بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٨

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٨

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-351-4
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٨٢٠

الواقع بناء على علم الشّارع بمطابقة الأصل المبني عليه العمل للواقع غالبا ، كعلمه بغلبة مطابقة الظّنون النّوعيّة للواقع فيأتي هنا ما ذكرنا هناك.

وثانيا : أنّ العبرة في الحكم بالتّخيير ـ بعد البناء على خروج المتعارضين عن تحت الدّليل مطلقا في الأسباب والطّرق حسبما بيّناه ـ باستقلال العقل ، أو قيام الإجماع على وجود مقتضي الامتثال في كلّ منهما بحيث لو تمكّن المكلّف منه لوجب ، والعقل إنّما يستقلّ بذلك في الأسباب والأحكام الواقعيّة النّفسيّة ، وأمّا ما عداها من الأحكام الظّاهريّة العذريّة فلا استقلال فيها بوجود المقتضي عند التّعارض ، وما قام الإجماع أيضا على ذلك ، فإذا لم يحكم العقل بوجود المقتضي في كلّ منهما والمفروض عدم شمول الخطاب لهما معا للتّنافي والتّعارض ، فالمرجع هو الأصل القاضي بعدم الاعتبار سواء كان ذلك الحكم الظّاهري من الطّرق أو الأصول (١). انتهى كلامه رفع مقامه.

وأنت خبير بتطرّق المناقشة إلى ما ذكره ؛ فإنّ ما ذكره أوّلا في الجواب عن السّؤال يتوجّه عليه :

أوّلا : بأنّه ينافي عنوان الأصل المقابل للدّليل وخروج عن الفرض ؛ ضرورة أنّ الأصل الملحوظ في اعتباره في نظر الشّارع غلبة مطابقته للواقع يكون من الأدلّة على ما عرفت مرارا واعترف به الفاضل المعاصر أيضا في مواضع من كلماته ، ومن هنا ذكرنا : أنّ عدّ الاستصحاب من الأصول إنّما هو على القول به من باب التّعبّد لا الظّن ، وإلاّ خرج عن الأصول ولو على القول بإناطته بالظّن النّوعي.

__________________

(١) بدايع الأفكار : ٤٢١.

١٤١

نعم ، مجرّد إفادة الظّن من دون ملاحظة الشّارع له لا يوجب الخروج عن عنوان الأصل على ما عرفت شرح القول فيه في الجزء الثّالث من التّعليقة وصرّح به شيخنا العلاّمة قدس‌سره في مواضع من « الكتاب ».

وثانيا : بعدم إمكان ما ذكره بالنّسبة إلى بعض الأصول كأصالة التّخيير عند دوران الأمر بين المحذورين.

وثالثا : بمنافاته للواقع على تقدير الإمكان ؛ فإنّ بعض الأصول يعلم بمخالفته للواقع كثيرا كأصالة الطّهارة في الشّبهات الموضوعيّة ، وكذا أصالة الحليّة ونحوهما ، إلاّ أن يقال : بأنّ المفروض في كلامه خصوص الأصول الحكميّة فتأمّل. هذا بعض الكلام فيما ذكره أوّلا.

وأمّا ما ذكره ثانيا فيتوجّه عليه :

بأنّ الفرق بين تعارض الأصول والأدلّة وإن كان ثابتا عندنا ـ بما عرفت شرح القول فيه في أوّل التّعليقة وأنّ مقتضى القاعدة في تعارض الأدلّة التّوقف ، وفي تعارض الأصول لو اتّفق التّساقط ؛ نظرا إلى عدم دلالة التزاميّة معتبرة للأصل ، وأنّ باب التّعارض لا يجامع باب التّزاحم ـ إلاّ أنّ الوجه في التّخيير في التّزاحم فيما يفرض ليس مجرّد إحراز المصلحة لكلّ من المتزاحمين ، وحكم العقل بوجوب الامتثال إحراز للمصلحة المقتضية للتّكليف ، مع انتفاء التّكليف بل شمول الخطاب والتّكليف لهما على نحو شموله لصورة عدم التّزاحم بحسب الحقيقة ، وإن عبّر عن صورة التّزاحم بالتّخيير ـ حسبما عرفت شرح القول فيه ـ كما يعبّر عن الواجب المشروط بالمطلق عند وجود الشّرط مع عدم إمكان اختلاف الحقيقة ، وعن الواجب المخيّر بالمعيّن عند تعذّر أحد الفردين مع عدم

١٤٢

اختلاف الحقيقة على ما عرفت سابقا.

ثمّ إنّ مقتضى كلمات شيخنا العلاّمة قدس‌سره وإن كان ظاهرا في ابتداء النّظر في كون التّخيير عنده في المتزاحمين في حكم العقل بوجوب الامتثال ، إلاّ أنّ المستفاد منه بعد التّأمّل وتعميق النّظر سيّما بملاحظة كلماته الأخر ما عرفت شرح القول فيه. هذا بعض الكلام فيما يقتضيه الأصل الأوّلي في تعارض الدّليلين من غير فرق بين الأخبار وغيرها كعدم الفرق بين وجود مزيّة لأحد المتعارضين على صاحبه وعدمه ، ومرجعه إلى التّساقط في الجملة والأخذ بهما كذلك.

