بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٨

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٨

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-351-4
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٨٢٠

الاختصاص والتّعين عرضيّ لا يمنع من الحكم بعموم أصل الحكم بحسب الورود في الشّرع ، وهو من هذه الجهة نظير استنباط الحكم الفرعي من الأدلّة ؛ فإنّه مختصّ بالمجتهد وإن كان الحكم المستنبط يعمّ المجتهد والعامي.

لأنّا نقول : ما ذكر أخيرا : من عدم كون الاختصاص ذاتيّا بل عرضيّا من جهة طروّ العجز للعامي ، وأنّ عوام زمان الحضور يعملون بالأخبار كما يعملون بالفتاوى أمر مسلّم ، ويكفي فارقا بين المسألتين هذا الاختصاص العرضي ، وأمّا تنظير المقام بالحكم الفرعي المستنبط فهو فاسد جدّا ، فإنّه إذا عرض على العامي الحكم الأصولي المستنبط من الأدلّة كوجوب العمل بخبر العادل مثلا ، أو لزوم تقديم الرّاجح من المتعارضين ، أو التّخيير بين المتعادلين لا يقدر على العمل به وهذا بخلاف الحكم الفرعي المستنبط من الأدلة كالتّخيير بين الحمد والتّسبيحات في الأخيرتين مثلا ، أو كفاية تسبيحة واحدة في الرّكوع والسّجود ، أو البناء على الأكثر في الشّك في الرّباعيّة وفعل الاحتياط بعد الصّلاة على التّفصيل المذكور في محلّه ؛ فإنّ العمل به مشترك بين العالم والعامي.

نعم ، بعد تشخيص معنى الخبر الخاصّ وترجمته للعامي ودفع معارضاته بعد الفحص يجوز للمجتهد أن يأمر العامي بالعمل به ، إلاّ أنّه في الحقيقة راجع إلى التّقليد في الفروع ؛ لأنّ الحكم الأصولي هو الحكم الكلّي المتعلّق بخبر العادل كلّية مثلا.

والحاصل : أنّه لا بدّ من أن يلاحظ الحكم الشّرعي الكلّي المستنبط من الدّليل ؛ فإن انتفع به العامي فهو فرعيّ ، وإلاّ فأصوليّ مختصّ بالمجتهد بالعرض هذا حاصل ما يقال في توجيه ما ذهب إليه المشهور مع توضيح منّا.

١٦١

وربّما يقال بلزوم الإفتاء بالتّخيير من حيث انسداد باب الطّريق إلى الحكم الواقعي في مورد تعارض الخبرين مع تعادلهما كما هو المفروض ، والحكم الظّاهري المستنبط من الأدلّة في الفرض ليس إلاّ التّخيير فتعيّن الإفتاء به ، واختيار المجتهد إنما هو من جهة الدّواعي النّفسانيّة لا الشّرعيّة ، وإلاّ خرج الفرض عن التّعادل ولا يجوز للعامي متابعة المجتهد فيما ينبعث عن دواعيه النّفسانيّة.

فإن شئت قلت : إنّ الإفتاء بالحكم المعيّن مع عدم تعيّنه بالفرض إفتاء بغير حكم الله فلا يجوز للمجتهد حتّى يقلّده العامي. ومنه يظهر : فساد قياس المقام باختلاف العامي مع المجتهد في باب التّرجيح ؛ حيث إنّ نظر العامي ملغى في نظر الشّارع ، فكيف يمكن الاعتماد عليه فيما خالف نظر المجتهد؟

نعم ، لو فرض قطع العامي بخطأ المجتهد فيما استند إليه لا يجوز له تقليده في هذه المسألة ، كما لا يجوز له تقليده فيما لو علم بخطأه بالنّسبة إلى الواقع وإن كان مصيبا في طريق الاستنباط ، وإن كان بينهما فرق وضوحا وخفاء.

ومن هنا قد يقال بجواز تقليد من يعلم بخطأه في مقدّمات الاجتهاد مع احتمال إصابته بالنّسبة إلى الواقع ، وإن كان الحقّ ما عرفت : من عدم الفرق فيما تحقّق الاستناد إلى ما يعلم خلافه ، وإلاّ فمجرّد ذكره في خلال وجوه المسألة في كلامه لا يجدي في ذلك.

وبالجملة : فرق بين ظنّ العامي على خلاف ظنّ المجتهد بالنّسبة إلى الحكم أو طريقه وبين قطعه على خلافه بالنّسبة إلى أحدهما ؛ فإنّ الأوّل ملغى في نظر الشّارع ، والثّاني يمنع من تقليد هذا المجتهد المخطيء في نظره فافهم.

