بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٨

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٨

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-351-4
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٨٢٠

* المقام الأوّل : الأدلّة على وجوب الترجيح

(٨) قوله : ( ويدلّ على المشهور مضافا إلى الإجماع المحقّق ... إلى آخره ). ( ج ٤ / ٤٨ )

الأدلّة على وجوب الترجيح في الجملة

أقول : قيام الإجماع بقسميه على وجوب التّرجيح في الجملة ، وكذا دلالة الأخبار المستفيضة بل المتواترة معنى أو إجمالا عليه ممّا لا شبهة تعتريه ولا إشكال فيه أصلا.

أمّا قيام الإجماع : فظاهر بعد عدم الاعتناء بمخالفة من ذهب إلى القول بإيجاب التّرجيح كالسّيّد الصّدر ، بل لو ادّعي إجماع المسلمين عليه ؛ نظرا إلى عدم قدح مخالفته مثل الجبّائييّن كان في محلّه.

وأمّا دلالة الأخبار : فلأنّ ظهورها غاية الظّهور بنفسها في وجوب التّرجيح ممّا لا يقبل الإنكار ، ولا يعارضها أخبار التّخيير بعد تسليم كونها في مقام الإطلاق والبيان ، بعد كون التّقييد أولى من المجاز. مضافا إلى شواهد وقرائن فيها من التّعليلات وغيرها يمنع من الجمع بالحمل على الاستصحاب هذا. مضافا إلى أنّ الاستصحاب لا مناسبة له في باب الطّريق كما هو ظاهر.

وأمّا وهن الظّهور بما زعمه السيّد : من تعارض أخبار التّرجيح بعضها مع بعض من وجوه فيحمل على الاستصحاب ، فموهون بما سنوقفك عليه ( إن شاء الله

١٨١

تعالى ) : من عدم التّعارض بينها أصلا ، وإن زعمه غير واحد منهم المحقّق القمّي قدس‌سره وجعله دليلا على حجّيّة مطلق الظّنّ في باب التّرجيح ، بل مطلقا كما ستقف عليه.

إنّما الإشكال فيما أفاده من اقتضاء الأصل لذلك ، مع أنّ الثّابت عنده كما صرّح به مرارا في أجزاء « الكتاب » ويعترف به بعد ذلك وعندهم : اقتضاء الأصل عدم التّرجيح ، كما أنّ مقتضاه عدم الحجّيّة. وقد أطال الكلام في تحرير المقام بما لا يخلو عن مناقشات نشير إلى بعضها ، مع أنّ تأديته كانت ممكنة بتحرير مختصر مفيد نقيّ عن الإشكال.

فإنّه بعد البناء على الطّريقيّة في حجّيّة الأخبار ، والغضّ عن لزوم تقييد إطلاق أخبار التّخيير ، وتسليم دوران الأمر بين التّقييد وتصرّف آخر يبقى معه الإطلاق ، كحمل أوامر التّرجيح على الاستصحاب من غير ترجيح بين التّصرفين ـ كما هو مبنى الرّجوع إلى الأصل ـ أمكن تحرير المدّعى : بأنّ حجّيّة الرّاجح قطعيّته في الفرض ، وإنّما الشّك في حجّيّة المرجوح فعلا وإن كان حجّة شأنا والأصل المقرّر في هذا الشّك بالأدلّة الأربعة عدم الحجّيّة كما هو الأصل المقرّر عند الشّك في الحجّيّة الشّأنيّة من`غير فرق بينهما ، إلاّ أنّه ( قدّس الله نفسه الزّكيّة ) أراد تحرير المقام على كلّ وجه ، وبسط الكلام على كلّ قول تشريحا للمطلوب وترغيبا للطّالب فلا بدّ من اقتفاء أثره.

فنقول : إنّ الدّوران قد يفرض بين موارد التّخيير العقلي في المسألة الفرعيّة كدوران الأمر بين المحذورين كالوجوب والتّحريم مع رجحان أحدهما.

وقد يفرض بين موارد التّخيير العقلي في المسألة الأصوليّة على القول بالطّريقيّة في اعتبار الأمارات المتعارضة مع عدم مطابقة أحد المتعارضين للأصل

١٨٢

مع فرض مزيّة لأحد المتعارضين مع قطع النّظر عن أخبار التّخيير الواردة في علاج تعارض الأخبار أو فرض الكلام في تعارض سائر الأمارات.

وقد يفرض في موارد تزاحم الواجبين ومنه تعارض الأمارتين على القول بالسّببيّة وإن تقدّم فساده بما لا مزيد عليه.

وقد يفرض في موارد التّخيير الشّرعي في الواجبات الشّرعيّة الفرعيّة كالدّوران في خصال الكفّارة مثلا ، فالكلام يقع في مواضع أربعة :

الموضع الأوّل : في دوران الأمر في موارد التّخيير العقلي في المسألة الفرعيّة كدوران الأمر بين المحذورين حكما ، أو موضوعا كدوران الأمر بين الواجب والحرام مع رجحان أحدهما فنقول :

إنّ لزوم الأخذ بالرّاجح منهما إذا لم يكن مظنونا بظنّ معتبر من حيث الخصوص مبنيّ على مقدّمات دليل الإنسداد وإن كانت النّتيجة التّبعيض في الاحتياط على ما أسمعناك في الجزء الأوّل من التّعليقة ، وإلاّ فالرّاجح والمرجوح متساويان في حكم العقل بعد قيام الدّليل القطعي على حرمة العمل بغير العلم ؛ فإنّ مرجع الأخذ بالرّاجح في الفرض إلى حجّيّة الظّن مع عدم دليل عليها بالفرض.

