بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٨

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٨

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-351-4
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٨٢٠

الكلّيّة المستفادة من أخبار العلاج ممّا لا شبهة فيه أصلا ـ على ما نبّهناك عليه مرارا ـ كما أنّ ما أفاده في تقريب الاستدلال بالإجماع المدّعى في كلام جماعة على وجوب العمل بأقوى الدّليلين : من حيث رجوع المرجّح الخارجي إلى المرجّح الدّاخلي وعدم الفرق بينهما إلاّ بالإجمال والتّفصيل ممّا لا يعتريه ريب ، وإن كان تخصيص المردّد في كلامه بالصّدور وجهته ، محلّ نظر.

لأنّ التّحقيق تردّد الأمر بين ثلاثة جهات الصّدور وجهته والدّلالة ، كالاستدلال للمدّعى بترجيح الأوثق في أخبار الباب لمنع كون المراد من الأوثق مجرّد الأقرب إلى الواقع على ما عرفت في مطاوي كلماتنا السّابقة. وهذا نظير الاستدلال للمدّعى في الجواب عن السّؤال فيما سيذكره بعموم قوله : ( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ) (١) فإنّك قد عرفت فيما قدّمناه لك : عدم تعلّق الرّواية بباب التّرجيح أصلا ، مضافا إلى عدم دلالتها وإن كان مستقيما على تقدير عمومها للمقام.

نعم ، الاستدلال على المدّعى بعموم كلمات العلماء ومعاقد الإجماعات لمطلق الأمارة المطابقة لمضمون أحد الخبرين وإن لم ترجع إلى المرجّح الخارجي ممّا لا شبهة في استقامته كالاستدلال بالأصل بالتّقريب المتقدّم في كلام شيخنا العلاّمة قدس‌سره في مسألة وجوب التّرجيح ، فلعلّ عدم ذكره في عداد الوجوه في المقام من جهة ابتناء كلامه قدس‌سره على ذكر الأدلّة لا مطلق الوجه.

نعم ، قد مرّ منّا فيما تقدّم التّأمّل في الأصل المذكور في مطلق التّرجيح.

__________________

(١) مرّ تخريجه.

٣٢١

(٢٧) قوله : ( مع أنّه يمكن دعوى حكم العقل ... إلى آخره ). ( ج ٤ / ١٤٣ )

أقول : دعوى حكم العقل بوجوب العمل بالأقرب إلى الواقع ، إنّما يستقيم على القول بحجّيّة الأمارات : من باب الظّن المطلق ، والقول به لا يجامع التّعارض على ما أسمعناك عن قريب. وأمّا على القول باعتبارها : من باب الظّن الخاصّ فمقتضاه ـ على ما عرفت في صدر المسألة ـ هو التّوقّف والرّجوع إلى الأصل المطابق لأحدهما إن كان ، وإلاّ فالتّخيير العقلي. ومن هنا أمر قدس‌سره بالتّأمّل فيما أفاده (١).

__________________

(١) قال الشيخ موسى بن جعفر التبريزي قدس‌سره :

« يحتمل الأمر بالتأمّل وجهين :

أحدهما : ما تقدم سابقا : من أن الأصل في تعارض ما هو معتبر من باب الطريقية هو التساقط والرجوع الى مقتضى الأصول لا الترجيح بما لم يثبت مرجحيّته.

وثانيهما : أن العقل على تقدير تسليم استقلاله بتقديم أقوى الدليلين إنّما هو فيما كانت القوة في نفس الدليلية لا في أمر خارج من صفة الدليلية ، واعتبار الأخبار وان كان من باب الطريقية إلاّ أن اعتبار سندها إنّما هو من حيث الطريقية الى الصدور واعتبار دلالتها انما هو من حيث الطريقية الى مراد المتكلّم والمرجّحات الخارجة لا تقوّي شيئا من الحيثيتين ، أمّا الأولى فواضحة ، وإلاّ كانت من المرجحات السندية دون المضمونية ، وأمّا الثانية فانه لو تقوّت بها دلالة أحد الخبرين صارا من قبيل الظاهر والأظهر ، فخرجا من مورد التعارض لوجوب حمل الظاهر على الأظهر منهما حينئذ كما مر غير مرة ، فالتعارض والرجوع الى المرجحات إنّما هو فيما تساوت دلالتهما ، وغاية ما يفيده المرجح الخارجي كون مضمون أحدهما أقرب الى الواقع من الآخر من دون إيراث قوّة في دلالته ومجرد أقربية مضمون أحدهما الى الواقع خارج من جهة الدليلية كما عرفت » إنتهى. أنظر أوثق الوسائل : ٦٣٠.

٣٢٢

نعم ، مقتضى الأصل بعد البناء على التّخيير في المتعارضين وإهمال ما دلّ عليه من أخباره وجوب التّرجيح بكلّ مزيّة سواء كانت داخليّة أو خارجيّة على ما بنى عليه الأمر سابقا ، لكنّه لا تعلّق له بحكم العقل بوجوب العمل بالأقرب إلى الواقع كما هو ظاهر.