١٦٢

وقد عرفت : أنّ التّخيير بين المتعادلين من الأخبار المتعارضة الّذي هو حكم أصولي لا يجدي العامي أصلا ، والطّريق إلى الحكم العرفي ما يختاره المجتهد من المتعادلين ، فكما أنّ مفاده حكم الله في حقّه كذلك يكون حكم الله في حقّ مقلّديه سيّما على القول بكون الاختيار معيّنا لا يجوز معه العدول إلى غير ما اختاره.

ومنه يظهر فساد قياس المقام بالتّخيير الواقعي بين الفعلين كالقصر والتّمام والعتق والصّوم والإطعام ؛ فإنّه الحكم الفرعي المستنبط من الأدلّة في حقّه وحقّ مقلّديه فلا يجوز له الإفتاء بغيره ، ومن هنا لا يتعيّن أحد الفردين باختياره.

التخيير هنا بدويّ أو إستمراري

الثّاني : أنّ التّخيير في المقام هل هو ابتدائي فلا يجوز العدول عمّا اختاره إلى الخبر الآخر في الواقعة الأخرى ، أو استمراري فيجوز له العدول؟ وجهان ، بل قولان. نسب الثّاني إلى المحقّقين بل إلى المشهور ، وفي « المفاتيح » : التّفصيل بين التّخيير في مقام الحاجة فبدويّ ، وإلاّ فاستمراريّ (١). وفي « التّهذيب » عنوان المسألة في القاضي ؛ فإنّه قال : لو اختار القاضي أحد الخبرين في واقعة جاز له العدول إلى الآخر في واقعة أخرى. واستدلّ له في محكي « النّهاية » : بأنّه ليس في العقل ما يدلّ على خلاف ذلك ولا يستبعد وقوعه ـ كما لو تغيّر اجتهاده ـ إلاّ أن يدل دليل شرعيّ على عدم جوازه ، كما روي أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لأبي بكر :

__________________

(١) مفاتيح الأصول : ٣٨٢.

١٦٣

( لا تقض في الشّيء الواحد بحكمين مختلفين ) (١).

ولعلّ مراده قدس‌سره ، من هذا الاستدلال بعدم المانع من حكم العقل بعد إحراز المقتضي في حكم الشّارع ولو باستصحاب التّخيير ، أو حجيّة الخبر الآخر الرّاجع إلى الاستصحاب الأوّل حقيقة ، وإلاّ فمجرّد الإمكان وعدم المانع في حكم العقل وعدم استبعاد الوقوع بالنّظر إلى نوع العدول وإن لم يكن من سنخ المقام لا يجدي شيئا ، مع كون مقتضى الأصل الثّابت بالأدلّة الأربعة عند الشّك في الحجيّة الحكم بعدمها ـ حسبما عرفت في مطاوي أجزاء التّعليقة سيّما الجزء الأوّل وستعرفه ـ من غير فرق بين الشّك في الحجيّة الشأنيّة أو الفعليّة كما في المقام.

ثمّ إنّ مقتضى الأصل الأوّلي في المسألة على ما عرفت الإشارة إليه هو التّخيير الابتدائي ، إنّما الكلام فيما يكون واردا عليه من الأصول أو الأدلّة ، فنقول :

قد يقال ـ بل قيل بل هو المعروف ـ : أنّ مقتضى الأصل الثّانوي الوارد على الأصل المذكور في وجه أو الحاكم عليه في وجه آخر ـ عرفتهما عند الكلام في تأسيس الأصل فيما لم يعلم حجيّته في الجزء الأوّل من « الكتاب » والتّعليقة ـ : هو التّخيير الاستمراري ؛ نظرا إلى استصحاب التّخيير الثّابت في أوّل الأمر أو استصحاب حجيّة المطروح فإنه كان حجّة كمعارضة قبل الأخذ قطعا ، كما هو مقتضى التّخيير بينهما والأصل بقاؤها وإن كان الشّك فيها مسبّبا عن الشّك في بقاء التّخيير بل راجعا إليه باعتبار فتأمّل.

__________________

(١) نهاية الوصول : ٤٥٠ وحكاه عنه السيّد المجاهد في مفاتيح الأصول : ٦٨٢ ولفظ الحديث هكذا : « لا يقضي أحد في أمر بقضاءين » ، انظر كنز العمّال : ج ٦ / ١٠٣ ـ ح ١٥٠٤١.

١٦٤

ولا يعارضه استصحاب الحكم المدلول المختار ؛ فإنّ الشّك في صيرورته حكما للمكلّف بقول مطلق وعلى كلّ تقدير مسبّب عن الشّك في جواز العدول وبقاء التّخيير ، فلا يعارض الأصل المقتضي لبقائه.

