بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٨

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٨

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-351-4
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٨٢٠

جملة من المناقشات في المقبولة والذبّ عنها

أقول : في ورود الرّواية صدرا في الحكومة ممّا لا ينبغي الإشكال فيه أصلا ومن هنا تمسّك بها الفقهاء ( رضوان الله عليهم ) في كتاب « القضاء » في مسائل :

منها : عدم جواز التّرافع إلى غير الفقيه الإمامي إلاّ فيما توقّف أخذ الحقّ بالرّجوع إليه.

ومنها : كون المأخوذ بحكمه سحتا وحراما وإن كان الآخذ محقّا.

ومنها : عدم جواز التّرافع إلى العامي بل المتجزّي ؛ نظرا إلى ظهور قوله : ( نظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا ) (١) فيمن له الملكة المطلقة بمعرفة جميع الأحكام.

ومنها : لزوم تنفيذ حكم الحاكم وكون ردّه كفرا إلى غير ذلك.

__________________

ويحتمل بعيدا أن يراد منها مخالفتها لروايات العامّة على ما صرّح به في روايتي الراوندي.

وضابط هذا المرجّح ترجيح ما ليس فيه أمارة التقيّة على ما فيه أمارتها من موافقته لفتواهم أو رواياتهم أو كونه شبيها لقولهم مثل ما إذا علّل الحكم في الخبر بقياس أو استحسان أو نحوه ممّا يناسب مذاقهم وإن كان اصل الحكم مخالفا لهم ولرواياتهم ولعلّه المراد من قوله عليه‌السلام : ( ما يشبه قول الناس ففيه التقيّة ) أو ( كونه موافقا لما هو حكّامهم وقضاتهم أميل اليه ) إنتهى. أنظر حاشية فرائد الأصول : ج ٣ / ٥١٧.

(١) التهذيب : ج ٦ / ٣٠٣ باب « من الزيادات في القضايا والأحكام » ـ ح ٥٣ ، عنه الوسائل : ج ٢٧ / ١٣٩ باب « وجوب الرجوع في القضايا والفتوى الى رواة الحديث » ـ ح ٦.

٢٢١

إلا أنّه لا يتوجّه عليه شيء من الإشكالات المذكورة في « الكتاب » وغيرها من الإشكالات ؛ حيث إنّ المراد من المنازعة في الدّين والميراث في السّؤال هو النّزاع والاختلاف من جهة الجهل في الحكم والشّبهة الحكميّة ، كما قد يتّفق بالنّسبة إلى الدّين والميراث ؛ ضرورة عدم مناسبة لاختلاف الحكمين من جهة الاختلاف في الحديث مع كون النّزاع في الشّبهة الموضوعيّة.

ومن المعلوم أنّ رفع الجهل في الشّبهة الحكميّة بالرّجوع إلى الفقيه قد يكون بعنوان التّرافع كما قد يتّفق بالنّسبة إلى العارفين بالحكم أيضا مع الاختلاف ؛ فإنّ رفعه منحصر في الرّجوع إلى الفقيه بعنوان التّرافع وإن كان المتداعيان مجتهدين كما هو واضح فلا يناسبه تعدّد المرجع ، بل لا معنى له على هذا التّقدير وإن رضي به المتداعيان وإن كانت الحكومة بتراضيهما كما قد يتّفق في زمان الحضور قبل ورود المقبولة ؛ فإنّها دليل نصب جميع من اجتمع فيه شرائط الحكومة فلا يفرض بعدها قاضي التّحكيم.

ومنه يظهر : تطرّق المناقشة إلى ما قيل في دفع الإيراد المذكور ، بل يستفاد ممّا أفاده شيخنا العلاّمة في دفع الإشكال المذكور بعد ذلك : من جواز تعدّد المرجع في قاضي التّحكيم ، وقد يكون بعنوان الاستفتاء وأخذ المسألة والتّقليد فيجوز التّراضي على الاستفتاء عن فقيهين وتقليدهما في المسألة على ما فصّلنا القول فيه في باب التّقليد : من جواز الاستناد إلى رأي أزيد من فقيه مع الاتّفاق في الرّأي ، فإذا رضيا بذلك واتّفق اختلاف الفقيهين في الرّأي وأرادا رفع الجهل بالتّقليد فالمتعيّن الرّجوع إلى الرّاجح من حيث الصّفات المذكورة ، أو بعضها كما فهمه السّائل وقرّره الإمام عليه‌السلام ، وإن تساويا فالحكم التّخيير في غير مورد النّزاع

٢٢٢

في أمثال زماننا من أزمنة عدم التمكّن من العمل بالحديث للعامي.

وأمّا في أعصار الأئمّة عليهم‌السلام فيمكن رفع الجهل بالعمل بالحديث للعامي كما يمكن له التّقليد ، فإذا فرض الاختلاف بين الفقيهين المرجعين من جهة الاختلاف فيما ركنا إليه في المسألة من الحديث كما هو صريح الرّواية انحصر رفع الاختلاف والنّزاع في إرجاع الجاهلين إلى الرّاجح من مدرك الفقيهين ، فالتّرجيح بالأوصاف على هذا إنّما هو في باب التّقليد لا الحكومة والرّواية فيما جعل المستند المقبولة.

نعم ، يستفاد منها بعنوان العموم ـ كما ستقف عليه ـ التّرجيح بكلّ مزيّة فيستفاد منها التّرجيح بالأوصاف بهذا العنوان ، لا بعنوان الخصوص حتّى يدخل التّرجيح بها في التّرجيح بالمرجّحات المنصوصة وإن لم يكن هناك ثمرة على القول بالتّعدّي حسبما ستقف عليه.