(٢٨) قوله قدس‌سره : ( ومال إلى ذلك بعض سادة مشايخنا المعاصرين ... إلى آخره ). ( ج ٤ / ١٤٤ )

كلام سيّد المفاتيح في الترجيح بالقياس ومناقشته

أقول : مراده قدس‌سره السيّد ( طيّب الله رمسه الشّريف ) في « المفاتيح » حيث قال بعد نقل كلام « المعارج » ما هذا لفظه :

__________________

* وقال سيّد العروة قدس سره :

« لعلّ وجهه : أن حكم العقل هذا مورود بأخبار التخيير فلا بد في قبالها من التمسّك بذيل الإجماع أو دلالة الأخبار على الترجيح فافهم ». انظر حاشية فرائد الأصول : ج ٣ / ٥٤٤.

* وقال المحقق آغا رضا الهمداني قدس سره :

« أقول : كأنه إشارة إلى أن هذا في الطرق العقليّة التي ثبت اعتبارها بدليل الإنسداد ونحوه ، لا في الطرق التعبّديّة ؛ إذ لا إحاطة للعقل بما هو مناط طريقيّتها لدى الجاعل ، فالعبرة في الترجيح بما هو الأقرب لديه لا عندنا ، وإلاّ فلم نكن نتعقّل فرقا بين تلك الطرق وبين غيرها من الأمارات التي هي مثلها ، أو أقوى منها في الطريقيّة ولم يعتبرها الشارع ، فمن الجائز أن يكون المرجحات التي نراها مرجّحة كذلك ، فليتأمّل » إنتهى.

أنظر حاشية فرائد الأصول : ٥٤٠.

٣٢٣

« والتّحقيق : أن يقال : إن كان القياس الموافق لأحد الخبرين من القياس بالطّريق الأولى ، أو المنصوص العلّة فلا إشكال في صحّة التّرجيح به ؛ لأنّ هذين القياسين من الأدلّة الشّرعيّة المعتبرة. وقد بيّنا : أنّ أحد الخبرين المتعارضين إذا اعتضد بدليل شرعيّ كان اللاّزم ترجيحه.

وإن كان من القياس المستنبط العلّة الّذي ليس بحجّة شرعا فلا يخلو : إمّا أن لا يقتضي الظّن بصدق مضمون الخبر الّذي يوافقه أو يقتضيه ، فإن كان الأوّل : فلا إشكال في عدم صحّة التّرجيح به للأصل السّليم عن المعارض وما سيأتي إليه الإشارة. وإن كان الثّاني : ففي صحّة التّرجيح به إشكال : من الأصل وعموم كثير من الأخبار الواردة في المنع من العمل بالقياس ؛ فإنّ التّرجيح به عمل به ، وعموم الأخبار الدّالة على التّخيير بين الخبرين المتعارضين إمّا مطلقا أو بعد فقد مرجّحات ليس منها محلّ البحث ، وأنّ القياس لو كان مرجّحا لاشتهر بل تواتر لتوفّر الدّواعي ، وأنّه لو كان مرجّحا للزم معرفة مسائل القياس وتنقيحها وضبطها كما لا يخفى. وذلك قد يكون منافيا لحكمة حرمة القياس كما لا يخفى ، ومن أصالة حجّيّة الظّن خصوصا في مقام التّرجيح ، وفحوى ما دلّ على اعتبار كثير من المرجّحات المنصوصة ، وغلبة حجّيّة مرجّحات ظنّية غير منصوصة ، فيلحق بها محلّ الشّك وهو محلّ البحث.

ولا يعارض ما ذكر عموم الأخبار المانعة عن العمل بالقياس لإمكان دعوى انصرافه إلى المنع من التّمسّك به على حكم شرعي ، ولو سلّم شمول بعضها لمحلّ البحث فيتوقّف على اعتبار سنده ، ولو سلّم فغايته إفادة الظّن : بأنّ هذا الظّن لا يكون حجّة في هذا المقام.

٣٢٤

وفي صلاحيّة هذا لمعارضة أصالة حجّيّة الظّن إشكال فتأمّل. وكذلك لا يصلح لمعارضة ذلك عموم الأخبار الدّالة على التّخيير للمنع عن ظهورها في المنع عن التّرجيح بالمفروض. سلّمنا ولكن لم يعلم اعتبار سندها ، ولو سلّم اعتبار سند بعضها ففي صلاحيّته لمعارضة أصالة حجّيّة الظّن إشكال. ومع ذلك فبعضها معارض مع بعض ، فيبقى الرّجوع هنا إلى المرجّح الظّني ولا يمكن التّمسّك بها كما لا يخفى ، فتأمّل.

وأمّا دعوى : ظهور اتّفاق الأصحاب على المنع من التّرجيح به ، فمحلّ إشكال ؛ إذ ليس بناء معظمهم على ضبط جميع المرجّحات والإشارة إليها ولو سلّم ذلك : فغايته الظّن ؛ وفي صلاحيّته لمعارضة الأصل المذكور إشكال وكيف كان فالأحوط الأخذ بالخبر الموافق له حيث يدور الأمر بينه وبين التّخيير وبينه وبين معارضه. وأمّا إذا وجد للمعارض مرجّح معتبر فإن كان القياس أضعف منه فلا إشكال ، وكذا إذا كان مساويا فتأمّل.

وأمّا إذا كان القياس أقوى ففيه : إشكال عظيم ، فتأمّل » (١). انتهى كلامه رفع مقامه.