ومنه يظهر الكلام في الموضع الثّاني وهو : دوران الأمر في التّخيير العقلي في المسألة الأصوليّة على القول بالطّريقيّة في الأمارات ، مع عدم أصل على طبق أحد المتعارضين ؛ حيث إنّه مع وجوده يتعيّن الرّجوع إليه ولا مورد للتّخيير حينئذ.

وممّا ذكرنا يظهر ما في « الكتاب » من التّشويش في تحرير المقام بقوله :

١٨٣

( ومرجع التّوقّف أيضا إلى التّخيير (١) إذا لم يجعل الأصل من المرجّحات ...

__________________

(١) قال السيّد المجدّد الشيرازي قدس‌سره :

« مراده من رجوع التوقّف إلى التخيير إنّما هو رجوعه اليه بحسب المورد بمعنى انه اذا كان المورد مما كان الأصل الاوّلي فيه التوقّف مع عدم كون الأصل من المرجّحات يكون من صور التكافؤ التي هي مورد التخيير الثابت باخبار التخيير ، والتقييد بعدم كون الأصل من المرجّحات لأجل انه مع كونه منها يكون قاطعا للأصل الأوّلي الذي هو التوقّف ومعيّنا للأخذ بموافقه من الخبرين المتعارضين ، فيكون مخرجا للمورد عن أخبار التخيير ؛ لاختصاصهما بما لم يكن لأحدهما مرجّح ومعيّن ، الذي يعبّر عنه بصورة التكافؤ.

وظاهر العبارة يعطي ما لا يخلو من المناقشة والإيراد مع انه ليس بالمراد فإن ظاهرها رجوع نفس التوقّف إلى نفس التخيير على التقدير المذكور ، وهو لا يستقيم ؛ فإن التوقّف والتخيير معنيان متباينان لا يعقل صدق أحدهما على الآخر إذ الأوّل : عبارة عن عدم التمسّك بواحد من الخبرين المتعارضين في خصوص مؤدّاه ، والثاني : عبارة عن جواز التمسّك بواحد منهما على البدل في خصوص مؤدّاه وجعله طريقا إليه ، فالنسبة بينهما هو التباين الكلّي لتناقضهما » إنتهى. انظر تقريرات المجدّد الشيرازي : ج ٤ / ٢٧٢.

* وقال المحقق آغا رضا الهمداني قدس سره :

« أقول : يعني بعد أن علم من الخارج ـ ولو بواسطة الأدلّة السمعيّة ـ أن الحكم في الخبرين المتعادلين هو التخيير ـ سواء كان اعتبارهما من باب السّببيّة أو الطريقيّة لا الإحتياط ـ او الرجوع إلى الأصل المطابق لأحدهما ، فالفرق بين التخييرين : انه على الأوّل واقعي ، وعلى الثاني قاعدة عمليّة يرجع إليه المتحيّر بعد تكافؤ الدليلين وتساقطهما من حيث جواز العمل بكلّ منهما في خصوص مؤدّاه » إنتهى. أنظر حاشية فرائد الأصول : ٥١١.

* وقال المحقق الخراساني قدس سره :

« لا يخفى ان ظاهر العبارة وإن كان لا يخلو عن الإيراد حيث إن إرجاع التوقّف إلى التخيير

١٨٤

إلى آخره ) (١).

فإنّ الكلام إنّما هو في تأسيس الأصل في حكم التّرجيح فلا محلّ لهذا التّعليق والاشتراط.

كما أنّ ما أفاده بقوله : ( فالحكم التّخيير على تقدير فقده ، أو كونه مرجعا ) (٢) لا يخلو عن مناقشة ظاهرة ؛ إذ على تقدير وجود الأصل وكونه مرجعا لا يبقى مجال للتّخيير ، وإن أراد توجيه ما أفاده بإلحاق قوله : ( بناء على أنّ الحكم في المتعادلين مطلقا التّخيير ) (٣) إذ البناء المذكور إنّما هو بملاحظة أخبار التّخيير ، والكلام في المقام مع قطع النّظر عنها.

وإلاّ فحقّ التّحرير أن يقال بدل ما حرّره : أنّ حكم المتعارضين التّخيير مطلقا غاية ما هناك كون التّخيير عقليّا على السّببيّة وشرعيّا على الطّريقيّة وإن كان مقتضى القاعدة على الطّريقيّة الحكم بالتّوقّف والرّجوع إلى الأصل إن كان على طبق أحدهما ، وإلاّ فالتّخيير العقلي نظير التّخيير بين المحذورين في المسألة

__________________

واضح الفساد لكمال البينونة بينهما مفهوما وعملا ، إلاّ انه ليس بالمراد وإنّما الإرجاع إنّما يكون بحسب المورد ، يعني ما كان بحسب الأصل الأوّلي موردا للتوقّف يكون من صورة التكافؤ التي هي مورد للتخيير لو لم يكن الأصل عن المرجّحات أو لم يكن موافقا لأحدهما ، هذا ». أنظر درر الفوائد : ٤٤٩.

(١) فرائد الأصول : ج ٤ / ٤٨.

(٢) المصدر السابق.

(٣) نفس المصدر.