نعم ، التّرجيح بالأصدقيّة ربّما ينافي ما ذكرنا من حمل التّرجيح بالأوصاف على مسألة التّقليد.

اللهمّ إلاّ أن تدفع المنافاة بما أفاده شيخنا العلاّمة قدس‌سره في « الرّسالة الّتي صنّفها في مسألة التّقليد » : من أنّ ملكة الصّدق في أعصار الأئمّة عليهم‌السلام لها مدخل كثير في باب الفتوى كالعلم والعدالة من حيث رجوع الاستنباط غالبا إلى الحديث.

ثمّ إنّه إذا بني على إناطة التّرجيح بمطلق المزيّة على ما هو مقتضى العلّة المنصوصة في ترجيح المشهور على الشّاذ ، وترجيح المخالف للعامّة على الموافق لهم كما في المقبولة وغيرها ، فلا مناص من حمل ما نصّ على التّرجيح به في أخبار العلاج على التّمثيل ، وذكر بعض الخصوصيّات المتداولة الغالبة للكلّيّة

٢٢٣

المستفادة من التّعليل.

ضرورة منافاة التّعليل للاقتصار على المزايا الخاصّة في اعتبار اجتماعها وتقديم ما ذكر مقدّما على ما ذكر مؤخّرا ، وهكذا اعتبار سائر الخصوصيّات ولم يكن فرق بينها وبين غيرها ممّا لم يذكر. كما لا يقدح ذكر أكثرها بل كلّها في بعض الأخبار وذكر واحد منها في بعضها الآخر ، والعطف بالواو الظّاهر في الجمع ، مع أنّ في بعضها التّصريح بكفاية الواحد مع العطف بالواو.

كما لا يقدح الاختلاف بحسب التّقديم والتّأخير بين الأخبار في ذكرها ، بل هذه الاختلافات تؤيّد الإناطة على الكلّيّة إن لم يكن من الأدلّة عليها ، فلا يدلّ على إرادة الاستصحاب كما زعمه السيّد الصّدر ، ولا على حجيّة مطلق الظّن في الأحكام كما زعمه المحقّق القمّي قدس‌سره فيندفع بما ذكر جميع الإشكالات المتطرّقة حتّى على زعم من جعل التّرجيح بالأوصاف في المقبولة من التّرجيح من حيث الرّواية.

مع أنّك قد عرفت : أنّ التّرجيح بها في المقبولة من حيث ترجيح الفتوى لا الرّواية ولا الحكومة المتعارفة كما في « الكتاب » في مقام الجمع بين المقبولة والمرفوعة في موضع آخر ؛ إذ لا تعارض بين الأخبار على هذا التّقدير حتّى يتشبّث بذيل ما أفاده مع تطرّق المناقشة إلى تمامه أو أكثره ؛ فإنّ تعارض المستندين لا يلازم غفلة الحاكم عن معارض مستنده ؛ لإمكان وقوفه عليه وترجيح مستنده بضرب من التّرجيح ، وكذا عدم السّؤال عن صورة وجود بعض الصّفات ، أو تعارضها لا يلازم فهم استقلال كلّ صفة بالتّرجيح ؛ إذ مع استفادة الاجتماع على ما يقتضيه ظاهر العطف بالواو لا معنى للسّؤال عن صورة وجود بعض الصّفات أو تعارضها ، بل الأنسب على تقدير فهم الاستقلال السّؤال عن

٢٢٤

صورة تعارض الصّفات.

نعم ، على ما ذكرنا : من استفادة إناطة التّرجيح بكلّ مزيّة ربّما لا يحتاج إلى السّؤال عن حكم تعارضها : فإنّ التّرجيح عند التّعارض منوط بنظر العامل بالحديث كما في تعارض سائر المزايا من المنصوصة وغيرها ، وعلى تقدير التّكافؤ يعامل معهما معاملة المتكافئين ؛ لأنّهما على التّقدير المذكور من مصاديقهما حقيقة.

وبالجملة : بعد إناطة التّرجيح بمطلق المزيّة والتّعدّي عن المرجّحات المنصوصة ، وحمل قوله في المقبولة ( وإن اختار كلّ منهما رجلا ... إلى آخره ) (١) وجوابه بالتّرجيح من حيث الصّفات على مسألة الاستفتاء وطلب الحكم اللّغوي ـ لا على المعنى المعروف عند الفقهاء كما يشهد له استدلالهم بالمقبولة على وجوب تقليد الأفقه والأعدل والأوثق عند الاختلاف بالدّلالة الأصليّة المطابقيّة ، لا بفحوى دلالتها على تعيين الأفقه والأعدل في باب القضاء كما زعمه بعض ـ لا يتوجّه إشكال على المقبولة أصلا ، لا ما أفاده قبل قوله : ( نعم ، يرد عليه بعض الإشكالات في ترتيب المرجّحات ... إلى آخره ) (٢) المبني على حمل المذكور ـ سؤالا وجوابا ـ على الحكومة عند الفقهاء ، ولا ما أفاده في ذيل قوله المذكور.

مع أنّ تصديق ورود ما ذكره مع دفعه بما ذكره بعده وعدم قدحه في ظهور

__________________

(١) وهي مقبولة عمر بن حنظلة التي رواها المشائخ الثلاثة من أعلام الحديث وقد مرّ تخريجها.