وفيه أنظار غير مخفيّة سيّما في تكرّر ذكر أصالة حجّيّة الظّن.

فإنّه إن كان المراد من الأصل المذكور : أصالة حجّيّة الظّن في أحكام الله تعالى الّتي بين الأمر عليها جمع من المتأخّرين.

فيتوجّه عليه ـ ما أسمعناك في بيان محلّ التّعارض ـ أنّ القول بحجّيّة مطلق

__________________

(١) مفاتيح الأصول : ٧١٦.

٣٢٥

الظّن ينافي باب التّعارض في الجملة. مضافا إلى رجوع الإشكال على تقديره إلى إشكال خروج القياس عن الدّليل العقلي القاضي بحجّيّة الظّن مطلقا هذا. مضافا إلى أنّ الإشكال مع تسليم اعتبار سند الأخبار المانعة بقول مطلق لا معنى له أصلا ؛ لأنّه من تعارض الظّن الخاصّ والمطلق إلى غير ذلك ممّا يتوجّه عليه على هذا التّقدير.

وإن كان المراد : أصالة اعتبار الظّن في خصوص باب التّرجيح في قبال التّخيير ـ على ما بنى عليه شيخنا العلاّمة قدس‌سره فيما تقدّم من كلامه ـ ففيه : أنّ الأصل المذكور ربما نقول به عند الشّك ، فكيف يصلح لمعارضة ما دلّ على حرمة إعمال القياس في الدّين مطلقا كما قضى به صريح كلامه؟

(٢٩) قوله قدس‌سره : ( إذا عرفت ما ذكرنا علمت توجّه الإشكال ... إلى آخره ). ( ج ٤ / ١٥٠ )

أقول : تقديم التّرجيح بموافقة الكتاب بأقسامها وكذا السّنة على التّرجيح بسائر المرجّحات الرّاجعة إلى غير الدّلالة في غير ما يوجب سقوط المخالف عن الحجّيّة ممّا لا إشكال فيه أصلا ، ولا يتوجّه الإشكال القطعيّة من جهته فيما دلّ من الأخبار العلاجيّة على تقديم بعض المرجّحات عليهما بعد البناء على كون ذكرها من باب مجرّد التّمثيل وعدم إرادة التّرتيب منها ، وإلاّ لم يجامع إناطة التّرجيح بالكلّيّة المستفادة منها.

فلا داعي لدفع الإشكال إلى التّكلف الّذي ارتكبه بقوله : ( وأمّا الإشكال المختصّ بالمقبولة ... إلى آخره ) (١) مع أنّ الالتزام بتقديم التّرجيح بالشّهرة على

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٤ / ١٥٠.

٣٢٦

التّرجيح بموافقة الكتاب والسّنة كما ترى ، هذا. مضافا إلى أنّ الالتزام بالتّرتيب المستفاد من الأخبار لا يجامع البناء على الكلّيّة على ما عرفت ، فلو كان هناك ترتيب بين المرجّحات كما في بين جملة منها فلا تعلّق له بالأخبار أصلا.

(٣٠) قوله قدس‌سره : ( ويمكن التزام دخول الصّورة الأولى ... إلى آخره ). ( ج ٤ / ١٥٠ )

أقول : لا ينبغي التّأمّل في شمول الأخبار للصّورة الأولى من الموافقة للكتاب والسّنة ، لا من جهة كون الاختصاص بالصّورة الأخيرة موجبا لقلّة مورد الأخبار ، بل من جهة عموم الأخبار بأنفسها لها من غير تأمّل في ذلك سواء فرض هناك مرجّح للخبر المخالف للكتاب والسّنة القطعيّة أم لا ؛ لأنّ تقديم الخبر المخالف لو لا المعارض لا يجدي فيما لو كان له معارض قد قضى الدّليل بتقديم ما وافق الكتاب والسّنة بعنوان العموم هذا كلّه.

مضافا إلى اقتضاء الكلّيّة المستفادة من أخبار العلاج للتّرجيح في الصّورة الأولى ؛ ضرورة كونها أولى من الأمارة الغير المعتبرة. وقد عرفت : أنّه بناء على الكلّيّة ليس هنا ثمرة عمليّة بين المرجّحات المنصوصة وغيرها.

(٣١) قوله قدس‌سره : ( ثمّ إن حكم الدّليل المستقلّ المعاضد ... إلى آخره ). ( ج ٤ / ١٥١ )

حكم الدليل المستقل المعاضد لأحد المتعارضين

أقول : بعد ابتناء باب التّعارض والتّرجيح على اعتبار الظّنون الخاصّة ليس هنا ـ عند التّحقيق ـ ما يعاضد أحد المتعارضين غير الكتاب والسّنة القطعيّة النّبويّة ، اللهمّ إلاّ أن يكون المراد خصوص الأخبار ، لكنّه غير مراد ظاهرا وإن

٣٢٧

جرى الحكم المذكور بالنّسبة إلى الأخبار أيضا ؛ فإنّ ما يمكن من غير الأخبار أن يقع موردا للكلام المذكور ليس إلاّ نقل الإجماع.