* * *

١٤٣

* المقام الثاني مقتضى الدليل الوارد

وأمّا الكلام فيما يقتضيه الدّليل الوارد وهو المقام الثّاني ، فيقع أوّلا : في تعادل المتعارضين من الأخبار ، ثمّ يتبعه الكلام في تعادل المتعارضين من سائر الأمارات ، أو منها ومن غيرها.

فنقول : المشهور فتوى وعملا هو التّخيير بين المتعارضين بحسب الدّليل الوارد ولو فيما أمكن التّوقّف والاحتياط ، أو كان أحدهما موافقا للاحتياط ، بل في « المعالم » : أنّه لا يعلم خلاف فيه كما صرّح به بعض وهو المشهور بين أهل الخلاف أيضا (١) ، فلعلّ المراد من نفي الخلاف نفيه بين المجتهدين ، فما عن « المنية » : من نسبة القول بالتّخيير إلى الجبّائيّين خاصّة كما ترى.

وعن الأخباريّين كما في « المفاتيح » وغيره التّوقف (٢).

وعن الأسترآبادي : التّفصيل بين حقّ الله فالتّخيير وحقّ النّاس فالتّوقّف (٣) ، ونسبه إلى الشّيخ في « الوسائل » أيضا.

وعن الشّيخ ابن أبي جمهور : التّفصيل بين ما لا بدّ فيه من العمل فالتّخيير ، وبين غيره فالتّوقف (٤). وعن بعض التّفصيل بين المحذورين فالتّخيير ، وبين غيره

__________________

(١) معالم الدين وملاذ المجتهدين : ٢٥٠.

(٢) مفاتيح الأصول : ٦٨٣.

(٣) الفوائد المدنيّة : ٣٩٠.

(٤) غوالي اللئالي : ج ٤ / ١٣٧.

١٤٤

فالتّوقف. وهو راجع كما ترى إلى القول بالتّوقف مطلقا ؛ فإنّ القائل به لا يقول به إلاّ فيما أمكن الاحتياط ؛ فإنّه راجع إلى الاحتياط حقيقة ، اللهمّ إلاّ أن يكون المراد منه التّوقّف في الفتوى كما قيل. وعليه : لا بدّ من أن يجعل القول بالاحتياط قولا آخر في المسألة.

ثمّ إنّ جريان الأقوال المذكورة على القول بالظّن الخاصّ ممّا لا شبهة فيه ، وأمّا على القول بالظّن المطلق فقد صرّح بجريانها على هذا القول في « القوانين » و « الفصول » وهو كما ترى ، في كمال الوجاهة في ظاهر النّظر على القول بحجيّة الظّن بالطّريق وإن قيل بحجّيّته في الفروع أيضا.

نعم ، على القول بالتّخصيص بالفروع مع كون النّتيجة الظّن الشّخصي لا يجري الأقوال المذكورة ؛ لأنّ التّخيير بين المتعارضين فرع التّعارض وحجيّة المتعارضين وهو غير معقول على هذا القول على ما عرفت توضيحه في أوّل التّعليقة.

وقال الفاضل المعاصر ـ بعد الحكم بابتناء الأقوال على الظّن الخاصّ ونفي الوجه لما ذكره في « القوانين » و « الفصول » من حيث ارتفاع الظّن منهما بالتّعارض ، فيتعيّن الرّجوع إلى الأصل في المسألة ـ ما هذا لفظه :

« نعم ، بناء على مذاق صاحب « القوانين » قدس‌سره : من عدم وجوب الاحتياط عند العلم الإجمالي بالتّكليف وإعمال الأصل إلى أن يلزم المخالفة القطعيّة يتّجه القول بالتّخيير ؛ لأنّ المتعارضين يفيدان الظّن بنفي الثّالث فيجب العمل به والبناء عليه عملا بالظّن المطلق ، ولكن الظّن لا يزيد على العلم في مقتضاه ، فكما لا يجب الاحتياط مع العلم بل له التّخيير في اختيار أحدهما ، فكذلك مع الظّن. وهذا مع

١٤٥

كون كلّ منهما مخالفا للأصل ولو كان أحدهما موافقا للأصل فالتّخيير أوضح ، فينتفي المؤاخذة على الآخر حيث نقول بوجوب الاحتياط ، فكيف يقول قضيّة دليل الانسداد التّخيير حتّى جعله مؤيّدا لما استدلّ به عليه من الأخبار (١) »؟ انتهى كلامه رفع مقامه.

وهو كما ترى ؛ حيث إنّ نفي الثّالث بالظّن حتّى في مخالفي الأصل لا يوجب التّخيير بين الخبرين بمعنى البناء على حجيّة المتعارضين تخييرا فضلا عمّا وافق أحدهما الأصل الّذي جعل التّخيير فيه أولا ؛ لأنّ عدم وجوب الاحتياط لا يقتضي التّخيير بين الخبرين بالمعنى المبحوث عنه.

