وإن لم يحكم بتعيينه أصلا ، كما يسلك فيما كان ظاهره من الآيات والسّنة خلاف الدّليل القطعي من العقل والإجماع حتّى يصير نتيجة الجمع هي مجرّد الحكم بإجمالهما والرّجوع إلى الأصول العمليّة ، فالظّاهر أنّه ليس مرادا من القاعدة إتفاقا ؛ لأنّه يوجب سدّ باب التّرجيح والتّخيير والهرج والمرج وفقها جديدا قطعا وإن أوهمه بعض كلمات شيخنا في « الكتاب » على ما ستقف عليه.

ثمّ إنّ الجمع الّذي ارتكبه الشّيخ قدس‌سره (١) في الأخبار المتعارضة في « كتابيه » يمكن أن يكون مبناه على هذا المعنى الثّاني على أضعف الاحتمالين وإن يكون مبنيّا على مجرّد رفع التّعارض والاختلاف الواقعي بين الأخبار المتعارضة مع كثرتها من غير أن يكون العمل عليه صونا لحفظ إيمان العامة وعدم خروجهم عن هذا الدّين : من جهة مشاهدة كثرة الاختلاف بين الأخبار كما ذكره في أوّل كتابه ، ومن هنا سمّي « بالجمع التّبرعي » في كلماتهم.

ثمّ إنّ المتّبع الدّليل الّذي أقيم على الجمع ، فلا فائدة في إتعاب النّظر في تحقيق المراد بعد ظهور الاختلاف فنتكلّم في المقام الثّاني في كلّ من المعنيين فإذا لم يساعد الدّليل على المعنى الثّاني فلا نقول به وإن كان مرادا من القاعدة هذا.

وأمّا « الأولويّة » فالمراد بها ـ كما صرّح به غير واحد ـ هو التّعيين كما هو

__________________

(١) أقول : يريد شيخ الطائفة محمد بن الحسن الطوسي قدس‌سره المتوفى سنة ٤٦٠ ه‍ في كتابيه : « التهذيب » و « الاستبصار ».

٨٣

شايع من استعمالها كما في آية « أولي الأرحام » (*) ولم يخالف فيه أحد ظاهرا ؛ فإنّ بعض الأخباريّين وإن ذهب إلى رجحان التّرجيح وكونه أفضل والأولى دفعا للتّعارض بين الأخبار العلاجيّة على ما ستقف عليه ، إلاّ أنّ من أوجبه قدّم الجمع عليه ، وهو الّذي يقتضيه دليله أيضا.

وأمّا « الطّرح » فلا إشكال في كون المراد منه الأعمّ من القسمين ، أي : الطّرح معيّنا للتّرجيح ولا على التّعيين للتّخيير كما هو صريح كلام ابن أبي جمهور وغيره وهو الّذي يقتضيه دليله أيضا. وإن كان في كلام الشّيخ والمحقّق القمّي ( قدس الله أسرارهما ) في باب حمل العامّ على الخاصّ ما يتوهّم منه خلافه كما ستقف عليه هذا بعض الكلام في المراد من القاعدة.

__________________

(*) إشارة إلى قول الله عزّ وجل : ( وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ ) [ الأنفال : ٧٥ والأحزاب : ٦ ].

٨٤

* مدرك قاعدة الجمع

وأمّا الكلام في مدركها فحاصله : أنّه استدلّ لها بوجوه :

الأوّل : الإجماع ادّعاه ابن أبي جمهور في « غواليه » (١) ويظهر من غيره أيضا.

الثّاني : أنّ دلالة اللّفظ على تمام معناه أصليّة وعلى جزئه تبعيّة وإهمال الثّاني اللاّزم على تقدير الجمع أولى من إهمال الأوّل اللاّزم على تقدير الطّرح ذكره العلاّمة قدس‌سره في محكيّ « النّهاية ».

الثّالث : أنّ الأصل في الدّليلين الإعمال فيجب الجمع مهما أمكن ؛ لاستحالة التّرجيح من غير مرجّح ذكره ثاني الشّهيدين ( قدس أسرارهما ) وغيره في الاستدلال على القاعدة.

وأنت خبير بما في هذه الوجوه من وجوه المناقشة بل الفساد :

أمّا الأوّل : فلأنّه إن أريد من الجمع في كلام مدّعي الإجماع الجمع في الجملة على سبيل القضيّة المهملة أعني : بعض أفراده ، وبعبارة أخرى : المعنى الأوّل من الجمع الّذي يساعد عليه العرف وأهل اللّسان عند عرض المتعارضين عليهم.

ففيه : أنّ الإجماع عليه بحسب الظّاهر وإن كان مسلّما بعد البناء على عدم قدح مخالفة ما يتراءى من الشّيخ والمحقّق القمّي ( قدس أسرارهما ) فيه ، إلاّ أنّه لا

__________________

(١) غوالي اللآلي : ج ٤ / ١٣٦.