وقد عرفت الكلام على حجّيّته من حيث الخصوص ، أو الإجماع المحقّق فيما لو انكشف عن وجود حديث معتبر عند الكلّ ، أو الإجماع على القاعدة بحيث يكشف قطعا عن صدور لفظ عامّ عن المعصوم عليه‌السلام.

نعم ، على القول بحجّيّة الشّهرة أو الأولويّة الاعتباريّة من حيث الخصوص جرى فيهما ما أفاده في الجملة ، لكن القول باعتبارهما من حيث الخصوص ضعيف.

وأمّا الحكم العقلي القطعي في المسألة الفرعيّة وكذا الإجماع القائم عليها ونحوهما ممّا يفيد القطع بالواقع فلا يصحّ جعله معاضدا ومرجّحا لما يوافقه من المتعارضين ؛ ضرورة انتفاء موضوع الدّليل الظّني مع القطع بالواقع وإن كانا متوافقين.

فما يظهر من غير واحد ممّن قارب عصرنا : من ذكر الدّليل القطعي المطابق لأحد المتعارضين من المعاضد والمرجّح ، لا بدّ من أن يحمل على المسامحة في التّعبير.

قال في « الفصول » في عداد المرجّحات :

« الخامس : التّرجيح باعتبار معاضد خارجي فيرجّح ما يوافقه دليل معتبر من كتاب ، أو سنّة ، أو إجماع أو عقل على ما لا يوافقه. لا يقال : فالحجّة إذن في الدّليل المعتبر لا في الخبر المعتضد به. لأنّا نقول : تعدّد الدّليل ممّا لا غبار عليه ،

٣٢٨

والاعتضاد موجب للوثوق بصحّة أحد المتعارضين فيضعف معارضه » (١). انتهى كلامه رفع مقامه.

وهو كما ترى ، لا يخلو عن إجمال.

ثمّ إنّ الدّليل على اعتبار التّرجيح بالتّعاضد في غير موافقة الكتاب والسّنة هو ما عرفت من الكلّيّة المستفادة من أخبار العلاج ، وإلاّ فمجرّد عنوان التّعاضد لا يصلح علّة لتقديم المتعاضدين على الخبر المجرّد كما هو ظاهر. كما أنّه يعلم ممّا ذكرنا في حكم تعارض المرجّحات ـ من سنخ أو سنخين ـ حكم تعارض المعاضدات أيضا ، حتّى فيما كان أحدهما موافقا للكتاب والآخر موافقا للسّنة ، وحكم تعارض المعاضدات والمرجّحات فلا حاجة إلى بسط القول في ذلك كلّه.

(٣٢) قوله قدس‌سره : ( لكن يشكل التّرجيح بها ؛ من حيث إنّ مورد الأصول ... إلى آخره ). ( ج ٤ / ١٥١ )

أقول : قد يناقش فيما أفاده : بأنّ الأصل سواء كان شرعيّا محضا ، أو عقليّا كذلك ، أو له جهتان ، تعليقي بالنّسبة إلى الدّليل الاجتهادي ، وإن قيل باعتبار الأصل من باب الظّن ؛ فإنّه لم يعهد على هذا القول أيضا توهّم معارضة الأصل للدّليل الاجتهادي ، فالأولى استناد منع التّرجيح بالأصل إلى عدم شمول الكلّيّة المستفادة من أخبار الباب لما لا يوجب نفي الرّيب بالإضافة ، فلا يشمل التّرجيح بالأصل ولا بغيره من الأمور التّعبّديّة هذا.

مضافا إلى أنّ تخصيص أخبار التّخيير بما إذا كان مقتضى الأصل العملي هو

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ٤٤٤ ـ ٤٤٥.

٣٢٩

التّخيير في معنى طرح أخبار التّخيير رأسا هذا. مضافا إلى ورود جملة منها في مورد جريان الأصل مثل المكاتبتين (١) المرويّتين في « الكتاب » (٢) هذا كلّه. مضافا إلى أنّ الدّليل القاضي بالتّخيير في المقام الّذي يرجع إلى التّخيير في المسألة الأصوليّة يقتضي حجّيّة الخبر المخالف للأصل ، فكيف يزاحمه الأصل؟

وأمّا توهّم : اقتضاء الأصل التّرجيح بموافقة الأصل من حيث كون الموافق له متيقّن الحجّيّة ، ففاسد جدّا من حيث ذهاب غير واحد إلى تقديم المخالف للأصل. ألا ترى إلى عنوانهم لمسألة المقرّر والنّاقل والاختلاف فيها؟ فتأمّل هذا. مضافا إلى ما عرفت من استلزام التّرجيح به لطرح أخبار التّخيير مع ورود جملة منها في مورد جريان الأصل.

وممّا ذكرنا يظهر : ضعف ما حكاه شيخنا العلاّمة قدس‌سره في « الكتاب » عن بعض معاصريه (٣) في تقريب التّرجيح بالأصل سيّما ما حكم به أخيرا من تساقط المتعارضين والرّجوع إلى الأصل المنافي للتّرجيح به.

__________________

(١) مكاتبة عبد الله بن محمّد : التهذيب ج ٣ / ٢٢٨ باب « العمل في ليلة الجمعة ويومها » ـ ح ٩٢ ، عنه الوسائل : ج ٢٧ / ١٢٢ ـ باب « وجوه الجمع بين الأحاديث المختلفة » ـ ح ٤٤.

