بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٨

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٨

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-351-4
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٨٢٠

الصّدور بالنّسبة إلى مورد التّعارض بخصوصه ، كما هو لازم النّسبة موجب للتّبعيض في الصّدور الآبي منه دليل التّعبد به ؛ لأنّ الكلام الواحد لا يحمل عليه النّقيضان. وليس مثله مثل الحديث الواحد المشتمل على فقرات وأحكام لموضوعات متعدّدة ؛ حيث إنّه يجوز الأخذ بالحديث بالنّسبة إلى بعض الفقرات مع طرحه بالنّسبة إلى بعضها ؛ لأنّه بمنزلة أحاديث متعدّدة ، وهذا بخلاف المقام ؛ فإنّ المفروض فيه الإخبار عن قضيّة واحدة فلا يحمل عليه الصّدور والعدم هذا.

ولكنّك خبير بكونه مجرّد الاستبعاد ؛ إذ المستحيل عقلا الصّدور وعدمه الواقعيّان لا الظّاهريّان مع تعدّد مورد الحكم. ومن هنا كان ظاهرهم الاتّفاق على اندراجه في الأخبار العلاجيّة فلا مناص من الالتزام بالتّبعيض الحكمي والبنائي بحسب الآثار كما هو الشّائع في الشّرعيّات هذا.

وقد يقال فيها بخصوصها : بأولويّة الطّرح ؛ من حيث إنّ لازم الجمع فيه هو الحكم بالإجمال الدائمي في مورد التّعارض ؛ فيلزمه حقيقة ترك العمل بهما فينافيه التّعبّد بالصّدور ، فكيف يكون دليله دليلا عليه؟ والقول بكون ثمرته الإجمال ونفي الثّالث والرّجوع إلى الأصل الموافق لأحدهما وإلاّ فالتّخيير العقلي نظير دوران الأمر بين المحذورين واقعا في المسألة الفقهيّة قد عرفت ما فيه هذا.

وقد أشرنا إلى أنّ عبارة « الكتاب » غير خالية عن الإجمال : من حيث الحكم بأولويّة الجمع في خصوص الصّورة أو الطّرح وإن كان ظاهرا في اختيار عدم أولويّة لأحدهما على الآخر أخيرا.

فقد ظهر ممّا ذكرنا كلّه : الوجه للقول بعدم ترجيح لأحد من الجمع والطّرح على صاحبه بالنّظر إلى القاعدة ، كما أنّه ظهر منه وجوه سائر الاحتمالات

١٠١

والوجوه فلا حاجة إلى إطالة الكلام بإفراد كلّ بعنوان هذا بعض الكلام فيما يقتضيه القاعدة بالنّظر إلى دليل كلّ من التّعبّد بالصّدور والدّلالة.

وأمّا الكلام فيما يقتضيه الدّليل الخارجي في الصّورة المذكورة وهو الموضع الثّاني فملخّصه :

أنّه ليس هناك دليل عام يقضي بأولويّة الجمع فلا بدّ أن يتّبع الشّاهد الخارجي في الموارد الشخصيّة والتّشخيص بنظر الفقيه المستنبط ، وأمّا الطّرح فالدّليل عليه ما دلّ على لزوم التّرجيح والتّخيير كلّ في مورده في جميع صور التّعارض الّتي ليس فيها شاهد داخلي ولا خارجي على التّصرّف في أحدهما أو كليهما كما هو المفروض. وبعبارة أخرى : فيما كان الدّليلان متعارضين ومتنافيين بنظر أالعرف ، وهذا ما أفاده بقوله في « الكتاب » : ( بل الظّاهر هو الطّرح ... إلى آخره ) (١).

وحاصل ما يستفاد من « الكتاب » وغيره في ترجيح الطّرح على الجمع من جهة الدّليل الخارجي يرجع إلى وجوه :

الأوّل : سؤال الرّواة عن حكم المتعارضين من الأخبار فيما ورد في باب العلاج بالتّرجيح والتّخيير مع ما هو المركوز في أذهانهم بل ذهن كلّ أحد : من وجوب العمل بالدّليل الشّرعي مهما أمكن ، فلو لم يفهموا عدم الإمكان لم يكن معنى لتحيّرهم المحوج إلى السّؤال سيّما بلفظة أي الظّاهرة في عدم كون المورد ممّا يعمل بهما معا ، وحمل مورد السّؤال على عدم إمكان الجمع عقلا ولو بضرب

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٤ / ٢٣.

١٠٢

من التّأويل كما ترى ؛ فإنّه حمل على النّادر إن لم يكن حملا على المعدوم.

الثّاني : الأجوبة الّتي وردت في الأخبار المذكورة ، فإنّه لم يقع فيها إلاّ الجواب بالطّرح تعيينا أو تخييرا.

وأمّا قولهم عليهم‌السلام في بعض الأخبار : ( أنتم أفقه النّاس إذا عرفتم معاني كلامنا ... إلى آخره ) (١) ، أو ( أنّ أمر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كأمر القرآن فيه ناسخ ومنسوخ ومحكم ومتشابه ) (٢) الحديث ، فليس منافيا لما ذكر إن لم يكن مؤيّدا ؛ فإنّ الغرض منه الحثّ والتّأكيد على التّأمّل في وجوه دلالة الكلام من الدّاخل والخارج وعدم حمله على ما يفهم منه في باديء النّظر أو قبل ملاحظة القرائن الخارجيّة ، وهذا ليس محلاّ لإنكار واحد فلو دلّ على الجمع كما ستقف عليه فإنّما يدلّ عليه في الفرض الخارج عن محلّ الكلام.

