بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٨

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٨

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-351-4
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٨٢٠

بالتّقريب المذكور في كلامه الّذي يرجع عند التّأمّل إلى أنّ الظّن الحاصل بمطابقة الأمارة للواقع يوجب الظّن بتدارك مصلحة سلوك الطّريق والواقع الملحوظ في جعل الطّريق ، فيكون الرّاجح في نظر العقل بهذه الملاحظة أهمّ لا محصّل له أصلا ، كما لا يخفى ؛ فإنّه كما ترى ، راجع إلى الالتزام بجعل الأمارات من باب الطّريقية لا السّببيّة المحضة ؛ فإنّ مبنى الطّريقيّة كما عرفته غير مرّة على ملاحظة الواقع في جعل الأمارة في نظر الشّارع سواء كان هناك مصلحة في الأمر بالعمل بها أم لا ، فملاحظة الكشف والطّريقيّة موجب لتساقط الأمارتين بالمعنى الّذي عرفته لا الطّريقيّة المحضة كما هو ظاهر. والتّصويب وإن كان باطلا عندنا إلاّ أنّ فرض كونه حقّا لا يجدي في المقام شيئا ؛ لأنّ التّعارض لا يجامع التّزاحم على كلّ قول إلاّ على فرض جواز الاجتماع الأمري الّذي اتّفقت كلمتهم على بطلانه.

ومن هنا يتوجّه على ما ذكره مناقشة أخرى ؛ فإنّه مسلّم التّزاحم بمعنى : عدم ملاحظة مصلحة الواقع أصلا ، على القول بالتّصويب إلى غير ذلك ممّا يتوجّه عليه. هذا بعض الكلام فيما يقتضيه الأصل في المسألة.

وجوه أخر للقول بوجوب الترجيح

ثمّ إنّ في كلماتهم جملة من الوجوه للقول بوجوب التّرجيح غير الأخبار والإجماع والأصل ، لا بأس بالتّعرض لها والإشارة إلى ما يتوجّه عليها.

فمنها : ما عن « النّهاية » و « الإحكام » : من تقرير النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معاذا لمّا بعثه

٢٠١

قاضيا إلى اليمن في ترتيب الأدلّة وتقديم بعضها على بعض (١).

ومنها : دلالة الكتاب على ذلك فإنّ لازم ترك التّرجيح التّخيير والتّسوية بين خبر الفاسق ، والعادل ، والعالم ، والجاهل وهو منفيّ بقوله تعالى : ( أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً )(٢) وقوله تعالى : ( هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ )(٣).

ومنها : أنّه لو لم يجب العمل بالرّاجح وجاز التّخيير لم يجب تخصيص عامّ بخاصّ ولا تقييد مطلق بمقيّد ولا تأويل ظاهر بالأظهر ، وذلك هدم للدّين وتضييع لشريعة سيّد المرسلين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإبطال لمنهاج الأئمّة المعصومين ( صلوات الله عليهم أجمعين ) لأنّ معظم الأدلّة الشّرعيّة متعارضة فيلزم من ترك التّرجيح المحظور المذكور وبطلان التّالي من جهة وضوحه لا يحتاج إلى البيان.

وهذا هو المراد ممّا ذكره جماعة من لزوم الهرج والمرج والفقه الجديد من ترك التّرجيح كما في « الكتاب » وإلاّ فالقائل بعدم وجوب التّرجيح لا يعترف بثبوت التّرجيح في الشّرع حتّى يلزم من تركه بطلان الدّين. نعم ، لمّا كان التّرجيح بالمرجّحات المذكورة ممّا لا يقبل الإنكار استدلّ به على لزومه.

ومن هنا أجاب شيخنا العلاّمة عن هذا الوجه في « الكتاب » : بأنّ الظّاهر خروج هذا النّحو من المتعارضات عن محلّ الكلام ؛ فإنّ التّرجيح بينها من الجمع الّذي تقدّم تقديمه على الطّرح ترجيحا وتخييرا عندهم فلا يلزم من ترك التّرجيح

__________________

(١) الإحكام للآمدي : ج ٤ / ١٤٠.

(٢) السجدة : ١٨.

(٣) الزمر : ٩.

٢٠٢

التّخيير بين المتعارضات المذكورة حتّى يلزمه المحظور المذكور (١).

ومنها : ما في كتب جماعة من الخاصّة منهم : العلامّة في « النّهاية » (٢) و « التّهذيب » (٣) ، والعامّة : من أنّه لو لم يجب ترجيح الرّاجح يلزم إمّا ترجيح المرجوح أو التّسوية بينهما وهما قبيحان بضرورة العقل. ومن هنا ذكر في محكيّ « الإحكام » : أنّه إذا كان أحد الدّليلين راجحا فالعقلاء يقدّمونه ويرجّحونه بعقولهم (٤). وفي محكيّ « شرح المباديء » : أنّه لو لم يجب العمل بالرّاجح فإمّا يعمل بالمرجوح أو بهما معا أو لا يعمل بشيء منهما ، والكلّ باطل ، فيتعيّن العمل بالرّاجح (٥).

ومنها : ما تمسّك به في محكيّ « النّهاية » (٦) و « غاية البادي » (٧) : من أنّه إذا وقع التّعارض بين الظّنين وترجّح أحدهما كان العمل به متعيّنا عرفا فيجب شرعا ؛ لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن. وفي محكيّ « الإحكام » (٨) الأصل : تنزيل التّصرّفات الشّرعيّة منزلة التّصرّفات العرفيّة ، ولهذا

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٤ / ٥٣ ـ ٥٤.