٨٥

يجدي في دعوى الكليّة كما ربّما يستظهر من كلام المدّعي.

وإن أريد منه الكليّة ، أي : المعنى الثّاني الّذي عرفته ، فتطرّق المنع إليه واضح جلي وإن كان ظاهر جماعة في الفقه عند الاستدلال بالقاعدة ، بل ذكر شيخنا قدس‌سره :

أنّه لو ادّعي الإجماع على فساد هذا المعنى كما عن الفريد البهبهاني قدس‌سره (١) فيما أملاه في القاعدة كان أولى بالتّصديق.

وأمّا الثّاني : فلأنّه يتوجّه عليه :

أوّلا : أنّ هذا الدّليل على فرض تماميّة أخصّ من المدعى ؛ إذ ليس الكلام في الجمع في خصوص ما يتوقّف الجمع فيه على التّصرف في المتعارضين كما هو ظاهر ، وإثبات المدّعى بضميمة الإجماع المركّب خروج عن الاستدلال بنفس الدّليل المذكور ، اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ الغرض دوران الأمر بين طرح الدّليلين من غير نظر إلى تعدّده ووحدته. أو يقال : إنّ الغرض من هذا الدّليل هو إثبات المدّعى في بعض صور المسألة في قبال السّلب الكلّي كما ذكره بعض أفاضل من تأخّر.

وثانيا : نمنع من لزوم طرح الدّلالة الأصليّة بل مطلق الدّلالة على تقدير الطّرح ، بل اللاّزم هو طرح السّند ليس إلاّ على تقديره كما ستقف على شرح القول فيه عن قريب.

وثالثا : أنّ دلالة العام على أفراده ليست بالتّضمّن على ما يقتضيه التّحقيق عند المحقّقين ؛ لأنّ العموم الموضوع له أمر بسيط وحداني لا تركيب ولا تجزية فيه أصلا ، ولا ينافيه ظهور العام في إرادة الباقي بعد ورود التّخصيص عليه إن لم

__________________

(١) انظر الفوائد الحائرية الفائدة الثالثة والعشرون : ٢٣٣.

٨٦

يكن دليلا عليه فتأمّل (١). والتّفصيل يطلب من مسألة العموم والخصوص.

ورابعا : بعد الإغماض عمّا ذكر يلزم على تقدير الجمع أيضا طرح الدّلالة الأصليّة والأخذ بالتبعيّة وإليه يرجع ما عن العلاّمة قدس‌سره في « النّهاية » في الاعتراض على الدّليل المذكور : « بأنّ العمل بكلّ منهما من وجه عمل بالدّلالة التّابعة من الدّليلين والعمل بأحدهما دون الآخر عمل بالدّلالة الأصليّة والتّابعة في أحد الدّليلين وإبطالهما في الآخر ، ولا شكّ في أولويّة العمل بأصل وتابع من العمل بتابعين وإبطال الأصلين » (٢). انتهى كلامه رفع مقامه.

وهو كما ترى ، لا بدّ أن يكون مبنيّا على الإغماض والمماشاة وإلاّ فقد عرفت : أنّه على الطّرح لا يلزم إبطال الدّلالة أصلا هذا.

وقد ناقش فيما أفاد قدس‌سره السيّد عميد الدّين في محكيّ « شرح التّهذيب » : « بأنّ العمل بأصل وتابع إنّما يكون راجحا بالنّسبة إلى العمل بتابعين إذا كانا من دليلين لا ما إذا كانا من دليل واحد وكان التّابعان من دليلين ؛ لأنّ فيه تعطيلا للّفظ وإلغاء له بالكلّية ، ومن المعلوم أن التّأويل أولى من التّعطيل » (٣). انتهى كلامه.

وأنت خبير بما فيه ؛ فإنه في مقام الاعتراض على الدّليل المذكور

__________________

(١) وجه التأمّل : ان دلالة العام على إرادة كل فرد وإن لم تكن مربوطة بدلالة على إرادة العموم ومن هنا يحكم بظهوره في الباقي عند قيام الدليل على التخصيص ، إلاّ انّها حين إرادة العموم ليست دلالة مستقلّة ، بل تابعة ، وإن لم تكن تضمّنية فالمراد مجرّد التبعيّة وإن كان التعبير قاصرا فتأمّل. منه دام ظله العالي.

(٢) نهاية الوصول إلى علم الأصول ( مخطوط ).

(٣) انظر مفاتيح الأصول : ٧١٠.

٨٧

ولا يتوجّه عليه ما أورده عليه وإن كان التّحقيق عندنا حسبما ستقف عليه : عدم أولويّة لأحدهما على الآخر بالنّظر إلى دليل حجيّة الصّدور والظّهور ويظهر ما في كلام السيّد ممّا سنذكره إن شاء الله تعالى.