(٢) فرائد الأصول : ج ٤ / ١٥٢.

(٣) السيّد المجاهد في المفاتيح : ٧٠٨.

٣٣٠

كلام صاحب الفصول ومناقشته

كما أنّه يظهر منه ضعف ما أفاده الشّيخ الفاضل في « الفصول » بعد جملة كلام له في ترجيح ما وافق الأصل أو خالفه حيث قال :

« ولا يذهب عليك أنّ الخبر المعتضد بالأصل يخرج عن كونه دليلا اجتهاديّا على الحكم ويصير من الأدلّة الظّاهريّة الّتي يعبّر عنها بالأدلّة الفقاهيّة كالأصل ومثله الخبر المعتضد بالاحتياط لو قلنا بتقديمه على غيره ، وهذا بخلاف ما لو اعتضد أحد الخبرين بسائر المرجّحات كالشّهرة وموافقة الكتاب ومخالفة العامّة ونحو ذلك ، وذلك لأنّ هذه المرجّحات تفيد في أنفسها الظّن بصحّة الصّدور ، أو المراد ، أو المطابقة للواقع بخلاف المعتضد بالأصل والاحتياط ، فوزان هذين المرجّحين وزان أخبار العمل بأحد المتكافئين ».

إلى أن قال :

« ويمكن أن يقال : حينئذ بأنّا نطرح الخبرين ونعمل بالأصل المطابق لأحدهما وفيه بعد » (١). انتهى كلامه رفع مقامه.

وأنت خبير بأنّ حقيقة الدّليل لا يختلف من جهة موافقته للأصل ، بل الأمر في التّخيير أيضا كذلك ؛ فإنّه بعد الاختيار يكون المختار دليلا اجتهاديّا ، فلعلّ غرضه من هذا الكلام : بيان تأخّر مرتبة هذا المرجّح من غيره ، وأنّ تقديم الخبر

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ٤٤٥.

٣٣١

الموافق له ليس من جهة تفاوت حال الموافق بملاحظته من حيث العنوان المأخوذ في حجّيّته ، فيكون الأخذ به نظير الأخذ بأحد الخبرين عند التّخيير.

فكيف كان : لا ينبغي الإشكال في عدم مرجّحيّة الأصل على القول بالتّعبد ، كما لا ينبغي الإشكال في عدم مرجّحية مخالفه ، وإن ذكر هنا وجوه بل أقوال في المسألة في كتب الخاصّة والعامّة ، لكن صرف الوقت في تحقيق ما هو أهمّ أولى.

نعم ، لا ينبغي الإشكال في التّرجيح بالأصل على القول باعتباره : من باب الظّن على ما يستفاد من الأخبار وكلماتهم من الكلّيّة وإن كان منافيا لبعض أخبار التّخيير موردا ، بل جميع أخبار التّخيير من حيث لزوم تخصيصها بما لم يكن هناك أصل على طبق أحدهما وهو إخراج لأكثر موارد الأخبار.

(٣٣) قوله قدس‌سره : ( فالمتّجه : ما ذكره الشيخ قدس‌سره في « العدّة » ... إلى آخره ). ( ج ٤ / ١٥٥ )

أقول : لا يخفى عليك أنّ ما أفاده من اتّجاه ما ذكره الشّيخ قدس‌سره مبنيّ على القول بالتّرجيح بالأصل ؛ حيث إنّه على هذا القول يقدّم الحاظر على المبيح بناء على أصالة الحظر في الأشياء قبل الاطلاع على الشّرع.

وأمّا ما أفاده في الاستدلال على تقديم الحاظر بقوله : ( ويمكن الاستدلال لترجيح الحظر بما دلّ على وجوب الأخذ ... إلى آخره ) (١) فيتوجّه عليه ـ مضافا إلى ما ناقشه فيه في طيّ كلماته السّابقة وسيصرّح به عن قريب : من اختصاص الرّواية بصورة التّمكّن من تحصيل العلم ـ : بأنّ الأخذ بما وافق الاحتياط من الخبرين مطلوب استحبابا ، تحكيما لأخبار التّخيير عليه من حيث كونه نصّا

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٤ / ١٥٥.

٣٣٢

بالنّسبة إليه على ما أسمعناك في الجمع بينها وبينه وإن لم يكن هذا الجمع مرضيّا عند شيخنا قدس‌سره بل عند الأكثر.

(٣٤) قوله قدس‌سره : ( والحقّ هنا التّخيير ... إلى آخره ). ( ج ٤ / ١٥٨ )

أقول : مقتضى المرفوعة الّتي هي أخصّ من جميع أخبار التّخيير ثبوت التّخيير في الفرض هذا. مضافا إلى أنّ مورد بعض أخبار التّخيير سؤالا : ما إذا ورد هناك أمر ونهي وليس في الفرض أصل في المسألة الفرعيّة يرجّح به أحد المتعارضين ، فالحكم بالتّخيير في المقام ممّا لا مناص عنه ، وإن قيل بتقديم احتمال التّحريم على الوجوب عند فقد النّص ، أو إجماله ، أو قيل بلزوم التّوقّف والاحتياط في تكافؤ النّصّين مطلقا ؛ ضرورة عدم إمكان الاحتياط في الفرض.