(٢) انظر مفاتيح الأصول : ٦٨٧.

(٣) نفس المصدر.

(٤) المصدر السابق عن الإحكام : ج ٤ / ٢٤٠.

(٥) مفاتيح الأصول : ٦٨٧.

(٦) المصدر السابق.

(٧) المصدر السابق.

(٨) الإحكام للآمدي : ج ٣ / ٢٤٦.

٢٠٣

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن ) (١).

ومنها : أنّه لو وجب التّخيير أو التّوقف لزم ارتكاب تخصيصات كثيرة لا تحصى فيما دلّ من العمومات على حجّيّة الظّنون كآية النّبأ وغيرها (٢) وهو مع كونه خلاف الأصل في غاية البعد والفساد لأدائه إلى سقوط فائدة تلك العمومات.

لا يقال : تلك العمومات كما تدلّ على حجّيّة الرّاجح كذلك تدلّ على حجّيّة المرجوح من غير فرق ؛ فإنّ آية النّبأ تدلّ على قبول خبر الأعدل والعادل بدلالة واحدة.

لأنّا نقول : إذا فسد احتمال التّخيير والتّوقّف بما بيّناه لزم التّخصيص في تلك العمومات قطعا ولا يمكن إخراج الرّاجح ، إلاّ بتعيّن العمل بالمرجوح وهو مع قبحه عقلا مجمع على بطلانه ، فتعيّن إخراج المرجوح وإبقاء الرّاجح فيجب العمل به إلى غير ذلك ممّا ذكره في « المفاتيح » (٣) ممّا يقرب من تلك الوجوه أو يرجع إليها.

والإنصاف : تطرّق المناقشة إلى جميعها حتّى قاعدة بطلان ترجيح المرجوح : من حيث قبحه في مقام وامتناعه في مقام آخر ، وإن جمع بين القبح والامتناع بعض فقال بقبحه بل امتناعه مع عدم إمكان اجتماعهما ؛ فإنّه في مقام

__________________

(١) عوالي اللئالي : ج ١ / ٣٨١ نقلا عن مسند أحمد بن حنبل ج ١ / ٣٧٩.

(٢) الحجرات : ٦ ـ و « آية النفر » التوبة : ١٢٢.

(٣) مفاتيح الأصول : ٦٨٧.

٢٠٤

التّشريع قبيح لا محال ، وفي مقام التّكوين محال لا قبيح كما هو ظاهر ؛ فإنّ المكلّف لا يختار الموهوم ، ولا المظنون إلاّ لمرجّح وغرض ، وإلاّ امتنع اختياره والشّارع لا يحكم بالموهوم إلاّ لمرجّح عنده ، فالصّغرى ممنوعة على كلّ تقدير فلو قام هناك دليل على كون المظنون راجحا عند الشّارع فهو يغني عن القاعدة جدّا.

ومن هنا ورد في الشّرع النّهي عن اتّباع الظّن ، وكذا لو قام هناك دليل عقلا عليه كما إذا قلنا بتماميّة مقدّمات الانسداد المنتجة لحجّيّة مطلق الظّن حسبما عرفت شرح القول فيه في الجزء الأوّل من التّعليقة.

والإنصاف : أنّ صرف الوقت في بيان فساد الوجوه المذكورة ممّا لا ينبغي ؛ فإنّ العمدة ما عرفت من الوجوه الثّلاثة ، وفيها غنى وكفاية ؛ لأنّ الأخبار على ما ستقف عليه واضحة الدّلالة عليه وكذا انعقاد الإجماع عليه قولا وعملا ممّا لا شبهة فيه ، ولو لم يكن إلاّ الإجماعات المنقولة البالغة حدّ التّواتر كفت في حصول القطع منها بتحقّق الإجماع ولا يقدح مخالفة قليل ممّن لا يعتنى به ، كما أنّه لا يقدح عدم تمسّك كثير في المقام بالأخبار مع بلوغها حدّ التّواتر ، مع أنّ فيها الأخبار المعتبرة فيشبه المقام من هذه الجهة بالاستصحاب ؛ فإنّه مع ورود الأخبار الكثيرة وفيها الصّحاح وغيرها لم يتمسّكوا له بالأخبار ، فكأنّهم أرادوا في المقامين النّسج على طريقة العامّة.

ثمّ إنّ كلماتهم وإن كانت مختلفة من حيث مورد الإجماع من جهة أنّه خصوص الأخبار أو مطلق الظّنين ، إلاّ أنّه لا يقدح فيما نحن بصدده من وجوب

٢٠٥

التّرجيح في الجملة. قال في محكي « المباديء » : « أنّ إجماع الصّحابة وقع على ترجيح بعض الأخبار على بعض » (١). انتهى.

وفي « غاية البادي » : « أجمع الصّحابة على العمل بالتّرجيح عند التّعارض » (٢). انتهى كلامه.

وفي محكي « النّهاية » في مقام الاستدلال : « لنا : الإجماع على التّرجيح والمصير إلى الرّاجح من الدّليلين » (٣). انتهى كلامه رفع مقامه.

وفي محكيّ « غاية المأمول » : « أنّ التّرجيح متى حصل وجب العمل به ؛ لأنّ المعهود من العلماء كالصّحابة ومن خلفهم من التّابعين : أنّه متى تعارضت الأمارات اعتمدوا على الرّاجح ورفضوا المرجوح » (٤). انتهى كلامه.

وفي محكي « الإحكام » : « أمّا أنّ العمل بالدّليل الرّاجح واجب ، فيدلّ عليه :

ما نقل وعلم من إجماع الصّحابة والسّلف في الوقائع المختلفة على وجوب تقديم الرّاجح من الظّنين » (٥). انتهى.