(٢) فرائد الأصول : ج ٤ / ٦٠.

٢٢٥

الرّواية بل صراحتها على ما أفاده ربّما ينافي ما أفاده قبل ذلك في بيان الإشكال سيّما مع عدم دفعه وإن جزم بعدم قدحه في ظهور الرّواية بل صراحتها في التّرجيح بما ذكر فيها ، إلاّ أن يحمل كلاميه على النّظرة الأولى والثّانية فتأمّل.

والحاصل : أنّ تحرير المقام بما في « الكتاب » لا يخلو عن تشويش ، فكأنّ ما أفاده في تحريره مبني على الاقتصار على المرجّحات المنصوصة على ما رآه الأخباريّون من أصحابنا وبعض الأقدميّين من المجتهدين مع الجمود على ظاهر لفظ الحكومة.

ثمّ إنّ الوجه فيما أفاده من عدم قدح الإشكالات وإن بقيت على حالها ولم تدفع في ظهور الرّواية بل صراحتها في وجوب التّرجيح ولو باجتماع الصّفات وموافقة الكتاب والسّنة ومخالفة العامّة ظاهر لا يخفى ؛ ضرورة أنّ المدّعى إذا كان إثبات التّرجيح في الجملة في مقابل السّلب الكلّي لم يقدح إجمال الرّواية وعدم ظهورها في إثبات تمام المدّعى مع أنّ منها التّرجيح بالشّهرة ونحوها المنطبق على المدّعى هذا.

مضافا إلى أنّ التّصريح فيها بكفاية مخالفة العامّة في التّرجيح عقيب السّؤال عن موافقة الخبرين للكتاب والسّنة ، مع عطف المخالفة على موافقتهما قبل ذلك شاهد قويّ على عدم إرادة الجمع من العطف بالنّسبة إلى جميع الفقرات ؛ ضرورة عدم الفرق ، فبملاحظة نفس الرّواية يدفع الإشكال المذكور.

وأمّا الإشكالات المتعلّقة بالحكومة من جهة صدر الرّواية فعدم اندفاعها لا يقدح جزما ؛ إذ لا تعلّق لها بما يظهر منه لزوم التّرجيح من فقرات الرّواية أصلا ،

٢٢٦

فالرّواية من هذه الجهة نظير حديثين يكون أحدهما مجملا والآخر مبيّنا مع عدم تعلّق أحدهما بالآخر أصلا ، فلعلّ هذا الفرق بين هذه الإشكالات المتعلّقة بصدر الرّواية والإشكال المذكور بعد قوله : ( نعم ... ) (١) أوجب الفرق في التّعبير ) ، فتأمّل.

(١٠) قوله قدس‌سره : ( هذا ما وقفنا عليه من الأخبار ... إلى آخره ). ( ج ٤ / ٦٨ )

أقول : ذكر غير واحد في عداد ما ورد في العلاج بالتّرجيح ما عرفت نقله في الجزء الأوّل من « الكتاب » ممّا ورد في باب عرض مطلق الأخبار على الكتاب بعد حمله على مورد تعارض الأخبار جمعا بينه وبين ما دلّ على حجّيّة أخبار الآحاد على ما عرفت ثمّة : من أنّه أحد وجوه الجمع بينها وبين الأخبار الغير المذكورة هناك ، وفي المقام ما عن « البحار » عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إذا حدّثتم عنّي الحديث فانحلوا في أهنأه وأسهله وأرشده فإن وافق كتاب الله فأنا قلته وإن لم يوافق كتاب الله فلم أقله » (٢).

وقد اختلفوا في تفسير هذا الحديث ، وأقرب احتمالاته : جعل ميزان أسماء التّفضيل فيه موافقة الكتاب كسائر الأخبار الواردة في هذا الباب.

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٤ / ٦٠.

(٢) بحار الأنوار ج ٢ / ٢٤٢ عن المحاسن ج ١ / ٢٢١ باب « الاحتياط في الدين والأخذ بالسنة » ـ ح ١٣١.

٢٢٧

(١١) قوله قدس‌سره : ( فلا يخفى عليك أنّ ظواهرها متعارضة ... إلى آخره ). ( ج ٤ / ٦٨ )

مناقشة العلاج المذكور للمقبولة والمرفوعة

أقول : قد عرفت : أنّ المتعارض بين أخبار العلاج في ابتداء النّظر إنّما هو على القول بلزوم الاقتصار على المرجّحات الخاصّة المنصوصة وعدم التّعدّي إلى مطلق المزيّة ، وإلاّ فلا تعارض بينها أصلا.

ثمّ إنّ العلاج بين المقبولة والمرفوعة بما أفاده من الوجوه لا يخلو عن مناقشة ؛ فإنّ تقديم المقبولة على المرفوعة بمقتضى المرفوعة على تقدير تسليم شمول ما ورد في باب علاج تعارض الأخبار لعلاج تعارض أنفسها ولو بتنقيح المناط ـ مع أنّه في حيّز المنع ـ كما ترى ؛ فإنّها من حيث اقتضائها تقديم المشهور على الشّاذّ يقتضي عدم العمل بها رأسا بالنّسبة إلى هذه الفقرة.