وخامسا : أنّ هذا الوجه مجرّد استحسان لا يجوز الاعتماد عليه والمعتمد هو الدّليل القاضي بترجيح أحدهما على الآخر من الخارج فتدبّر.

وأمّا الثّالث : فلأنّه غير محصّل المراد بظاهره كما صرّح به المحقّق القمّي وغيره ؛ فإنّ في الطّرح ليس ترجيحا من غير مرجّح أصلا ، فإن طرح أحدهما معيّنا لمكان رجحانه ليس فيه ترجيحا من غير مرجّح ؛ ضرورة كونه من جهة المرجّح بالفرض ولا على التّعيين الّذي هو مرجع التّخيير لا ترجيح فيه أصلا ، حتّى يتكلّم أنّه مع المرجّح أو لا معه ، وأمّا اختيار أحدهما بحسب الدّواعي الّذي ليس من مقولة الحكم أصلا فلا ينفكّ عن المرجّح النّفساني ، فأين التّرجيح بلا مرجّح؟

قال في « القوانين » بعد نقل الوجه المذكور عن « التّمهيد » ما هذا لفظه :

« ولم أتحقّق معنى قوله : ( لاستحالة التّرجيح من غير مرجّح ) (١) إذ المفروض عدم ملاحظة المرجّح ، وإلاّ فقد يوجد المرجّح لأحدهما » (٢). انتهى كلامه رفع مقامه.

ووجّهه في « القوانين » بعد الاعتراض الّذي عرفته بما هذا لفظه :

« وتوجيهه أن يقال : إنّه مراده إذا أمكن العمل بكلّ منهما ولو كان بإرجاع

__________________

(١) تمهيد القواعد : ٢٢٧.

(٢) قوانين الأصول : ج ٢ / ٢٧٢.

٨٨

التّوجيه إلى كليهما فمع ذلك لو عمل بأحدهما وترك الآخر فيلزم التّرجيح من غير مرجّح ؛ إذ المفروض أنّ موضوع الحكمين مغاير في الدّليلين فلا معنى لملاحظة التّرجيح بينهما ؛ لأنّ كلّ واحد من الدّليلين حينئذ دليل على حكم شيء آخر فضعف أحدهما بالنّسبة إلى الآخر لا يصير منشأ لترك مدلوله ... إلى آخر ما ذكره قدس‌سره » (١).

وحاصله : كما ترى ؛ أنّه بعد الجمع والتّأويل يكون الموضوع في كلّ منهما مغايرا لموضوع الآخر فإن عمل بأحدهما دون صاحبه حينئذ لزم التّرجيح بلا مرجّح هذا.

وفيه ما لا يخفى ؛ إذ مجرّد إمكان التّأويل لا يوجب اختلاف الموضوعين وإنّما الموجب له فعليّة التّأويل والكلام فيها فهو كما ترى أيضا غير محصّل المراد كما صرّح به غير واحد.

ووجّهه بعض من قارب عصرنا بعد الاعتراض عليه أيضا بما هذا لفظه :

« أقول : ويمكن توجيهه : إمّا بجعله تعليلا لكون الأصل في كلّ منهما الإعمال ، أو للجمع بما أمكن من غير اختصاص ببعض وجوه الجمع ، أو لما يفهم من كلامه من وجوب الجمع لا مجرّد الجواز أو الأولويّة » (٢). انتهى كلامه رفع مقامه.

وأنت خبير بما في الأخير ؛ وأمّا الأوّلان فلا بأس بهما في مقام التّوجيه وإن

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) الفصول الغرويّة : ٤٤٠.

٨٩

كان الأوّل أظهر. والمراد منه : أنّ بعد تساوي المتعارضين فيما هو المعتبر في حجيّتهما الذّاتيّة ككونهما خبر واحد عدل مثلا فلا بدّ من الالتزام بشمول الدّليل لهما من غير فرق ؛ إذ لو قيل بشمول الدّليل لأحدهما دون الآخر بعد فرض تساويهما بالنّظر إليه لزم التّرجيح من غير مرجّح ، والمراد من الأصل في كلامه : القاعدة ، أو الظّاهر المستفاد من دليل اعتبار المتعارضين ، وحاصله : جعل نسبة دليل الاعتبار بالنّسبة إلى المتعارضين كنسبته بالنّسبة إلى الأفراد الغير المتعارضة من حيث الحكم بالشّمول الذّاتي والشّأني.