نعم ، لو كان المراد من التّخيير مجرّد البناء على مفاد أحد الخبرين من دون استناد إليه استقام الحكم بالتّخيير في مخالفي الأصل خاصّة ، لكنّه خلاف مفاد الأخبار والأقوال ، هذا ما يقتضيه النّظر الجليّ.

والّذي يقتضيه النّظر الدّقيق على تقدير الاستناد في التّخيير إلى الأخبار تطرّق المناقشة إلى ما ذكرنا : من التّعميم في الجملة على القول بالظّن المطلق ؛ لأنّ مفاد أخبار العلاج ترجيحا وتخييرا إثبات الحكم لخصوص الأخبار من حيث كونها حجّة في نظر الشّارع ، ومن هنا جعلت دليلا على حجيّة الأخبار من حيث الخصوص.

نعم ، على القول بعدم حجيّة أخبار العلاج من حيث الخصوص وابتناء

__________________

(١) بدايع الأفكار : ٤٢٢.

١٤٦

حجيّتها على الظّن المطلق استقام الحكم بالتّخيير كالتّرجيح لأجلها بناء على تعميم نتيجة دليل الانسداد للمسألة الأصوليّة ، فيصير حال أخبار العلاج حينئذ حال المتعارضين ، بل الاستناد إليها لا معنى له إلاّ على هذا القول كما لا يخفى.

ثمّ إنّ العمدة في وجوه الأقوال ومستندها ـ غير القول بالتّساقط المحكي عن غير واحد مستندا إلى ما عرفت : من الأصل ؛ لعدم شمول دليل الحجيّة للمتعارضين ـ الأخبار الواردة في العلاج ، أو مطلقا. فنذكر أوّلا : ما يدلّ على التّخيير ثمّ نشير إلى مدرك سائر الأقوال.

مدرك التخيير من الأخبار

فنقول : إنّ ما دلّ على التّخيير على ضربين :

أحدهما : ما دلّ عليه بعنوان الإطلاق مثل ما في رواية الحسن بن الجهم عن الرّضا عليه‌السلام فقلت : ( يجيئنا الرّجلان وكلاهما ثقة بحديثين منافيين فلا نعلم أيّهما الحقّ؟ فقال عليه‌السلام : إذا لم تعلم فموسّع عليك بأيّهما أخذت ) (١).

ومثل ما عن « الكافي » في الموثق عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : ( سألته عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في خبر أمر كلاهما يرويه : أحدهما يأمره والآخر ينهاه ، كيف يصنع؟ قال : يرجئه حتّى يلقى من يخبره ، فهو في سعة حتّى

__________________

(١) الاحتجاج : ج ٢ / ١٠٨ عنه الوسائل : ج ٢٧ / ١٢١ باب « وجوه الجمع بين الاحاديث المختلفة وكيفية العمل بها » ـ ح ٤٠.

١٤٧

يلقاه. ثمّ قال فيه : وفي رواية : بأيّهما أخذت من باب التّسليم وسعك ) (١).

ومثل ما في « الإحتجاج » في مكاتبة الحميري المعروفة إلى صاحب الزّمان « عجّل الله فرجه » بعد ذكر السّؤال عن التّكبير بعد القيام عن التّشهّد الأوّل ، واختلاف الأصحاب في ذلك : ( الجواب في ذلك حديثان : أمّا أحدهما : فإنّه إذا انتقل من حالة إلى أخرى فعليه التّكبير ، وأمّا الحديث الآخر : فإنّه روي إذا رفع رأسه من السّجدة الثّانية وكبّر ثمّ جلس فليس عليه في القيام بعد القعود تكبير ، والتّشهّد الأوّل يجري هذا المجرى ، وبأيّهما أخذت من باب التّسليم كان صوابا ) (٢).

وقد تقدّم في الجزء الثّاني من التّعليقة ما يتوجّه عليه من الإشكال ودفعه فراجع إلى غير ذلك.

ثانيهما : ما دلّ عليه بعنوان التّقييد مثل ما في ذيل مرفوعة زرارة (٣) وسيمرّ عليك في باب التّرجيح ؛ فإنّه خصّ التّخيير بما لا يكون أحدهما موافقا للاحتياط.

ومثل ما في « الإحتجاج » عن الصّادق عليه‌السلام قال : ( إذا سمعت من أصحابك

__________________

(١) الكافي الشريف : ج ١ / ٦٦ باب « اختلاف الحديث » ـ ح ٧ ، عنه الوسائل : ج ٢٧ / ١٠٨ باب « وجوه الجمع بين الأحاديث المختلفة وكيفيّة العمل بها » ـ ح ٥.

(٢) الاحتجاج : ج ٢ / ٣٠٤ ، عنه الوسائل : ج ٦ / ٣٦٢ باب « انه يستحب ان يقال عند القيام من السجود ومن التشهد » ـ ح ٨.

(٣) غوالي اللئالي : ج ٤ / ١٣٣ ـ ح ٢٢٩ ، عنه المستدرك : ج ١٧ / ٣٠٣ الباب « ٩ من أبواب صفات القاضي » ـ ح ٢.

