بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٨

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٨

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-351-4
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٨٢٠

فقد تبيّن ممّا ذكرنا كلّه : أنّ الدّليل والأصل لا يتصوّر التّعارض بينهما في الشّبهة الحكميّة وإن كان الدّليل ظنّيّا وهذا يقال علي سبيل الموجبة الكلّيّة. وأمّا الأدلّة الظّنية بعضها مع بعض والأصول كذلك فقد يوجد

بينهما الورود ، كما أنّه قد يوجد بينهما الحكومة فيما إذا كان أحدهما تنجيزيّا والآخر تعليقيّا كما في العام والخاصّ مثلا ؛ فإنّ أصالة العموم معتبرة فيما إذا لم يكن هناك قرينة على التّخصيص كما هو الشّأن في جميع الظّواهر ؛ فإنّها مشروطة بعدم قيام القرينة على الخلاف.

فإن كان الخاصّ قطعيّا من جميع الجهات فيكون واردا على أصالة العموم ، كما هو شأن القرينة القطعيّة بالنّسبة إلى جميع الظّواهر ؛ فإنّها تعليقيّة بأسرها.

وإن كان قطعيّا بحسب الدّلالة وظنّيّا بحسب الصّدور ، فيكون حاكما على أصالة العموم بالنّظر إلى دليل اعتبار صدوره ؛ فإنّ مقتضاه عدم الاعتناء باحتمال عدم الصّدور والرّجوع إلى أصالة العموم والبناء على عدم القرينة لو لا دليل التّعبّد بالصّدور ، فيكون الدّليل المذكور شارحا لما دلّ على اعتبار أصالة العموم فلا يكون الخاصّ معارضا للعام ، إلاّ فيما كان ظنّيّا بحسب الدّلالة كالعام ، وإن كان راجحا عليه إذا لوحظا بأنفسهما من غير ملاحظة الخصوصيّات ، وإلاّ فقد يكون العام أقوى دلالة من الخاصّ بملاحظتها كما ستقف على شرح القول فيه هذا.

وفي « الكتاب » جعل النّص الظّني الصّدور واردا أيضا على أصالة العموم إذا كان مستند اعتبار أصالة العموم الظّن النّوعي بإرادة الحقيقة الحاصل من الغلبة من حيث استظهار تقيّد اعتباره بعدم قيام الدّليل المعتبر على الخلاف ولو كان ظنّيّا.

ثمّ استكشف ذلك بقوله : ( ويكشف عمّا ذكرنا : أنّا لم نجد ولا نجد من

٤١

أنفسنا ... إلى آخره ) (١)(٢) وهو كما ترى محلّ مناقشة ؛ لأنّ ما أفاده في الكاشف

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٤ / ١٧.

(٢) قال المحقق آغا رضا الهمداني قدس‌سره :

« أقول : قد يقال : ان عدم تقدم الخاص في شيء من موارده ، لا يكشف عن كون حجية ظهوره مقيدة كما هو المدّعى ، كى يكون الخاص واردا عليه ، لجواز كون ظهور الخاص حاكما على ظهور العام ، فيتقدم عليه حينئذ كما هو الشأن في كل حاكم.

وفيه : انه لا يعقل الحكومة في الفرض ، فان ما دل على حجية الخاص لا يدل الاّ على وجوب الالتزام بمؤدّاه ، وعدم الاعتناء باحتمال عدم تحقّقه في الواقع ، ومعنى حجية ظاهر العام من باب الظن ليس أيضا الاّ ذلك ، فيتزاحمان في مورد الاجتماع لا محالة بعد فرض عدم اختصاص امارية شيء من الأمارتين المتنافيتين أو اعتباره بعدم الاخرى ، فلا بد حينئذ من ملاحظة المرجّح ـ نظير الاستصحاب لو قلنا بحجيته من باب الظن من دون تقييده بعدم امارة على خلافه ـ فلا يعقل حينئذ حكومة سائر الامارات المخالفة له عليه ، اذ الاستصحاب أيضا على هذا التقدير كاحدى الامارات التي لا معنى لحجيتها الا الالتزام بثبوت مؤداها ، وعدم الاعتناء باحتمال تخطّيها عن الواقع ، فيتزاحمان في مورد الاجتماع ، وهذا بخلاف ما لو جعلناه أصلا عمليا يرجع اليه لدى الجهل بالواقع ، فان الرجوع اليه على هذا التقدير فرع الاعتناء باحتمال الخلاف ، وهو شيء نفاه دليل اعتبار الامارة المنافية له.

وهكذا الكلام في اصالة العموم ، فانه ان جعلناها امارة يتحقق المعارضة بينها وبين سائر الامارات المنافية له.

وان جعلناها أصلا تكون الامارات المنافية له حاكمة عليه ، فلاحظ وتدبر » إنتهى.

أنظر حاشية فرائد الأصول : ٤٩٤.

* وقال المحقق الخراساني قدس سره :

« ربما يشكل : ان هذا ليس بكاشف عن الورود ، فانه ليس مما يخصّه ، بل يعم الحكومة.

٤٢

لازم أعمّ من الورود والحكومة بل من التّرجيح أيضا لما عرفت : من قوّة الخاصّ الظّني بحسب الدّلالة بالنّسبة إلى العام إذا لوحظا بالنّظر إلى أنفسهما مع تصريحه بكونهما متعارضين بقوله : ( نعم ، لو فرض الخاصّ ظاهرا ... إلى آخره ) (١) فإنّه صريح في كون محلّ كلامه في ورود الخاصّ على العام أو حكومته فيما كان الخاصّ نصّا وقطعيّا بحسب الدّلالة.