١٨٥

الفرعيّة وإن كان قوله بعد النّقل المذكور ( والتّخيير أمّا بالنّقل ... إلى آخره ) (١) ربّما يشهد على الإلحاق المذكور ، إلاّ أنّ فيه أيضا نوع تشويش ، وإلاّ فحقّ التّعبير أن يقال : ( فالتّخيير أمّا بالنّقل ... إلى آخره ).

فإن قلت : حكم العقل بالتّخيير في الموضعين مبنيّ على تسوية الاحتمالين وعدم ترجيح أحدهما على الآخر ؛ ضرورة كونه مبنيّا على قاعدة بطلان التّرجيح بلا مرجّح ، ومقتضى ذلك كما ترى ، الحكم بلزوم الأخذ بالرّاجح وترك المرجوح ولو من جهة كونه متيقّنا على كلّ تقدير كما يقتضيه ما أفاده في « الكتاب » في طيّ الجواب عن السّؤال بقوله : ( نظير الاحتياط بالتزام ما دلّ أمارة غير معتبرة على وجوبه (٢) مع احتمال الحرمة أو العكس ) (٣).

قلت : قد عرفت : أنّ مرجع لزوم الأخذ بالرّاجح في الموضعين حقيقة إلى حجّيّة الظّن فإذا قام البرهان القاطع على عدم حجّيّته في حكم الشّرع ، بل العقل أيضا كان الرّاجح والمرجوح متساويين في نظر العقل ، فيحكم بالتّخيير بينهما هذا بعض الكلام في حكم الموضعين الأوّلين.

وأمّا الموضع الثّالث : فقد أسمعناك أنّ المانع عن الحكم بالتّخيير فيه ليس إلاّ أهميّة أحد المتزاحمين وأقوائيتهما بحسب المصلحة الملزمة في نظر الشّارع ، فإذا فرضنا اعتبار المتعارضين من باب السّببيّة الموجبة لدخولهما في عنوان المتزاحمين وإن كان هذا مجرّد فرض يمنع تحقّقه عندنا على ما أسمعناك شرح

__________________

(١) نفس المصدر.

(٢) في بعض نسخ الفرائد : ( مع عدم احتمال الحرمة ... الى آخره ).

(٣) نفس المصدر : ج ٤ / ٥٠.

١٨٦

القول فيه ، وأنّ التّعارض لا يجامع التّزاحم وكان أحدهما مشتملا على ما يوجب أقربيّته إلى الواقع لم يكن إشكال في عدم تأثيره في رفع الحكم بالتّخيير بالمعنى الّذي عرفته سابقا بعد مساواتهما من حيث المصلحة وعدم أهميّة أحدهما كما هو المفروض ؛ لأنّ القرب إلى الواقع غير ملحوظ في الأمر بالعمل بالمتعارضين ، فكيف يصلح القرب إلى الواقع الحاصل من المزيّة لتعيين ذيها وترجيحه على غيره؟ فلا دوران هنا من جهة المزيّة المزبورة أصلا كما لا يخفى.

نعم ، هنا كلام في ثبوت التّخيير مع الظّن بأهميّة أحد المتزاحمين أو احتمالها. صريح شيخنا العلاّمة في « الكتاب » وفي مجلس المذاكرة : عدم ثبوته في صورة احتمال الأهميّة فعدم ثبوته في صورة الظّن بها أولى كما لا يخفى ؛ حيث إنّ التّخيير عنده مترتّب على موضوع العلم بالمساواة فإذا لم يعلم بها واحتمل الأهميّة فيحكم بلزوم اختيار ما يحتملها من الواجبين ، ولا يجدي الحكم بعدمها من جهة الأصل على تقدير تسليم جريانه. مع أنّه ممنوع لعدم الحالة السّابقة المعلومة حتّى يحكم ببقائها ؛ لأنّ التّرتّب عقليّ فلا يجدي حكم الشّارع بعدمه أصلا ، مضافا إلى كونه من الأصول المثبتة الّتي لا اعتبار بها عندنا هذا.

ولكنّك خبير بإمكان التّفصيل في المقام بين كون التّخيير في موارد التّزاحم بحكم الشّرع على ما عرفت شرح القول في بيانه ، أو بحكم العقل بجعل احتمال الأهميّة على الأوّل مانعا عن التّخيير ؛ نظرا إلى عدم العلم بوجود المزاحم لما احتملت أهميّته ، فلا يجوز رفع اليد عنه. وعلى الثّاني غير مانع عنه ؛ نظرا إلى حصر المانع في حكم العقل بعد ملاحظة وجود المصلحة الملزمة في الواجبين في علمه بوجود الأهميّة لا الأهميّة الواقعيّة فلا ينفع احتمالها فتأمّل.

١٨٧

وأمّا الموضع الرّابع : فالدّوران فيه من حيث التّخيير والتّعيين لا تعلّق له برجحان أحدهما ومرجوحيّة الآخر من حيث الأمارات الدّاخليّة والخارجيّة ، بل مستند في الشّبهة الحكميّة إلى أحد أسباب اشتباه الحكم. وقد تقدّم الكلام فيه في الجزء الثّاني من « الكتاب » (١) والتّعليقة (٢) ، وأنّ المختار بل المشهور عدم جواز الرّجوع إلى البراءة فيه ، بل المتعيّن الرّجوع إلى قاعدة الاشتغال فراجع ، وإن كان كلام شيخنا العلاّمة في الجزء الثّاني من « الكتاب » لا يخلو عن ميل إلى البراءة على خلاف ما صرّح به في المقام بقوله : ( ففيه : أنّه لا ينفع بعد ما اخترنا في تلك المسألة وجوب الاحتياط وعدم جريان قاعدة البراءة ) (٣).