وفي كلام غير واحد قطع الصّحابة وغيرهم به وعملهم عليه في الوقائع المتكرّرة المتكثّرة بحيث لا يقبل الإنكار. وفي محكي « النّهاية » وغيرها (٦) : أنّهم

__________________

(١) انظر مفاتيح الأصول للسيّد محمّد المجاهد : ٦٨٦.

( ٢ و ٣ و ٤ ) المصدر السابق.

(٥) الاحكام للآمدي : ج ٤ / ٢٣٩ وحكاه عنه السيّد المجاهد في مفاتيحه : ٦٨٦.

(٦) كغاية الباديء والإحكام.

٢٠٦

قدّموا خبر « التقاء الختانين » (١) على خبر أبي هريرة : « إنّما الماء من الماء » (٢). وخبر أبي هريرة : « من أصبح جنبا فلا صوم له ) (٣) على خبر عائشة « أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يصبح جنبا وهو صائم » (٤) ، إلى غير ذلك. هذا بعض الكلام فيما تمسّكوا به على وجوب التّرجيح.

فيما يستدلّ به للقول بعدم وجوب الترجيح

وأمّا القول بعدم وجوبه فقد يتمسّك له أيضا ـ مضافا إلى الأصل أي : أصالة عدم اعتبار المزيّة بالتّقريب الّذي عرفته ، أو أصالة البراءة بناء عليها في دوران الأمر بين التّخيير والتّعيين حسبما أسمعناك عن قريب وإطلاق أخبار التّخيير ، أو التّوقف على القول به ـ بوجوه :

منها : ما عن « النّهاية » من احتجاج المنكرين بقوله تعالى : ( فَاعْتَبِرُوا

__________________

(١) انظر صحيح ابن ماجة ج ١ / ١٩٩ باب « ما جاء في وجوب الغسل إذا إلتقى الختانان » ح رقم ٦٠٨ ـ وكذا مسند أحمد بن حنبل ج ٦ / ١٢٣ حديث عائشة. والسنن الكبرى للبيهقي ج ١ / ٢٥٩ ـ ح ٢٥١ و ٢٥٢.

(٢) لم نجد لهذا الخبر عن أبي هريرة. نعم ، رواه الحذري عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. انظر صحيح مسلم ج ١ / ١٨٦ باب « إنّما الماء من الماء ». وفي سنن الترمذي ج ١ / ٧٤ ـ ح ١١٢ رواه عن ابن عبّاس بزيادة « في الإحتلام ».

(٣) لاحظ مسند أبي هريرة : ج ٢ / ٢٤٨.

(٤) سنن أبي داوود : ج ١ / ٥٣٤ باب « فيمن أصبح جنبا في شهر رمضان » : حديث ٢٣٨٨.

٢٠٧

يا أُولِي الْأَبْصارِ )(١).

وأجاب عنه : بأنّه دليل ظنّي فلا يعارض الدّليل القطعي القائم على وجوب التّرجيح هذا. مع أنّ الآية لا تنفي التّرجيح فإنّ وجوب النّظر والاعتبار لا ينافي التّرجيح.

ومنها : ما عنها أيضا من الإحتجاج بقوله عليه‌السلام : ( نحن نحكم بالظّاهر ) (٢) فإنّ مقتضاه عدم وجوب الأخذ بالرّاجح ؛ فإنّ المرجوح أيضا ظاهر.

وأجاب عنه : بأنّ الخبر يدلّ على وجوب الأخذ بالظّاهر والظّاهر ما يرجّح أحد طرفيه على الآخر ومع وجود الرّاجح لا يكون المرجوح ظاهرا فهو يدلّ على وجوب التّرجيح.

ومنها : ما عنها أيضا فقال : احتجّ المنكرون أيضا : بأنّه لو اعتبر التّرجيح في الأمارات اعتبر في البيّنات المتعارضة في الحكومات والتّالي باطل لعدم تقدّم شهادة الأربعة على الاثنين فالمقدّم مثله. بيان الشّرطيّة : أنّ العلّة وهي ترجيح الأظهر على الظّاهر موجودة هنا.

ثمّ أجاب عنه بمنع نفي التّرجيح في الشّهادات ، فإنّه يقدّم عندنا شهادة الأربعة على الاثنين سلّمنا لكن عدم التّرجيح في الشّهادة ربما كان مذهب أكثر الصّحابة ولم يخالفوا في اعتبار التّرجيح في تعارض الأدلّة (٣). انتهى

__________________

(١) الحشر : ٢.

(٢) لم نعثر على هذا الحديث في المصادر المعتبرة عند الخاصة والعامّة. نعم ذكره الآمدي في الإحكام ج ١ / ٢٨١ وكذا أورده الفخر الرّازي في المحصول ج ٤ / ٤٠٧.

(٣) مفاتيح الأصول : ٦٨٧.

٢٠٨

ما حكي عنه.

وظاهره كما ترى ، أنّه لو لا الاتّفاق على التّرجيح في الأدلّة وكان أمرها أمر البيّنات من وقوع الاختلاف في التّرجيح فيها لحكمنا بعدم التّرجيح في الأدلّة أيضا ؛ نظرا إلى الأصل هذا.

وقد استفاد شيخنا العلاّمة قدس‌سره خلاف ما ذكرنا ، فقال بعد نقله في « الكتاب » : ( ومرجع الأخير إلى أنّه لو لا الإجماع لحكمنا بالتّرجيح في البيّنات أيضا. ويظهر ما فيه ممّا ذكرنا سابقا فإنا لو بنينا على أنّ حجّيّة البيّنة من باب الطّريقيّة فاللاّزم مع التّعارض التّوقّف ... إلى آخر ما أفاده ) (١)(٢).