فقد تبيّن ممّا ذكرنا : أنّ ما أفاده في « الكتاب » في الفرق بين الحاكم والمخصّص بجعل الأوّل خارجا عن عنوان المعارض والثّاني داخلا فيه بقوله : ( والفرق بينه وبين المخصّص ... إلى آخره ) (٢) منزّل على الخاصّ الظّني الصّدور

__________________

قلت : يمكن ان يذب من الاشكال بما حققناه سابقا : من ان الدليل الناظر الى دليل آخر ربما يعارض عموم هذا الدليل ظهوره في نظره اليه ويقدم عليه اذا كان اقوى ، ويتوقّف أو يتساوى كما تقدم ، فيقال : ان ما ذكره على هذا لا يعم الحكومة ، بل يختص بالورود ، فانه يمكن ان يفرض ظهور العام في عمومه أقوى من ظهور دليل حجية الخاص في نظره اليه او مكافئته له ، وانه أراد من اضعفية مرتبة ظن الخاص ، اضعفية ظهور دليل حجيته في نظره الى العام من ظهوره في العموم ، لا أضعفية ظهوره في عمومه وشموله له ، ويشعر بذلك انه اكتفى فيه بمجرد امكان الفرض ، وذلك لان الواقع في ظهور دليل الحجية في نظره الى العام انه بلغ من القوة غايتها بخلاف ظهوره في الشمول لجميع افراد موضوعه ، حيث انه ما بلغ هذا المبلغ ، وليس كون ظن العام اقوى مرتبة من ظن الخاص من هذا الجهة بعزيز ، كي يكتفى فيه بمجرد امكان الفرض ، فتدبر جيّدا. ويمكن أن يكون قوله : « فافهم » اشارة الى الاشكال والدفع ، او خصوص الاشكال ، فافهم » إنتهى. انظر درر الفوائد : ٤٣٤.

(١) فرائد الأصول : ٤ / ١٧ هامش رقم ٢.

(٢) نفس المصدر : ج ٤ / ١٥.

٤٣

والدّلالة ؛ لأنّ تصريحه بجريان الورود والحكومة بالنّسبة إلى الأصل اللّفظي بعد ما ذكره بقوله : ( ثمّ إنّ ما ذكرنا من الورود والحكومة جار في الأصول اللّفظيّة أيضا ... إلى آخره (١) ) (٢) أقوى شاهد على التّنزيل المذكور سيّما الاستدراك بقوله : ( نعم ، لو فرض الخاصّ ظاهرا خرج عن النّص وصار من باب تعارض الظّاهرين ... إلى آخره ) (٣) هذا.

وقد وقفت على ما ينافي ما سلكه شيخنا الأستاذ العلاّمة في المقام من كلام

__________________

(١) فرائد الأصول : ٤ / ١٥.

(٢) قال السيّد المجدّد الشيرازي قدس‌سره :

« إعلم ان الأصول اللفظيّة إنما هي أدلّة اجتهاديّة بالنسبة إلى مؤدّياتها لا أحكام ظاهريّة ، إلاّ ان اعتبارها إنّما هو في صورة عدم القرينة الصارفة عنها فحينئذ إن كانت القرينة قطعيّة فهي بنفسها رافعة لموضوعها فتكون واردة عليها.

وإن كانت ظنّيّة من حيث الصدور ـ مع نصوصيّته أو أظهريّته ـ فتكون حاكمة عليها ؛ إذ بمقتضى أدلّة اعتبار سندها تكون كمقطوع الصدور من حيث إيجابها لرفع حكم تلك الأصول واعتبارها عن موردها وإن لم يرفع عن موضوعها وهو عدم العلم بالقرينة.

وبعبارة أخرى : ان الحكم بصدور ما يكون على تقدير صدور قرينة انّه لم يعتن باحتمال عدم القرينة بمعنى انه رفع الحكم المجعول لذلك الاحتمال عن مورد تلك القرينة المظنونة الصدور ، فيكون حكمه بالصدور تفسيرا لدليل اعتبار تلك الأصول ، فيكون دليل اعتبار الأصول حاكما على دليل اعتبار الأصول اللفظيّة.

والمصنّف قدس‌سره جعل الحكومة هنا أيضا بين نفس الأصول ونفس القرائن الظنّيّة وليس بجيّد.

والتحقيق : ما عرفت : من كون دليل اعتبار القرينة حاكما على دليل اعتبار الأصول » إنتهى.

أنظر تقريرات المجدد الشيرازي : ج ٤ / ١٩٠.

(٣) فرائد الأصول : ج ٤ / ١٧.

٤٤

بعض أفاضل تلامذته وهو غريب ، هذا بعض الكلام في حكم المختلفين في الأحكام الشرعيّة.

وأمّا إذا قاما في الموضوعات الخارجيّة فلا يتصوّر التّعارض بينهما أيضا إذا فرض اعتبار الظّاهر فضلا عن تقديم الأصل على الأمارة ، فما أفاده ثاني الشّهيدين في تقديم الأصل على الظّاهر في « تمهيده » في صور كثيرة لا بدّ أن ينزّل على الظّواهر الغير المعتبرة ، كما أنّ إشكاله في تقديم أحدهما في صور مذكورة فيه لا بدّ أن ينزّل على الإشكال في اعتبار الظّاهر المقابل للأصل وإن كان من حقّه عدم الإشكال بعد عدم العلم باعتبار الظّاهر ، وإن كان الخلاف موجودا من جهة الاختلاف في اعتبار الظّاهر فتدبّر.