ومن هنا ذهب غير واحد ممّن اختار الاحتياط في غير الفرض من صور تعارض النّصّين المتكافئين إلى التّخيير في المقام ، وإن كان المختار ثبوت التّخيير مطلقا وفاقا للمحقّقين على ما أسمعناك في مسألة التّعادل.

والحاصل : أنّه كما إذا تعادل الخبران من حيث المرجّحات الأربعة لا ينظر إلى موافقة أحدهما للأصول العمليّة ويحكم بالتّخيير بينهما ، كذلك لا ينظر إلى مضمونهما من حيث الوجوب والتّحريم أو غيرهما من الأحكام الثّلاثة ، أو أحدهما مع واحد من الأحكام الثّلاثة ، فيحكم بالتّخيير مطلقا ، وإن خالف فيما ذكرنا غير واحد من الخاصّة والعامّة ؛ فإنّ من يقدّم الخبر الدّال على الحظر على ما يدلّ على الوجوب يقدّمه على ما يدلّ على غيره من الأحكام بطريق أولى ، إلاّ بالنّسبة إلى ما يدلّ على الإباحة من حيث كونه موافقا للأصل.

٣٣٣

ومن هنا أفرد غير واحد من الأصوليّين لكلّ واحد من الصّور المذكورة عنوانا كما في « المفاتيح » وغيره قال في محكيّ « الإحكام » ـ في عداد مرجّحات المدلولي ـ :

« الثّالث : أن يكون حكم أحدهما الحرمة والآخر الكراهة فالحاظر أولى لمساواته للكراهة في طلب التّرك وزيادته عليه ... إلى آخر ما ذكره من الوجوه » (١).

وقال في محكيّ « النّهاية » وغيره : « الآمر مقدّم على المبيح ؛ للاحتياط ولانتفاء الضّرر بمخالفة المبيح ... إلى آخر ما ذكره من الوجوه » (٢).

وقال في محكيّ شرح « المختصر » و « الإحكام » : « يقدّم الحظر على النّدب ؛ لأنّ الحظر لدفع المفسدة والنّدب طلب المنفعة. وقال في محكيّة أيضا : يقدّم الوجوب على النّدب ؛ لأنّه أحوط » (٣). انتهى.

بل عن غير واحد منهم : الحكم بالتّرجيح من حيث المدلول من غير جهة ما عرفت من الأحكام ، كالحكم التّكليفي بالنّسبة إلى الوضعي ، وما دلّ على الأخفّ بالنّسبة إلى ما دلّ على الأثقل لدليل نفي الحرج. وهذا كلّه منحرف عن الصّواب وإن أشير إلى الأخير في بعض ما تقدّم من الأخبار العلاجيّة.

__________________

(١) انظر مفاتيح الأصول : ٧٠٩ ـ ٧١٠.

(٢) حكاه عنه السيّد المجاهد في مفاتيح الأصول : ٧١١.

(٣) المصدر السابق : ٧١٠ ، وراجع شرح مختصر الأصول : ج ٢ / ٤٨٩.

٣٣٤

(٣٥) قوله قدس‌سره : ( نعم ، يجب الرّجوع إليها في تعارض غير الخبرين ... إلى آخره ). ( ج ٤ / ١٥٨ )

أقول : قد أسمعناك فيما قدّمناه لك في تعارض ما كان مبناه على الطّريقيّة : أنّ قضيّة القاعدة فيه هو الحكم بالتّوقّف الّذي يرجع إلى التّساقط في الجملة والرّجوع إلى الأصل العملي المطابق لأحدهما إن كان ، وإلاّ فالتّخيير العقلي نظير التّخيير بين المحظورين من غير فرق بين أن يكون هناك مرجّح أم لا.

فما أفاده : من الرّجوع إلى المرجّحات المذكورة في غير تعارض الخبرين ؛ نظرا إلى حكومة أخبار التّخيير عليها في تعارض الخبرين مبنيّ على القول بصلاحيّة تلك المرجّحات للتّرجيح ، وإلاّ فقد عرفت عدم صلاحيّتها له. ومن هنا قال : ( لكن ليس هذا من التّرجيح في شيء ) (١)(٢).

وبالجملة : لا فرق بين تلك المرجّحات والمرجّحات الجارية في الأخبار في عدم الالتفات إليها في غير تعارض الأخبار.

نعم ، ما كان منها مرجعا كالأصل يرجع إليه في تعارض غير الأخبار على الطّريقيّة على القول بعدم إجراء التّخيير فيه بملاحظة تنقيح المناط ، وإلاّ فيحكم

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٤ / ١٥٨.

(٢) قال المحقق الخراساني قدس‌سره :

« لسقوط كلّ من الدليلين بالنسبة إلى خصوص مؤدّاه من الحجّيّة ، فيبقى المورد كما إذا لم يكن دليل في البين مع تكافؤ الإحتمالين ، فيجب الرجوع إليها كما لو قلنا بها في هذه الصورة لا مطلقا على ما يوهمه إستدراكه فلا تغفل » إنتهى. أنظر درر الفوائد : ٤٧٥.