١٤٨

الحديث وكلّهم ثقة فموسع عليك حتى ترى القائم فرد إليه ) (١) فإنّه خصّ التّخيير بزمان عدم لقاء القائم ( عجّل الله فرجه ) وهو زمان غيبته كما هو الظّاهر ، أو مطلق الإمام عليه‌السلام على أضعف الوجهين والاحتمالين ؛ لأنّ جميع الأئمّة عليهم‌السلام قائمون بالحقّ.

ومثل ما في « العيون » عن الرّضا عليه‌السلام أنّه قال عليه‌السلام في حديث طويل : ( فما ورد عليكم من حديثين مختلفين فأعرضوهما على كتاب الله فما كان في كتاب الله موجودا حلالا أو حراما فاتّبعوا ما وافق الكتاب وما لم يكن في الكتاب فأعرضوهما على بيان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فما كان في السّنة موجودا منهيّا عنه نهي حرام ، أو مأمورا به عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر إلزام فاتّبعوا ما وافق نهي النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمره وما كان في السّنة نهي إعافة وكراهة وكان الخبر الآخر خلافه فذلك رخصة فيما عافه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكرهه ولم يحرمه فذلك الّذي يسع الأخذ بهما جميعا ، أو بأيّهما شئت وسعك الاختيار من باب التّسليم والإتّباع والرّد إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحديث.

هذا ما وقفت عليه من الأخبار الدّالّة على التّخيير ومقتضى العلاج بعد حمل الطّائفتين على صورة فقد المرجّحات المنصوصة الخاصّة أو مطلق التّرجيح ـ على ما ستقف عليه من القولين ـ إمّا بالتّخصيص أو التّقييد أو بحملهما على فرض الرّاوي تعادل الخبرين على الوجهين اللّذين ستقف عليهما ، وإن كان الوجه

__________________

(١) الاحتجاج : ج ٢ / ١٠٩ ـ ح ٤١ ، عنه الوسائل : ج ٢٧ / ١٢٢ باب « وجوه الجمع بين الأحاديث المختلفة » ـ ح ٤١.

١٤٩

الثّاني ؛ نظرا إلى ورودهما في مقام العمل هذا.

مضافا إلى التّنصيص في بعضها بتأخّر مرتبة التّخيير عن التّرجيح وإن أمكن حمل الطّائفة الأولى على الثّانية في باديء النّظر ، فيؤخذ بمجمع القيود فيحمل جميعها عليه ، إلاّ أنّ المتعيّن بعد التّأمّل إبقاء المطلقات على حالها ؛ فإنّ المرفوعة مضافا إلى ضعفها معارضة بالنّصوصيّة والتّباين لرواية الحميري ؛ لورودها مورد موافقة أحد الخبرين للاحتياط ، فلا بدّ من حمل الأمر في المرفوعة على الاستحباب وإن كان خلاف الظّاهر لفظا وسياقا ؛ لما عرفت : من ورود المكاتبة في مورد موافقة أحد الخبرين للاحتياط.

ورواية « الإحتجاج » ظاهرة بعد التّأمّل فيما لا ينافي الأخبار المطلقة ؛ فإنّها ظاهرة في أنّ الحكم في زمان الفرج الأعظم على نسق آخر ؛ من حيث ارتفاع الحكم الظّاهري المبنيّ على التّحيّر ، ومن هنا ورد : أنّه عليه‌السلام يحكم بالواقع وببطون القرآن ، فحال التّخيير حال التّرجيح من حيث الاختصاص بزمان النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة عليهم‌السلام وغيبة الحجّة ( عجل الله فرجه ) وهذا المقدار من التّقييد ممّا لا بدّ منه بالنّظر إلى الأخبار الكثيرة الواردة في هذا الباب والتّعبير بالقائم لا يخلو عن إشارة إلى هذا المعنى.

وجعل المراد الاحتمال الثّاني ينافيه أخبار العلاج ترجيحا وتخييرا ؛ إذ حملها على صورة عدم التّمكّن من الوصول إلى خدمتهم ( صلوات الله عليهم ) كما ترى ، بل بعضها بل كلّها ورد في زمان التّمكن من الوصول.

نعم ، التّحديد بعدم وضوح الحقّ والعلم به ممّا لا بدّ منه ؛ فإنّه قيد لجميع الأحكام الظّاهريّة من غير فرق بين مفاد الأصول والأدلّة الظّنّية وعليه يحمل ما

١٥٠

في « الكافي » ورواية « العيون » ممّا لم يلتزم به أحد ، فتعيّن الأخذ بالمطلقات.

ولا يقاومها ما دلّ على التّوقّف والإرجاء والاحتياط ؛ فإنّ ما ورد منه في مطلق الشّبهة قد عرفت حاله في الجزء الثّاني من التّعليقة ، مضافا إلى أخصيّة أخبار التّخيير ، بل حكومتها عليه إن لم نقل بورودها عليه من حيث اختصاصه بمورد الشّبهة وعدم وجود الدّليل الزّائل حكما أو حقيقة بأخبار التّخيير الدّالة على حجيّة أحد المتعارضين كأخبار التّرجيح من غير فرق بينهما.