الثّالث : الإجماع العملي من الخاصّة بل جميع علماء الإسلام من زمن الصّحابة إلى زماننا هذا ؛ فإنّهم لم يزالوا يطرحون أحد المتعارضين تعيينا أو تخييرا فلو كان الجمع ولو بضرب من التّأويل البعيد مقدّما على الطّرح لما سلكوا هذا المسلك واضطراب كلام الشّيخ لا يقدح فيه مع كون عمله على طبق عملهم ، بل

__________________

(١) بصائر الدرجات : ٣٤٩ الباب ٩ في الأئمة عليهم‌السلام « انهم يتكلمون على سبعين وجها في كلها المخرج ويفتون بذلك » ـ ح ٦ ـ ومعاني الأخبار : ٢ ـ ح ١ ، عنه الوسائل : ج ٢٧ / ١١٧ باب « وجوه الجمع بين الأحاديث المختلفة » ـ ح ٢٧.

(٢) الكافي الشريف : ج ١ / ٦٣ باب « اختلاف الحديث » ـ ح ١ ، عنه الوسائل : ج ٢٧ / ٢٠٦ باب « عدم جواز استنباط الأحكام النظرية من ظواهر كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المروي من غير جهة الأئمة عليهم‌السلام ... » ـ ح ١.

١٠٣

ولو لم يكن بعد انتهاء عملهم إلى زمان الحجّة ؛ فإنّ الإجماع العملي ليس كالإجماع القولي حتّى يقدح فيه مطلق الخلاف على بعض وجوه تقريره كاللّطف أو الحدس في وجه ، أو مخالفة مجهول النّسب على طريقة الدّخول بعد فرض انتهاء العمل إلى زمان المعصوم واجتماع شروط التّقرير.

نعم ، فيما يجعل الإجماع العملي كاشفا عن الإجماع القولي واتّفاق المجمعين في الآراء جرى فيه ما يجري في الإجماع القولي.

وأمّا جمع الشّيخ رحمه‌الله بين الأخبار المتعارضة على وجه يقتضي ابتناءه على مجرّد الإمكان العقلي فليس مبنى عمله قطعا ، بل الوجه فيه ما ذكره في أوّل كتابه :

من ابتنائه على مجرّد الاحتمال بحسب الواقع لئلاّ يشكل الأمر على ضعفاء النّفوس من كثرة ما يشاهدون من التّعارض بين الأخبار.

وأمّا ما ذكره الشّيخ ابن أبي جمهور : من دعوى الإجماع على تقديم الجمع على الطّرح مهما أمكن ، فقد عرفت : منع ظهوره في الإمكان العقلي ، مع أنّه على تقدير الظّهور لا يصدّق في دعواه ؛ إذ غاية ما يسلّم كون المسألة خلافيّة. وأمّا الإجماع على تقديم الجمع بقول مطلق على الطّرح فممنوع جدّا فتأمّل (١).

الرّابع : لزوم الهرج والمرج في الفقه وإحداث فقه جديد يعلم بعدم ثبوته من الشّارع واللّزوم بعد ملاحظة كثرة المتعارضات وفتاوى الأصحاب في

__________________

(١) الوجه في التأمّل : عدم الجزم بالإجماع العملي مع ما يشاهد من مسلكهم في مقام التعرض في الفقه ؛ فإن الظاهر من غير واحد تقديم الجمع على الطرح مطلقا فتدبّر. منه دام ظلّه العالي.

١٠٤

مواردها ظاهر لا يحتاج إلى البيان فضلا عن البرهان فتدبّر. هذا بعض الكلام في غير الصّورة الأولى من الصّور المتقدّمة.

وأمّا الصّورة الأولى وهي : ما كان لأحد المتعارضين قوّة على الآخر ، فحاصل القول : فيها أنّ القوّة لو كانت بالنّصوصيّة سواء كان بالعموم والخصوص والإطلاق والتّقييد فيما كان الخاص أو المقيّد نصّين بحسب الدّلالة أو غيرهما فلا إشكال في أولويّة الجمع في الفرض بل خروجه عن عنوان التّعارض حقيقة لما أسمعناك فيما سبق : من كون النّصّ الظّني حاكما على الظّاهر ، وإن كان قطعيّا من الجهات الأخر فالتّعرض له في المقام وإدراجه في باب التّعارض وجعله من أقسام الجمع كما في « الكتاب » من باب التّسامح والتّوسع حقيقة.