٣٣٥

بالتّخيير أيضا كما في تعارض الأخبار كما أشار إليه في « الكتاب » ، لكن التّنقيح على وجه القطع غير مسلّم ، والاتّفاق على اتّحاد الحكم في باب التّعارض غير معلوم ، بل الأمر كذلك بالنّسبة إلى التّرجيح أيضا ، وإن كان أمره أظهر ؛ لاستفاضة الإجماع على وجوب الأخذ بأقوى الدّليلين وأرجحهما من غير فرق بين الخبرين وغيرهما.

مضافا إلى وجوه أخر قاضية بالتّعميم على ما عرفت الإشارة إليها وإلى ما يتوجّه عليها. ودعوى : عدم الفصل بين التّخيير والتّرجيح ، كما ترى.

قال في « المفاتيح » : « إذا وقع التّعارض بين أقسام الأدلّة الظّنّية غير الخبر وجب أيضا الرّجوع إلى المرجّحات ، والظّاهر أنّه ممّا لا خلاف فيه » (١). انتهى كلامه رفع مقامه.

وهو المراد بالبعض في كلام شيخنا قدس‌سره الّذي استظهر عدم الخلاف في جريان التّرجيح في تعارض غير الأخبار.

(٣٦) قوله قدس‌سره : ( ولكن التّكلم في ذلك قليل الفائدة ... إلى آخره ). ( ج ٤ / ١٥٩ )

إشارة إلى حكم تعارض غير الأخبار من الأدلّة

أقول : توضيح المقام : وما أفاده في تنقيحه : هو أنّه لا إشكال ـ على ما نبّهناك عليه مرارا وعن قريب ـ في أنّ كلاّ من التّرجيح والتّخيير الثّابتين في

__________________

(١) مفاتيح الأصول : ٧١٩.

٣٣٦

تعارض الأخبار على خلاف الأصل والقاعدة ، وإنّما خرجنا عنهما لمكان الأخبار العلاجيّة الواردة في تعارض خصوص الأحاديث والرّوايات الظّنية ، فلا يشمل تعارض غير الأخبار ، كما لا يشمل تعارض الأخبار وغيرها ، ولا يشمل تعارض ما علم صدوره من الأخبار أيضا عند التّحقيق في الجملة.

فلو تعارضت آيتان ، أو سنّتان ، أو إحداهما مع الأخرى ، أو إحداهما مع الخبر الظّنّي ، فلا يشملها الأخبار العلاجيّة وإن جرى التّرجيح من حيث الدّلالة في جميعها ؛ فإنّ التّرجيح من الحيثيّة المذكورة ليس لمكان التّعبّد. وكذا الحكم فيما لو تعارض الإجماعان المنقولان ، أو أحدهما مع الخبر الظّنّي على القول بحجّيّة نقل الإجماع من حيث الخصوص من جهة آية النّبأ وغيرها لعدم ظهوره من الأخبار العلاجيّة.

ودعوى : تسرية الحكم إليه من جهة العلّة المنصوصة في الأخبار العلاجيّة كما في « الكتاب » كما ترى ؛ فإنّ الكلّيّة الكبرى المستفادة من التّعليل هو تقديم ما ليس فيه الرّيب الموجود في صاحبه من الأخبار لا مطلقا ، وهو أمر ظاهر لا ريب فيه عند التّأمّل أصلا. فقوله قدس‌سره : ( وأمّا التّرجيح من حيث الصّدور فالظّاهر أنّه كذلك ... إلى آخره ) (١) منظور فيه.

ومن هنا لم يستدلّ أحد فيما أعلم على حجّيّة نقل الإجماع بالأخبار العلاجيّة ، مع أنّهم استدلّوا على حجّيّة الأخبار في الجملة بالأخبار العلاجيّة.

نعم ، من قال بحجّيّة نقل الإجماع من حيث الخصوص ـ كما يظهر من

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٤ / ١٥٩.

٣٣٧

« المعالم » وغيره ـ أجرى حكم تعارض الأخبار في تعارض نقلي الإجماع ، فإن كان هناك إجماع فهو ، وإلاّ فللنّظر فيه مجال واسع ، هذا كلّه على القول بحجّيّة من حيث الخصوص.

وأمّا على القول بحجّيّته من حيث العموم : من جهة اندراجه تحت مطلق الظّن فسيجيء حكمه هذا في نقل الإجماع ، وأمّا غيره كالشّهرة والأولويّة الاعتبارية وغيرهما لو قيل بحجّيّتها من حيث الخصوص كما عن الشّهيد قدس‌سره بالنّسبة إلى الأوّل ، وثاني الشّهيدين وصاحب « المعالم » ( قدس الله أسرارهما ) بالنّسبة إلى الثّاني كما يظهر من الأوّل في « المسالك » في مسألة الشّياع الظّني (١) ، ومن الثّاني : في مسألة استحالة النّجاسات (٢) فتأمّل ، فلا يجري حكم تعارض الأخبار بالنّسبة إليها قطعا ، كما لا يجري في تعارض الأخبار معها وإن كان ظاهر نقل الإجماع وغيره في لزوم الأخذ بأقوى الدّليلين تسرية الحكم بالنّسبة إليها أيضا. هذا فيما قيل بحجّيّته من الأمارات من حيث الخصوص.