وهو كما ترى ، لا يصدر عمّن دون الإمام عليه‌السلام فإنّ التّعبير عن المقصود بما يقتضي ضدّه مستهجن جدّا وقبيح إلى النّهاية ، ولو قيل بعدم قبح استغراق التّخصيص أو التّخصيص إلى الواحد. وهذا نظير الاعتراض على من استدلّ بآية النّبأ على حجّيّة خبر العدل : بأنّها تشمل نقل السيّد علم الهدى رحمه‌الله (١) الإجماع على عدم حجّيّة خبر الواحد ، وقد تقدّم نقله في الجزء الأوّل من « الكتاب » (٢) مع الجواب عنه بما عرفت في العلاج المذكور.

__________________

(١) السيّد الشريف المرتضى المتوفّى سنة ٤٣٦ ه‍.

(٢) فرائد الأصول : ج ١ / ٢٤٦.

٢٢٨

ثمّ إنّ هذا على تقدير اعتبار المرفوعة وعدم قدح انعقاد الشّهرة على خلاف المقبولة في اعتبارها ، وإلاّ فلا يقع التّعارض بينهما كما لا يخفى.

نعم ، ما أفاده من عدم شمولهما للشّهرة العمليّة ممّا لا إشكال فيه على ما عرفت في الجزء الأوّل من « الكتاب » (١) و « التّعليقة » (٢).

وأمّا منع كون العمل على طبق المرفوعة بقوله : ( مع أنّا نمنع أنّ عمل المشهور ... إلى آخره ) (٣) فيتوجّه عليه : بأنّ ذلك على تقدير تسليمه إنّما هو على تقدير اعتبار اجتماع الصّفات في التّرجيح وقد منعه قدس‌سره قبل ذلك ، فكيف يبنى في المقام عليه؟

فما أفاده لا يخلو عن مناقشة ، مثل الوجه الأخير الّذي ذكره في الجمع بين الحديثين بقوله : ( ويمكن أن يقال : إنّ السّؤال ... إلى آخره ) (٤) فإنّك قد عرفت : أنّ التّرجيح بالأوصاف في المقبولة وإن لم يكن من حيث ترجيح الرّواية إلاّ أنّه لا تعلّق له بالتّرجيح : من حيث الحكومة المتعارفة ، بل من حيث ترجيح الفتوى.

ومنه يظهر المناقشة فيما أفاده في تقريب ما ذكره بقوله : ( ومن هنا اتّفق الفقهاء ... إلى آخره ) (٥) لأنّ لازم ما أفاده من الحمل التّرجيح بتمام الأوصاف

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ١ / ٢٣٤.

(٢) بحر الفوائد : ج ١ / ١٤١.

(٣) فرائد الأصول : ج ٤ / ٦٩.

(٤) فرائد الأصول : ج ٤ / ٦٩.

(٥) المصدر السابق.

٢٢٩

المذكورة في المقبولة في باب الحكومة ولم يعهد منهم ، كالمناقشة في التّفصّي عن الإيراد الّذي ذكره بقوله : ( نعم ، يرد على هذا الوجه : أنّ اللاّزم ... إلى آخره ) (١) بقوله : ( ويمكن التّفصي ... إلى آخره ) (٢) ؛ لأنّك قد عرفت : أنّ الرّواية لا تعلّق لها بقاضي التّحكيم ، بل لا معنى له بعد دلالتها على نصب جميع من اجتمع فيه شرائط الحكومة : من الإيمان ، ومعرفة الأحكام ، وغيرهما. وليس فيها ما يشعر بذلك إلاّ قول السّائل : قلت : فإن كان كلّ رجل يختار رجلا من أصحابنا فرضيا أن يكونا ناظرين في حقّهما ... إلى آخره ) (٣) وقد عرفت المراد منه بحيث لا تعلّق له بالحكومة المتعارفة وقاضي التّحكيم أصلا.

نعم ، فيما يفرض فيه قاضي التّحكيم لا معنى لجريان ما تسالم عليه المشهور فيه : من وكول أمر تعيين محضر الحاكمين المتساويين إلى المدّعي ، وعدم اعتبار رضا المنكر أصلا ؛ ضرورة منافاة جريانه في قاضي التّحكيم لمعناه ؛ فإنّ المراد من قاضي التّحكيم : ما تراضى الخصمان على الرّجوع إليه مع عدم نصبه للقضاء من جانب الولي للقضاء لا خصوصا ولا عموما بشرط أهليّته لذلك ، واجتماع جميع الشّروط عدا النّصب فيه.

__________________

(١) نفس المصدر : ج ٤ / ٧٠.

(٢) المصدر السابق بالذات.

(٣) الكافي الشريف : ج ١ / ٦٧ باب « اختلاف الحديث » ـ ح ١٠ ، الفقيه : ج ٣ / ٨ رقم الحديث : ٣٢٣٣ ، التهذيب : ج ٦ / ٣٠١ باب « من الزيادات في القضايا والأحكام ـ ح ٥٢ ، عنهما الوسائل : ج ٢٧ / ١٣ « الباب الأوّل من أبواب صفات القاضي » ـ ح ٤ وباب « وجوب الرجوع في القضاء والفتوى الى رواة الحديث » ص ١٣٦ ـ ح ١.

٢٣٠

ثمّ إنّ المقبولة والمرفوعة على تقدير اعتبارها وإن كانتا متعارضتين من جهات أخر أيضا في ظاهر النّظر ، إلاّ أنّ تعارضهما من جهتها لما ترجع إلى الإطلاق والتّقييد ، فقد تعرّض قدس‌سره لحكمه في طيّ الموضع الثّالث بالعنوان الكلّي بقوله : ( الثّالث : أنّ مقتضى القاعدة ... إلى آخره ) (١).