فإن شئت قلت : إنّ المستصحب إن كان تعيين المأخوذ بالأخذ فالشّك في حدوثه لا بقائه ، وإن كان الحكم الفرعي الظّاهري المترتّب على الأخذ فالشّك في بقائه مسبّب عن الشّك في بقاء التّخيير واستصحابه حاكم على استصحابه.

نعم ، ربّما يناقش في الأصلين برجوع الشّك فيهما إلى الشّك في المقتضي ، أو بأنّ الموضوع غير معلوم البقاء فيهما فالمرجع هو الأصل الأوّلي. ومن هنا قال في « الكتاب » : ( واستصحاب التّخيير غير جار ؛ لأنّ الثّابت سابقا ثبوت الاختيار لمن لم يختر ... إلى آخر ما أفاده ) (١).

اللهمّ إلاّ أن نقول : بكفاية المسامحة في إحراز موضوع المستصحب ومعروضه. وقد تقدّم الكلام وشرح القول فيه في الجزء الثّالث من التّعليقة فراجع إليه هذا حاصل ما قيل في بيان الأصل الثّانوي.

وأمّا الكلام في الدّليل المقتضي لأحدهما فملخّصه :

أنّه قد استدلّ للاستمرار بإطلاق ما دلّ على التّخيير ؛ فإنّه يشمل بعد الأخذ ، وناقشه شيخنا الأستاذ العلاّمة في « الكتاب » : بكونها مسوقة لبيان وظيفة المتحيّر في ابتداء الأمر فلا إطلاق لها بالنّسبة إلى الأخذ ، وبعبارة أخرى : المسؤول عنه في الأخبار : حكم من اتّفق له التّعادل وأنّ وظيفته ما هي؟ فالجواب : بأنّه مخيّر في

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٤ / ٤٤.

١٦٥

الأخذ بأيّهما شاء لا تعلّق له بصورة بعد الأخذ ؛ فإنّه موضوع آخر لا تعلّق له بالموضوع المسئول عنه كما هو ظاهر.

وهذه المناقشة كما ترى ، في كمال الجودة والاستقامة ، والمناقشة فيها ـ بأنّ المناط والموضوع للتّخيير هو الجهل ، والتّحيّر هو باق بعد الأخذ ؛ لأنّ الأخذ لا يوجب رفع موضوعة ـ ناشئة عن الجهل بمراده ( دام ظلّه ) ؛ لأنّ جهل الرّاوي الموجب للسّؤال هو عدم علمه بحكمه الظّاهري عند التّعادل ، وأنّه التّخيير أو شيء آخر ، فإذا تبيّن له الحكم ارتفع جهله وعلم بالحكم الظّاهري لهذا الموضوع. وأمّا أنّه بعد الأخذ بأحدهما ما ذا يكون حكمه من حيث وجوب البقاء أو جواز العدول؟ فهو حكم آخر لموضوع مسكوت عنه.

نعم ، ما أفاده في « الكتاب » بعد الإشكال في جواز بقاء التّخيير في مورد كلام العلاّمة قدس‌سره من جهة عدم الدّليل ، وكون الأصل عدم الحجّيّة ، ونفي دلالة أخبار التّخيير بقوله : ( وأمّا العقل الحاكم ... إلى آخره ) (١) كأنّه خروج عن الفرض ؛ لأنّ الكلام بعد البناء على ثبوت التّخيير.

نعم ، ما أفاده في الفرق بين التّخيير العقلي في باب التّزاحم والتّخيير الظّاهري الشّرعي بناء على الطّريقيّة في كمال الاستقامة ؛ نظرا إلى عدم طروّ الشّك في حكم العقل وعدم الفرق في حكمه بين الحالتين ، وإن أمر بالتّأمّل (٢) فيه ؛ نظرا

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٤ / ٤٣.

(٢) قال المحقق آغا رضا الهمداني قدس‌سره :

« لعلّه إشارة إلى ان عدم قيام احتمال تعيّن الأخذ بما اختاره أوّلا في التخيير الواقعي الناشيء عن تزاحم الواجبين ، إنّما هو فيما اذا كان الحاكم به العقل محضا ، وإلاّ فربّما يقوم

١٦٦

__________________

احتمال تعيّن الأخذ به أو بأحدهما المعيّن تعبّدا ، ولكن لا يعتنى بهذا الاحتمال ما لم يتحقق ». أنظر حاشية فرائد الأصول : ٥٠٩.