فإن شئت قلت : على تقدير الطّرح : إمّا أن نقول بعدم شمول دليل الاعتبار للمطروح مع كونه مساويا للمأخوذ في شرائط العمل والحجيّة ، وإمّا أن نقول بوجود المقتضي للعمل فيهما ، إلاّ أنّ التّعارض مانع له فيجب رفع اليد عن العمل بأحدهما لعدم إمكان العمل بهما والأوّل ترجيح بلا مرجّح ، والثّاني لا يصلح مانعا بعد إمكان التّأويل والعمل بهما في الجملة ولو بالحمل على إرادة خلاف الظّاهر ، ولعلّه راجع إلى تحكيم دليل الصّدور على دليل الظّاهر على ما أسمعناك سابقا إجمالا وسنتكلّم فيه تفصيلا.

وقال في « المناهج » :

« قوله : ( لاستحالة التّرجيح من غير مرجّح ) (١) يريد به أنّا إن عملنا بأحد المتعارضين وطرحنا الآخر مع إمكان الجمع لزم التّرجيح من غير مرجّح ؛ إذ ليس طرح أحدهما والعمل بالآخر أولى من العكس.

__________________

(١) تمهيد القواعد : ٢٧٧.

٩٠

لا يقال : قد يتحقّق لأحدهما مرجّح من حيث المتن أو القرائن الخارجيّة فكيف يصحّ نفيهما؟

لأنّا نقول : لا يصلح تلك المرجّحات للتّرجيح مع إمكان الجمع بحمل الظّاهر على الصّريح ، مثلا إذا تعارض العامّ والخاصّ وكان الأوّل أقوى سندا فقوّة سنده لا تصلح مرجّحا لتقديمه على الخاصّ ؛ لضعف دلالة الأوّل وقوّة دلالة الثّاني فتقديمه عليه ترجيح من غير مرجّح. ولا يذهب عليك أنّ هذا التّعليل قاصر عن إفادة المقصود ؛ لأنّه إنّما يقضي ببطلان تعيين أحدهما للحجيّة وهو غير متعيّن على تقدير ترك الجميع لإمكان ترجيحهما معا أو البناء على التّخيير » (١). انتهى كلامه.

وهو كما ترى ، مبنيّ على حمل كلام المستدلّ على صورة وجود الشّاهد الدّاخلي للجمع سواء كان بنصوصيّة أحدهما أو قوّة في دلالته فيخرج عن مسألة التّعارض في بعض الصّور ، بل جميعها في وجه ستقف عليه ، فيتوجّه عليه السّؤال الّذي أشار إليه بقوله : ( لا يقال ) وما نبّه عليه بقوله : ( ولا يذهب عليك ). فالأولى في توجيه هذا الوجه التّشبّث بالوجه الأوّل المذكور في كلام بعض أفاضل مقاربي عصرنا (٢).

ثمّ إنّ المذكور في كلام بعض فضلاء العصر : كون الأصل في المسألة عدم الجمع وبطلانه فيلزم على مدّعيه إقامة الدّليل عليه سواء على القول بالطّريقيّة في المتعارضين أو السّببيّة ؛ فإنّ لازم الأوّل : تساقطهما فلا يجوز الأخذ بواحد منهما

__________________

(١) مناهج الأحكام في الاصول ، المنهج الثاني من الخاتمة في التعادل والترجيح ص ٣١٥.

(٢) صاحب الفصول فيما مرّ من كلام له في المقام.

٩١

فضلا عن الأخذ بكليهما ، ولازم الثّاني : بحكم العقل التّخيير فلا معنى للأخذ بهما.

ولكنّك خبير بما فيه ؛ فإنّ للقائل بالجمع أن يقول : بأنّ مورد التّساقط والتّخيير فيما لا يمكن العمل بالدّليلين بحسب أدلّة الصّدور ، وإلاّ فلا تعارض في الحقيقة ، فالمانع من الجمع حقيقة هو دليل التّعبّد بالظّهور كما ستقف عليه.

صور التعارض

إذا عرفت ذلك فنقول : تحقيقا للمقام وتوضيحا للمرام : أنّ صور التّعارض لا يخلو من أربعة ؛ لأنّه إمّا أن يكون لأحدهما قوّة بحسب الدّلالة أو لا ، وعلى الثّاني : أمّا أن يحصل الجمع بالتّصرّف في أحدهما محمولا أو موضوعا ، أو يتوقّف على التّصرف فيهما كذلك. وعلى الأوّل ، أي : حصول الجمع بالتّصرف في أحدهما : إمّا أن يكون النّسبة بينهما العموم من وجه ، أو غيره من العموم والخصوص ، أو التّباين. فالصّور أربعة.

والكلام في حكم الصّور قد يقع فيما يقتضيه القاعدة بملاحظة دليلي اعتبار الصّدور والظّهور وأنّ مقتضاهما تقديم الجمع على الطّرح ، أو العكس ، أو لا اقتضاء لهما أصلا ، فلا أولويّة لأحدهما على الآخر ، وقد يقع فيما يقتضيه الدّليل الخارجي.