نعم ، ذيلاهما متعارضان لا بالعنوان المذكور.

فقد زعم بعض ـ على ما عرفت الإشارة إليه في مطاوي كلماتنا السّابقة ـ الجمع بينهما بحمل ذيل المقبولة على ما أمكن فيه الاحتياط ، وحمل ذيل المرفوعة على ما لا يمكن فيه الاحتياط ، فلا تعارض بينهما أصلا.

وقد عرفت فساده ، وأنّ عدم موافقة أحد المتعارضين للاحتياط لا يلازم عدم إمكان الاحتياط في المسألة ؛ فإنّه إذا تعارض الخبران في القصر والتّمام مثلا في بعض المسائل فليس شيء منهما موافقا للاحتياط مع إمكان الاحتياط بالجمع بينهما. وهكذا الأمر في جميع موارد تعارض الخبرين في الشّك في المكلّف به في صور المتباينين ، فالمتعيّن الجمع بينهما بما أسمعناك سابقا : من حمل الأمر بالتّوقّف على الأولويّة والإرشاد كما يرشد إليه التّعليل المذكور بعده.

(١٢) قوله قدس‌سره : ( أنّ الحديث الثّامن ... إلى آخره ). ( ج ٤ / ٧٠ )

أقول : ظهور الحديث الثّامن فيما أفاده بضميمة عدم القول بالفصل ـ مضافا إلى وحدة السّياق ـ ممّا لا ينبغي إنكاره ، إلاّ أنّه لا يتعيّن طرحه بعد إمكان حمله على الأولويّة والإرشاد العقلي ؛ حيث إنّ العقل مستقلّ بأولويّة تحصيل الواقع علما

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٤ / ٧١.

٢٣١

بالرجوع إلى الإمام عليه السلام من الرجوع إلى الطرق المعتبرة ، وليس الحديث نصّاً في لزوم تقديم التحصيل حتّى يتعيّن طرحه من جهة معارضة مع ما هو نصّ في جواز التّرجيح مع التّمكن من تحصيل العلم كالمقبولة.

نعم ، من ذهب إلى كون المرجّحات المنصوصة من الظّنون الخاصّة المقيّدة كما يظهر من كلام بعضهم في أصل حجيّة الأخبار أيضاً يلزمه العمل بظاهر الحديث وتقييد المقبولة صدراً وطرحها ذيلاً كما هو ظاهر. ولا محذور في هذا التّبعيض عقلاً إذا ساعده الدّليل وإن كان مستبعداً جدّاً ، إلّا أنّ القول به ضعيف قطعاً ، وخلاف ما يقتضيه قاعدة الجمع بين النّص والظّاهر ، كطرح الحديث على ما استظهره شيخنا العلّامة قدّس سره بقوله : ( والظّاهر لزوم طرحها ؛ لمعارضتها بالمقبولة الرّاجحة عليها ، فتبقى إطلاقات التّرجيح سليمة ) (١).

(١٣) قوله : ( الثّالث : أنّ مقتضى القاعدة تقييد إطلاقات ... إلى آخره ). ( ج ٤ / ٧١ ).

أقول : مبني ما أفاده على كون المقبولة أجمع وأشمل من غيرها في بيان المرجّحات وليس الأمر كذلك بناء على حمل صدرها على التّرجيح من حيث الحكومة على ما بني عليه الأمر سابقاً في الجمع بينها وبين المرفوعة. اللّهمّ إلّا أن يكون ما أفاده في المقام إغماضا عمّا ذكره سابقاً ، ومع ذلك لابدّ من الالتزام بتقييد في المقبولة بناء على العمل بما اشتمل على التّرجيح بالأحدثيّة.

ثمّ إنّ الوجه فيما أفاده ظاهر ؛ حيث إنّ حمل المطلق على المقيّد ممّا هو مركوز في الأذهان لا يحتاج إلى بيان وتوظيف من الشّارع فلا يطالب الدّليل

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٤ / ٧١.

٢٣٢

عليه ، وإن لم يبعد ما أفاده أخيرا بقوله : ( إلاّ أنّه قد يستبعد ذلك ... إلى آخره ) (١).

(١٤) قوله : ( الرّابع : أنّ الحديث الثّاني عشر ... إلى آخره ). ( ج ٤ / ٧١ )

أقول : لا يبعد شمول الحديث للرّوايات الإماميّة بعد حمل قوله : ( فيجيء منكم خلافه ) (٢) على مجيء الخلاف من الأئمّة عليهم‌السلام لا بعنوان النّقل والرّواية من النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. مضافا إلى أنّ نسخ حديث النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحديثه كان أمرا شائعا معهودا فلا يحتاج إلى التّنبيه والبيان فتأمّل.

وإن كان هذا النّحو من النّسخ ، أي : كشف الحديث عن نسخ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإيداعه عند الإمام عليه‌السلام كإيداع القرائن للظّواهر عنده عليه‌السلام مع عدم بيانها في زمانه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصلا نادرا ، إلاّ أنّه لا بأس به بعد ظهور الرّواية فيه ولا إشكال ، بل ولا كلام في تقديم سائر التّصرّفات في الدّلالة على النّسخ عند الدّوران كما تبيّن في محلّه ، ويبيّن في « الكتاب » عن قريب.