وما ورد في المتعارضين كالمقبولة ونحوها فلا مناص من حمل الطّلب فيه على ما يحمل عليه الأخبار العامّة ؛ فإنّه وإن كان مختصّا بصورة التّمكّن من إزالة الشّبهة وأخبار التّخيير أعمّ منها ، إلاّ أنّ تخصيصها بصورة عدم التّمكّن واليأس عن الوصول ممّا لا يتحمّله لورودها في حقّ المتمكّنين ، فهذا التّخصيص أشبه شيء بإخراج المورد عن العموم فهذا الحمل وإن كان خلاف الظاهر لفظا وسياقا أيضا من حيث ورود الأمر بالتّوقّف فيه مساق الأمر بالتّرجيح المحمول على الوجوب عند المشهور ، إلاّ أنّه متعيّن بالملاحظة المذكورة وإليه يرجع ما عن المجلسي رحمه‌الله : من حمل أخبار التّوقّف على الاستحباب وأخبار التّخيير على الجواز.

ثمّ إنّ هنا جمعين آخرين :

أحدهما : ما في « الكتاب » وغيره من كتب المتأخّرين من حمل أخبار التّخيير على صورة عدم التّمكن من إزالة الشّبهة ؛ نظرا إلى اختصاص المقبولة وغيرها بصورة التّمكن. وقد عرفت ضعفه ، وأنّ هذا الجمع ممّا لا يتحمّله أخبار التّخيير.

ثانيهما : ما ذكره غير واحد أيضا : من حمل التّوقّف فيها على التّوقّف من حيث الإفتاء بالحكم الواقعي لا التّوقّف من حيث الحكم الظّاهري والعمل بأحد

١٥١

الخبرين في مقام الحيرة والجهالة.

ويتوجّه عليه : أنّ المقبولة وأشباهها نصّ في ترك العمل بالخبرين من حيث عدم وجود التّرجيح لأحدهما ، فالمراد من المقبولة ونحوها اختصاص الحجيّة والعمل بصورة وجود المرجّح هذا. مع أنّ العامل بأحد الخبرين يفتي بمضمونه كالعامل بأحدهما من جهة التّرجيح من غير فرق بينهما ؛ إذ ليس التّخيير في المسألة الأصوليّة كالتّخيير في المسألة الفرعيّة وسائر الأصول.

وبالجملة : هذا الجمع أيضا لا يساعده الأخبار ، مضافا إلى ما عرفت في الجزء الثّاني من التّعليقة : من أنّ لازم التّوقف الاحتياط بحسب العمل فيما أمكن.

نعم ، ظاهر المقبولة ونحوها ترك العمل بالخبرين والإرجاء إلى السؤال ، لكنّه محمول على ما عرفت من رجحان ذلك لا لزومه.

ثمّ إنّ هنا جمعا رابعا وهو : حمل أخبار التّخيير على ما لا يمكن فيه الاحتياط كدوران الأمر بين المحذورين ، وما دلّ على التّوقّف على صورة إمكان الاحتياط من حيث كونه نصّا فيها ذكره غير واحد. وهو ضعيف ؛ لورود بعض أخبار التّخيير فيما أمكن فيه الاحتياط ، كضعف حمل أخبار التّوقّف على حقوق النّاس وأخبار التّخيير على حقوق الله كما عن الأسترآبادي في « الفوائد المدنيّة » (١) وغيره ؛ من جهة توهّم ورود المقبولة في حقوق النّاس أو حملها على ما لا يضطرّ إلى العمل ، وحمل أخبار التّخيير على ما يضطرّ إلى العمل كما عن ابن

__________________

(١) الفوائد المدنيّة : ( الفائدة الرابعة من الفصل التاسع ) ـ ٣٩٠

١٥٢

أبي جمهور (١) ؛ لإباء الأخبار عن الجمعين ، مضافا إلى منافاة الأخير لمورد بعض أخبار التّخيير.

فتبيّن ممّا ذكرنا كلّه : ما ينبغي سلوكه في الجمع بين الأخبار الواردة في الباب ، وعدم صلاحيّة أخبار التّوقّف لمعارضة أخبار التّخيير ، كما أنّه تبيّن منه :

وجوه سائر الأقوال في المسألة ؛ فإنّها مبنيّة على وجوه الجمع بينها بما عرفت الإشارة إليها فلا حاجة إلى ذكر كلّ واحد وردّه.

وفي « الفصول » بعد اختيار أحد الوجهين الأوّلين المزيّفين عندنا في الجمع بين الأخبار رجّح أخبار التّخيير على تقدير التّكافؤ بالشّهرة من جهة أخبار العلاج حيث قال :

« ولو سلّم تكافئهما من حيث الدّلالة فلا ريب أنّ أخبار التّخيير معتضدة بالشّهرة فيتعيّن بالتّرجيح كما نطقت به الأخبار المذكورة ، مضافا إلى قضاء قاعدة انسداد باب العلم بذلك » (٢). انتهى كلامه رفع مقامه.

وفيه ما سيجيء : من الكلام في جواز علاج تعارض أخبار العلاج بأنفسها فيما لم يرجع إلى التّرجيح من حيث الدّلالة. مضافا إلى ما سيجيء : من كون المراد من الشّهرة في الأخبار الشّهرة من حيث الرّواية لا الفتوى ، وأمّا التّمسك بقاعدة الانسداد في المقام فسيجيء الكلام فيه أيضا هذا بعض الكلام فيما يقتضيه الدّليل في تعادل الخبرين.