* وقال السيّد المحقّق اليزدي قدس سره :

« لعلّ وجهه : أنه بناء على كون التخيير من باب تزاحم الواجبين أيضا يمكن أن يكون التخيير بدويا ، لأن التخيير إنّما هو بين مفاد الخبرين ومفاد كل خبر ليس إلاّ أن حكم الله كذا أبدا ، فان أخذت تارة بمفاد أحدهما وأخرى بمفاد الآخر لم تأخذ بتمام مفاد واحد منهما ، لما عرفت من أن الأخذ بالخبر معناه تطبيق العمل عليه دائما.

لكن يرد عليه : أنه لا ارتباط بين الأفعال المستقلة في الوقائع المختلفة المستقلة المتحدة الحكم ، فلو عمل بالخبر يوما مثلا ولم يعمل به يوما آخر لا يقال : أنّه ما عمل بالخبر أصلا ، بل يقال : انه عمل به في واقعة ولم يعمل به في واقعة ، ونظيره ما لو قال : أكرم العلماء ، فإن أكرم بعض العلماء وترك اكرام البعض الآخر ، لا يقال : انه ما عمل بالخطاب أصلا ، بل يقال : عمله في بعض وتركه في بعض.

ويحتمل أن يكون وجهه : أنه يمكن أن يكون التخيير الظاهري بناء على الطريقية أيضا كالتخيير الواقعى بناء على السببيّة استمراريا ، اذ كما أن السببية بحكم العقل تقتضي التخيير مستمرا ، لأن ملاك حكم العقل بالتخيير وهو كون كل من الخبرين علة لوجوب العمل موجود في الزمان الثانى بعد الأخذ بأحدهما أيضا ، كذلك نقول بمثله على تقدير الطريقية لأنا قد علمنا أن ملاك الطريقية والحجية في لا خبر هو الظن النوعي اللازم لطبيعة الخبر ، وهذا لا معنى باق بعد الأخذ والعمل بأحد الخبرين.

ويمكن أن يكون الأمر بالتأمّل : اشارة الى أنه يمكن أن يقال بناء على كون المقام من باب تزاحم الواجبين أيضا أن المقتضي للعمل يقتضي العمل على وجه الاستمرار بأن تكون المصلحة مقيدة بالعمل بكل واحد منهما دائما ، وإذا كان هذا محتملا فلا يمكن الحكم

١٦٧

__________________

بالاستمرارية ، فليس المقام من قبيل خصال الكفارة.

والفرق بين هذا الوجه والوجه الأوّل : أن التقييد بالدوام في العمل بكل من الخبرين مأخوذ في مفاد الخبر بناء على الوجه الأول ، وبحكم العقل بناء على الوجه الأخير.

وذكر بعض مشايخنا المعاصرين هنا وجهين آخرين للأمر بالتأمل :

حاصل أحدهما : أنه كما أنه بناء على السببية يكون التخيير واقعيا استمراريا كذلك بناء على الطريقية ، وذلك لأن طريقية الخبر انما هي بالنسبة الى مفاده ، وأما بالنسبة الى حكم وجوب الأخذ فانه موضوع له ، وحينئذ نقول : ان وجود الخبرين المتعارضين موضوع للتخيير ووجوب الأخذ بأحدهما ، وكل موضوع علة وسبب لثبوت حكمه ، فمرجع الطريقية الى السببية بالنسبة الى حكم التخيير والسببية مقتضية للتخيير الاستمراري بالفرض ، فالطريقية والسببية في حكم التخيير سواء.

وحاصل الثاني : أن التخيير الواقعي الثابت في مثل خصال الكفارة أيضا محتاج في الحكم بكونه مستمرا إلى اطلاق دليله وإلاّ لم نقل به ، وحينئذ نقول فيما نحن فيه لو لم نقل بالاستمرار بناء على الطريقية لعدم اطلاق في أخبار التخيير من هذه الجهة ، لا نقول بالاستمرار بناء على السببية أيضا ، لأنه لا اطلاق في أخبار التخيير بالفرض ، وقد عرفت : أن ثبوته محتاج الى الاطلاق المفقود في المقام.

ويرد على الأول : أنه وان سلمنا أن الموضوع علة للحكم إلاّ أن الاشتباه في أن الحكم في هذا الموضوع ماذا؟ التخيير البدوي أو التخيير الاستمراري؟ وهذا بخلاف السببية المبنية على كون التخيير من باب تزاحم الواجبين ؛ فان التخيير هنا بحكم العقل ومعلوم أنه يحكم باستمراريّة التخيير لبقاء موضوعه وهو وجود المصلحة التامة في الأخذ بكلّ من الخبرين ، وأمّا بناء على الطريقية ؛ فانما جاء التخيير بحكم الشرع وإلاّ كان الأصل هو التوقف أو التساقط ، ويحتمل أن يكون موضوع حكم التخيير عند الشارع مقيدا بعدم أخذ أحدهما

١٦٨

إلى احتمال تعيين المأخوذ في حكم الشّارع كما في التّخيير الشّرعي ، فيوجب توقّف العقل عن حكمه فيرجع إلى أصالة عدم الحجّيّة على القول بالتّخيير العقلي أيضا ، وإن كان قدحه في حكمه محلّ تأمّل إن لم يكن محلّ منع هذا.