ولو كانت بالظّهور فظاهر المشهور بل صريحهم ـ كما هو الحقّ ـ تقديم الجمع والتّصرّف في دلالة الظّاهر بقرينة الأظهر على التّرجيح والتّخيير وإن كان الجمع على الوجه المزبور راجعا إلى نوع من التّرجيح وهو التّرجيح بحسب الدّلالة ومرجع تقديمه حقيقة إلى ما سيتلى عليك : من تقديم التّرجيح بحسب الدّلالة على سائر وجوه التّراجيح إلاّ أنّ المطلب لا يوهن بتغيير العنوان وظاهر الشّيخ قدس‌سره في « العدّة » في بيان التّرتيب بين المرجّحات إنكار ذلك وإن تسالم على تقديمه على التّخيير وربّما يستظهر من المحقّق القمّي قدس‌سره أيضا في باب حمل العام على الخاص ، بل الجمود على ظاهر كلام الشّيخ قدس‌سره يعطي ذهابه إلى تقدّم التّرجيح في القسم الأوّل أيضا أي : النّصّ والظّاهر ، لكن لا بدّ من حمله على مفروض البحث ؛ حيث إنّ جلالة شأنه وعلوّ مقامه في العلم يمنع من المخالفة في القسم الأوّل فارجع إلى كلامه المنقول في « الكتاب » في المقام الثّاني أي : التّرجيح ، وكذا

١٠٥

إلى ما يحكيه عن المحقّق القمّي قدس‌سره وإن أمكن توجيه كلام المحقّق القمّي رحمه‌الله بما لا يخالف المشهور في مفروض البحث على ما ستقف عليه إن شاء الله تعالى في ذلك المقام.

ثمّ إنّ الوجه في تقديم التّصرّف في الظّاهر بقرينة الأظهر على طرح الأظهر صدورا للتّرجيح أو التّخيير مع عدم كونه كالنّص الظنّي الصدور ومن حيث إمكان التصرّف في دلالته وإبقاء الظّاهر على ظهوره بخلاف النّص ؛ حيث إنّه لا معنى للتّعبّد بصدوره إلاّ جعله قرينة للظّاهر هو حكم العرف وبنائهم على خروج الفرض عن الأخبار العلاجيّة : من جهة عدم التّحيّر الموجب للسّؤال بعد بنائهم على جعل الأظهر قرينة للظّاهر فهو ملحق بالنّص حكما.

ومن هنا ذكر شيخنا الأستاذ العلاّمة فيما علّقه على المقام : أنّه بعد إحراز التّرجيح العرفي للأظهر يصير كالنّص ويعامل معه معاملة الحاكم ؛ لأنّه يمكن أن يصير قرينة للظّاهر ولا يصلح الظّاهر أن يصير قرينة له ، بل لو أريد التّصرف فيه احتيج إلى قرينة أخرى من الخارج فيدفع بالأصل فالتّعبد بصدور الأظهر بعد هذه الملاحظة لا معنى له ، إلاّ رفع اليد به عن الظّاهر كما عرفته في معنى التّعبّد بالنّص.

فإن شئت قلت : إنّ التّصرف في الأظهر بعد فرض عدم قيام القرينة عليه من الخارج غير ممكن عرفا فيصير كالحاكم بالنّسبة إلى المحكوم كدليل نفي الحرج بالنّسبة إلى أدلّة تشريع الأحكام العامّة هذا. ويمكن اقتباس حكم المقام ممّا عرفت الإشارة إليه ممّا ورد في الحثّ على التّأمّل فيما يرد عنهم عليهم‌السلام وعدم الجمود على ما يفهم من كلماتهم في ابتداء النّظر إليها هذا. وستقف على زيادة توضيح لذلك منّا ومن شيخنا قدس‌سره عند الكلام في باب التّراجيح.

١٠٦

ثمّ إنّ الوجه فيما أفاده قدس‌سره في حكم ما يحصل الجمع بالتّصرف في أحدهما مع تساويهما في الظّهور ـ في ذيل التّحقيق الّذي عليه أهله بقوله : ( وأمّا لو لم تكن لأحد الظّاهرين مزيّة على الآخر فالظّاهر أنّ الدّليل في الجمع ... إلى آخره ) (١)(٢) الظّاهر في كون الجمع فيما يتوقّف على التّصرّف فيهما وتأويلهما أولى منه في المقام ـ : هو أنّ حاصل الجمع في المقام هو الحكم بإجمال المتعارضين والرّجوع إلى الأصل غالبا أو دائما من جهة عدم تعيّن وجه التّصرّف ، ومن المعلوم عدم كونه عملا بشيء منهما فلا معنى للتعبّد بصدورهما لترك العمل بهما على ما أسمعناك سابقا. وهذا بخلاف الجمع فيما يتوقّف على تأويلهما معا ؛ فإنّ الغالب فيه تعيّن

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٤ / ٢٧.

(٢) قال المحقق الخراساني قدس‌سره :

« الظاهر ان الدليل جار فيما إذا تعيّن عرفا ما يصرف إليه احدهما بحيث صار ظاهرا فيه بعد صرفه عن ظاهره ، دون ما يصرف اليه الآخر ما لم يقم معيّن من الخارج ، اذ الظاهر أن يكون الأوّل بحسب العرف متعينا للتأويل ما لم يقم قرينة من الخارج على تأويل الآخر ، فيكون نفس صدورهما قرينة على التأويل ، والجمع بينهما بصرف الأوّل عن ظاهره وابقاء الآخر على حاله ، ولا يوجب الجمع للاجمال الموجب للتخير الباعث لاندارجهما تحت الجواب والسؤال في الأخبار العلاجية.

نعم الظاهر عدم جريان الدليل فيما اذا لم يكن كذلك ، واحتيج في تأويل واحد منهما بالخصوص الى معيّن من الخارج ، سواء كان ذلك لعدم تعيّن ما يصرف اليه في واحد منهما ام لتعيّنه في كليهما فيشملهما الأخبار العلاجية ، بناء على ان الظاهر شمولها لكل دليلين لا يساعد العرف على جمع بينهما ، ويبقى متحيّرا ويلتمس عليه قرينة من الخارج » إنتهى.