نعم ، ربّما يجعل المقام من جزئيّاته ؛ نظرا إلى أنّ احتمال التّرجيح بالمزيّة في معنى احتمال تعيين الأخذ بذيها ، فإذا فرض الإهمال في قضيّة دليل التّخيير ، فيدور الأمر بين التّخيير والتّعيين في المسألة الأصوليّة. ومن هنا قد يبتني الأصل في المسألة على الأصل في تلك المسألة.

ومن هنا أورد في « الكتاب » على ما أفاده : من لزوم الأخذ بالرّاجح بمقتضى الأصل ، بقوله : ( وثانيا : أنّه إذا دار الأمر بين وجوب أحدهما على التّعيين ... إلى آخره ) (٤).

وهو كما ترى ، صريح فيما ذكرنا : من جعل مسألتنا هذه من جزئيّات تلك

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٣٥٧.

(٢) بحر الفوائد : ج ٢ / ١٧٤.

(٣) فرائد الأصول : ج ٤ / ٥٠.

(٤) نفس المصدر : ج ٤ / ٤٩.

١٨٨

المسألة زعما من السّائل : أنّه يوجب انقلاب الأصل وفساد ما بنى عليه شيخنا العلاّمة ، لكنّه في كمال الوضوح من الفساد.

ومن هنا أجاب عنه في « الكتاب » : بعدم تعلّق المقام بتلك المسألة أصلا بعد الجواب عنه : بأنّ الاعتراض المذكور لا يفيد بعد البناء في تلك المسألة على الاشتغال على ما عرفت بقوله : ( والأولى منع اندراجها في تلك المسألة ؛ لأنّ مرجع الشّك في المقام إلى الشّك في جواز العمل بالمرجوح ... إلى آخره ) (١).

ومراده من الأولويّة ليس ما يتراءى من ظاهرها في باديء النّظر ، بل المتعيّن كما يشهد له قوله بعد ذلك : ( والتّحقيق : أنّا إن قلنا بأنّ العمل بأحد المتعارضين ... إلى آخره ) (٢)(٣) من حيث إنّ الشّك في المسألة يرجع إلى الشّك

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٤ / ٥٠.

(٢) نفس المصدر.

(٣) قال المحقق آغا رضا الهمداني قدس‌سره :

« أقول ملخص مرامه : انه ان بنينا على قصور ما دل على حجية الخبر ، عن افادة وجوب العمل بشىء من المتعارضين ، وعدم جواز طرحهما رأسا ، وإنّما استفيد ذلك من حكم الشارع به بدليل الاجماع والأخبار العلاجية ، والا لكان مقتضى الأصل فيهما التساقط ، وفرض وجودهما كأن لم يكونا ، وجب حينئذ الالتزام بالراجح ، وطرح المرجوح ، كما تبين وجهه فيما سبق.

وان قلنا بأنه يستفاد ذلك من نفس أدلة العمل بالأخبار :

فإمّا أن نقول بأن مفاد تلك الأدلة اعتبار الأخبار من باب السببيّة والموضوعية ، فهى تدل على هذا لا تقدير على وجوب العمل بكل خبر مع الامكان ، والمتعارضان ـ حيث لا يمكن

١٨٩

في الطّريق ومن المعلوم ؛ ضرورة لزوم الاقتصار في حكم العقل على ما علم طريقيّته ؛ لعدم تجويزه سلوك المشكوك في مقام الإطاعة والامتثال ، وليس الشّك في أصل متعلّق حكم الشّارع من حيث دورانه بين شيء معيّن ، أو أحد الشّيئين حتّى يجوز في حكمه نفي التّعيين من حيث إنّه كلفة زائدة فيتوقّف على البيان.

ثمّ إنّ ما أفاده من تقرير الأصل في المسألة لمّا كان نظريّا توجّه عليه السّؤال بقوله : ( فإن قلت : أوّلا إنّ كون الشّيء مرجّحا مثل كون الشّيء دليلا ... إلى آخره ) (١).

والتّرقّي بقوله : ( بل العمل به مع الشّك يكون تشريعا ، كالتّعبّد بما لم يعلم

__________________

العمل بهما معا ـ يجب الأخذ بأحدهما ، لأنه هو القدر الممكن ، فيستنتج العقل من هذا الحكم ، بالتخيير ، كما تقدم توضيحه آنفا.

وإمّا أن نقول بدلالتها على اعتبار الأخبار من باب الطريقية ، وأن عمومها لا يقصر عن شمول أحد المتعارضين الغير المعلوم مخالفته للواقع ، فيستفاد منها عدم جواز طرح المتعارضين رأسا وفرضهما كالعدم ، بل وجوب تصديق أحدهما على سبيل الاجمال والابهام ، أي :

الالتزام بعدم خروج الواقع عن مؤدى كلا الخبرين ، لا التعبد بصدق أحدهما عينا أو تخييرا كما عرفته بحقيقته فيما سبق ، وعلمت أن هذا هو الحق ، ولذا التزمنا بأن الأصل في الخبرين المتعارضين هو التوقف ، والرجوع الى الأصل الموافق لأحدهما ، لا التساقط أو التخيير.

فالذى يقتضيه التحقيق ، بناء على ما اخترناه : من أن الأصل فيهما التوقف والرجوع الى الاصول الموجودة في تلك المسألة ، عدم الاعتناء بميزة لم يثبت اعتبارها ، اذ لا يجوز رفع اليد عما يقتضيه الاصول بمزية غير ثابتة الأعتبار » إنتهى. انظر حاشية فرائد الأصول : ٥١٢.