واستدلّ للابتداء : بكون الاستمرار موجبا للمخالفة القطعيّة ولو في واقعتين وهي قبيحة عقلا.

ونوقش : بأنّ المخالفة القطعيّة في واقعتين لا قبح فيها عقلا. والتّحقيق : التّفصيل في ذلك بما أسمعناك مرارا : من عدم قبحها فيما إذا التزم في كلّ واقعة بحكم ظاهريّ من الشّارع كما في المقام ، فكأن ما تقدّم عن « النّهاية » : « من أنّه ليس في العقل ما يدلّ على خلاف ذلك ولا يستبعد وقوعه ... إلى آخره ) (١) إشارة إلى ردّ هذا الدّليل.

والتّمسّك بالوقوع على هذا فيما فرضه وإن كان خارجا عن حريم البحث

__________________

فيصير بدويا ، كما أنه يحتمل أن يكون مطلقا فيكون استمراريا.

وعلى الثاني أوّلا : أنه يظهر منه أنه حمل كلام المتن على أن التخيير بناء على السببية أيضا من باب أخبار التخيير فأورد عليه بالتسوية بينها وبين الطريقية في الاطلاق وعدمه ، وقد عرفت أنه ليس كذلك.

وثانيا : أنه لا يحتاج الى الاطلاق فيما كان من قبيل الواجبين المتزاحمين ، بل لا معنى للاستمرارية فيه حقيقة لأنه يصير مثل الخصال في قوله عليه‌السلام : ( من أفطر كفّر باحدى الخصال ، فان أفطر يوما يجب عليه الخصال مخيّرا وان أفطر يوما آخر يجب عليه كفارة اخرى مخيّرا أيضا ) وهكذا ، وهذا بخلاف الخبرين على الطريقية فان وجوب الظهر أو الجمعة حكم واحد قابل للاستمرار وعدمه فعند عدم الاطلاق ينتفي الاستمرار ، فتدبر ».

أنظر حاشية فرائد الأصول : ج ٣ / ٤٩٧ ـ ٤٩٩.

(١) نهاية الوصول ( مخطوط ) : ٤٥٠.

١٦٩

في كمال الجودة كما لا يخفى ؛ حيث إنّ الدّليل العقلي لا يقبل التّخصيص ، وإليه يرجع ما في « المفاتيح » : من الاستدلال بكون العدول موجبا لترك الواجب لا إلى بدل ، وهذا بخلاف التّخيير الواقعي في موارده ؛ فإنّ جواز العدول فيه لا يلزمه المحذور المذكور ، والجواب عنه ظاهر ؛ لمنع الملازمة فهذا الوجه ضعيف كضعف التّوجيه : بأنّ جواز العدول يوجب لغويّة التّخيير ؛ ضرورة منع إيجاب العدول لذلك ؛ فإنّه لازم التّعيين لا التّخيير كما لا يخفى.

ثمّ إنّ الفرق بين مواضع التّخيير في الحكم المذكور بما حكاه شيخنا العلاّمة قدس‌سره عن بعض معاصريه لا وجه له أصلا.

نعم ، لو قيل بالفرق بين التّخيير في المقام ، ومسألة العدول على تقدير تسليم الإطلاق لأخبار التّخيير كان صحيحا ؛ لما عرفت : من انحصار دليل التّخيير في باب الفتوى بالإجماع ، وأمّا التّفصيل الّذي ذكره في « المفاتيح » فمبنيّ على أنّ مجرّد البناء على الأخذ بأحد الخبرين ليس ملزما وهو خروج عن الفرض حقيقة كما ستقف عليه عن قريب إن شاء الله تعالى.

الثّالث : أنّه ذكر في « المفاتيح » : « هل معنى التّخيير الأخذ بأحد الخبرين والعمل بجميع مقتضياته ولوازمه ـ كما لو لم يعارضه خبر آخر ـ أو التّخيير في الحكم المستفاد منهما؟ والثّمرة تظهر فيما لو كان لأحدهما دلالة التزاميّة خاصّة بمحلّ التّعارض » (١). انتهى كلامه رفع مقامه.