__________________

(١) غوالي اللالي : ج ٤ / ١٣٦ ، وانظر القوانين : ج ١ / ٣٠٤.

(٢) الفصول الغروية : ٤٤٦.

١٥٣

حكم تعادل الخبرين من الأمارات

وأمّا تعادل غيرهما سواء كانا قطعيّين من حيث الصّدور بحيث ينحصر التّصرّف في دلالتهما وظنّيين أو مختلفين أو كان أحدهما خبرا والآخر غيره فحاصل القول فيه : أنّ حكمه بحسب الأصل الأوّلي حكم تعادل الخبرين.

وأمّا حكمه بحسب الدّليل الوارد فقد اختلفت فيه كلماتهم ، فعن غير واحد موافقة شيخنا العلاّمة قدس‌سره في الحكم بمخالفته له وعدم ثبوت التّخيير فيه. وعن جماعة منهم : ثاني الشّهيدين قدس‌سره وصاحب « الوافية » موافقته له فحكم تعارض غير الأخبار ترجيحا وتخييرا حكم تعارض الأخبار عندهم سيّما في تعارض إجماعي المنقول ؛ فإنّه ملحق عند القائلين بحجيّته من حيث الخصوص بنقل الخبر في حكم التّعارض كما هو المصرّح به في كلماتهم على ما أسمعناك في محلّه.

والحقّ ما اختاره شيخنا : من عدم إلحاق تعادل غير الأخبار بتعادلها حتّى في تعادل إجماعي المنقول ، بل تعادل نقل الخبر والإجماع ، فضلا عن تعادل سائر الأمارات ؛ ضرورة كون الموضوع في الأسئلة والأجوبة فيما دلّ على التّخيير تعارض الرّوايات والأحاديث والأخبار الحسّيّة المرويّة عنهم في بيان الأحكام ولا عموم لها لفظا لغيره جزما.

وتنقيح المناط على وجه القطع بدعوى : كون الموضوع حقيقة تعارض الحجّتين ولو كان من مقولة الظّواهر ، أو تعارض النّقلين وإن لم يصدق عليهما أو على أحدهما الحديث والرّواية مع صدق مطلق النّبأ والخبر كما في نقل الإجماع

١٥٤

سيّما على طريقة الدّخول فممنوع ، وعلى وجه الظّن قياس لا نقول به.

ومنه يظهر فساد توهّم : شمول الأخبار لتعارض نقلي الإجماع : من كون الموضوع فيها تعارض الأخبار ، وصدق النّبأ والخبر على نقل الإجماع يقينيّ فيشمله الأخبار ؛ فإنّ مجرّد صدق الخبر لا يجدي مع كون الموضوع الخبر الخاصّ المعهود عند الرّواة.

فقد تبيّن ممّا ذكرنا : أنّ ما تسالم عليه القائلون بحجّيّة نقل الإجماع : من لحوق تمام أحكام الخبر له من حيث كونه من أفراده لا وجه له.

وأشكل من ذلك كلّه إلحاق القطعيّين من حيث الصّدور ولو كانا من الأخبار ؛ لأنّ مصبّ العلاج بالتّخيير ومفاده هو الحكم بصدور أحد المتعارضين دون الآخر تخييرا ، وهذا المعنى كيف يتصوّر في القطعيّين؟ فإذا حكم من جهة التّعارض بإجمال الآيتين أو السّنّتين من جهة العلم الإجمالي بإرادة خلاف الظّاهر من أحدهما فكيف يحكم بحجيّة أحدهما مخيّرا؟

بل التّحقيق على ما عرفت الإشارة إليه وستعرفه : عدم شمول أخبار العلاج للقطعيّين من الأخبار فضلا عن غيرها ، وإن تصوّر التّرجيح من غير جهة الصّدور في القطعيّين في الجملة ؛ لأنّ مصبّ أخبار العلاج في تعارض الأخبار الظّنيّة فلا يشمل غير الظّنيّة كما لا يشمل تعارض غير الأخبار.

نعم ، لو كان هناك دليل على التّرجيح في غيرها يحكم به كالإجماع المدّعى في كلام جماعة على وجوب الأخذ بأقوى الدّليلين وغيره ممّا ستقف عليه.

هذا بعض الكلام في تعادل غير الأخبار من الأدلّة والأمارات القائمة على الحكم الشّرعي بالمعنى الأعمّ من الماهيّات الشّرعيّة.

١٥٥

وأمّا تعادل الأمارات القائمة على الموضوعات ـ سواء كانت من مقولة الخبر أو غيره ـ فإن قامت على الموضوعات اللّغوية كتعادل قولي اللّغوي فيما فرض اعتبارهما وتعارضهما ، وإلاّ فأكثر موارد الاختلاف لا يرجع إلى التّعارض حقيقة بعد ثبوت الاشتراك في اللّغة ووقوعه ؛ لأنّه إمّا من قبيل الإثبات والنّفي الرّاجع إلى لا ندري ، أو من قبيل الإثباتيّين الرّاجعين إلى الاشتراك وعدم التّعارض حقيقة كالإثبات والنّفي ، فلا يحكم بالتّخيير فيه ؛ لما عرفت : من خروجه عن مورد أخبار التّخيير. ودعوى التّنقيح فيه أوهن وإن قيل بثبوت التّخيير فيه أيضا.