(١) فرائد الأصول : ج ٤ / ٤٩.

١٩٠

حجّيّته ) (١) مبنيّ على ما أفاده مرارا سيّما في الجزء الأوّل من « الكتاب » عند الكلام في تأسيس الأصل في الظّن : من أنّ حرمة العمل بغير العلم تشريعيّة مترتّبة واقعا على مجرّد عدم العلم والشّك في الحجّيّة ، فلا معنى لإجراء أصل العدم المختصّ كسائر الاستصحابات الوجوديّة والعدميّة بما إذا ترتّب الحكم الشّرعي على مجراه واقعا وإن تقدّم منّا كلام في ذلك في الجزء الأوّل من التّعليقة من جهة الكلام في موضوع التّشريع (٢) فراجع إليه.

الأصل عدم الترجيح بالظنّ كما أن مقتضاه عدم حجّيّة الظنّ

ثمّ إنّ حاصل ما أفاده في السّؤال الأوّل يرجع إلى أنّ نتيجة الأصل المذكور يرجع إلى الحكم بمرجّحيّة المزيّة مع الشّكّ فيها ، مع أنّ مقتضى نفس الأصل المذكور بعد تعميمه بالنّسبة إلى الشّك في الحجّيّة والمرجّحيّة البناء على عدم مرجّحيّتها.

وحاصل الجواب عنه بقوله : ( قلت : كون التّرجيح كالحجّيّة أمرا يجب ورود التّعبّد به من الشّارع ... إلى آخره ) (٣) يرجع إلى أنّ الأخذ بالرّاجح ليس من حيث إنّ رجحانه أوجب الأخذ به وبعنوان كونه راجحا حتّى يدخل في مسألة التّشريع والتّديّن بغير العلم ، بل من حيث كونه متيقّن الاعتبار والحجّيّة على كلّ تقدير

__________________

(١) نفس المصدر.

(٢) بحر الفوائد : ج ١ / ٧٩.

(٣) فرائد الأصول : ج ٤ / ٤٩.

١٩١

وغيره مشكوك الحجّيّة فالأخذ بالرّاجح وطرح المرجوح إنّما هو من حيث الاحتياط.

ومن المعلوم ضرورة عدم صدق التّشريع على الأخذ بعنوان الاحتياط وعدم اجتماعهما موضوعا ، فإذا اقتضى الدّليل وجوب الاحتياط من جهة حكم العقل في مورد تردّد الطّريق بين المتيقّن والمشكوك لم يكن معنى لمنعه ، تمسّكا بما دلّ على حرمة التّشريع من العقل والنّقل ، فهو نظير حكم العقل بلزوم الاقتصار على الرّاجح من المحتملين في مسألة دوران الأمر بين الوجوب والتّحريم في المسألة الفرعيّة احتياطا ؛ فإنّه لا يمنع منه ما دلّ على حرمة التّشريع والتّديّن بغير العلم ، هذا حال ما دلّ على حرمة العمل بالظّن من باب التّشريع.

وأمّا ما دلّ على حرمته من حيث إيجابه طرح العمل بالأصل المعتبر الجاري في المسألة وإن لم يكن بعنوان التّشريع على ما عرفته في الجزء الأوّل من التّعليقة (١) : من كونه جهة مستقلّة لتحريم العمل بغير العلم فلا يمنع من العمل المذكور قطعا ؛ لأنّ المفروض عدم جريان الأصل في المسألة الّتي تعارض فيها الخبران بعد وجود الدّليل في المسألة ، وإن كان مردّدا بين الرّاجح والمرجوح وإن كان على طبق أحدهما كما هو ظاهر. والمفروض أنّ قضيّة التّخيير أيضا قضيّة مهملة فلا يتوهّم : أنّ الأخذ بالرّاجح موجب لطرح دليل التّخيير وإن لم يوجب طرح الأصل في المسألة الفرعيّة.

لا يقال : الشّك في حجّيّة المرجوح فعلا الموجب للرّجوع إلى الأصل

__________________

(١) بحر الفوائد : ج ١ / ٧٩.

١٩٢

بالنّسبة إليه مسبّب عن الشّك في اعتبار المزيّة عند الشّارع ، فإذا حكم الشّارع في طيّ ما دلّ على عدم الاعتناء بغير العلم بجعله حجّة ، أو مرجّحا ارتفع الشّك عن الحجّيّة الفعليّة للمرجوح ، فيحكم بتسوية الرّاجح والمرجوح في نظر الشّارع فالتّرجيح يتوقّف على قيام دليل عليه ؛ إذ الأصل على هذا يقتضيه ، ألا ترى أنّ الدّليل القائم على حرمة القياس يمنع من جعله مرجّحا كما يمنع من جعله حجّة ـ على ما تقدّم القول فيه في الجزء الأوّل وستقف عليه أيضا ـ؟ مع أنّ مفاده ليس إلاّ حرمة العمل بالقياس بعنوان التّشريع ، ولا فرق عند التّحقيق بين مفاده ومفاد دليل حرمة العمل بغير العلم إلاّ بالخصوص والعموم.

لأنّا نقول : دليل حرمة العمل بغير العلم إنّما يمنع من الحكم بمرجحيّة الظّن والتّديّن بمقتضاه لا من الاحتياط في مورد قيام الظّن ، والعمل بالرّاجح مستند إلى تيقّن اعتباره ، وترك العمل بالمرجوح مستند إلى الاحتياط في الطّريق لا إلى رجحان الرّاجح.