وهو كما ترى ، غير محصّل المراد ؛ إذ معنى التّخيير ليس إلاّ العمل بأحد الخبرين على أنّه حجّة شرعا وطريق إلى الواقع فيترتّب عليه جميع آثار الواقع

__________________

(١) مفاتيح الأصول : ٦٨٦.

١٧٠

ولوازمه الشّرعيّة ، ولو بوسائط غير شرعيّة على ما هو الفرق بين الأصول والأمارات الشّرعيّة المعتبرة بعنوان الطّريقيّة المطلقة من غير فرق بين مورد التّعارض وغيره ، إذ التّعارض لا يوجب الفرق في معنى اعتبار أحد المتعارضين تعيينا أو تخييرا ، كما أنّه لا يوجب الفرق في معنى اعتبار الأصل فيما لو فرض تعارض الأصلين مع العمل بأحدهما.

الرّابع : أنّه لا إشكال في كون المراد من الأخذ بأحد الخبرين ـ كما في أخبار الباب ـ ليس هو البناء والعزم على العمل به كما ربّما يتوهّم بالنّظر إلى الجمود على لفظ الأخذ ، بل العمل عليه وترتيب الآثار على مقتضاه ، وليس مثل التّقليد حتّى يتوهّم فيه ما توهّم مع كونه فاسدا أيضا على ما حقّقناه في مسألة الاجتهاد والتّقليد : من كون المراد متابعة المجتهد في رأيه لا مجرّد البناء على العمل به بعد تعلّمه ، والثّمرة بين الوجهين يظهر في مسألة العدول عمّا بني على العمل عليه مع عدم العمل.

الخامس : أنّه قد قيل : بأنّ البحث في حكم التّعادل قليل الجدوى بل عادمها ؛ لأنّ كلّ ما حكموا فيه بالتّخيير في موارد تعارض الأخبار كما في باب الكفّارات ، وذكر سجود السّهو ، ومنزوحات البئر ، فقد حكموا به من جهة الجمع بصرف ظهور كلّ واحد في التّعيين بنصّ الآخر فهو من التّخيير الواقعي بين الفردين ، ولا تعلّق له بالتّخيير الظّاهري هذا.

وأنت خبير بما فيه ؛ فإنّ مورد التّعارض قد لا ينافيه الجمع المذكور كالأخبار الواردة في مسألة الجهر بالتّسمية وإخفاتها ، بل ظاهرهم في جملة من موارد إمكان الجمع أيضا هو التّخيير الظّاهري ؛ فإنّ من قال بالتّخيير بين القصر

١٧١

والتّمام فيما زاد على الأربع ولم يبلغ الثّمانية مع عدم الرّجوع في يومه ، أو ليلته إذا لم يقصد الإقامة في المقصد ظاهره التّخيير الظّاهري من جهة الأخبار المتعارضة.

* تنبيه في لابدّيّة الفحص عن المرجّحات في المتعارضين

(٦) قوله ( دام ظلّه العالي ) : ( بقي هنا ما يجب التّنبيه عليه خاتمة ... إلى آخره ). ( ج ٤ / ٤٥ )

الكلام في أصل وجوب الفحص عن المرجّح ثمّ في مقداره

أقول : الكلام في المقام : قد يقع في أصل وجوب الفحص ، وقد يقع في مقداره.

أمّا الكلام من الجهة الأولى فحاصله : أنّه بعد تعلّق التّخيير بتعادل الخبرين وتكافؤهما من حيث المزايا المعتبرة في التّرجيح من خصوص المزايا المنصوصة أو مطلق المزايا على الخلاف ـ لا إشكال في كون مقتضى الأصل الأوّلي ـ إذا شكّ في التّعادل من الحيثيّة المذكورة ـ : عدم جواز العمل من جهة الشّك في الحجّيّة.

وهل هنا أصل آخر ثانويّ يقضي بوجود التّعادل أم لا؟ قد يقال بوجوده ؛ نظرا إلى كون المزيّة حادثة فتنتفي به مزيّة كلّ واحد منهما على صاحبه وهو معنى تعادلهما.

ولكنّك خبير بعدم اطّراد هذا الأصل في جميع موارد الشّك ؛ إذ ربّما تكون المزيّة المحتملة صفة في الخبر لا يوجد إلاّ معها ، فالحالة السّابقة لعدمها إنّما هي باعتبار عدم وجود الخبر ، مع أنّه إذا فرض احتمال وجود المزيّة لكلّ منهما فهو

١٧٢

معنى تعادلهما بالوجدان فلا معنى لإجراء الأصل في إثبات التّعادل كما هو الشّأن بعد الفحص أيضا.