والكلام من الجهة الأولى ، أي : فيما يقتضيه القاعدة إنّما هو في غير الصّورة الأولى ، وأمّا هي فلا إشكال في أنّ مقتضاها تقديم الجمع على الطّرح كما ستقف عليه.

وتفصيل القول من الجهة الأولى :

أنّك قد عرفت : أنّ ظاهر غير واحد كون مقتضى القاعدة تقديم الجمع على

٩٢

الطّرح وأولويّته بالنّسبة إليه مطلقا. وقد يقال : إنّ مقتضاها العكس مطلقا. وقد يقال : إنّ مقتضاها التّسوية بينهما وعدم أولويّة لأحدهما على الآخر مطلقا. وقد يقال : إنّ مقتضاها التّفصيل وتقديم الطّرح فيما يتوقّف الجمع على التّصرّف في المتعارضين دون ما لا يتوقّف على التّصرف فيهما. وقد يقال : بالتّفصيل فيما يحصل الجمع بالتّصرف في أحدهما بين ما كانت النّسبة بينهما العموم من وجه وغيرها ، فيقال بتقديم الجمع على الطّرح في الأوّل دون الثّاني. وقد يقال : بالعكس.

والّذي يقتضيه التّحقيق : عدم أولويّة لأحدهما على الآخر بالنّظر إلى القاعدة مطلقا ؛ نظرا إلى عدم تحكيم وتقديم ذاتي لما دلّ على البناء على صدور المتعارضين على ما دلّ على البناء على اعتبار ظهورهما فيما لم يجعل العرف أحدهما صارفا وقرينة على رفع اليد عن ظاهر الآخر كما هو المفروض ، كما أنّه لا تحكيم للعكس أيضا ؛ لأنّ الشّك في شيء منهما ليس مسبّبا عن الشّك في الآخر ، غاية ما هناك حصول العلم الإجمالي بملاحظة عدم صدور المتنافيين واقعا عن الشّارع بحكم العقل لبيان الحكم الواقعي وباختلال جهة من الجهات المعتبرة في المتعارضين من الصّدور أو جهته أو دلالته ، فلا يمكن جعل دليل اعتبار بعض الجهات الثّلاث حاكما على غيره وبمنزلة الدّليل بالنّسبة إليه.

فكما لا يمكن أن يجعل دليل اعتبار ظاهر قوله مثلا : « أكرم العلماء » ، حاكما على دليل صدور قوله : « لا تكرم العلماء » مثلا فيحكم لأجله برفع اليد عمّا دلّ على التّعبد بصدوره والبناء عليه ، كذلك لا يمكن جعل دليل التّعبّد بصدوره حاكما على ما دلّ على اعتبار ظاهر قوله : « أكرم العلماء » ، وقرينة صارفة عن ظهوره

٩٣

بإرادة بعضهم ، وكذا جعل دليل اعتبار صدوره حاكما على دليل ظاهر قوله : « لا تكرم » ، بإرادة البعض الآخر بحيث يرفع التّعارض بينهما ، وكذا فيما يحصل الجمع برفع اليد عن ظاهر أحدهما كما إذا ورد : « إغسل للجمعة » ، و « ينبغي غسل الجمعة » ؛ فإنّه يحصل الجمع برفع اليد عن ظاهر أحد المحمولين.

لا يقال : إنّ المعتبر ظاهر ما فرغ صدوره عن الحجّة نبيّا كان أو وصيّا فاعتبار الظّهور متفرّع على الصّدور فلا يكون في مرتبته حتّى يزاحمه ويعارضه.

لأنّا نقول : ما ذكر وإن كان مسلّما ، إلاّ أنّ التقدّم والتّأخّر بحسب المرتبة إنّما يلاحظان بالنّسبة إلى كلّ قول وحديث صدورا ودلالة لا بالنّسبة إلى حديثين ، فاعتبار ظاهر قوله : « أكرم العلماء » متفرّع على صدوره فلا يمكن المزاحمة بينهما لا على صدور قوله : « لا تكرم العلماء » ؛ لعدم الارتباط بينهما أصلا ، بل لا يمكن تفرّع صدور حديث على صدور الحديث الآخر كما هو ظاهر.

ومن هنا لو كان هناك حديث ظاهره خلاف الإجماع أو العقل يؤخذ بدليل التّعبّد بصدوره ويرفع اليد عن ظاهره ولا يزاحم بدليل اعتبار ظاهره فيحكم بعدم صدوره والمفروض ليس من هذا ؛ فإنّ المزاحمة فيه إنّما يلاحظ بين الظّاهر من أحد المتعارضين والصّدور من الآخر ، فأين الأصليّة والفرعيّة؟

ومنه يظهر فساد قياس المقام واستنباط حكمه من حديث ظاهره خلاف الإجماع حيث إنّ المسلّم عندهم على ما عرفت الحكم بصدوره والتّصرف في ظاهره.