أنظر درر الفوائد : ٤٣٨.

١٠٧

بعض الاحتمالات : من حيث كونه أقرب فيرجع إلى العمل بهما ولو بالأخذ بخلاف ظاهرهما ؛ فإنّه نوع عمل بالخبر جزما.

وبما ذكرنا ينبغي تحرير وجه الأولويّة بل تحرير المقام مطلقا لا بما أفاده في « الكتاب » ؛ فإنّه لا يخلو عن مناقشة ؛ فإنّ العمل بالأصل المطابق لأحدهما ليس عملا بشيء منهما ؛ وإلاّ كان العمل بالخبر المطابق للقياس عملا بالقياس أيضا وهو كما ترى ؛ ضرورة أنّ العمل بالشّيء عبارة عن الاستناد إليه والعمل بالأصل المطابق استناد إلى الأصل لا إلى الخبر ، اللهمّ إلاّ من باب التّوسّع والمسامحة على ما أسمعناك مرارا في مطاوي كلماتنا. وكذا ما أفاده بالنّسبة إلى العمل بأصالتي الحقيقة تخييرا فإنّ معناه على القول به ـ وإن كان فاسدا كما ضعّفه ـ هو جواز الأخذ بكلّ من الظّاهرين وجعل المأخوذ قرينة للمطروح فهو عمل بالنّسبة إلى دليل التّعبّد بالصّدور حقيقة في كلا الخبرين فأين الطّرح حتّى يجعل مرجع الجمع إلى الطّرح؟ فتدبّر.

وأمّا الاستدراك بقوله : ( نعم ، يظهر الثّمرة في أعمال المرجّحات السّنديّة ... إلى آخره ) (١) فالغرض منه ـ بعد الحكم بأول الجمع إلى الطّرح ونفي الثّمرة بينهما من هذه الجهة ـ إثبات الثّمرة بين الجمع والطّرح لا إثبات الثّمرة لدليل التّعبّد بالصّدور على تقدير الجمع ، كيف! والتّرجيح بالصّدور ينافي الجمع كما هو واضح.

نعم ، ينبغي جعل الثّمرة بينهما الرّجوع إلى المرجّحات مطلقا لا خصوص ما أفاده من المرجّحات السّنديّة ، إلاّ أن يحمل ذكره على المثال ، أو على المفروض في

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٤ / ٢٧.

١٠٨

كلامه في المقام وإن كان الفرض مبنيّا على المثال أيضا فتأمّل.

وأمّا ما أفاده من الاستدراك في مقام توهين الرّجوع إلى الأخبار العلاجيّة والحكم بتقديم الطّرح بعد ثبوت التّلازم في مفاد الأخبار بين التّرجيح والتّخيير موردا وإن افترقا بوجود المرجّح وعدمه فيكون الجمع بهذه الملاحظة أولى من الطّرح في هذا القسم من الجمع فيما يتوقّف على التّصرّف فيهما بقوله قدس‌سره : ( لكن يوهنه : أنّ اللاّزم حينئذ بعد فقد المرجّحات ... إلى آخره ) (١).

فربّما يناقش فيه أيضا : بأنّه على تقدير تسليمه يسلّم فيما كانت النّسبة العموم من وجه أو العموم والخصوص في الجملة لا فيما كانت التّباين ؛ فإنّه لم يعهد من أحد نفي التّخيير من أحد مع فقد المرجّح في الفرض مع إثباته فيما يتوقّف الجمع على تأويلهما.

ومنه يظهر : أنّ التّفصيل المبنيّ على الاستبعاد حقيقة يجري في العموم والخصوص أيضا ، إذ على تقدير التّكافؤ من حيث الدّلالة لو بني على الطّرح ترجيحا أو تخييرا مع كون المأخوذ الخاصّ لزم منه طرح العامّ من حيث الصّدور أو جهته في الجملة لا مطلقا فيلزم التّبعيض لا محالة كما هو ظاهر.

__________________

(١) نفس المصدر : ج ٤ / ٢٨.

١٠٩

* تنبيهات القاعدة

وينبغي التّنبيه على أمور وإن تقدّمت الإشارة إليها.

الأوّل : أنّ عدّ تقديم الأظهر على الظّاهر من أقسام الجمع لا ينافي ما تسالموا عليه : من كونه من التّرجيح بحسب الدّلالة فيكون نوعا من الطّرح بقول مطلق ؛ حيث إنّ المراد من الجمع على ما عرفت الإشارة إليه هو الأخذ بدليل الصّدور من المتعارضين وإن استلزم الطّرح : من حيث الدّلالة لمكان التّرجيح فلا تنافي بينهما أصلا.