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٤ / ٥٤.

(٢) قال السيّد المجدّد الشيرازي قدس‌سره :

« هذا بظاهره لا يستقيم ؛ فان الأخير الذي استظهر منه ذلك هي العبارة المحكية عن النهاية [ نهاية الوصول ، مخطوط ، انظر باب الترجيح حسبما أحال اليه نفسه في مبحث بناء العام على الخاص : ١٥٦ ونحن لاحظنا النسخة فكانت غير كاملة الى آخر مباحث النسخ ] والمنية [ منية اللبيب ، مخطوط ] وهي قوله : سلمنا ، لكن عدم الترجيح في الشهادة ربما كان مذهب أكثر الصحابة ، والترجيح هنا مذهب الجميع.

ولا يخفى أنها ظاهرة ، بل صريحة في ابداء الفرق بين المقام وبين البينات ، بقيام الاجماع على وجوب الترجيح هنا ، ووقوع الخلاف فيه في البينات ، حيث أن أكثر الصحابة على عدم الترجيح فيها ، لا قيام الاجماع على عدم الترجيح فيها ـ كما استظهره قدس‌سره ـ وحاصلها : أن الترجيح في المقام للاجماع ، فهو الفارق بينه وبين البينات ، لا أن عدم الترجيح في البينات للاجماع فيها على عدمه ، كما استظهره قدس‌سره » إنتهى. انظر تقريرات مجدد : ج ٤ / ٢٧٣.

٢٠٩

نعم ، لو كان مذهب أكثر الصّحابة إجماعا عندهم أو ملحقا به حكما أمكن استظهار ما استظهره من « النّهاية » ، لكنّه لم يثبت وإن ذهب إلى اعتباره بعضهم.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ بطلان التّالي لمّا كان موقوفا على قيام الإجماع والتّسالم عليه ، وإلاّ كان ممنوعا فلا بدّ أن يكون مراد العلاّمة قدس‌سره ما استظهره.

وحاصله : أنّ عدم التّرجيح في الشّهادات إذا كان لقيام الدّليل فلا يقاس عليه الأدلّة إذا كان مقتضى الأصل التّرجيح في المقامين ، اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ غرض المستدلّ نقض ما تمسّك به المستدلّ ممّا يأبى التّخصيص ، فلا يجدي قيام الدّليل عليه بعد اتّحاد المناط ، إلاّ أنّه كما ترى ، مضافا إلى منافاته لظاهر الاستدلال إيراد على الجواب ولا تعلّق له بالمراد.

ثمّ إنّه لا إشكال في توجّه ما أفاده على ما ذكره على تقدير إرادته ؛ لأنّ

__________________

* وقال المحقق الخراساني قدس سره :

« لا يخفى ان مرجعه ليس إلى ذلك بل إلى ان الإلتزام بالترجيح هنا إنّما هو لكونه مذهب الجميع ، وكونه مجمعا عليه بخلافه في البيّنات لإختلافهم فيه وإن كان الأكثر على عدمه فلا تغفل ». أنظر درر الفوائد : ٤٥١.

* وقال المحقق آغا رضا الهمداني قدس سره :

« أقول : سوق الإستدلال وإن اقتضى ذلك وكون تسليمه عدم الترجيح في البيّنات للدليل الذي ذكره فارقا بين المقامين وهو الإجماع ، إلاّ انّ غرض المستدل بحسب الظاهر إثبات وجوب الترجيح في المقلّد وجوبا لا بعدمه في البيّنة ؛ فإنه لم يدّع الإجماع على العدم في البيّنة حتى يستدلّ به ، بل احتمل كونه مذهب الأكثر ، فكأنه قال : حيث لا إجماع على الترجيح في البيّنة فلا مقتضى له ، بخلاف ما نحن فيه حيث ان الترجيح فيه مذهب الكل ، فلا يجوز مخالفتهم ، فليتأمّل » إنتهى. أنظر حاشية فرائد الأصول : ٥١٤.

٢١٠

التّرجيح إنّما يكون مطابقا للأصل فيما قام هناك دليل على التّخيير وكانت قضيّة مهملة ، ومبنى الشّهادة وإن كان على الطّريقيّة ، إلاّ أنّه لا يحتمل التّخيير في مورد تعارض البيّنات.

ثمّ لا يخفى عليك أنّ الوجوه المذكورة للقول بعدم التّرجيح حالها من حيث الضّعف والسّقوط حال ما عرفت من الوجوه المذكورة للقول بوجوب التّرجيح كحال ما دعا السيّد الصّدر إلى حمل أخبار التّرجيح على الفضل والأولويّة على ما عرفت الإشارة إليه.

وإن كان ردّه بإباء عدم الالتفات إلى حكم غير الأفقه والأعدل في المقبولة عن الحمل المذكور كما في « الكتاب » ربّما يناقش فيه : بأنّ صدر المقبولة على ما أفاده لا تعلّق له بالمقام ، وكذا ما أفاده بقوله : ( مع أنّ في سياق تلك المرجّحات ... إلى آخره ) فإنّه لا فرق فيما يكون موافقة الكتاب والسّنة مرجّحة بينها وبين غيرها من المرجّحات ومن هنا أمر بالتّأمّل فيما أفاده (١).