وإن قامت على الموضوعات الرّجاليّة فيما لو فرض تعارضها ، وإلاّ فيخرج عن موضوع البحث كما في أكثر موارد الاختلاف في الجرح والتّعديل الرّاجع إلى أدري ولا أدري ، فلا يحكم بالتّخيير فيه أيضا ؛ لما عرفت وإن كان لها تعلّق بالحكم الشّرعي : من حيث كونها في طريقه كسابقتها. ومن هنا نفى شيخنا العلاّمة قدس‌سره التّخيير في المسألتين بقوله : ( ثمّ إنّ التّعادل في الأمارات المنصوبة في غير الأحكام ... إلى آخر ما أفاده ) (١).

وإن قامت على الموضوعات الخارجيّة الصّرفة كالقبلة ، والوقت ، والهلال ، ونحوها فيما تعارضت حقيقة فأولى بعدم الإلحاق ، ولم يعهد من القائلين بإلحاق مطلق الأمارات الحكميّة بالأخبار بإلحاق الأمارات الموضوعيّة بها حتّى فيما لو كانت من قبيل الخبر والشّهادة ، هذا كلّه في حقّ المجتهد أو الأعمّ منه ومن العامي في الموضوعات الصّرفة من جهة اعتبار الأمارات والأصول فيها للعامي أيضا.

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٤ / ٤٤.

١٥٦

وأمّا تعادل المفتيين المختلفين في المسألة فلا إشكال في انعقاد الإجماع على تخيير العامي في الرّجوع إليهما وإن لم يدلّ عليه أخبار الباب.

وأمّا إذا تعادل النّاقلان عن مجتهد فيما إذا رجع اختلافهما إلى التّعارض ، وإلاّ فقد لا يكون بينهما تعارض من حيث جعل أحدهما رجوعا كاختلاف الفتوى فهل يحكم بالتّخيير أم لا؟ وجهان ، أوجههما : الثّاني ؛ لعدم الدّليل بعد كون التّخيير الرّاجع إلى حجّيّة أحد المتعارضين على خلاف الأصل.

وقد يوجّه الأوّل : بعموم المنزلة في دليل النّيابة ؛ فإنّه كما يحكم بالتّخيير فيما تعادل النّقل المختلف عن المنوب عنه ، كذلك يحكم به فيما تعادل النّقلان المختلفان عن النّائب ، ذكره بعض أفاضل معاصرينا.

وفيه ما لا يخفى من الضّعف. هذا بعض الكلام فيما يتعلّق بحكم التّعادل ، ولو لم نقل بالتّرجيح في غير تعارض الأخبار فيدخل مورد وجود المزيّة في التّعادل حكما بل موضوعا فيعامل معه معاملة عدمه هذا.

وقد يستظهر من الاستدراك الّذي ذكره شيخنا قدس‌سره في « الكتاب » عقيب نفي التّخيير في تعادل أقوال أهل اللّغة فيما اجتمع شرائط الحجّيّة وأهل الرّجال ، والحكم بالتّوقّف والرّجوع إلى الأصل بقوله : ( إلاّ أنّه إن جعلنا الأصل من المرجّحات ... إلى آخره ) (١) التّفكيك بين حكم صورتي وجود المزيّة وعدمه وسنوقفك على ما هو الحقّ والصّواب في باب التّرجيح ، وإن كان مقتضى الأصل فيما لم يقم هناك دليل على التّرجيح إجراء حكم التّعادل فافهم.

__________________

(١) المصدر السابق : ج ٤ / ٤٥.

١٥٧

* تنبيهات تعادل الخبرين

وينبغي التّنبيه على أمور :

الأوّل : أنّه قال العلاّمة قدس‌سره في محكي « التّهذيب » وغيره في غيره ـ بل نسب إلى الأكثر بل إلى المشهور ـ : إذا اتّفق تعادل الخبرين للمجتهد يفتي بما اختاره ولا يفتي بالتّخيير للعامي ، وكذا إذا اتّفق التّعادل للقاضي في الشّبهة الحكميّة ، أو في طريق فصل الخصومة الرّاجع إلى الحكم الشّرعي حقيقة يقتضي بما اختاره ولا يجوز له تخيير المتخاصمين هذا ما حكي عنه وعن غيره.