الثّاني : هل المراد بالنّصوصيّة في المقام وغيره هو خصوص كون اللّفظ صريحا في المراد بحسب الذّات أو يعمّه وما كان كذلك بملاحظة الأمر الخارجي ـ ككون بعض إفراد العام متيقّن الإرادة بملاحظة الخارج على تقدير صدور العام كالعدول من قوله : « أكرم العلماء » والفسّاق ، من قوله : « لا تكرم العلماء » ؛ فإنّ نسبة العام في المثال إلى أفراده متساوية من حيث الذّات لا فرق بينها بحسب وضع العام المذكور ، وإلاّ لم يعقل الفرق بينها بحسب تعلّق الأمر بالإكرام والنّهي عنه ، وإنّما حصل الفرق من تعلّق الأمر الخاص والنّهي المضادّ له بحسب الملاحظة الخارجيّة ، وعذرة المأكول من قوله عليه‌السلام : ( لا بأس ببيع العذرة ) (١) وغير المأكول

__________________

(١) الكافي الشريف : ج ٥ / ٢٢٦ باب « يجامع فيما يحل الشراء والبيع منه وما لا يحل » ـ ح ٣ والتهذيب : ج ٦ / ٣٧٢ باب « المكاسب » ـ ح ٢٠٠ ، والاستبصار : ج ٣ / ٥٦ باب « النهي عن

١١٠

من قوله عليه‌السلام : ( ثمن العذرة سحت ) (١) فإنّ الفرق بينهما إنّما هو بملاحظة اختلاف المحمول والخارج لا من حيث الذّات.

ومن هذا القبيل تيقّن إرادة الجواز من الأمر والكراهة من النّهي وهكذا ـ وجهان بل قولان كما يظهر لمن راجع كلماتهم في الفقه ؛ من حيث إنّ تيقّن الإرادة من الخارج على تقدير الصّدور لا يجدي صارفا عن ظهور اللّفظ وقرينة على إرادة خلاف الظّاهر منه بحكم العرف ، بل يحتاج إلى قرينة أخرى فيدخل في تعارض الظّاهرين فيتوقّف رفع اليد عن ظاهر كلّ منهما بنصّ الآخر على ثبوت حكومة دليل الصّدور على دليل الظّهور بقول مطلق.

ويؤيّده بل يدلّ عليه : ما ورد في باب علاج تعارض الأخبار بالتّرجيح أو التّخيير ؛ فإنّ حمله على غير المفروض يوجب خروج كثير من الموارد منه بل الأكثر ؛ ضرورة قلّة ما لا يوجد فيه هذا المعنى من المتعارضين ، ومن حيث إنّ الأخذ بصدورهما في الفرض لا يوجب رفع اليد عن الظّاهر من غير قرينة بعد تيقّن الإرادة ونصوصيّة كلّ منهما ولو بملاحظة الخارج فكلّ من العامّين بمنزلة الخاصّ بالنّسبة إلى الآخر فيما هو نصّ فيه فيندرج في الجمع المقبول لا المردود.

والّذي اختاره شيخنا الأستاذ العلاّمة قدس‌سره في « مكاسبه » ومال إليه في

__________________

بيع العذرة » ـ ح ١ ، عنهما الوسائل : ج ١٧ / ١٧٥ باب « « حكم بيع عذرة الانسان وغيره وحكم الابوال » ـ ح ٢.

(١) التهذيب : ج ٦ / ٣٧٢ باب « المكاسب » ـ ح ٢٠١ ، والاستبصار : ج ٣ / ٥٦ باب « النهي عن بيع لعذرة » ـ ح ٢ ، عنهما الوسائل : ج ١٧ / ١٧٥ باب « حكم بيع عذرة الإنسان وغيره وحكم الابوال » ـ ح ١. هذا والموجود في النّص : « ثمن العذرة من السّحت ».

١١١

مجلس البحث هو الأوّل ؛ ولا يخلو عن قوّة ؛ من حيث إنّ العلم بالإرادة إنّما حصل بملاحظة دليل الصّدور والتّنافي لا من اللّفظ بنفسه ولعلّنا نتكلّم فيه زيادة على هذا بعد ذلك.

ومنه يظهر : النّظر فيما أفتى به بعض الأصحاب تبعا للشّيخ قدس‌سره من جواز بيع عذرة المأكول جمعا بين ما دلّ على جواز بيع العذرة وما دلّ على المنع منه.

الثّالث : أنّك قد عرفت : خروج مورد وجود الشّاهد للجمع عن محلّ الكلام في القاعدة المشهورة من غير فرق بين ما يتوقّف الجمع على تأويل المتعارضين ، أو تأويل أحدهما فقد يقوم هذا الشّاهد من الخارج ، وقد يحصل بملاحظة النّسبة بين المتعارضين فيما كان التعارض بين أزيد من دليلين ؛ فإنّه إذا وقع التّعارض بين العامّين المتباينين كقوله : « أكرم العلماء » و « لا تكرم العلماء » مثلا ، وورد ما يوجب تخصيص أحدهما : من حيث كونه أخصّ منه كقوله : « لا تكرم فسّاق العلماء » لأنّه أخصّ من العامّ الأوّل يصير العام المخصّص أخصّ من العام الغير المخصّص فيجب الجمع بينهما بالتّخصيص فيحكم بإرادة خصوص الفسّاق من قوله : « لا تكرم العلماء » وهذا مع وضوحه نشرح لك القول فيه عند الكلام في تعارض أزيد من دليلين إن شاء الله تعالى.

١١٢

ما فرّعه الشهيد الثاني على قاعدة الجمع

(٤) قوله قدس‌سره : ( بقي في المقام : أنّ شيخنا الشّهيد الثّاني فرّع ... إلى آخره ). ( ج ٤ / ٢٩ )

في بيان إجراء قاعدة الجمع في البيّنات

أقول : أراد قدس‌سره بهذا التّكلّم في القاعدة المعروفة في « البيّنات » وبيان حالها بالنّسبة إليها بعد الفراغ عن التّكلّم فيها في الأخبار وإن كان خارجا عن محلّ الكلام تبعا لثاني الشّهيدين ( قدس أسرارهما ) ؛ حيث إنّه عمّمها لتعارض البيّنات ، بل جعل جريانها فيه من فروع القاعدة.