إنّما الكلام في تقديم الطّرح من حيث الصّدور أو جهته لمكان التّرجيح على النّسخ ولو فيما روى المتعارضان عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو تقديم النّسخ عليه ، وقد أشار إلى وجهي المسألة في « الكتاب » ، وظاهر عنوانه وإن كان مقتضيا لتخصيص محلّ الكلام بما يرد عن الأئمّة عليهم‌السلام على خلاف حديث النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلاّ أنّ وجهي المسألة كما ترى ، جاريان في مطلق دوران الأمر بين التّرجيح والنّسخ.

__________________

(١) نفس المصدر.

(٢) الكافي الشريف : ج ١ / ٦٤ باب « اختلاف الحديث » ـ ح ٢ ، عنه الوسائل ج ٢٧ / ١٠٨ باب « وجوه الجمع بين الأحاديث المختلفة » ـ ح ٤.

٢٣٣

وأولى بالكلام والإشكال ما دار الأمر فيه بين النّسخ والتّخيير. اللهمّ إلاّ أن يلتزم بتقييد الحديث بما دلّ على التّرجيح وتقييد إطلاق التّخيير بالحديث بناء على عدم التّلازم بين التّرجيح والتّخيير بحسب المورد فيجوز التّفكيك بينهما فتأمّل.

ثمّ إنّ هنا أمرا ينبغي التّنبيه عليه وهو : أنّ الحديث العاشر والحادي عشر دلاّ على التّرجيح بالأحدثيّة : من جهة كشف اللاّحق عن ورود السّابق بعنوان التّقيّة كما هو صريح الأخير ، وقد استشكل شيخنا قدس‌سره فيه في مجلس البحث من وجهين :

أحدهما : من جهة طرح الأصحاب لهما حتّى في مقابل التخيير وفقد جميع المرجّحات ، إلاّ ما حكي عن بعض القدماء.

ثانيهما : من جهة المناقشة في الكشف المذكور ؛ إذ التّقيّة لا يلزم أن يكون في زمان ورود المتقدّم.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ مورد الحديثين خصوص الأحاديث المسموعة عنهم عليهم‌السلام فلعلّ عند معاصريهم عليهم‌السلام ما يدلّهم على ذلك ، كما يكشف عن ذلك ملاحظة الحديثين ؛ لأنّ الأخذ بالأحدث كان مركوزا عندهم بمقتضى الحديثين ، وقد قرّرهم الإمام عليه‌السلام على ذلك فلا يعمّان الأخبار المرويّة عنهم عليهم‌السلام فتدبّر.

(١٥) قوله قدس‌سره : ( والمراد بالمتشابه بقرينة قوله ... إلى آخره ) (١). ( ج ٤ / ٧٢ )

__________________

(١) قال المحقق آغا رضا الهمداني قدس‌سره :

٢٣٤

أقول : لا بأس باستظهار ما استفاده من الحديثين ، إلاّ أنّ تعليله بما أفاده بقوله : ( ولا معنى لاتّباع المجمل ) (١)(٢) قد يناقش فيه : بأنّه قد يختار التّشخّص أحد المعاني للمجمل من جهة موافقته لأغراضه النّفسانيّة كما يدلّ عليه قوله

__________________

« أقول : اتباع المتشابه قد يتحقق بابتغاء تأويله ، وصرفه الى بعض محتملاته ، ببعض القياسات والمناسبات الذوقية ، من غير قرينة عقلية ونقلية مرشدة اليه ، فلا ينافى ذلك كونه في حد ذاته مجملا ، فيمكن أن يكون المراد بالنهي عن اتباع المتشابه ، النهي عن حمل الكلمة التي تنصرف على وجوه ، على بعض جهاته ببعض المناسبات أو الدواعي النفسانية ، من غير قرينة عقلية أو نقلية دالة عليه ، كما أن هذه لعله هو المراد باتّباع المتشابه في قوله تعالى [ آل عمران : ٧ ] : ( فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ ـ ) ولكن الظاهر أن المقصود بالروايتين التنبيه على أن الأخبار الصادرة منهم ربما اريد منها خلاف ظاهرها ، فلا يجوز المبادرة الى اتباع ما يترائى من شيء منها في باديء الرأى ، قبل الفحص وبذل الجهد في استكشاف مرادهم ، بالتدبر والالتفات الى سائر كلماتهم ، وغيرها من القرائن والشواهد العقلية أو النقلية الكاشفة عما أرادوه بهذا الظاهر ، كما نبه عليه المصنف رحمه‌الله في ذيل العبارة ، فالمقصود في مثل هذه الروايات الحث على استفراغ الوسع في فهم معانى الروايات الصادرة عنهم ، لا الحث على عدم المبادرة الى طرح بعض الروايات ، كي يختص موردها بغير معلوم الصدور ، فلا حظ وتدبر » إنتهى. أنظر حاشية فرائد الأصول : ٥١٧.

(١) فرائد الأصول : ج ٤ / ٧٢ وفيه سقط وتحريف والصحيح كما في الأصل : ( ولا معنى للنّهي عن إتّباع المجمل ).

(٢) قال المحقق الخراساني قدس‌سره :

« لا يخفى أن الظاهر مساوقة المتشابه مع المجمل ومعنى النهي عن إتّباعه النهي عن تعيين معناه الإنسان برأيه من عند نفسه ومتابعته ، من دون شاهد وبرهان ، كما هو ديدن بعض أهالي المذاهب الفاسدة في زماننا ، بل في كلّ زمان » إنتهى. أنظر درر الفوائد : ٤٥٦.

٢٣٥

تبارك وتعالى : ( فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ )(١) الآية.