أمّا حكم بعضهم بتقديم قول من كان قوله موافقا للظّاهر وإن لم يكن معتبرا وكان مخالفا للأصل فهو من جهة ذهابه إلى كون المدّعي في العرف : من كان قوله مخالفا للظّاهر وإن كان موافقا للأصل ، والمدّعى عليه والمنكر في العرف : من كان قوله موافقا للظّاهر وإن كان مخالفا للأصل. وهذا كما ترى ، يرجع إلى الاجتهاد في تشخيص الموضوع العرفي ولا تعلّق له بالمقام أصلا.

نعم ، يستثنى عمّا ذكرنا الأصل الأخصّ بالنّسبة إلى الظّاهر المعتبر الأعمّ كأصالة الصّحة في عمل النّفس بعد الفراغ أو عمل الغير على القول باعتبار الاستصحاب من باب الظّن ؛ فإنّه لا بدّ من الأخذ بالأصل بعد الفراغ عن ثبوته وإلاّ لزم طرحه رأسا.

فإن شئت قلت : إنّ الأصل الوارد في بعض موارد الأمارة المعتبرة لا بدّ من الأخذ به لكن لا من باب الحكومة ؛ ضرورة امتناع شرح الأصل عن الأمارة و

٤٥

الدّليل ، فما يذكر من كلمات شيخنا الأستاذ العلاّمة قدس‌سره في الأصول والفروع : من حكومة استصحاب الشّرائط ـ كاستصحاب الطّهارة مثلا ـ على الدّليل المثبت للشّرط ـ كقوله : ( لا صلاة إلاّ بطهور ) (١) ـ منظور فيه ؛ لعدم اتّحاد الأصل والدّليل من حيث المرتبة ، فكيف يمكن جعل الأصل مفسّرا وشارحا له؟

وإن شئت قلت : إنّ الدّليل المثبت للحكم الواقعي ساكت عن حكم الشّك في الموضوع فكيف يمكن جعل استصحاب الموضوع حاكما عليه؟ ضرورة أنّ قوله :

( لا صلاة إلاّ بطهور ) (٢) لا دلالة على حكم الشّك في الطّهارة والحدث ، وإن كان الحكم عدم جواز الدّخول في الصّلاة مع الشّك في وجود الشّرط الواقعي من جهة قاعدة الشّغل فلا يمكن جعل الاستصحاب المتكفّل لحكم الشّك حاكما عليه فهو وارد على أصالة الشّغل لا حاكم على دليل الشّرط فافهم.

ومن هنا لا يفرق بين كون دليل الشّرط ظنّيّا أو قطعيّا من جميع الجهات ؛ فإنّ ثبوت الشّرط على وجه القطع لا يمنع من الشّك في وجوده الخارجي كما هو واضح ، فلا بدّ من أن يحمل ما أفاده شيخنا العلاّمة قدس‌سره على غير الحكومة بالمعنى الّذي عرفته : بجعل الاستصحاب كاشفا عن إرادة الطّهارة بالمعنى الأعمّ من

__________________

(١) المحاسن : ج ١ / ٧٨ كتاب عقاب الأعمال من المحاسن الباب الأوّل : ـ ح ١ ، والفقيه : ج ١ / ٥٨ ـ ح ١٢٩ ، والتهذيب في عدّة مواضع منها : ج ١ / ٤٩ باب « الاحداث الموجبة للطهارة » ـ ح ٨٣ ، والاستبصار : ج ١ / ٥٥ باب « وجوب الاستنجاء من الغائط والبول » ـ ح ١٥. عنها الوسائل في عدّة مواضع منها : ج ١ / ٣١٥ باب « وجوب الاستنجاء وإزالة النجاسات للصّلاة » ـ ح ١.

(٢) المصدر السابق.

٤٦

الواقعيّة والظّاهريّة من دليل اشتراط الطّهارة الّذي قد عرفت استحالته فتأمّل.

فقد تبيّن ممّا ذكرنا كلّه : أنّ التّنافي المعتبر في التّعارض موضوعا إنّما هو بعد إمكان اجتماع المتعارضين في موضوع واحد فلا يتحقّق بين الوارد والمورود ولا بين الحاكم والمحكوم بعد ملاحظة تنزيل الشّارع. ومن هنا ذكر شيخنا الأستاذ العلاّمة ما عرفته بقوله : ( ومنه يعلم : أنّه لا تعارض ... إلى آخره ) (١).

فعدم التّعارض مستند إلى إلى عدم اجتماع الدّليل والأصل لا إلى عدم اجتماع مدلولهما ؛ فإنّه لا تنافي بين كون شيء حراما في الواقع وحلالا في الظّاهر مثلا وهكذا.

وقد صرّح بذلك في أوّل الجزء الثّاني من « الكتاب » (٢) ، والظّاهر أنّه من المسلّمات عندهم وقد بنوا عليه الأمر في مسألة اجتماع الأمر والنّهي على ما نبّهناك عليه في الجزء الثّاني من التّعليقة (٣).

إشكال عويص في تعارض الحكم الظاهري مع الحكم الواقعي

لكن قد تقدّم منّا الإشكال في ذلك على القول بالتّخطئة وثبوت الحكم المشترك بين العالم والجاهل وعدم اختصاص كلّ من العالم والجاهل بحكم في مرحلة الواقع وإن كانت فعليّة الأحكام الإلزاميّة ، ولحوق استحقاق المؤاخذة في

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٤ / ١١.