لا يقال : دليل حرمة العمل بغير العلم وإن لم يرفع حسن الاحتياط ، إلاّ أنّه يمنع من وجوبه قطعا ؛ لأنّ وجوبه مبنيّ على احتمال الضّرر والعقاب المرتفع بدليل الحرمة جزما فهو وارد على الاحتياط اللاّزم من حيث ارتفاع موضوعه به فهو من هذه الجهة نظير دليل حرمة القياس وأشباهه ؛ فإنّه أيضا لا يمنع من حسن الاحتياط في مورده ، إلاّ أنّه يمنع من وجوب الاحتياط في مورده فيما جعل المقتضي له نفس قيام القياس في المسألة الفقهيّة ، والمدّعى هو وجوب الاحتياط في المسألة لا مجرّد رجحانه.

لأنّا نقول : دليل حرمة العمل بغير العلم لا يمنع إلاّ من الاستناد إليه ، وقد

١٩٣

عرفت : أنّ الاستناد في المسألة إلى العلم ، أي : ما يعلم اعتباره على كلّ تقدير ، والمنع عن العمل بالمرجوح بعد إهمال قضيّة التّخيير كما هو المفروض من جهة الشّك في اعتباره ، ودليل حرمة العمل بالمشكوك لا يوجب اعتبار المشكوك.

ومنه يظهر فساد قياس المقام بموارد وجود القياس وأشباهه ؛ فإنّه بعد قيام الدّليل الخاص على عدم حجّيّته لا يمكن الحكم بوجوب الاحتياط لأجله ، وهذا بخلاف المقام ؛ فإنّ المفروض فيه وجود ما تيقّن اعتباره ، فإذا حكم بحرمة العمل بالمرجوح من جهة الأصل فيؤخذ بالرّاجح من حيث كونه متيقّن الحجّيّة ، فلزوم الأخذ به إنّما هو من هذه الجهة لا من جهة المزيّة الغير المعتبرة والأصل الجاري فيها لا ينفي حكم الاحتمال وإنّما ينفي حكم المحتمل. وبعبارة أخرى : ينفي البناء على كونه مرجّحا لا ما يترتّب عقلا على احتمال كونه مرجّحا.

لا يقال : إذا كان الشّك في اعتبار المرجوح مسبّبا عن الشّك في اعتبار المزيّة كان أصالة عدم اعتبار المزيّة حاكمة على أصالة عدم اعتبار المرجوح ؛ إذ المفروض عدم الشّك فيه ، إلاّ من الجهة المسطورة فالمستند للحكم باعتباره ليس دليل حرمة العمل بغير العلم حتّى يتوجّه عليه ما ذكر ، بل نفس حكم الشّارع بحجّيّة المتعارضين.

لأنّا نقول : إن كان المراد من حكم الشّارع مدلول أدلّة حجّيّة الأخبار فيتوجّه عليه ما عرفت مرارا : من أنّه على الطّريقيّة لا اقتضاء لها إلاّ بالنّسبة إلى نفي الثّالث.

وإن كان مدلول ما قضى بالتّخيير بين المتعارضين ، فيتوجّه عليه ما عرفت : من فرض الإهمال في قضيّة التّخيير ، وإلاّ لم يكن مورد للرّجوع إلى الأصل.

١٩٤

وإثبات إطلاق الأخبار وبيانها بالأصل المذكور كما ترى ، فالحجّة الفعليّة مستندة إلى نفس الأصل المذكور فيلزمه المحذور المزبور.

نعم ، لو بني على الموضوعيّة والسّببيّة في اعتبار الأدلّة لم يكن معنى للأصل المذكور ؛ لعدم الإهمال في حكم الشّارع ، أو العقل وعدم مدخليّة رجحان أحدهما فيما أوجب مزاحمة المتعارضين ، فالكلام في تأسيس الأصل مبنيّ على الطّريقيّة وقيام الدّليل على التّخيير ، وإهمال ما دلّ عليه ، أو فرض إهماله كما يفصح عنه ما أفاده شيخنا العلاّمة قدس‌سره في طيّ التّحقيق الّذي ذكره في حكم المقام.

نعم ، ما أفاده من تنظير المقام بدوران الأمر بين المحذورين في المسألة الفقهيّة مع رجحان أحد الاحتمالين.

ربّما يناقش فيه : بأنّ التّخيير فيه إذا كان بحكم العقل ، فلا معنى لتردّده في موضوع حكمه حتّى يرجع إلى الاحتياط ، اللهمّ إلاّ أن يكون المراد المقايسة من حيث الحكم بوجوب الأخذ بالرّاجح لا في عنوان الحكم وجهته ، لكنّه ينافي تصريحه بالعنوان ، مضافا إلى عدم ارتباطه بالمقام إذا كان الحكم فيه بعنوان آخر كما هو ظاهر ، هذا كلّه فيما أوجب رجحان أحد المتعارضين من المزايا سواء ظنّ التّرجيح به أو شكّ فيه أو احتمل ذلك موهوما. وأمّا ما لا يوجب رجحان أحدهما مع احتمال التّرجيح به ـ كالأصل مثلا ـ فحكمه من حيث الأصل حكم القسم الأوّل.