ثمّ إنّه لا إشكال بل لا خلاف ظاهرا إلاّ عن بعض في كون التّنصيف ميزانا للقضاء في الجملة كالبيّنة ، واليمين ، والنّكول ، والقرعة في الجملة. إنّما الكلام في أنّ مقتضى القاعدة فيما يقبل التّنصيف بعد فقد ما اتّفقوا على كونه ميزانا من البيّنة السّليمة ، أو الرّاجحة ، واليمين ، والنّكول هو الرّجوع إلى القرعة ، أو التّنصيف.

كما أنّه لا إشكال في أنّ محلّ الكلام فيما أقام كلّ من المتداعيين بيّنة على طبق دعواه ، وإلاّ فيخرج عن مفروض البحث ومورد التّفريع وكلام الشّهيد رحمه‌الله « دار تداعياها وهي في يدهما أو لا يد لأحد عليها فأقاما بيّنة » (١) وكلامه وإن كان مطلقا إلاّ أنّ من الواضح كون محلّ كلامه فيما تعادلتا من حيث المرجّحات

__________________

(١) تمهيد القواعد : ٢٨٤.

١١٣

المعتبرة في باب تعارض البيّنات ولا يعمّ صورة وجود المرجّح ، كما هو شأن القاعدة في تعارض الأخبار على ما عرفت : من شمولها لصورة وجود المرجّح فلا يحتاج إلى التّقييد الّذي ذكره في « القوانين » معترضا عليه حيث قال فيه ـ بعد نقل كلام الشّهيد ـ ما هذا لفظه :

« والتّحقيق فيه : أنّ ذلك يصحّ بعد ملاحظة التّراجيح في البيّنتين وانتفائها وتعادلهما ، وكيف كان : يمكن العلاج في ذلك التّفريع ؛ لإمكان استناد التّنصيف إلى ترجيح بيّنة الدّاخل فيعطي كلّ منهما ما في يده بترجيح أو بيّنة الخارج فيعطي كلّ منهما ما في يد الآخر ؛ إذ دخول اليد وخروجها أعمّ من الحقيقي والاعتباري ، ويمكن استناده إلى التّعارض والتّساقط والتّحالف فينصف بعد التّحالف فيجري مجرى ما لو ثبت يداهما عليها ولم يكن هناك بيّنة كما هو المشهور » (١). انتهى كلامه رفع مقامه.

وأنت خبير : بأنّ ما أورده على تفريعه من المناقشة في محلّه بالنّسبة إلى الفرض الأوّل سواء قلنا بالتّرجيح الحقيقي بالدّخول والخروج أو المسامحي من حيث كون بيّنة الدّاخل بمنزلة الأصل بالنّسبة إلى بيّنة الخارج ، أو قلنا بعدم سماع البيّنة من الدّاخل أصلا ، فلا يعارض بيّنة الخارج وإن كان خلاف صريح فرض الشّهيد وظاهر المحقّق القمّي ( قدس أسرارهما ).

ومن هنا ذكر شيخنا الأستاذ العلاّمة قدس‌سره : أنّه لو خصّ المثال بالفرض الأخير لم يرد عليه ما ذكره المحقّق القمّي وإن لم يخل عن مناقشة.

__________________

(١) قوانين الأصول : ج ٢ / ٢٧٤.

١١٤

نعم ، لو قيل : بأنّ يد كلّ منهما على تمام الدّار ـ كما اختاره شيخنا قدس‌سره في « جواهر الكلام » (١) وبعض أفاضل معاصرينا ـ لم يتوجّه عليه ما ذكره المحقّق القمّي ، لكنّه بمعزل عن التّحقيق عندنا وعند الأستاذ العلاّمة ( دام ظلّه العالي ) وعند المحقّق القمّي كما فصّلنا القول فيه في باب « القضاء » (٢) و « الغصب في غير تعاقب الأيادي » كما هو المفروض ؛ فإنّ المعقول هو اليد التّامّة الواحدة على مجموع الدّار المتقوّمة بهما فيلزم أن يكون لكلّ منهما يد على النّصف المشاع.

ثمّ إنّ المراد من المناقشة الّتي ذكرها الأستاذ العلاّمة ( دام ظلّه ) في الفرض الأخير على ما صرّح به في مجلس البحث : هو كون التّنصيف فيه من جهة تساقط البيّنتين بعد التّكافؤ وعدم المناص عن التّنصيف لا من جهة الجمع بين البيّنتين بالتّبعيض في أدلّة التّصديق فيكون الفرض كما إذا لم يكن بيّنة أصلا هذا.

وقد يتوهّم متوهّم : أنّ ما ذكره المحقّق القمّي قدس‌سره من المناقشة بقوله : ( ويمكن استناد التّنصيف ... إلى آخره ) (٣) هو بالنّسبة إلى الفرض الأخير فيورد على شيخنا من حيث لا يشعر.

ولكنّك خبير : بفساد التّوهم المذكور ؛ فإنّ كلامه صريح في اختصاص ما ذكره بوجود اليد منهما كما يدلّ عليه ما وجه التّنصيف به بعد تساقط البيّنتين ، وكيف كان : لا إشكال في توجّه المناقشة إلى كلّ من المثالين وإن كان المثال الثّاني ـ من حيث كونه أبعد عن الإيراد والمناقشة ـ أولى. ومن هنا ذكر شيخنا ( دام ظلّه )

__________________

(١) جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام : ج ٤٠ / ٤٠٣ وج ١٤ / ٢٣٧ دار المؤرخ العربي.