نعم ، فيما احتمل وجوده في أحدهما خاصّة لم يحكم بالتّعادل فعلى ما ذكر لا بدّ من إقامة الدّليل على وجوب الفحص ، اللهمّ إلاّ أن يمنع من جريان الأصل المذكور قبل الفحص من حيث رجوع الشّك إلى الشّك في طريق الحكم الرّاجع إلى الشّك في الحكم حقيقة الّذي قام الدّليل على عدم جريانه إلاّ بعد الفحص هذا.

مع أنّه إذا فرض احتمال وجود المزيّة في كلّ منهما الّذي يوهم تحقّق التّعادل معه فيشكّ في حجّيّة كلّ منهما أيضا قبل الفحص والأصل عدم حجّيّته ، أو يمنع ترتّب الحكم على مطلق التّعادل فتدبّر.

ولا يجوز التّمسّك بإطلاقات التّخيير بعد تقييدها بأخبار التّرجيح لرجوع الشّك إلى الشّك في الموضوع من هذه الجهة ، كما لا يجوز التّمسّك بأخبار التّرجيح لإثبات وجوب الفحص ؛ لأنّ وجوب التّرجيح بشيء لا يقتضي بنفسه وجوب الفحص عنه عند الشّك في وجوده ولو كان المرجّح وجوده الواقعي لا العلمي ، فما في ظاهر « الكتاب » من الاستدلال لوجوب الفحص عن المرجّح بوجوب التّرجيح به من حيث توقّف التّرجيح به على الفحص عنه محلّ مناقشة.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ حصول العلم عادة بوجود المرجّح لما توقّف على الفحص عنه ، فإيجاب التّرجيح به إذا كان واجبا مطلقا يقتضي الفحص عنه فتأمّل حتّى لا يختلط عليك الأمر ويذهب وهمك إلى قوله قدس‌سره بثبوت الملازمة بين تعلّق الوجوب بالشّيء النّفس الأمري ووجوب الفحص عنه على وجه الموجبة الكلّية. نعم ، تعلّق الوجوب بالشّيء المعلوم يمنع عن وجوب الفحص عنه فمورد وجوب

١٧٣

الفحص ومحلّه على سبيل القضيّة الكلّيّة : ما إذا تعلّق الخطاب بالشّيء الواقعي لا أنّ مجرّد تعلّقه به يقتضي وجوب الفحص عنه.

فقد تبيّن ممّا ذكرنا كلّه : أنّ التّعلّق في المقام بإطلاق أخبار التّخيير لا مساسة له أصلا ، وإنّما يجوز التّعلّق به فيما شكّ في أصل وجوب التّرجيح ؛ فإنّ الكلام في وجوب الفحص عمّا قيّد به الإطلاق بحسب الخارج فلا يجوز التّمسّك بشيء منهما نفيا وإثباتا إلاّ بضميمة ما أشرنا إليه على تقدير تسليمه ، كما أنّه لا مساسة للتّعلّق بحكم العقل بالتّخيير في المقام حتّى يجاب عنه بما في « الكتاب » من عدم حكمه به إلاّ بعد إحراز التّسوية ، فلا جدوى للأصل في المقام ، مضافا إلى كونه من الأصل في الشّبهة الحكميّة وإن كان شكّا في الموضوع ابتداء ؛ لما أسمعناك : من مغايرة باب التّزاحم لباب التّعارض الّذي يعتبر فيه التّرجيح ، مضافا إلى ما عرفت من كون التّخيير في الأوّل راجعا إلى حكم الشّرع حقيقة لا إلى حكم العقل كما في التّخيير بين دوران الأمر بين المحذورين.

نعم ، هنا كلام في أنّه إذا شكّ في أهميّة أحد المتزاحمين بخصوصه هل يحكم بالتّخيير أم لا؟ أقواهما الثّاني ؛ نظرا إلى عدم العلم بوجود الخطاب المزاحم وسيجيء شرح القول فيه ، لكنّه لا دخل له بالشّك في وجود المرجّح لأحد المتعارضين المفروض في محلّ البحث.

وكيف كان : يستدلّ لوجوب الفحص كما في « الكتاب » بعد الأصل بالتّقرير الّذي عرفته بوجوه :

الأوّل : ما دلّ على وجوب التّرجيح بالتّقريب الّذي ذكره شيخنا العلاّمة قدس‌سره في « الكتاب » بانضمام المقدّمة الّتي عرفتها.

١٧٤

الثّاني : الإجماع على وجوبه على ما قرّر في « الكتاب ».