ومن هنا ذكر في « الكتاب » : بل الأصل فيما يحتمل كونه مرجّحا التّرجيح به ، ويمكن حمله بعيدا على ما يوجب قلّة الاحتمال في أحد المتعارضين أو بعده بالإضافة وإن لم يبلغ مرتبة الظّن على ما ستقف عليه : من كونه مرجّحا أيضا

١٩٥

حسبما يستفاد من التّعليل الوارد في أخبار التّرجيح ، كما يقع الكلام فيه إن شاء الله تعالى.

وممّا ذكرنا في شرح كلامه يظهر : صحّة ما أفاده من الاستدراك بقوله : ( إلاّ أن يرد عليه إطلاقات التّخيير ) (١) وفساد ما أورد عليه : من عدم إمكان اجتماع الإهمال والإطلاق ؛ فإنّ الغرض منه ليس التّفكيك بحسب الأصل وفرض الإهمال والإطلاق ، بل الغرض منه كما هو صريح العبارة عند التّأمّل التّفكيك من حيث الأخبار المقيّدة المفيدة لعموم التّرجيح بكلّ مزيّة مع الالتزام بإطلاق أخبار التّخيير بقول مطلق ، فحاصله : أنّه لا فرق بين القسمين بحسب الأصل ، وإن أمكن الفرق بينهما بحسب دليل التّرجيح مع الالتزام بإطلاق قضيّة التّخيير بقول مطلق كما يشهد له قوله : ( بناء على الاقتصار ... إلى آخره ) (٢) والمراد من قوله : ( على ما علم كونه مرجّحا ) (٣) العلم بالرّجحان الوجداني لا العلم بالحكم عند الشّارع ؛ فإنّه في كمال الوضوح من الفساد بحيث لا يحتمل صدوره في حقّ من دونه بمراتب كما هو ظاهر.

نعم ، التّعرض للفرق بين القسمين بحسب الأدلّة بالعبارة المذكورة ربّما يوجب اشتباه الأمر على النّاظر.

هذا حاصل ما استفدناه من « الكتاب » مع ما فيه من الاضطراب ، ومن إفاداته في مجلس البحث مع ما فيه من التّأمّل ؛ لأنّ الجمع بين كون مقتضى الأصل

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٤ / ٥٣.

(٢) نفس المصدر.

(٣) نفس المصدر.

١٩٦

عدم التّرجيح ، وأن مقتضاه مساواة المرجّحيّة للحجّيّة وكون مقتضى الأصل لزوم التّرجيح وتسميته بالأصل الثّانوي والأوّل بالأصل الأوّلي كما يفصح عنه قوله : ( فصار الأصل وجوب العمل بالمرجّح ، وهو أصل ثانوي ) (١) مع كون المراد من الأصلين أصالة حرمة العمل بغير العلم. كما ترى ، لا يخلو عن مناقشة.

كلام المحقّق الرّشتي في المقام

ثمّ إنّ لبعض فضلاء المعاصرين كلاما في المقام فيما أملاه في المسألة لا بأس بنقله والإشارة إلى ما فيه قال رحمه‌الله في الجواب عن السّؤال ـ بأنّ الشّك في حجّيّة المرجوح مسبّب عن الشّك في اعتبار الرّجحان في نظر الشّارع والأصل فيه حاكم على الأصل في المرجوح ـ ما هذا لفظه :

« قلت : أوّلا : أنّا لا نقول بالحكومة في أفراد أصل واحد ولو مع التّسبّب (٢) فلا يقدّم الأصل الجاري في السّبب على الأصل الجاري في المسبّب بل نحكم بتعارضهما.

إلى أن قال :

وثانيا : أنّ التّسبب (٣) لا بدّ من أن يكون بين المشكوكين لا الشّكين ، والأمر هنا ليس كذلك ؛ لأنّ سبب عدم جواز العمل بالمرجوح عند الشّارع ليس هو وجوب العمل بالرّاجح بل هما في مرتبة واحدة ، وإلاّ لكان عدم اعتبار الظّنون

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٤ / ٥٣.

(٢ و ٣) كذا وفي الأصل : التسبيب.

١٩٧

الغير المعتبرة مسبّبا ومعلولا لحجّيّة الظّنون المعتبرة.

وهو كما ترى ، بل الرّاجح والمرجوح ظنّان تعارضا ونحن جازمون بحجّيّة الرّاجح وشاكّون في حجّيّة المرجوح ، فإن لم يكن حجّة فإنّما هو لعدم وجود المقتضي لها لا لوجود المانع وهو حجّيّة الرّاجح ؛ فإنّ الشّك في وجوب العمل بالرّاجح عينا ليس شكّا في أمر زائد على جواز العمل به بعد إحرازه كما قلنا في المتزاحمين حتّى يدفع بالأصل ، بل العينيّة على فرض ثبوتها إنّما نشأت من عدم حجّيّة معارضه ، فالشّك في وجوب العمل بالرّاجح عينا وجواز العمل بالمرجوح كلاهما نشئا من الشّك في أنّ الحكم الشّرعي في المرجوح هل هو الحجّيّة أيضا مثل الرّاجح أم لا؟ فلا سببيّة ولا حكومة ولو قلنا بها في تعارض الأصلين ».