كما أنّه قد يناقش فيما أفاده بقوله : ( وهذا المعنى لمّا كان مركوزا في أذهان أهل اللّسان ... إلى آخره ) (٢) : بأنّ ظاهر قوله عليه‌السلام في الحديث : ( أنتم أفقه النّاس إذا عرفتم معاني كلامنا ) (٣) يشمل كلامهم القطعي يقينا مع أنّه بعد لزوم البناء على صدور الظّني عنهم عليهم‌السلام يعامل معه معاملة القطعي عند العقلاء جدّا.

فالغرض من الحديثين الحثّ والتّأكيد على التّأمّل في أطراف ما صدر عنهم ولو بنقل الثّقات ، والرّدع عمّا جرت عليه طريقة أهل الخلاف : من الأخذ بالظّواهر من دون تأمّل ونظر إلى ما يصرفها عن ظاهرها. فالحديثان يعمّان المتعارضين وغيرهما فتدبّر.

__________________

(١) آل عمران : ٧.

(٢) فرائد الأصول : ج ٤ / ٧٢.

(٣) بصائر الدرجات : ٣٤٩ الباب التاسع « في الائمة انّهم يتكلّمون على سبعين وجها في كلّها المخرج ويفتون بذلك » ـ ح ٦ ، معاني الأخبار : ١ ـ ح ١ ، عنه الوسائل : ج ٢٧ / ١١٧ باب « وجوه الجمع بين الاحاديث المختلفة » ـ ح ٢٧.

٢٣٦

* المقام الثالث :

التعدي عن المرجّحات المنصوصة

(١٦) قوله قدس‌سره : ( فنقول : اعلم أنّ [ حاصل ] ما يستفاد ... إلى آخره ) (١). ( ج ٤ / ٧٣ )

__________________

(١) قال السيّد المحقّق اليزدي قدس‌سره :

« اختلفوا في ترتيب المرجّحات غاية الإختلاف وأطالوا الكلام فيه بما لا ثمرة في نقل كلماتهم والنقض والإبرام فيها بعد ما عرفت : أنّ أخبار التراجيح ليست إلاّ بصدد المرجّحات لا الترتيب ، سيّما على التحقيق المحقّق عند المصنّف أيضا من التعدّي عن المرجّحات المنصوصة إلى كلّ مزيّة توجب أقربيّة أحد الخبرين إلى الصدور ، أو إلى الواقع.

نعم ، لو قيل باعتبار المرجّحات المنصوصة تعبدا لا من حيث كونها موجبة للأقربيّة كما ينسب إلى الأخباريّين ، وقيل بظهور المقبولة والمرفوعة في اعتبار الترتيب كان ما ذكره المصنّف من الترتيب قريبا في الجملة ؛ حيث انه أخرج موافقة الكتاب عن المرجّحات وجعلها من باب التعاضد.

وفيه أوّلا : أنّ جعل موافقة الكتاب والسنّة من باب التعاضد دون الترجيح لا وجه له ؛ فإنّ كلّ معاضد مرجّح في نفسه ، مضافا إلى ذكرها في عداد المرجّحات في عدّة أخبار.

وثانيا : انّه لا مزيّة لها من بين المرجّحات حتى ينفي الإشكال في اعتبارها وجوب الأخذ بها ؛ لأنّ الكتاب وإن كان قطعي السند لكنه ظنّي الدلالة فلا يخرج عن كونه ظنّيا ولذا نخصّص عموم الكتاب بالخبر الخاص المخالف لو لم يكن مبتلى بالمعارض.

نعم ، لو كان الخبر المخالف مخالفا لنص الكتاب كان الأخذ به وطرح الخبر المخالف ممّا لا

٢٣٧

__________________

إشكال فيه ، لكن هذا الفرض خارج عن مسألتنا ؛ لأنّ الخبر المخالف حينئذ معلوم الكذب أو ممّا يقطع بعدم حجّيّته » إنتهى. أنظر حاشية فرائد الأصول : ج ٣ / ٥٢٢ ـ ٥٢٣.

* وقال المحقق آغا رضا الهمداني قدس سره :

« أقول : اما الترجيح بالأعلمية والأوثقية ، فلا يستفاد من شيء منها ، عدا مرفوعة زرارة ، وهي قاصرة سندا كما نبه عليه المصنف رحمه‌الله مرارا ، والاّ لوجب الترجيح بالأحوطية أيضا ، فالحق أن المدار في تعارض الخبرين كون رواتهما من الثقات الغير المتهمين بالكذب ، كما في بعض الأخبار المتقدمة أيضا الاشارة اليه.

نعم ، لو بنينا على التعدي عن المرجحات المنصوصة ـ كما هو الأظهر ـ اتجه الأخذ بأوثق الخبرين ، سواء نشأ ذلك من أوثقية راويه وأضبطيته ، أو أضبطية كتابه ، أو غير ذلك من الأسباب المورثة للأوثقية ، بخلاف ما اذا لم يكن أحدهما أوثق من الآخر ، فلا ترجيح حينئذ وان كان راوي أحدهما في حد ذاته أعدل وأصدق ، اذ المدار حينئذ على أوثقية الرواية.

بل الذي يقوى في النظر ، أن بناء العرف والشرع في باب التراجيح على هذا ، وما ذكر في الروايات من المرجحات المنصوصة من باب التنبيه على الامور المورثة للأوثقية ، بكون مضمون أحد الخبرين هو الحكم الشرعي الواقعي.