٩٤

في أن أدلة الصدور حاكمة على أدلّة الظهور أم لا؟

لا يقال : إنّ الأصل اللّفظي وإن كان معتبرا من باب الظّن ، إلاّ أنّه تعليقيّ يعمل به عند الشّك في وجود القرينة ، ودليل اعتبار الصّدور تنجيزيّ فيكون حالهما حال الأصل العملي والدّليل الاجتهادي ، فيكون دليل التّعبّد بالصّدور حاكما على دليل اعتبار الظّهور من حيث إنّ مفاده جعله قرينة للظّاهر ، بل يمكن تنظير المقام وقياسه بالأصل والدّليل على القول بكون الأصل من باب الظّن أيضا ؛ فإنّ المعهود تقديم الدّليل الاجتهادي على الأصل على هذا القول أيضا ؛ فإنّ الاستصحاب مثلا على القول بكونه من باب الظّن أيضا لا يعارض غيره من الأدلّة الاجتهاديّة التنجيزيّة وإن كان على هذا القول دليلا اجتهاديّا أيضا ، وليس ذلك إلاّ من جهة كونه تعليقيّا بالنّسبة إلى غيره من الأدلّة.

لأنّا نقول : كون الأصل اللّفظي تعليقيّا مسلّم ، إلاّ أنّ الكلام في كون دليل الصّدور تنجيزيّا بالنّسبة إليه في الفرض مع ما عرفت : من عدم كون الشّك فيه مسبّبا عنه ؛ إذ كما يجعل دليل الصّدور المشكوك بمنزلة الصّادر كذلك يجعل دليل اعتبار ظاهر الظّهور بمنزلة النّص. ومن المعلوم عدم جواز تصديق الخبر الظّني في مقابل النّص ؛ لكون دليل الظّاهر المفروغ عن صدوره مانعا عن تصديق صدور الآخر فلو استند مع صلاحيّته إلى دليل الصّدور لزم الدّور كما هو ظاهر هذا. مع أنّ دليل الصّدور قد يستند إلى الأصل اللّفظي كعموم آية النّبأ مثلا.

لا يقال : ما دلّ على التّعبد بالصّدور يجعل مشكوك الصّدور في حكم معلوم

٩٥

الصّدور وبمنزلته ، وكما يجعل المعلوم صدوره دليلا على رفع اليد عن ظاهر غيره فيما وقع التّعارض بينهما فكذلك يجعل ما في حكمه دليلا عليه ، فيثبت ما ذكرنا من الأصليّة والفرعيّة.

لأنّا نقول : ما ذكر توهّم فاسد وتمحّل بارد ؛ لأنّ دليل التّعبّد بالصّدور يجعل المشكوك بمنزلة الصّادر الواقعي فيما يترتّب عليه من الأحكام الشّرعيّة لا بمنزلة المعلوم من حيث هذا العنوان ، وعدم المزاحمة فيما ذكر إنّما هو من جهة عدم صلاحيّة المشكوك للمزاحمة مع المعلوم إذا لوحظ بهذا العنوان بحكم العقل هذا.

فإن شئت قلت : إنّ تنزيل المشكوك بمنزلة المعلوم فيما يترتّب عقلا على العلم لا معنى له ، فإذا فرض المتعارضان معلومي الصّدور أو أحدهما معلوم الصّدور على وجه وانحصر التّصرف في الدّلالة كآيتين مثلا ، كان التّصرف في الدّلالة بحكم العقل لا بحكم الشّرع. وهذا بخلاف المقام ؛ فإنّ دليل التّعبّد بصدور المشكوك وإن كان مقتضاه ـ بعد ملاحظة عدم اجتماعه مع إرادة الظّاهر من الآخر ـ رفع اليد عن ظهوره ، إلاّ أنّ دليل التّعبّد بظاهر الآخر المفروغ عن صدوره يقتضي أيضا كونه مرادا للشارع المنافي لصدور الآخر ، فيلزمه رفع اليد عن صدوره وهما في مرتبة واحدة ؛ لأنّ هذا اللّزوم والاقتضاء من الطّرفين مستند إلى العلم بعدم صدور المتنافيين من الشّارع فيحكم لأجله ـ بعد ملاحظة دليل التّعبّد بالصّدور والدّلالة في المتعارضين ـ برفع اليد عن أحدهما على ما عرفت سابقا ، فالأمر دائر بين التّصرّف في أحد الدّليلين ورفع اليد عن مقتضاه من غير فرق بينهما أصلا هذا.