وساق الكلام إلى أن قال :

« إذا تحقّق ذلك فنقول : إنّ الأدلّة إن كان اعتبارها من باب السّببيّة والموضوعيّة كان الحكم في المتعارضين منهما مثل ما في المتزاحمين ، فالأصل فيه قاض بعدم اعتبار المرجّح حسبما مرّ تفصيلا ، إلاّ إذا قلنا بأنّ احتمال الأهميّة مانع عن التّخيير وقاض بالتّرجيح في باب التّزاحم كما هو ظاهر الرّسالة ؛ فإنّ قضيّة الأصل حينئذ وجوب العمل بمعلوم الرّجحان ، بل ومحتمله خلافا للرّسالة : حيث صرّح بعدم وجوب العمل بذي المزيّة بناء على أنّ المزيّة إنّما توجب الأقربيّة إلى الواقع ولا مدخليّة لها في مطلوبيّة العمل بالطّريق على تقدير السّببيّة قطعا ، فلا يحتمل الأهميّة حتّى يجب مراعاتها ولو كان أقرب إلى الواقع.

وفيه : أنّ القطع بذلك من العجائب ؛ فإنّ الأقرب إلى الواقع لو لم ندّع الظّن بتأكّد مطلوبيّته وكون العمل به أهمّ عند الشّارع فلا أقلّ من الاحتمال.

١٩٨

نعم ، على التّصويب الباطل : من دوران الأحكام الواقعيّة مدار الطّرق والأمارات الشّرعيّة ، وأنّه ليس للواقع حكم شرعيّ عند الله يكشف عنه الأمارة ، بل يحدث بحدوثها وينتفي بانتفائها أمكن القطع بعدم الأهميّة ».

إلى أن قال :

« وأمّا بناء على ثبوت الأحكام الواقعيّة وكون الأمارات كاشفة عنها فإن خالفت يتداركها بالأمارة ، وإن صادفت يتأكّد مصلحة الواقع بمصلحة الأمارة كما هو المراد بالسّببيّة الدّائرة على السّنة العلماء في الأصول والفقه دون الأوّل الّذي تطابق العقل والنّقل على فساده ، فلا وجه لإنكار احتمال الأهميّة في ذي المزيّة » (١). انتهى كلامه رفع مقامه.

وفيه ما لا يخفى من وجوه المناقشة والنّظر.

أمّا أوّلا : فلأنّ منع جريان الحكومة في أفراد أصل واحد بظاهر معنى الحكومة لا بأس به إلاّ أنّك قد عرفت جريانها حكما فيها كيف؟ وأخبار الاستصحاب بحسب المورد ـ على ما عرفت شرح القول فيه في تعارض الاستصحابين ـ ناطقة بتقديم الاستصحاب في الشّك السّببي على الاستصحاب في الشّك المسبّب ، مضافا إلى ما عرفت هناك من سائر الوجوه المقتضية لذلك فراجع إليه حتّى تقف على حقيقة الأمر.

وأمّا ثانيا : فلأنّ ما ذكره : من كون المدار في التّحكيم على السّببيّة والمسبّبيّة بالنّسبة إلى المشكوك لا الشّك وإن كان مستقيما وقد اعتبرهما شيخنا العلاّمة قدس‌سره

__________________

(١) بدايع الأفكار : ٤٢٩ ـ ٤٣٠.

١٩٩

بالنّسبة إليه أيضا في الجزء الثّالث من « الكتاب » وصرّح بذلك فيه ، وإنّما اعتبر بالنّسبة إلى الشّك من جهة انطباق موارد سببيّة الشّك غالبا في الشّرعيّات على سببيّة المشكوك ، لا أن يكون المدار عليها من حيث هي ، إلاّ أن منع تحقّق الضّابط المذكور في المقام ؛ نظرا إلى ما ذكره في غير محلّه ؛ لأنّ الجزم بحجّيّة الرّاجح المردّدة بين التّعيين والتّخيير والشّك في حجّيّة المرجوح إنّما هما من جهة وصفي الرّجحان والمرجوحيّة لا من جهة ذاتي الرّاجح والمرجوح ، وإلاّ لم يعقل تردّد الحجّيّة في الرّاجح بين التّعيين والتّخيير ، بل كان الرّاجح معلوم الحجّيّة على التّعيين. وعلى كلّ تقدير سواء كان المرجوح معتبرا أم لا كما هو الشّأن بالنّسبة إلى الظّنون المعتبرة والظّنون الغير المعتبرة كما ذكره ولم يكن معنى للتّعارض على التّقدير المزبور كما هو الشّأن بالنّسبة إلى الظّنون المعتبرة والظّنون الغير المعتبرة.

ومنه يظهر فساد قياس المقام بهما وعدم ارتباط بينهما أصلا ، فعدم حجّيّة المرجوح في الفرض لو كان ثابتا في نفس الأمر معلول لحجّيّة الرّاجح على سبيل التّعيين على تقدير الثّبوت في نفس الأمر ؛ إذ المفروض مساواتهما بحسب الحجّيّة الشّأنيّة ، وإلاّ لما تعارضا وهو خلف. وليس المؤثّر في هذا التّعيين إلاّ رجحان الرّاجح جزما فينتهي الأمر بالأخرة إليه.

ويدلّ على ما ذكرنا ـ مضافا إلى وضوحه ـ : كلماتهم في باب التّراجيح والأخبار الواردة فيه سيّما التّعليلات المذكورة فيها ؛ فإنّها صريحة في أنّ تقديم الرّاجح على المرجوح إنّما هو من جهة رجحانه.

وأمّا ثالثا : فلأنّ ما ذكره : من كون الأقربيّة إلى الواقع الحاصلة من رجحان إحدى الأمارتين موجبا للأهميّة جزما أو ظنّا أو احتمالا على السّببيّة والتّزاحم

٢٠٠