__________________

(١) قال المحقق آغا رضا الهمداني قدس‌سره :

« أقول : لعله إشارة إلى ان المخالفة التي أريد بهذه الروايات هي المخالفة التي لو لم يكن للخبر المخالف تعارض لكنّا نعمل به ؛ لأن السؤال إنّما ورد في مثل هذا الفرض ، كما يفصح عن ذلك ـ مضافا إلى وضوحه ـ تقديم بعض المرجّحات في المقبولة وغيرها على موافقة الكتاب ومن المعلوم أن العمل بالخبر الظني في مقابل النص القطعي غير جائز ، فالمراد بالمخالفة ما إذا كان مخالفا لإطلاق الكتاب أو عمومه أو غيرها مما تقتضيه أصالة الحقيقة ، ولا ريب في انّ موافقة الكتاب أيضا في مثل هذا الفرض ليس إلاّ كسائر المرجّحات التي يمكن الالتزام بكون الترجيح بها على سبيل الفضل والأولويّة لا الواجب بعد مساعدة

٢١١

* المقام الثاني : ذكر الأخبار العلاجيّة

(٩) قوله قدس‌سره : ( وهذه الرّواية الشّريفة وإن لم تخل عن الإشكال ... إلى آخره ) (١). ( ج ٤ / ٥٩ )

__________________

الدليل عليه » إنتهى. أنظر حاشية فرائد الأصول : ٥١٥.

* وقال المحقق الخراساني قدس‌سره :

« يمكن أن يقال : انه لو حمل على مطلق الطلب واستفيد كل من الوجوب والاستحباب من الخارج لا يلزم التفكيك ولعل أمره بالتأمل إشارة إليه فتأمّل » إنتهى. أنظر درر الفوائد : ٤٥١.

* وقال السيّد المحقّق اليزدي قدس‌سره :

« لعلّه إشارة إلى انّ ما ذكره من مبعّدات حمل الترجيح على الاستحباب ليس بمبعّد أصلا مثلا استحباب الأخذ بالخبر الموافق للكتاب المستلزم لجواز الأخذ بالمخالف غير بعيد ؛ إذا المراد بالمخالف ليس هو من المباين بل المراد مخالفته لعموم أو إطلاق ونحوه ، كما ان المراد بالموافق أيضا موافقة لظاهر من ظواهر الكتاب فالخبر الموافق غير مقطوع الصدق كما ان الخبر المخالف أيضا غير مقطوع الكذب ، بل في كلّ منهما محتمل إلاّ أن الموافق أرجح فيناسب أن يكون الأخذ به أولى » إنتهى. أنظر حاشية فرائد الأصول : ج ٣ / ٥١٦.

(١) قال الشيخ موسى بن جعفر التبريزي قدس‌سره :

« لا يخفى أن ما ذكره المصنف رحمه‌الله يرجع إلى وجوه ثلاثة :

أحدها : أن مورد الرواية هو التحكيم لأجل فصل الخصومة فلا يناسبها أوّلا : تعدد الحكمين ، وثانيا : غفلة كلّ عن المعارض الواضح المستند حكمه ، وثالثا : اجتهاد المتحاكمين في ترجيح مستند أحدهما على الآخر ، ورابعا : جواز حكم أحدهما بعد حكم الآخر لبعد فرض

٢١٢

__________________

وقوع حكمهما دفعة.

ويرد على ما عدا الثاني : أنه إنّما يتم على تقدير كون المراد بالحاكم في مورد الرواية هو المنصوب عموما أو خصوصا من قبل الإمام عليه‌السلام وأما لو كان المراد به قاضي التحكيم فلا دليل على بطلان ما ذكر من اللوازم.

ومنه يندفع اشكال آخر هنا وهو أن اختيار الحاكم إنّما هو بيد المدعي فله أن يختار من أراد من الحكّام وان كان مفضولا بالنسبة الى من اختاره المنكر ، فالأولى حينئذ الجواب بتفويض الأمر إلى المدعي لا إليهما وتحرّيهما في اعمال المرجّحات ووجه الاندفاع واضح مضافا إلى احتمال اختصاص مورد لا رواية بصورة التداعى فتدبر.

وأما الثاني : فهو مجرد استبعاد لا يقدح في العمل بالظواهر ، مع أنه لا استبعاد فيه حيث لم تكن الأخبار مجتمعة في زمان صدور الأخبار عند كل أحد مضافا إلى احتمال اعراض كل منهما عن مستند حكم الآخر لأجل اطلاع كل منهما على قدح في مستند حكم الآخر لم يطلع عليه الآخر مثل وروده تقية أو نحوها ، لا لأجل الغفلة عنه رأسا.

ويدفع الجميع أيضا : أنه يحتمل أن يكون المراد بالحكمين هو الحاكم على سبيل نقل الرواية في خصوص الواقعة ليعمل بمضمونها المتخاصمان لا الحاكم بالمعنى المصطلح عليه ، ويؤيده : أن المتعارف في ذلك الزمان أن كل من كان يفتي بشيء كان على سبيل نقل الرواية وكان غرض المستفتى أيضا استعلام ما عند المسئول من الحديث في الواقعة المجهولة المسئول عنها ، ويؤيده أيضا : قوله عليه‌السلام : ( كلاهما اختلفا فى حديثكم ) لأن ظاهره كون الرجوع اليهما من حيث نقل الرواية والحديث وجعل الفاصل ذلك لا رأي الحكمين ، ويؤيده أيضا كون الشبهة في مورد الرواية حكمية لا موضوعية ، ويحتمل أن يكون التحرّي والاجتهاد في مستند الحكمين قبل تحقق الحكم الاصطلاحي منهما بأن كان المراد الرجوع الى المرجحات عند اختلافهما في مستند الحكم عند مذاكرة الحكم الكلي قبل صدور

٢١٣

__________________

الحكم الاصطلاحي منهما كما يستحب للحاكم الشرعي إحضار جماعة عند المرافعة ليؤمن به من الخطأ في الحكم فتأمل.