وأمّا على القول بحجّيتها من باب الظّن المطلق فلا إشكال في عدم تصوّر التّعارض بينها على القول باختصاص النّتيجة بالفروع على ما يقتضيه التّحقيق : من كون النّتيجة حجّيّة الظّن الشّخصي.

نعم ، على القول بالتّخصيص بالأصول ، أو التّعميم يتصوّر التّعارض جدّا ، إلاّ أنّ في جريان حكم تعارض الأخبار في تعارضها منعا ظاهرا.

__________________

(١) مسالك الأفهام : ج ١٣ / ٣٥٤.

(٢) معالم الدين وملاذ المجتهدين « قسم الفقه » : ج ٢ / ٧٧٦.

٣٣٨

نعم ، لا يبعد القول بلزوم متابعة الأقوى لا لمكان التّرجيح ، بل لمكان وجود مناط الحجّيّة فيه ليس إلاّ نظير ما أسمعناك في الجزء الأوّل من التّعليقة في الظّن المانع والممنوع ، فهو خارج عن حقيقة التّرجيح أيضا فتأمّل هذا.

وإن شئت شرح القول في ذلك فارجع إلى ما ذكرنا من القول في ذلك في مطاوي كلماتنا السّابقة ، وإنّما تكلّمنا في ذلك في المقام اقتفاء لأثر شيخنا العلاّمة قدس‌سره.

وبما ذكرنا كلّه يظهر : حكم تعارض الظّن الخاص والمطلق ؛ فإنّ الأوّل بمنزلة الدّليل بالنّسبة إلى الثّاني ، فلا يقع التّعارض بينهما.

نعم ، لو فرض في مقام ورد حكم الشّارع فيه بحجّيّة مطلق الظّن لا من جهة الانسداد وقع التّعارض بينه وبين الظّن الخاصّ ، لكن الحكم فيه بالتّرجيح والتّخيير يظهر ممّا ذكرنا في حكم غيره من الصّور فتدبّر.

ولنختم الكلام في المسألة بذكر أمور :

الأوّل : أنّا ذكرنا في مطاوي كلماتنا : أنّ المدار في التّرجيح على مطلق المزيّة الدّاخليّة أو الخارجيّة الرّاجعة إليها : وأنّ ما ذكر في الأخبار وكلمات العلماء من المرجّحات الأربعة راجعة إلى تشخيص جملة من مصاديقها. وأكثر اشتمالا من الكتب عليها سيّما المرجّحات السّنديّة الرّاجعة إلى الصّدور « كتاب المفاتيح » لسيّد مشايخ شيخنا العلاّمة ( قدس الله أسرارهما ) ، لكن لا بدّ للفقيه من الرّجوع إلى الكتب الرّجاليّة لتحصيل المصاديق وتشخيصها كتشخيص العادل وغيره ، والعادل والأعدل ، والفقيه والأفقه ، والضّابط والأضبط ، والورع والأورع ، إلى غير ذلك.

٣٣٩

كما أنّه لا بدّ له من الرّجوع إليها لتحصيل ما هو مناط أصل الحجّيّة وإن كان هذا العلم كأكثر ما له دخل في الاستنباط من العلوم متروكا عند كثير من محصّلي أهل عصرنا ، وقد اتّخذوا الاجتهاد أسهل الأمور مع أنّه أشقّها ، ونسأل الله تعالى التّوفيق لتحصيله كما وفّق له علماءنا الماضين رضوان الله عليهم أجمعين.

الثّاني : أنّا قد ذكرنا لك في مطاوي كلماتنا الكلام في إلحاق غير الأخبار من الظّنون الخاصّة بالأخبار في أحكام التّعارض ترجيحا وتخييرا. وعلى القول بعدم الإلحاق لا بدّ أن يراعي الفقيه ما يقتضيه القاعدة في تعارض الطّرق ؛ فإنّ الحكم المذكور ترجيحا وتخييرا على خلاف الأصول والقواعد.

فإذا تعارض من غير الأخبار أمارتان وكان إحداهما موافقة للكتاب أو السّنة ، فلا بدّ من الأخذ بهما من حيث كونهما مرجعا لا مرجّحا ، فلا يرجع إلى الأصل المطابق لإحداهما إلاّ فيما لم يكن هناك أحدهما. وكذا الحكم فيما إذا وقع التّعارض بين الأخبار وغيرها على القول المذكور ؛ ضرورة عدم جواز الرّجوع إلى الأصل العملي مع وجود الدّليل في المسألة ولو كانا متوافقين.

الثّالث : أنّا قد أشرنا في أوّل المسألة عند التّكلّم في بيان حقيقة التّعارض : إلى أنّه لا يقع التّعارض غالبا بين الأصول فيما حكموا بوقوع التّعارض بينها ، وإذا فرض وقوعه بينها في مورد فلا معنى للحكم بالتّرجيح أو التّخيير بينها ، بل لا بدّ من الرّجوع إلى أصل ليس في مرتبة المتعارضين ؛ لما أسمعناك : من كونهما على خلاف الأصول ، وإن قلنا بكون الأصل التّرجيح فيما قام هناك دليل على حجّيّة المتعارضين في الجملة مع إهماله ، فإذا وقع التّعارض بين الاستصحابين في الماء النّجس المتمّم كرّا بطاهر فيحكم بالرّجوع إلى أصالة طهارة الماء.

٣٤٠