(٢) فرائد الأصول : ج ٢ / ١١.

(٣) بحر الفوائد : ج ٢ / ٦.

٤٧

حكم العقل تابعة في حقّ القاصر لما يدلّ على ثبوتها ؛ فإنّه لا محيص بناء عليه عن الالتزام باجتماع الضّدّين ؛ فإنّ العلم والجهل وقيام الدّليل على الحكم وعدمه لا يوجب اختلافا في حقيقة الحكم ، فإن كانت الأحكام متضادّة ـ كما قضت به ضرورة العقل والوجدان كان التّضاد بين أنفسها من غير مدخليّة لقيام الدّليل عليها وعدمه ، وإنّما يؤثّران في أمر عقلي خارج عن حقيقة الحكم وإن سلّم عدم صدق عنوان التّكليف عليها قبل ثبوتها وقيام الدّليل عليها ؛ فإنّ الضّديّة تتبع المعنون لا العنوان وهو أمر ظاهر هذا.

وقد تقدّم ما يدفع به هذا الإشكال وما يزيّفه في الجزء الثّاني من التّعليقة ولم أقف إلى الآن على ما يدفع به هذا الإشكال (١).

نعم ، في كلام بعض أفاضل من عاصرناه من حاضري مجلس بحث شيخنا ابتناء الإشكال على القول بالامتناع في مسألة اجتماع الأمر والنّهي ، ودفعه ـ مع اضطراب كلامه في المقام كغيره ـ : بكون الحكم الظّاهري راجعا إلى الإخبار بالمعذوريّة ونفي العقاب.

وهو كما ترى ، في كمال الغرابة ؛ فإنّ الابتناء المذكور لا محصّل له أصلا ؛ حيث إنّ الاجتماع في المقام يرجع إلى الاجتماع الآمري لا المأموري كما هو ظاهر ، وجواز الاجتماع على القول به مبنيّ على الثّاني كما بيّن في محلّه ، فكيف يبتني الإشكال المذكور على القول بالامتناع؟

__________________

(١) أقول : لاحظ كلمة السيّد المجدّد الشيرازي في المقام فإنّها لا تخلو من فائدة على طولها وتفصيلها. أنظر تقريرات السيّد المجدّد الشيرازي : ج ٤ / ١٤٩ ـ فصاعدا.

٤٨

وأمّا دفع الإشكال بإرجاع الحكم الظّاهري إلى الإخبار عن نفي المؤاخذة فهو أشدّ ضعفا ؛ إذ كيف يستقيم إرجاع القضايا الشّرعيّة الصّريحة في إنشاء الحكم الشّرعي كأخبار الاستصحاب والحلّيّة ونحوهما إلى القضيّة الخبريّة المذكورة؟ هذا.

مع أنّ الحكم الظّاهري قد يكون إلزاميّا والحكم الواقعي غير الإلزاميّ ، وقد يكونان متوافقين إلزاميّين أو غير إلزاميّين.

نعم ، يمكن الالتزام بذلك بالنّسبة إلى بعض أخبار البراءة أو حكم العقل بها ، مع أنّ هذا الوجه لا يستقيم بالنّسبة إلى الاحتياط والتّخيير ، فلا بدّ أن يلتزم فيهما :

بأنّ مرجعهما إلى الإخبار عن المؤاخذة على تقدير المصادفة والإخبار عنها على تقدير عدم الالتزام بأحد الحكمين هذا.

وإن شئت الوقوف على شرح فساد هذا الوجه وغيره فارجع إلى ما ذكرنا في الجزء الثّاني من التّعليقة فلا حاجة إلى إعادة الكلام وتطويل القول في المقام ، هذا بعض الكلام فيما يتعلّق بالتّقسيم الأوّل.

وقد اتّضح لك من مطاوي ما ذكرنا : المراد من كلّ من التّعارض والورود والحكومة والتّخصيص مفهوما ؛ فإنّ المراد من الأوّل : ما عرفت في أوّل عنوان المسألة ، ومن الثّاني : رفع موضوع أحد الدّليلين حقيقة بوجود الآخر ، ومن الثّالث : شرح أحد الدّليلين وتفسيره للآخر ، ومن الرّابع : قصر الحكم المستفاد من أحد الدّليلين الثّابت للموضوع العام على بعض أفراد موضوعه من غير أن يكون شارحا له وناظرا إليه ، وأمّا من حيث الخارج والمصداق فلا يقع الاشتباه في الورود أصلا ، إلاّ إذا فرض الشّك فيما أخذ في موضوع أحد الدّليلين شرعا أو عرفا.

٤٩

وأمّا الحكومة فلها أمثلة واضحة غاية الوضوح ، وأمثلة خفيّة نظريّة بحيث يقع الاشتباه فيها كثيرا والميزان وإن كان ما ذكرنا ، إلاّ أنّه لا ينفع لرفع الاشتباه في جميع الموارد الشّخصيّة فلا مناص من إيكال التّشخيص والتّطبيق إلى نظر المستنبط ، فإن بقي الاشتباه فإن كان الدّوران بين ورود أحد الدّليلين وحكومته فلا ثمرة غالبا ؛ فإنّه يحكم بتقديمه ذاتا سواء كان من جهة الورود أو الحكومة. وإن كان بينهما والتّعارض أو بين أحدهما والتّعارض ولم يكن للمردّد أمره رجحان على صاحبه فإجراء حكم التّعارض عليه مشكل كما أنّ إجراء حكم الوارد أو الحاكم عليه أشكل.