وثانيها : اشتمال الرواية على تقديم الترجيح بصفات الراوي على الترجيح بالشهرة وهو مخالف للسيرة المستمرة قديما وحديثا فيما بينهم والجواب عنه ما أشار إليه بقوله : ( إلاّ أن يمنع ذلك ) وتوضيحه : أن السيرة المذكورة انما تسلم اذا كان المراد بالشهرة هي الشهرة بحسب الفتوى دون الرواية لخروج الخبر غير المشهور حينئذ من الحجية بحسب الفتوى دون الرواية لخروج الخبر غير المشهور حينئذ من الحجية كما لا يخفى بخلاف ما لو كان المراد بها الشهرة بحسب الرواية ؛ اذ نمنع حينئذ تحقق الاجماع على تقديم المشهور على ما اشتمل على صفات الراوي من المتعارضين ومما يدل على كون المراد بها في مورد الرواية هي الشهرة بحسب الرواية دون الفتوى أن الفتوى المصطلح عليها لم تكن معروفة بين أصحاب الأئمة عليهم السلام رحمه الله لأن افتاء أصحابهم كان على سبيل نقل الخبر بالمعنى وكان عمل المستفتين أيضا بأقوالهم لأجل حصول الوثوق بما ينقلونه عن أئمتهم لا لأجل التعبد بما ترجح في نظرهم من الأدلة والظنون الاجتهادية ، مع أن الراوي فرض كون الخبرين مشهورين بعد تساويهما في صفات الراوي ومن المعلوم عدم امكان تحقق الشهرة بحسب الفتوى على طرفي المسألة في زمان واحد وفي واقعة واحدة وحينئذ فلا غرو في تقديم الترجيح بالصفات على الترجيح بالشهرة والسرّ فيه يظهر مما أوضحه المصنف رحمه الله من العلة. نعم يبقى في المقام : أن الرواية مطلقة تقتضي تقديم الترجيح بالصفات مطلقا حتى فيما لو كان بين رواة الخبر المشهور من هو أفقه من المتفرد بالشاذ والعلة المذكورة حينئذ لا تقتضي ترجيح الخبر الشاذ الجامع للصفات على مثل هذا الخبر ، مع انه قد يكون من عدا المتفرد بالشاذ من طبقات رواته مفضولا بالنسبة الى رواة المشهور وان كان هو أفقه منهم ولا تتأتى فيه العلة أيضا ، اللهم الا أن تنزّل الرواية على غير هاتين الصورتين هذا غاية

٢١٤

__________________

توضيح المقام.

وهو بعد لا يخلو من نظر ؛ لأن عدم تقديم الشاذ على المشهور في الصورتين المفروضتين ليس لأجل قصور في الترجيح بالصفات بل لأجل اشتمال المشهور على مزية أخرى سوى الشهرة ، ولا ريب أن دلالة الرواية على تقديم الترجيح بالصفات على الترجيح بالشهرة إنّما هي مع ملاحظة الشهرة من حيث هي لا مع اشتمال ذيها على مزية موجودة في معارضه أيضا ، فتنزيل الرواية على غير الصورتين المفروضتين حينئذ متعين.

وثالثها : أن ظاهر الرواية هو الترجيح بمجموع الصفات لا بكل واحدة منها وهو خلاف ما أطبقت عليه كلمة الأصحاب.

والجواب عنه : ما أشار اليه المصنف رحمه‌الله من استظهار كون المراد بيان جواز الترجيح بكل منها لا بمجموعها ولذا لم يسأل الراوى عن صورة وجود بعض الصفات دون بعض أو تعارض بعض الصفات مع بعض.

وأنت خبير بأن عدّ سؤال الراوى من صورة وجود بعض الصفات كما يحتمل أن يكون لأجل فهمه جواز الترجيح بكل منهما كذلك يحتمل أن يكون ذلك لأجل فهمه لعدم جواز الترجيح ببعضها. ويؤيد الثاني كون المذكور في الرواية هو الترجيح بالمجموع كما اعترف به المصنف رحمه‌الله ، ومن هنا يظهر الوجه في عدم السؤال عن صورة التعارض ؛ اذ بعد فرض كون المراد هو الترجيح بالمجموع خاصة لا يبقى محل السؤال عن صورة التعارض ؛ لعدم امكان اجتماع الصفات في كل من المتعارضين.

نعم ، لو كان جواز الترجيح بلك واحد منها مفروغا منه احتيج الى السؤال عن صورة تعارض بعضها مع بعض ؛ اذ ليس فليس ، فالأولى الاستناد في اثبات كون المراد جواز الترجيح بكل واحد منها الى فهم الأصحاب أو بمنع ظهور الرواية في الترجيح بمجموع الصفات ؛ لأن غاية ما يدل عليه العطف بالواو هو الاشتراك في الحكم لا الاجتماع في الوجود لأنك اذا قلت

٢١٥

__________________

جاءنى زيد وعمرو ، فغاية ما يستفاد عنه ثبوت المجيء لكل واحد منهما ولو في زمانين لا في زمان واحد ، ويقال فيما نحن فيه أيضا : ان غاية ما يدل عليه العطف بالواو ثبوت حكم الترجيح لكل واحدة من الصفات لا لمجموعها من حيث الاجتماع فتدبر.