أمّا ما أفاده بالنّسبة إلى القاضي فممّا لا إشكال ، بل لا خلاف فيه ، بل لا يعقل الخلاف ؛ لأنّ تخيير المتخاصمين نقض لغرض تشريع القضاء وفصل الخصومة بين النّاس ؛ لأنّ كلاّ من المتداعيين يختار ما ينفعه ويطابق دعواه فإذا وقع النّزاع في منجّزات المريض ، أو الحبوة ، أو مقدارها مثلا ، وتعادلت الأخبار الواردة في هذه في نظر المجتهد المرجع للمتداعيين وفوّض حكمه باختيارهما ، فكلّ يختار ما يطابق دعواه فيبقى الخصومة بحالها ، وهو من هذه الجهة نظير تخيير المجتهد في عمل نفسه ؛ فإنّه بعد مشروعيّة التّخيير والفراغ عن ثبوته في الشّرع كان ثبوته في حقّه متيقّنا من دليل الثّبوت فلا يعقل الإنكار ؛ لكون عدمه خلفا حقيقة.

ومن هنا قد يناقش فيما أفاده شيخنا العلاّمة في تحرير حكم المسألة وبيانه بقوله : ( ثمّ إنّ المحكي عن جماعة ـ بل قيل : إنّه ممّا لا خلاف فيه ـ : أنّ التّعادل إن

١٥٨

وقع للمجتهد كان مخيّرا في عمل نفسه ) (١) فإنّه يوهم كون الحكم نظريّا قابلا للخلاف.

وأمّا ما أفاده بالنّسبة إلى المجتهد في مقام الإفتاء فيوجّه بما في « الكتاب » وغيره : بأنّ التّخيير بين الخبرين تخيير في المسألة الأصوليّة وفي طريق الاستنباط فهو يغاير التّخيير في المسألة الفرعيّة كالتّخيير الواقعي بين القصر والتّمام في المواطن الأربعة والظّاهري كدوران الأمر بين الوجوب والتّحريم ، أو خصال الكفارة إذا اقتضى الجمع بين الأخبار : التّخيير بين الكفّارات ظاهرا ، وهكذا حيث يفتي بالتّخيير في هذه.

والفرق : أنّ الخطاب في المسألة الأصوليّة متوجّه بالمستنبط والمجتهد كخطاب الحدود المتوجّه إلى الحكّام ، وخطاب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر المتوجّه إلى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والإمام عليه‌السلام في زعم بعض فلا تعلّق لهذا الحكم المستنبط من أخبار العلاج بالعامي ، وهذا بخلاف الحكم الفرعي ؛ فإنّ موضوعه فعل المكلّف الأعمّ من المجتهد والعامي فالخطاب مشترك بينهما.

فإن شئت قلت : إنّ الخطاب بالتّخيير كالخطاب بالتّرجيح ، فكما أنّ الثّاني مختصّ بمن يعالج تعارض الأخبار ولا يشمل غيره ، كذلك الأوّل مختصّ به ؛ لأنّه نوع من العلاج أيضا. ومن هنا يحكم بتقديم نظر المجتهد فيما لو خالفه العامي في التّرجيح فزعم مرجوحيّة ما زعم المجتهد رجحانه كأفضليّة من زعمه المفتي مفضولا من حيث صفات الرّاوي ولو كان المقلّد من أهل الخبرة بالرّجال وهكذا

__________________

(١) المصدر السابق : ج ٤ / ٤١.

١٥٩

وليس هذا إلاّ من جهة ما ذكر : من اختصاص الخطاب بالتّرجيح بالمجتهد.

لا يقال : إنّ الخطاب الأصولي كالفرعي متعلّق بنوع المكلّفين من غير فرق بين المجتهد والعامي. ومن هنا يرجع العوام في إعصار النّبي المختار صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة الأطهار عليهم‌السلام إلى الأخبار المرويّة عنهم عليهم‌السلام ويعملون بها ويعالجون متعارضاتها بما ورد عنهم عليهم‌السلام ، كما يعمل بها المجتهدون ويعالجون متعارضاتها بما ورد في باب العلاج.

ودعوى : اختصاص ما دلّ على العمل بأخبار الآحاد وما ورد في علاج ما تعارض منها بالمجتهد ، مصادمة للضّرورة ، بل المخاطب في كثير منها العوام بحيث لا مجال لإنكاره.

نعم ، كان لهم طريق آخر أيضا وهو التّقليد كما هو الحقّ ودلّ عليه الأخبار ، وذلك لا ينفي جواز العمل لهم بالرّواية.

بل قد يقال : بثبوت الطّريقين للمجتهد أيضا ؛ فإنّ عمله بالأخبار الواضحة السّليمة ليس من حيث الاستناد إلى رأيه ونظره العلمي وملكته الرّاسخة ، بل من حيث الاستناد إلى حسّه المشترك مع العامي في ذلك ، فالخطاب بالعمل بالطّرق عام للعالم والعامي لا فرق بينهما من هذه الجهة أصلا.

غاية ما هناك : أنّ العامي لا يقدر في زماننا هذا وأشباهه على تشخيص مدلول الخبر ، وإحراز شرائط العمل به ، ودفع معارضاته من جهة عروض السّوانح ، واختفاء وليّ الأمر ، وطول غيبته ، وكثرة الأفكار ، واختلاف الأنظار ، وتشتّت الآراء وغير ذلك ، والمجتهد يقدر على ذلك كلّه ، فكأنّ المجتهد نائب عن العامي في ذلك ، وإلاّ فأصل العمل بمضمون الخبر مشترك بين المجتهد والعامي ، فهذا

١٦٠