اللهمّ إلاّ أن يقال : بوجوب الأخذ بالمردّد أمره من حيث كونه متيقّن الاعتبار على كلّ تقدير غاية ما هناك تردّد أمره بين الحجّيّة التّعيينيّة والتّخييريّة ، وهذا بخلاف الآخر ؛ فإنّه مشكوك الاعتبار فعلا من حيث احتمال كونه مورودا أو محكوما فافهم.

لكنّه كما ترى مبنيّ على كون حكم التّعادل ولو في غير الأخبار من المتعارضين ـ التّخيير ، كما ربّما يستظهر من بعض على ما ستقف عليه ، وإلاّ فلا دوران بين الحجّيّة التّعيينيّة والتّخييريّة فيبقى الإشكال على حاله فتدبّر.

ثمّ إنّ الورود على ما عرفت في بيان مفهومه لا يختصّ بالأدلّة اللّفظيّة ، وأمّا الحكومة فلا تجري في الأدلّة اللّبيّة ، بل لا بدّ من أن يكون كلّ من الحاكم والمحكوم دليلا لفظيّا على ما بيّنه في الكتاب في حقيقتها ، وعرفت منّا : أنّ تقديم الأمارات المعتبرة اللّبيّة الغير المنتهية إلى اللّفظ على الأصول ليس من باب الحكومة الاصطلاحيّة وإن كان في حكمها ، كما أنّ تقديم الاستصحاب في الشّك

٥٠

السّببي على الاستصحاب في الشّك المسبّب إذا كان مبنيّا على الظّن إنّما هو بحكم الحكومة ، بل الأمر في الفرض المزبور وكذلك بناء على التعبّد والأخبار أيضا على ما عرفت الإشارة إليه في مطاوي كلماتنا لفقد موضوع الدّليلين فالتّقدّم فيما ذكر وإن كان ذاتيّا إلاّ أنّه خارج عن عنوان الحكومة الحقيقيّة ، وأمّا التّخصيص فلا يتحقّق إلاّ فيما كان هناك عام لفظيّ وإن كان الخاصّ لبّيّا.

الكلام في التقسيم الثاني

وأمّا الكلام في التّقسيم الثّاني فملخّصه : أنّه ذكر غير واحد : أنّ التّعارض إنّما يكون بين الظّنّيين دون القطعيّين والمختلفين ، وعدم تعرّضهم لحكم التّعبّديين أو المختلفين من التّعبّدي وغيره ، إنّما هو من جهة عدم وجود ما يكون دليلا في الشّرعيّات من غير اعتبار الكشف فيه أصلا لا نوعا ولا شخصا عندهم غير الأصول وإن أمكن وجوده ، مع أنّه على تقدير وجوده أولى بجريان التّعارض فيه من الظّنيّين كما هو ظاهر.

كما أنّه مثل الظّني فيما قابل القطعي في عدم الإمكان من حيث استحالة التّعبّد على خلاف القطع وفيما قابل الظّني في الإمكان كما هو ظاهر ، وهذا مع كمال وضوحه وظهوره بالنّظر إلى ما عرفت : من معنى التّعارض ومعنى الدّليل القطعي عندهم وحكم العقل الضّروري بعدم اجتماع القطعيّين المتنافيين الموجب لاجتماع النّقيضين أو الضّدّين ، والمراد من الدّليل الظّني : الأعمّ ممّا يعتبر فيه الظّن فعلا كما هو المشاهد بالنّسبة إلى أكثر الأدلة الظّنية مع عدم تقيّدها بعدم قيام الظّن على الخلاف ، وكون مرادهم : الإهمال بالنّسبة إلى الظّنّيين في مقابل القطعيّين

٥١

والمختلفين لا الكلّيّة والتّعميم بالنّسبة إلى جميع أقسام الظّنّيين كما هو واضح لا سترة فيه أصلا ، بل هو من القضايا الّتي قياساتها معها فتعرّضهم له حقيقة كما في كلام جماعة من الخاصّة والعامّة من المتقدّمين والمتأخّرين : من باب مجرّد التّنبيه وأداء وظيفة الصّناعة العلميّة ، وإلاّ فليس مطلبا نظريّا محتاجا إلى إقامة البرهان عليه ، ومع ذلك قد ناقشهم فيه غير واحد ممّن قارب عصرنا فلعلّ المناقشة من جهة التباس مرادهم من الدّليل القطعي والظّني عليهم وإلاّ فلا يظنّ بمن دونهم التّأمّل فيه مع تبيّن المراد.

نقل الكلمات المصرّحة بعدم تصوّر التعارض بين الأدلّة القطعيّة

ولا بأس بنقل كلمات جماعة من الخاصّة والعامّة في المقام لحصول العلم بمرادهم ممّا ذكروه بملاحظتها وإن كان واضحا بزعمي القاصر.

قال الشّيخ قدس‌سره في محكيّ « الإستبصار » : « المتواتر من الأخبار : ما أوجب العلم ، فما هذا سبيله يجب العمل به من غير توقّع شيء يضاف إليه ولا أمر يقوى به وما يجري هذا المجرى لا يقع فيه التّعارض ولا التّضادّ في أخبار النّبي والأئمّة عليهم‌السلام » (١) انتهى كلامه رفع مقامه.

وفي محكي « النّهاية » : « الإجماع على أنّه لا يجوز تعادل الأدلّة القطعيّة المقابلة بالنّفي والإثبات ؛ لوجوب حصول المدلول عند حصول الدّليل وهو

__________________

(١) الإستبصار : ج ١ / ٣ في مقدّمة المؤلف والحاكي هو محمّد أمين الاسترآبادي في الفوائد المدنيّة : ١٤٠ وكذلك السيّد محمّد المجاهد في مفاتيح الأصول : ٦٨٠.