وبقى في المقام أمر لا بد أن ينبه عليه وهو : أن قوله عليه‌السلام : ( وما يحكم له فانما يأخذه سحتا ) وان كان حقه ثابتا يشمل الدين والعين والواقعة التي كانت الشبهة فيه حكمية كما اذا اشترى أحدهما من الآخر شيئا بعقد فارسى واعتقد المشتري صحته والبائع فساده ، أو موضوعية ، وهي واضحة.

ونفى بعض أواخر المتأخرين الخلاف عنه في الدين وادعى الشهرة عليه في العين مصرحا بعدم الفرق بين قضاة العامة وغير الجامع لشرائط الاجتهاد من الشيعة فيحرم ما يؤخذ بحكمهم مطلقا وعن « الكفاية » : أنه يستفاد من الخبرين عدم جواز أخذ شيء بحكمهم وان كان له حقا وهو في الدين ظاهر وفي العين لا يخلو عن اشكال لكن مقتضى الخبرين التعميم.

وقال في « الجواهر » وكأنه فرّق بين الدين أو العين باحتياج الأول الى تراض في التشخيص والفرض جبر المديون بحكمهم بخلاف العين. وفيه : أنّ الجبر وان كان آثما فيه لكن لا ينافي تشخيص الدين بعد فرض كونه حقا على أن في صدر أحد الخبرين المنازعة في دين أو ميراث فلا بد من حمل الخبر على الأعم من ذلك لكن على معنى : أن أصل ثبوت الاستحقاق أو الدين قد كان بحكمهم الباطل لا أنهما ثابتان بالحكم الحق وأخذهما كما يحكم الطاغوت مع احتمال التزام الحرمة فيهما أيضا في ذلك لكن على معنى حرمة التصرف وان كانا مملوكين فيكونان بحكم السحت في الإثم ولو باعتبار المقدمة جيدا والله العالم. انتهى.

وأقول : يمكن القول بالحرمة فيما كان الأخذ بعنوان الاطاعة والانقياد لهم كما هو المنساق

٢١٦

__________________

من الأخبار دون ما لو كان بعنوان انفاذ الحق كما يجوز له الاستعانة بالظالم في أخذ حقه أو كان بقصد التقاص والله العالم » إنتهى. أنظر اوثق الوسائل : ٦٠٨ ـ ٦٠٩.

* وقال السيّد المجدّد الشيرازي قدس سره :

« أقول : وفيها إشكال آخر لم يذكره المصنّف : وهو أن ظاهر صدرها الرجوع إلى الحاكم عند المعارضة والمنازعة ولا ريب أن الأمر بيد المدعي في اختيار الحاكم في المنازعات وله إختيار من شاء ، وإن كان مفضولا بالنسبة إلى من اختاره المنكر ؛ فإن الفقيه وإن كان مفضولا ينفذ حكمه في الواقعة الشخصيّة ، لا تفويض الأمر بيد المتنازعين وتحرّيهما في إعمال المرجّحات ، فكان المناسب أن يجيب عليه‌السلام بانّ الأمر بيد المدّعي والقول قول من اختاره حكما ، هذا.

ولكن الذي يقتضيه التأمّل اندفاع تلك الإشكالات بأسرها على تقدير تماميّتها في أنفسها بأن غاية ما ثبت إنما هي المنع منها في القاضي المنصوب خصوصا أو عموما ، وأمّا قاضي التحكيم الذي هو المفروض في صدر الرواية كما يقتضيه قول السائل : ( فإن كان كل رجل يختار رجلا ) فلم يقم دليل على عدم جواز نقض حكمه ، ولا على عدم جواز تعدّده ، ولا على عدم جواز إجتهاد المترافعين بعد تعارض حكمها ، ولا على عدم جواز اختيار المنكر من شاء أيضا ، فالأمور المذكورة على تقدير لزومها لا محذور فيها ؛ بل يمكن التمسّك على جوازها بصدر الرواية.

هذا مضافا إلى عدم لزوم بعضها أيضا كتعدّد الحكمين فلأن الظاهر من الرواية فرض السؤال عن تراضي المتخاصمين بكون كلا الشخصين معا حكما فيما شجر بينهما بأن يحكم كلّ منهما باستصواب الأخر ، لا كونه حكما مستقلاّ مستند برأيه نظرا إلى قول الراوي : ( فرضيا أن يكونا الناظرين في حقّهما ).

وقوله : ( فإن كان كل رجل يختار رجلا ) وإن كان في نفسه ظاهرا في ما استظهره المصنف قدس‌سره

٢١٧

__________________

من تعدّد الحكمين ، لكنه بقرينة ما ذكر محمول على اختيار كلّ منهما رجلا برأسه في أوّل الأمر ثم بنيا على كونهما معا حكما بينهما بالإستصواب.

وبهذا يندفع لزوم حكم أحدهما بعد حكم الآخر أيضا ؛ إذ بعد كون كليهما معا حكما لا يجوز أن يحكم واحد منهما مخالفا لما حكم به الآخر ، وكذا لزوم تفويض الأمر في اختيار الحاكم إلى المنكر أيضا.

ويمكن منع لزوم ذلك على تقدير تعدّد الحكمين أيضا بحمل الرواية على صورة التداعي ؛ فإن كلاّ من المتخاصمين في تلك الصورة مدّع ومنكر باعتبارين.

وأمّا ما ذكره قدس‌سره : من لزوم غفلة الحكمين عن المعارض لمدرك حكمه ، ففيه : ان مثل ذلك غير عزيز.

وأيضا يمكن منع اللزوم بان فتوى كلّ منهما على خلاف الآخر لعلّه لإطلاعه على قدح في مستند حكم الآخر لم يطّلع الآخر عليه من صدوره تقيّة أو غيره من القوادح ، لا لغفلته عنه رأسا.