مع إمكان دفع التّوهم المذكور بالمعارضة بأن يقال : إنّ دليل التّعبّد بالظّاهر يجعل كلاّ من الظّاهرين بمنزلة النّص ، ومن المعلوم رفع اليد عن الصّدور فيما

٩٦

تعارض النصّان بحسب الدّلالة ، اللهمّ إلاّ أن يدفع المعارضة : بأن التّنزيل المذكور يرجع نتيجته عند التأمّل برفع اليد عن الصدور بالدّلالة مع عدم إمكان المزاحمة بينهما ، اللهمّ إلاّ أن يجعل المزاحمة بالنّسبة إلى ما هو محلّ الكلام من الأمرين لا مطلقا ، فلا يلزم المحذور المذكور فتدبّر.

فإن قلت : لو لم يكن لدليل التّعبّد بالصّدور حكومة على دليل التّعبّد بالظّهور لزم الحكم بإجراء حكم التّعارض فيما كان أحدهما نصّا أو أظهر بالنّسبة إلى الآخر من الرّجوع إلى المرجّحات أو التّخيير ، مع أنّ المسلّم عندهم على ما عرفت وستعرف : الحكم بصدوره وجعله قرينة للظّاهر تحكيما لدليل الصّدور.

قلت : قياس الظّاهرين بمورد النّقض قياس مع الفارق ؛ حيث إنّ الشّك في المقيس عليه في الظّاهر مسبّب عن الشّك في صدور الآخر من حيث صلاحيّته للقرينيّة والصّارفيّة في نفسه ، فيكون التأمّل في جعله صارفا من جهة احتمال عدم صدوره ، فحكم الشّارع بعدم الاعتناء بهذا الاحتمال في معنى حكمه بجعله صارفا للظّاهر ولا معنى له غيره على ما أسمعناك سابقا ، وهذا بخلاف المقام ؛ فإنّ رفع اليد عن الظّاهر لا بدّ وأن يكون بانضمام مقدّمة متساوية النّسبة بكلّ من دليلي اعتبار الصّدور والظّهور فكيف يجعل أحدهما مقدّما على الآخر ذاتا.

فإن قلت : لازم ما ذكر كون الطّرح أولى من الجمع بالنّظر إلى القاعدة فيما يتوقّف الجمع على التّصرف فيهما ؛ حيث إنّ اللاّزم من الطّرح مجرّد مخالفة دليل التّعبّد بالصّدور في المطروح وليس فيه مخالفة دليل التعبّد بظاهره : من جهة عدم كون المطروح كلام المعصوم حتّى يجب الأخذ بظاهره بناء على ما أسمعناك : من كون موضوع دليل اعتبار الظّاهر الكلام المفروغ صدوره عن الحجّة ، وهذا بخلاف

٩٧

الجمع ؛ فإنّ المفروض فيه الحكم بصدور المتعارضين فيصير ظاهرهما موضوعا لدليل التّعبّد به فيلزم مخالفته بالنّسبة إلى كلا الظّاهرين ونتيجته مخالفة الأصلين. نعم ، فيما يحصل الجمع بالتّصرف في ظاهر أحدهما يكونان ـ أي : الجمع والطّرح ـ في مرتبة واحدة.

قلت : ما ذكر من أولويّة الطّرح في الصّورة المذكورة ؛ نظرا إلى ما ذكر في وجهه توهّم ؛ حيث إنّ الجمع في الفرض وإن توقّف على رفع اليد عن ظاهر كلا المتعارضين إلاّ أنّ ظاهر غير المفروغ عن الأخذ بصدوره ليس مشمولا لدليل التّعبّد بالظّواهر حتّى يكون طرحه خلافا للأصل ؛ فإنّ المتوهّم اعترف بتفرّع اعتبار الظّاهر بمقتضى دليله على الأخذ بصدوره. ومن هنا قال : بأنّ طرح ظاهر المطروح ليس محرّما من جهة عدم شمول دليل التّعبّد بالظّاهر له ، فإذا كان لازم الأخذ بصدور المردّد هو رفع اليد عن ظهوره كما هو المفروض فكيف يكون ظهوره مانعا عنه مع أنّه تابع له فيكون محالا؟

توضيح ذلك : أنّ المتعارضين في الفرض مشتملان على سندين وظاهرين والصّدور من أحدهما مأخوذ على كلّ تقدير ، فيكون ظاهره مشمولا لدليل اعتبار الظّواهر ، كما أنّ ظاهر الآخر غير مشمول لدليل اعتبار الظّواهر ؛ للقطع بعدم إرادته على تقدير البناء على صدوره وعدم شمول الدّليل له ما لم يبن علي صدوره ، فيبقى صدوره وهو مشمول لدليل التّعبد بالصّدور. كما أنّ ظاهر الآخر مشمول لدليل التّعبّد بالظّهور فيكون التّقابل بينهما ليس إلاّ ، فيدور الأمر من جهة رفع التّعارض بين رفع اليد عن الأوّل أو الثّاني من غير تقدّم لأحدهما على الآخر ، وهذا معنى ما ذكرنا : من عدم الأولويّة بالنّظر إلى القاعدة ودليل اعتبار الصّدور

٩٨

والظّهور لشيء منهما ، فلا فرق بين صور التّعارض فيما ذكرنا أصلا هذا.