٥٢

يستلزم اجتماع النّقيضين » (١). انتهى كلامه.

وقال في محكي « التهذيب » : « الدّليلان إمّا أن يكونا يقينيّين فالتّعارض بينهما محال » (٢). انتهى.

وقال في « شرح المبادي » ـ تبعا للمصنّف على ما حكي ـ : « لا يتعارض دليلان قطعيّان ؛ لاستلزامه اجتماع النّقيضين » (٣). انتهى كلامه.

وقال في محكيّ « المنية » : « الأدلّة القطعيّة عقليّة كانت أو نقليّة لا يجوز تعادل دليلين متقابلين منها بالنّفي والإثبات. أمّا العقليّة : فلوجوب حصول المدلول عند حصول دليله ، فلو تحقّق دليلان على نقيضين لزم اجتماعهما ، وهو محال بالضّرورة. وأمّا النّقليّة : فلأنّه يلزم إمّا اجتماع النّقيضين أو الكذب على الشّارع وهما محالان ».

وقال ـ بعد جملة كلام له ـ : « الثّالث : أن يكون أحدهما يقينيّا والآخر ظنّيّا فيتعيّن العمل باليقيني ؛ ضرورة استلزامه العلم بكذب الظّن المقابل لليقين اللاّزم للدّليل » (٤). انتهى.

وقال في مقام آخر : « التّعارض في اليقينيّات محال ؛ إذ الدّليل اليقيني

__________________

(١) انظر مفاتيح الأصول : ٦٨٠.

(٢) تهذيب الأصول للعلاّمة الحلّي : ٢٧٧ ـ ٢٧٨ والحاكي هو محمّد أمين الاسترآبادي في الفوائد المدنيّة : ٤٧ وكذلك انظر مفاتيح الأصول : ٦٨٠.

(٣) مباديء الوصول : ٢٣٠ والحاكي أيضا هو الاسترآبادي كما مرّ والسيّد المجاهد.

(٤) انظر مفاتيح الأصول للسيّد محمّد المجاهد : ٦٨٠.

٥٣

لا يتحقّق إلاّ مع كون مقدّماته ضروريّة أو لازمة للضّروريّة ومنتهية إليها ... إلى آخر ما ذكره » (١).

وقال في محكي « غاية المأمول » ـ بعد الحكم باستحالة تعارض القطعيّين من حيث استلزامه اجتماع النّقيضين ـ : « ولا يتحقّق بين القطعي والظّني ؛ لانتفاء الظّن عند حصول القطع وإنّما يتحقّق بين الظّنّيين » (٢). انتهى.

وفي محكيّ « غاية البادي » : « وقع الاتّفاق على امتناع التّعارض بين الأدلّة العقليّة ، وأمّا النّقليّة فليست قطعيّة ، وعلى تقدير إفادتها اليقين فالدّليل القائم في العقليّات قائم في سائر القطعيّات » (٣). انتهى.

وفي محكيّ « الزّبدة » : « ولا تعارض في قطعيّين ؛ لاجتماع النّقيضين ولا في قطعيّ وظنّي. انتهى كلامه.

وفي محكيّ « غاية المأمول » بعد جملة كلام له في تحقيق مورد التّعارض ما هذا لفظه : « وهو لا يتحقّق بين قطعيّين ، وإلاّ ثبت مقتضاهما فيلزم اجتماع النّقيضين وهو محال » (٤). انتهى كلامه.

وفي محكيّ « الإحكام » : « لا يتصوّر التّعارض في القطعيّ ؛ لأنّه إمّا أن يعارضه قطعيّ أو ظنّي. والأوّل محال ».

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) المصدر السابق.

(٣) المصدر السابق.

(٤) المصدر السابق.

٥٤

إلى أن قال :

« والثّاني أيضا محال ؛ لامتناع ترجيح الظّني على القطعي فلم يبق سوى الطّرق الظّنية » (١). انتهى كلامه.

وقال العضدي ـ في « شرح المختصر » عند شرح قول الماتن [ لا تعارض في قطعيّين ] : « الدّليلان إمّا قطعيّان ، أو أحدهما قطعيّ والآخر ظنّي ، أو هما ظنّيّان ، ولا تعارض في قطعيّين ، وإلاّ ثبت مقتضاهما وهما نقيضان ، ولا بين قطعيّ وظنّي ؛ لأنّ الظّن ينتفي بالقطع بالنّقيض وأمّا الظّنيّان فيتعارضان » (٢). انتهى ما حكي عنه.

إلى غير ذلك من كلماتهم الصّريحة في التّفصيل الّذي عرفته من « شرح المختصر ». والغرض من نقلها ليس مجرّد الوقوف عليها ، بل الوقوف على مرادهم من التّفصيل المذكور ، وأنّ الدّليل القطعي عندهم : ما لا ينفك عن إفادة القطع بمدلوله بخلاف الظّني. وهذا كما ترى ، لا يقبل المناقشة فلا بدّ أن يكون مبنى المناقشة التباس مرادهم من الدّليل القطعي والظّني على المناقش على ما عرفت الإشارة إليه.

__________________

(١) الإحكام للآمدي : ج ٤ / ٢٤١.

(٢) انظر مفاتيح الأصول : ٦٨٠.