ثم ، انا لو قلنا بوجوب الترجيح بالأعدلية ونحوها من صفات الراوي ، فلا يكاد يمكننا الترجيح بهذا المرجح في شيء من الأخبار ، فانه موقوف على احراز هذه الصفة في مجموع سلسلة الرواية ، بالمقايسة الى ما يقابله كما لا يخفى وجهه ، وهذا مما لا طريق لنا اليه كما هو واضح.

وكيف كان : ففى جملة من الأخبار جعل أحدثية أحد الخبرين من المرجحات ، ولم يتعرض له المصنف رحمه‌الله ، كما أن الأصحاب أيضا لم يلتفتوا اليه في مقام الترجيح ، وسره : أن هذا مخصوص بمن ألقى اليه الخبر المتأخر ، حيث أن تكليفه العمل به كيفما كان ، كما أن في بعض تلك الأخبار اشارة الى ذلك ، حيث قال عليه‌السلام : « انا والله لا ندخلنكم الا فيما

٢٣٨

أقول : قد يناقش فيما أفاده ؛ نظرا إلى أنّ الاستدلال للتّعدّي عن المرجّحات المنصوصة بالأصدقيّة في المقبولة فيما يأتي من كلامه ينافيه جدّا. اللهمّ إلاّ أن يحمل كلامه في إثبات التّعدي على ملاحظة المقبولة بنفسها مع قطع النّظر عن الجمع بينها وبين المرفوعة فتأمّل.

كما أنّه قد يناقش فيما أفاده بقوله : ( وأمّا التّرجيح بموافقة الكتاب والسّنة ... إلى آخره ) (١) ـ المبنيّ على كون الاعتضاد عنوانا آخر غير التّرجيح وأنّ التّقديم من جهته ممّا لا ينبغي التّأمّل فيه ـ :

أوّلا : بأنّ الأخذ بما يوافق عمومات الكتاب والسّنة يحتاج إلى دليل كالأخذ بما يوافق غيرهما من المزايا الغير المعتبرة.

نعم ، الرّجوع إلى تلك العمومات على تقدير التّوقف ، أو التّساقط ممّا لا كلام فيه ، وشتّان بين المقامين.

وثانيا : بأنّ عطف التّرجيح بالأصل ينافي تصريحه في مواضع من كلامه بعدم كونه مرجّحا ، اللهمّ إلاّ أن يحمل على القول بكونه من باب الظّن ، أو على

__________________

يسعكم » فمتى أمرنا بشيء يجب علينا اتباع أمره من غير اعتراض بمناقضته لكلامه السابق ، فانه أعرف بحكم الله ، وما يقتضيه تكليفه وتكليفنا بحسب مصلحة الوقت ، ولكن سائر المكلفين الذين يجب عليهم استفراغ الوسع في تمييز ما كان منهما مسوقا لبيان الحكم الواقعى عما عداه ، فليس عليهم الأخذ بالأحدث ، بل عليهم التحرّي والأخذ بما هو الأقرب الى الواقع باستعمال سائر المرجحات ، وكيف لا! والا لم يبق موقع للتراجيح المنصوصة في سائر الروايات ، كما لا يخفى » إنتهى. أنظر حاشية فرائد الأصول : ٥١٨ ـ ٥١٩.

(١) فرائد الأصول : ج ٤ / ٧٣.

٢٣٩

التّعبّد على القول بكون الأمر التّعبّدي مرجّحا ، أو على مقتضى الأصل بناء على كون مقتضاه التّرجيح بكلّ ما يحتمل كونه مرجّحا على ما صرّح به فيما تقدّم فتأمّل. أو على المعنى الأعمّ من المرجعيّة على تقدير التّوقّف ، أو التّساقط على ما عرفت في التّرجيح بموافقة الكتاب والسّنة فتأمّل.

(١٧) قوله قدس‌سره : ( ولأجل ما ذكر لم يذكر ... إلى آخره ). ( ج ٤ / ٧٣ )

أقول : الوجه في عدم ذكر ثقة الإسلام (١) التّرجيح بالأوصاف إنّما هو من جهة ما عرفت تحقيقه : من كون التّرجيح بها في المقبولة في مسألة الفتوى لا الرّواية. وأمّا المرفوعة فهي وإن كانت صريحة في التّرجيح بها من حيث الرّواية إلاّ أنّها غير معتبرة عنده.

وأمّا ما أفاده في وجهه : من عدم الحاجة ؛ نظرا إلى كون التّرجيح بها مركوزا في الأذهان فلا يتوقّف على التّوقيف من الشّرع.

فربّما يناقش فيه ـ بعد منعه ومن هنا ورد التّرجيح بها في الأخبار ولو في باب الحكومة والفتوى ؛ ضرورة عدم الفرق ـ : بأنّه بناء عليه كان عدم ذكر موافقة الكتاب والسّنة على ما أفاده قدس‌سره : من كون التّرجيح بها من الأمور المركوزة في الأذهان بحيث لا يحتاج إلى التّوقيف أولى.

ثمّ إنّه بناء على الاقتصار على المرجّحات المنصوصة كما هو مبنى كلام ثقة

__________________

(١) هو الفقيه الجليل سلطان المحدّثين محمّد بن يعقوب الكليني الرّازي صاحب الجامع الشريف « الكافي » المتوفى في بغداد سنة تناثر النجوم ٣٢٩ ه‍ ق في أوان بداية الغيبة التّامة أعلى الله تعالى مقامه.

٢٤٠