فإن شئت قلت : إنّ مرجع التّوهم المذكور إلى جعل اعتبار ظاهر الحديث مانعا عن الأخذ بصدوره ، ومرجعه ـ بعد التّسالم على قضيّة الأصليّة والفرعيّة كما ترى ـ إلى لزوم الدّور وهو ما أشرنا إليه : من الاستحالة هذا كلّه فيما إذا كان هناك معنى يحمل الظّاهران أو الظّاهر عليه على تقدير الجمع.

وأمّا إذا تعدّد المعنى المحتمل بحيث يحتمل إرادة كلّ واحد من غير فرق فلازم الجمع والأخذ بصدور المتعارضين الحكم بالإجمال والرّجوع إلى الأصل الغير المخالف لهما فقد يجعل هذا كما في « الكتاب » : من حيث إنّ نفي الثّالث اللاّزم من الأخذ بهما صدورا عمل بهما مسوّغا ومجوّزا للحكم بصدورهما ؛ فإنّ الأخذ بالدّلالة الالتزاميّة نوع من العمل بالحديث وقول المعصوم عليه‌السلام.

لكنّه كما ترى ، لا يخلو عن مناقشة ؛ من حيث إنّ نفي الثّالث ليس لازما للجمع والأخذ بصدورهما معا ، بل لازم الأخذ بالصّدور في الجملة المسلّم بين الفريقين ، فلا معنى لجعله ثمرة عمليّة للأخذ بهما بعنوان الجمع والمعيّة فلم يبق ممّا يمكن أن يترتّب على الجمع إلاّ الإجمال الّذي هو في معنى ترك العمل ؛ فإنّه كما يكون الأخذ بالظّهور متفرّعا على الأخذ بالصّدور كذلك يكون شمول دليل الصّدور موقوفا على وجود أثر عمليّ هناك ؛ حيث إنّ معنى لزوم التّصديق هو الالتزام بالآثار المترتّبة على المخبر به. فكيف يجعل الإجمال من آثاره الّذي هو في معنى ترك العمل به على ما عرفت؟ ومن هنا لا يحكم بشمول دليل الصّدور لما تعيّن حمله على التّقيّة على تقدير الصّدور ، فعلى ما ذكر من المناقشة يكون الطّرح أولى من الجمع بالنّظر إلى القاعدة في الصّورة المسطورة.

٩٩

والقول : بكون الرّجوع إلى الأصل بعد الحكم بإجمال المتعارضين نوع عمل ـ كما لا يأبى عنه بعض عبائر « الكتاب » ـ كما ترى ؛ فإنّ العمل بالأصل متفرّع على عدم وجود الدّليل ، فكيف يجعل عملا به؟

ومن هنا يحمل موارد جمعهم بين التمسّك بالأصل والدّليل في حكم المسألة على إرادة التّنزّل والإغماض عن وجود الدّليل ، فمورد الدّوران ما إذا كانت هناك احتمالات متفاوتة في القوّة والضّعف بعد رفع اليد عن الظّاهر بمقتضى الجمع : بأن يكون بعض المحتملات أقرب المجازات مثلا لا متيقّن الإرادة على تقدير الصّدور ؛ إلاّ إذا قلنا بأن تيقّن الإرادة لا يوجب نصوصيّة الكلام بالنّسبة إلى المراد.

فإذا ورد : « أكرم العلماء » ، ثمّ ورد : « لا تكرم العلماء » مثلا ، وكان العادل متيقّن الإرادة من الأوّل ، والفاسق من الثّاني لم يحكم بكون كلّ منهما نصّا من جهة وظاهرا من جهة فيرفع اليد عن ظاهر كلّ منهما بنصّ الآخر فيخرج عن تعارض الظّاهرين هذا.

وستقف على تحقيق الحقّ من الوجهين والمسلكين عن قريب ، فالصّور ثلاثة عرفت حكمها هذا فيما كانت النّسبة بين المتعارضين التّباين ، أو العموم والخصوص مع التّكافؤ من حيث الدّلالة من جهة اشتمال العام بما يوجب مكافئته ظهورا مع الخاصّ.

وأمّا إذا كانت النّسبة العموم من وجه مع تكافؤ العامّين من حيث الدّلالة كما هو المفروض فقد يقال : في الصّورة بخصوصها على ما عرفت الإشارة إليه : بأولويّة الجمع من الطّرح بقسميه ترجيحا وتخييرا : من حيث إنّ الطّرح من حيث

١٠٠