٥٥

كلام الفاضل النراقي والمناقشة فيه

قال الفاضل النّراقي في « المناهج » :

« قالوا : التّعارض بين القطعيّين والقطعي والظّني محال ، واستدلّوا على الأوّل باستلزامه التّناقض ؛ لأنّ القطعي ما ثبت تحقّق مدلوله قطعا فلو عارضه مثله لحصل القطع بتحقّق مدلوله أيضا ، والمفروض تناقض المدلولين ولا فرق في ذلك بين كونهما متساويين أو بينهما عموم وخصوص مطلق أو من وجه ، وعلى الثّاني : بأن الظّني لا يقاوم القطعي فلا يمكن أن يعارضه ، وبأنّ الظّن ينتفي عند قيام القطع.

أقول : إن كان المراد من القطعي ما ذكر فعدم تعارضهما واضح. وأمّا إن كان المراد ما كان الدّالّ قطعيّا كما يظهر من تمثيلهم للقطعيّين بالمتواترين والإجماعين القطعيّين ، فقد يمكن التّعارض بجواز صدور خبرين متناقضين لمصلحة تقيّة ونحوها متواترا أو انعقد الإجماع على حكم في زمان تقيّة وعلى خلافه في زمان آخر.

وأمّا ما ذكروه دليلا للثّاني : فيتوجّه على الأوّل منهما : أنّ التّقاوم مناط التّعادل دون التّعارض ؛ فإنّ الظّنيّين اللّذين اقترن أحدهما بمرجّح متعارضان مع فقد التّقاوم ، وعلى الثّاني : بأنّ مناط التّعارض هو تنافي المدلولين دون بقاء الظّن ؛ فإنّ المراد بالظّني ليس ما أفاده بالفعل ، وإلاّ لزم عدم التّعارض بين الظّنيّين أيضا ؛ لاستحالة تعلّق الظّن بطرفي النّقيض ، بل ما من شأنه أن يفيد الظّن وإن لم يفده بالفعل وذلك متحقّق في الظّني والقطعي ، فالحقّ إمكان التّعارض بين القطعي

٥٦

والظّني. بل التّحقيق : إمكان تعارض القطعيّين بهذا المعنى أيضا » (١). انتهى كلامه رفع مقامه.

وهو كما ترى ، غير نقيّ عن النّظر من وجوه ؛ لأنّ ما ذكره بالنّسبة إلى القطعيّين يتوجّه عليه : أنّ مرادهم من القطعي ليس إلاّ ما ذكره أوّلا ؛ فإنّ الدّليل القطعي عندهم في مقابل الظّني ما يكون اعتباره ذاتيّا ومن جهة حصول القطع منه كما ذكره شيخنا الأستاذ العلاّمة في بيان مرادهم ، وكون الدّالّ قطعيّا ؛ لأنّ المدلول كما ذكره لا محصّل له أصلا ؛ إذ اتّصاف الدّال بالقطعيّة إنّما هو باعتبار مدلوله ، وإلاّ فمجرّد القطع بصدور كلام من الشّارع مع عدم قطعيّة مدلوله وعنوان صدوره لا يوجب اتّصاف الدّال بالقطعيّة ؛ ضرورة كون النّتيجة تابعة لأخسّ مقدّمتيها.

ومن هنا لا يعدّ الكتاب والسّنة القطعيّة مع ظنّيّة دلالتهما من الأدلّة القطعيّة ، وتمثيلهم بالمتواترين والإجماعين للقطعيّين لا يدلّ على ما توهّمه ؛ لأنّ الغرض من التّواتر ليس مجرّد التّواتر اللّفظي مع ظنّيّة متنه وجهة صدوره ، وكذا المراد من الإجماع القطعي على الحكم ليس مجرّد الإجماع على مجرّد صدور اللّفظ من الإمام عليه‌السلام ، كما قد يتّفق على مذهب القدماء في باب الإجماع وصدور خبرين متواترين متناقضين لمصلحة تقيّة ونحوها. وكذا انعقاد الإجماع على حكم في زمان تقيّة وعلى خلافه زمان آخر لا يجديه في شيء.

لأنّه إن أراد من التّقيّة : التّقيّة في العمل كالوضوء تقيّة على طبق مذهب العامّة مثلا عند الضّرورة والابتلاء ، فيتوجّه عليه : أنّ مضمون الخبر على هذا

__________________

(١) مناهج الأحكام في أصول الفقه : ٣١٤.

٥٧

الفرض حكم واقعيّ إلهيّ ، إلاّ أنّه واقعيّ اضطراريّ كسائر الواقعيّات الاضطراريّة كالصّلاة في حالة الخوف أو المرض إذا لم يتمكّن من الإتيان بالقيام مثلا ، فهل يتوهّم أحد التّعارض بين حديثين دلّ أحدهما على وجوب الصّلاة قائما على الصّحيح والآخر على وجوبها قاعدا على المريض الغير المتمكّن من القيام فكذا بين حديثين دلّ أحدهما على وجوب الوضوء على طبق مذهب الشّيعة في حالة الاختيار وعدم التّقيّة ودلّ الآخر على وجوبه على طبق مذهب العامّة عند الابتلاء بهم؟ حاشا ثمّ حاشا.

وإن أراد منها : التّقيّة في مجرّد القول ، فإن جوّزنا الكذب على الإمام عليه‌السلام عند الخوف والتّقيّة من الأعداء ـ كما نجوّزه لغيره ـ من جهة الضّرورة ، فيتوجّه عليه : أنّ مضمون الخبر على هذا ليس حكما أصلا وإن كان صدوره واجبا على الإمام عليه‌السلام فلا يتعارض مع غيره.