(٢) كتاب القضاء : ٣٦٠ ط دار الهجرة قم.

(٣) قوانين الأصول : ج ٢ / ٢٧٩.

١١٥

أنّ الأولى التّمثيل به وبما أشبهه (١).

نعم ، ربّما يتوهّم المتوهّم : كون الدّعوى بنفسها أمارة شرعيّة على الملكيّة فيكون الدّعويان بمنزلة يدين فلا فرق بين وجود اليد وعدمه ، فالتّرجيح بالدّخول والخروج على تقدير عدم اليد أيضا فيورد على الأستاذ العلاّمة ( دام ظلّه ) بهذه الملاحظة.

وأنت خبير بوضوح فساده ؛ فإنّ الدّعوى فيما يكون أمارة شرعيّة ـ على ما حقّق في باب القضاء ـ هي الدّعوى المأخوذة « بشرط لا » أي : بشرط عدم المعارض ، لا الدّعوى « لا بشرط » وبأيّ وجه كانت هذا. مضافا إلى عدم تعقّل معنى للدّخول والخروج بهذه الملاحظة كما هو واضح.

في أن تحكيم أدلّة الصّدور على أدلة الظواهر

غير جار في البيّنات

وكيف كان : لا بدّ من صرف الكلام إلى أصل المطلب فنقول : قد عرفت : أنّ ظاهر ثاني الشّهيدين بل صريحه ـ بعد التّأمّل بملاحظة التّفريع وصريح بعض من تأخّر ـ اتّحاد الجمع حكما بل مدركا في الأخبار والبيّنات.

ولكنّك خبير : بأنّ ما ذكروه دليلا للقاعدة بالنّسبة إلى الأخبار : من تحكيم أدلّة التّعبّد بالصّدور على دليل التّعبّد بالظّهور غير جار بالنّسبة إلى البيّنات جزما ؛

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٤ / ٢٩.

١١٦

ضرورة عدم جواز جعل إحدى البيّنتين بملاحظة دليل اعتبارها قرينة للأخرى وصارفة عنها وكاشفة عن مرادها من غير فرق بين كونهما نصّين أو ظاهرتين ، وإن كان المفروض عدم الشّك في مراد البيّنتين وقيام كلّ واحد على طبق الدّعوى على سبيل الجزم واليقين ، وهذا بخلاف الخبرين ؛ فإنّهما وإن حكيا وصدرا عن حجّتين ، إلاّ أنّهما بمنزلة كلامين لشخص واحد لا يحتمل في حقّه السّهو والنّسيان والغفلة والخطأ والتّناقض في القول ، وإلاّ فالشّخص الواحد أيضا قد يرجع عن قوله بأحد الأسباب المجوّزة في حقّ غير الحجّة.

ومن هنا يصحّ جعل أحد الخبرين صارفا عن ظاهر الآخر وقرينة للمراد عنه بعد البناء على صدورهما كما في قطعيّ الصّدور ، فالجمع في البيّنات لا بدّ من أن يلاحظ بالنّسبة إلى أدلّة التّصديق واعتبارها فيصدّق كلّ من البيّنتين بالنّسبة إلى بعض ما شهدت عليه من جهة مزاحمتها مع الأخرى فهو بمنزلة الطّرح في العامّين من وجه على ما عرفت الإشارة إليه.

ومن هنا يجري الجمع بهذا المعنى في النّصين أيضا على ما سبق القول فيه في معنى الجمع عند الكلام في المراد من الألفاظ الواقعة في القاعدة ، إذن لا بدّ من التماس وجه آخر للجمع في البيّنات غير ما عرفته في وجه الجمع في الأخبار ؛ لاختلاف المراد من الجمع في الموضعين. ومن هنا ذهب غير واحد إلى عدم ثبوت القاعدة في الأخبار ، ويقال بثبوت الجمع في البيّنات بمقتضى القاعدة وإن قيل بعدم ثبوته في الأخبار فالمسألة ذات وجوه.

١١٧

ما يستدلّ به للجمع في البيّنات والمناقشة فيه

وكيف كان : يستدلّ للجمع في البيّنات بوجهين :

أحدهما : استفادته من جملة من الأخبار الحاكمة بالتّنصيف في الموارد الخاصّة بمعونته تنقيح المناط منها.

ثانيهما : كون التّنصيف في البيّنات والعمل بكلّ من البيّنتين ـ في بعض ما شهدت به وأخبرت عنه ـ جمع بين الحقّين من غير ترجيح بالدّواعي النّفسانيّة الغير المرجّحة شرعا وتخيير لا دليل عليه في وجه ومناف لشرع الفقهاء في وجه آخر.

فإن شئت قلت : إنّ الأمر دائر بين أمور كلّها باطلة سوى التّنصيف ؛ لأنّ الأمر لا يخلو : من أنّه إمّا أن يحكم بترك العمل بالبيّنتين ، أو يحكم بالعمل بإحداهما المعيّن ، أو يحكم بإحداهما لا على التّعيين بمعنى التّخيير ، أو يحكم بالتّنصيف بالمعنى الّذي عرفته. وغير الأخير باطل فيتعيّن ؛ إذ لا وجه آخر بعد فرض تعارضهما وعدم إمكان العمل بكلّ واحدة في تمام المشهود به.