الثّالث : لزوم الهرج والمرج واختلال أمر الاجتهاد والاستنباط من ترك الفحص عنه والاقتصار في التّرجيح على ما يعلم من دون فحص من جهة العلم الإجمالي بوجود مرجّحات كثيرة لما تعارض من الأخبار بحيث لا يحصل الوقوف عليها عادة إلاّ بعد الفحص ، نظير العلم بوجود الأدلّة في مجاري الأصول ، والمعارض للأدلّة والصّوارف والقرائن المنفصلة للظّواهر من العمومات والإطلاقات وغيرهما من الظّواهر هذا بعض الكلام في أصل وجوب الفحص.

وأمّا الكلام في مقداره ، فملخّصه :

أن حدّه الفحص عنه بحيث يحصل له اليأس عن الاطّلاع عليه على تقدير زيادة الفحص من جهة اطمئنانه بعدم وجوده فيما بأيدينا من كتاب الله والسّنة وكتب الأخبار والفتاوى من العامّة والخاصّة ولا يعتبر تحصيل العلم بعدمه ، بل ربّما يكون ممنوعا من جهة تأديته إلى سدّ باب استنباط غالب الأحكام كما لا يخفى.

وإن كان الأولى بل الأحوط الاقتصار على العمل بما يحتمل رجحانه بخصوصه ، بل لو عمل على هذا الوجه من أوّل الأمر فيما احتمل رجحان أحدهما بالخصوص سقط الفحص عنه ؛ لكونه مطلوبا بالعرض لا بالذّات.

* * *

١٧٥
١٧٦

أحكام التعارض

المقام الثاني

في التراجيح

وفيه مقامات :

* الأوّل : وجوب الترجيح والاستدلال عليه

* الثاني : ذكر الأخبار العلاجيّة

* الثالث : عدم جواز الإقتصار على المرّجحات المنصوصة

* الرابع : بيان المرجّحات

ـ المرجحات الداخليّة

* المرجحات الدلاليّة

* إنقلاب النسبة

ـ المرجحات الخارجيّة

١٧٧
١٧٨

المقام الثاني في التراجيح

(٧) قوله : ( الترجيح : تقدّم إحدى الأمارتين على الأخرى ... الى آخره ). ( ج ٤ / ٤٧ )

تعريف الترجيح

أقول : التّرجيح في اللّغة والعرف جعل الشّيء راجحا وقد اختلفت كلماتهم في المراد منه ، فعن الأكثر هو اقتران الأمارة بما يتقوّى على معارضها وعن بعض تبعا لشيخنا البهائي في « الزّبدة » (١) وتلميذه الشّارح (٢) في شرحها : أنّه تقديم

__________________

(١) زبدة الأصول : ١٦٩.

(٢) العالم الفقيه والأصولي النّبيه الشيخ جواد بن سعد الله بن جواد الكاظمي المعروف على ألسنة القوم بالفاضل الجواد. المتوفّي سنة ١٠٦٥ ه‍ من أجلّة تلامذة الشيخ البهائي وأعاظمهم وكتابه هذا يسمّى بغاية المأمول في شرح زبدة الأصول كبير جدّا ونفيس للغاية أودعه مهمّات علم الأصول وبسط القول فيها لكنّه لا يزال إلى يومنا هذا مخطوطا في زوايا المكتبات لا يعرف له قدر ، وقد ابتلينا في الآونة الأخيرة بالتهاون بالتراث خصوصا وأن ضعفاء الناس يتصوّرون بأن لا قيمة للتّراث السابق من ناحية علميّة ـ لمكان التطوّر العلمي الجاد في هذا الباب بحيث لا تعود الحاجة للمرور بالمخطوطات وإحياءها من جديد لما أنها تشتمل على أبحاث قد أكل الدّهر عليها وشرب.

والحقيقة : انه ليس كما يظنّ هؤلاء ، والغاية أبعد من ذلك وإلى الله عزّ وجل المشتكى.

١٧٩

إحدى الأمارتين على الأخرى لمزيّة من المزايا. وهذا التّعريف كما ترى ، أنسب بالنّسبة إلى المعنى اللّغوي والعرفي ولذا اختاره شيخنا العلاّمة قدس‌سره.

ونوقش في الأوّل ـ كما عن « شرح الزّبدة » وغيره ـ : بأنّ مقتضى وضع التّرجيح كونه فعل المجتهد لا صفة الأمارة.

وأجيب عن المناقشة : بأنّ التّعريف مبنيّ على الاصطلاح ولا مشاحة فيه ، مضافا إلى مناسبته للتّعارض والتّعادل ؛ فإنّهما صفتان للأمارة ، والأمر في ذلك سهل إنّما المهمّ التّكلّم فيما رتّبه من المقامات.

* * *

١٨٠