وإن لم نجوّزه له وأوجبنا عليه التّورية كما هو الحقّ ـ وإن جوّزناه لغيره ـ فالمراد من الخبر الصّادر تقيّة وخوفا على هذا التّقدير أيضا حكم إلهيّ واقعيّ ، بل ربّما يكون واقعيّا اختياريّا فكيف يقع التّعارض بينه وبين غيره؟ فإذا ورد عن الإمام عليه‌السلام ما دلّ على حرمة التّمتّع وكان مراده حرمته بدون رضا الزّوجة مثلا ، فلا يعارض ما دلّ على جوازه مع اجتماع ما يعتبر في العقود من رضا المتعاقدين وغيره.

وأمّا ما أورده على الوجه الأوّل لعدم إمكان التّعارض في المختلفين : فيتوجّه عليه : بأنّ عدم التّقاوم في الفرض ليس من جهة ترجيح القطعي على الظّني مع تعارضهما ، بل من جهة عدم إمكان التّعارض بينهما ؛ لأنّ أصل الكشف الظّني

٥٨

ولو نوعا على ما هو التّحقيق أو اعتباره على ما تقضي به ضرورة العقل والوجدان مقيّد بعدم القطع على الخلاف فليستا في مرتبة واحدة حتّى يمكن التّعارض بينهما.

وأمّا ما أورده على الوجه الثّاني : فيتوجّه عليه أيضا ما يتوجّه على إيراده على الوجه الأوّل.

وأمّا قياسه المقام بالظّنيين واستكشاف حكمه منهما : فيتوجّه عليه : بأنّ إرادة الشّأني منهما أو الفعلي والشّأني ممّا لا غبار عليه أصلا ؛ لأنّ الغرض من حصر التّعارض في الظّنيين ليس إمكانه في جميع صوره ، بل تحقّقه فيهما في مقابل القطعيّين والمختلفين من القطعي والظّني.

وممّا ذكرنا كلّه يظهر : تطرّق المناقشة إلى التّرقي الّذي ذكره أخيرا بقوله :

( بل التّحقيق إمكان التّعارض بين القطعيّين بهذا المعنى أيضا ) لما صرّح به شيخنا الأستاذ العلاّمة قدس‌سره في « الكتاب » : من أنّ اعتبار القطعي بهذا المعنى على تقدير وجوده في الشّرعيّات لا بدّ فيه من التماس قيام الدّليل عليه ؛ فإنّه كالظّني كما هو ظاهر ، واعتبار الأدلّة القطعيّة عندهم على ما عرفت مستند إلى نفس إفادتها القطع لا إلى شيء آخر.

وممّا ذكرنا يظهر : تطرّق المناقشة إلى ما أفاده في حكم المقام في « الفصول » فإنّه قريب إلى ما أفاده الفاضل المتقدّم ذكره في « المناهج ». قال :

« ولا يقع التّعارض بين الدّليلين القطعيّين. أعني : المفيدين للقطع بمؤدّاهما بالفعل سواء كانا عقليّين أو سمعيّين أو كان أحدهما عقليّا والآخر سمعيّا ؛ لأدائه إلى الجمع بين المتنافيين بحسب المعتقد ، إلاّ أن يكون المعتقد جاهلا بالتّنافي

٥٩

فيخرج الكلام بالنّسبة إليه عن محلّ البحث ؛ إذ لا تعارض عنده حقيقة ولو فسّر الدّليل القطعي بالفعلي ـ نظرا إلى أنّه لا حكم للقطع الشّأني والدّليل الظّني بما يعمّ الفعلي والشّأني لوقوع التّعويل على كلّ منهما في الجملة ـ صحّ في تحرير المقام أن يقال : الدّليلان إن كانا قطعيّين إمتنع وقوع التّعارض بينهما ، وإن كان أحدهما قطعيّا والآخر ظنيّا رجّح القطعي ، وإن كانا ظنّيين ففيه : التّفصيل الآتي » (١).

والفاضل المعاصر بعد أن حكم بامتناع التّعارض بين الدّليلين القطعيّين قال : « وكذلك لا يكون في قطعيّ وظنّي ؛ لانتفاء الظّن عند حصول القطع ، فالتّعارض إنّما يكون بين دليلين ظنّيين ويشكل عليه : بأنّ الظّن كما لا يجامع القطع بالخلاف كذلك لا يجامع الظّن به ، إلاّ أن يريد بالظّني في الأوّل الفعلي وفي الثّاني ما يعمّ الشّأني لكن يشوّش معه نظم التّحرير » (٢).

وساق الكلام إلى أن قال :

« وأمّا القطعيّان بالقوّة أعني : ما من شأنهما إفادة القطع ولو مع قطع النّظر عن معارضة الآخر فيمكن وقوع التّعارض بينهما ـ كما نبّهنا عليه في دفع شبهة الجبريّة ـ وحكم هذا التّعارض أن يلاحظ أحدهما مع الآخر فإن سقطا عن إفادة القطع سقط اعتبارهما في الموارد الّتي يطلب فيها القطع وإن سقط أحدهما عن إفادته فقط تعيّن التّعويل على الآخر. وممّا قرّرنا يظهر الكلام في تعارض الدّليل القطعيّ مع الظّني » (٣). انتهى ما أردنا نقله من كلامه رفع مقامه.

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ٤٣٥.

(٢) المصدر السابق : ٤٣٥.

(٣) نفس المصدر.

٦٠