أمّا بطلان الأوّل : فلأنّه مناف لتشريع القضاء وموجب لإبطال الحقوق.

وأمّا بطلان الثّاني : فلفرض مساواة البيّنتين من حيث المرجّحات المعتبرة شرعا وبطلان التّرجيح بغيرها بعد فرض عدم اعتبارها فيؤول الأمر حقيقة إلى التّرجيح والتّعيين من غير مرجّح ومعيّن وهو واضح البطلان.

وأمّا الثّالث : فلأنّ تخيير الحاكم لا دليل عليه في المقام ؛ لعدم كون التّعارض

١١٨

والاشتباه في الحكم الشّرعي ولو في طريق فصل الخصومة والقضاء ، وتخيير المتخاصمين مناف لتشريع القضاء ونقض لغرضه وموجب للهرج والمرج ، بل أشدّ منه ؛ لأنّ كلاّ من المتخاصمين يختار العمل ببيّنته هذا.

وأنت خبير بما في الوجهين :

أمّا الأوّل : فلأنّه قياس لا نقول به ؛ فإنّ القطعي منه ممنوع ، والظّني منه على تقدير تسليمه يرجع إلى القياس الممنوع.

وأمّا الثّاني : فلأنّه استحسان واعتبار محض فيرجع إلى ما يمنع منه ، وأمّا ما ذكر في تقريبه : من قضيّة التّرديد والدّوران ففيه : أنّ الحكم بتساقطهما والرّجوع إلى ميزان آخر من اليمين وغيرها لا يوجب محذورا أصلا ، مع أنّ هنا أمرا آخر غير ما ذكر وهو الرّجوع إلى القرعة بمقتضى عموم ما قضي بها لكلّ أمر مشكل.

وممّا ذكرنا كلّه يظهر : أنّه يمكن القول بالجمع بين البيّنات بالنّظر إلى الوجهين وإن قيل بعدمه في الأخبار ؛ نظرا إلى ما عرفت : من تضعيف تحكيم أدلّة الصّدور على دليل الظّهور ، كما أنّه يمكن العكس ، وأمّا توهين الجمع في البيّنات بلزوم التّبعيض في الصّدق والكذب بالنّسبة إلى خبر واحد ، فقد عرفت : أنّه استبعاد محض ، فلو كان هناك دليل عليه لقلنا به كما قلنا فيما قام الدّليل فيه على التّنصيف ، وقلنا به في العامّين من وجه أيضا في تعارض الأخبار فيما لم يكن هناك قوّة لأحد العامّين ؛ فإنّ المختار وفاقا للمشهور الحكم بالطّرح في مادّة التّعارض ترجيحا أو تخييرا ، بل في العام والخاصّ أيضا فيما كانا متكافئين بحسب الدّلالة إذا اختار العمل بالخاصّ لأحد الوجهين.

ولا يتوجّه عليه ما توهّم : من التّبعيض في الصّدق والكذب ، بل اللاّزم هو

١١٩

التّبعيض في الأخذ بدليل التّصديق الظّاهري كما عرفته في الطّرح في العامّين من وجه ، بل قد يقال : بكون الطّرح فيما عرفت أسوأ حالا من الجمع في المقام ؛ من حيث إنّ المخبر به للعادل هو قول الإمام عليه‌السلام وهو أمر بسيط وإن كان ما صدر عن الإمام عليه‌السلام قابلا للتّجزئة ، وهذا بخلاف خبر الشّاهد ؛ فإنّ مرجع شهادته بكون الدّار لزيد مثلا إلى كون كلّ جزء منها لزيد فيصدّق في بعض ما يخبر به ، فكأنّه ينحلّ إلى أخبار متعدّدة.

ومن هنا قيل : بالتّفصيل في القاعدة بين العامّين من وجه وغيره في الأخبار على ما عرفت ، ولا يقاس بالحديث الواحد المشتمل على قضايا متعدّدة وفقرات كثيرة ؛ فإنّ مرجعه إلى أحاديث حقيقة. وإن كان هذا القول ضعيفا ؛ فإنّه إذا فرض المحكي عن الإمام عليه‌السلام مشتملا على أجزاء كان إخبار الرّاوي في ظرف التّحليل راجعا إلى أخبار متعدّدة كما في البيّنات. كيف؟ وقد يحكم بالتّفكيك في التّصديق بما هو أشكل من ذلك.

ألا ترى أنّه لو كان الخبر مشتملا على مسألة لغويّة ، أو أصوليّة كلاميّة اعتقاديّة يحكم بتصديقه فيما يتفرّع على المخبر به من المسألة الفرعيّة ولا يصدّق في نفس المخبر به؟ وهكذا في الإقرار بأمر واحد متعلّق بالنّفس والغير من وجهين وهكذا.

والحاصل : أنّ التّفكيك بحسب الحكم الظّاهري بين المتلازمين ، بل الجمع بين النّقيضين بحسبه ممّا لا غبار عليه أصلا كما وقع كثيرا في الشّرعيّات كيف؟ وقد عرفت : وقوعه في الشّرعيّات في أخبار الأحكام أيضا عند شيخنا قدس‌سره ، بل المشهور في العامّين من وجه وشبههما بعد البناء على ترجيح الطّرح على الجمع ،

١٢٠