فبقي ممّا ذكره لزوم اجتهاد المترافعين ، ووجه كونه محذورا : أن القول قول الحاكم في مقام الدعوى لكن لا ضير فيه بعد فرض تعارض الحكمين كما عرفت ؛ لعدم قيام دليل على المنع منه.

ثم ان هذا كلّه على تقدير تسليم ظهور صدر الرواية في رجوع المتخاصمين إلى الحكمين لأجل الحكم بينهما بأن يكون الفاصل بينهما هو حكومة الحاكم لا روايته.

لكن يمكن دعوى ظهوره في رجوعها إليهما من حيث الرواية ، وذلك لمقدّمتين :

إحداهما : ما عرفت سابقا : من ظهور الرواية من فرض كون منشأ النزاع بينهما هو الاختلاف في الحكم.

ثانيتهما : ان المتعارف في ذلك الزمان ان كل من يفتي بشيء كان إفتاءه بنقل الحديث الوارد

٢١٨

__________________

في الواقعة المسؤول عنها وكان المستفتي عن شيء إنما يرجع إلى المفتي لأجل استعلام ما عنده من الحديث في الواقعة المجهولة الحكم.

والمستنتج من هاتين المقدمتين : ان فرض السؤال إنما هو في رجوع المتخاصمين إلى الحكمين من حيث كونهما راويين وكون كلّ منهما مجتهدا.

ويدلّ عليه أيضا : قول السائل : ( وكلاهما اختلفا في حديثكم ) فإنه ظاهر في رجوعهما اليهما من حيث الحديث والرواية وجعل الفاصل بينهما هي ، لا رأي الحاكم ، فلا يرد حينئذ شيء من الإشكالات التقدّمة.

إذ الرواية مما يناسبها التعدّد ويجوز نقل رواية متعارضة لما يرويه الغير ايضا والراوي أيضا لا يجوز له إلزام الغير الذي له ملكة الإستنباط على ما يراه مما رواه ، بل العبرة بنظر الغير في أحكام نفسه.

نعم ، يقع التعارض على هذا بين هذه الرواية وبين المرفوعة الآتية.

هذا كله مضافا إلى ان إجمال صدر الرواية الشريفة لا يقدح في الاحتجاج بذيلها الصريح بوجوب الأخذ بالمرجحات المذكورة فيه كما اعترف به قدس‌سره أيضا » إنتهى.

أنظر تقريرات المجدد الشيرازي : ج ٤ / ٢٧٥ ـ ٢٧٧.

* وقال المحقق آغا رضا الهمداني قدس سره :

« أقول : فيرتفع جلّ هذه الإشكالات بحمل قوله : ( فإن كان كلّ رجل يختار رجلا من أصحابنا ) على إرادة الرجوع إليه والعمل بما يؤدي إليه نظره في أمرهما من حيث الفتوى ، كما ان هذا هو الشأن فيما لو كان المتخاصمان عدلين لا يريد أحدهما الجور على صاحبه ؛ فإنهما لا يحتاجان حينئذ في ارتفاع خصومتهما إلى أزيد من شرح حالهما لمن يقلّدانه ، واستكشاف رأيه في امرها ، فالرواية على هذا تدلّ على عدم جواز تقليد غير الأعلم مع العلم بمخالفته للأعلم.

٢١٩

__________________

اللهم إلاّ ان يقال : بانّ هذا لعلّه لخصوصيّة المورد الذي لا بد فيه من موافقة أحدهما للآخر فيمن يرجع إليه حسما للانتزاع ، فلا تدلّ عليه في غير مثل المورد.

ويمكن دفعه : بأنّ النّزاع ينحسم بحكم الحاكم الذي يختار المدّعي رفع أمره إليه ، لا بموافقة الآخر له في التقليد ، فليتأمّل » إنتهى. أنظر حاشية فرائد الأصول : ٥١٥.

* وقال السيّد المحقّق اليزدي قدس سره :

« لا يخفى ان هذه الرواية الشريفة مشتملة على جملة من المرجّحات لم يجمعها خبر مثلها.

منها : صفات الراوي الأربعة ، ولم يذكر في رواية من روايات الباب الترجيح بها عدا ما في مرفوعة زرارة من ذكر الأعدليّة والأوثقيّة ، ولا يبعد أن يكون عطف الأوثقيّة ، ولا يبعد ان يكون عطف الأوثقيّة على الأعدليّة عطف تفسير ، ويحتمل أن يراد منها الأصدقيّة ، ويحتمل إرادة ما يشملها.

ومنها : الشهرة في الرواية ، والمراد كونها معروفا بين غالب أصحاب الرواية ولا يجب أن تكون متّفقا عليها وإن عبّر عنها بالمجمع عليه في موضعين من المقبولة ؛ لأنه يصدق عرفا على المشهور الذي في قبال الشاذ النادر.

ومنها : موافقة الكتاب ، أعمّ من أن يكون الخبر الموافق موافقا لنصّه أو ظاهره من عموم أو إطلاق ويكون الخبر المخالف مخالفا لنصّه أو ظاهره ، فإن كان مخالفا لنصّ الكتاب فإنه مطروح ولو مع عدم المعارض ، فلا ينبغي عدّ المورد من موارد الترجيح ، وإن كان مخالفا لظاهر الكتاب ، فالترجيح للموافق سواء كان المخالف مباينا للكتاب أو أخصّ مطلقا أو من وجه.

ومنها : مخالفة العامة ، والظاهر أن المراد منها مخالفة الرواية لفتاوي العامّة كما يظهر من بعض الروايات الأخر ، كما ان الظاهر أن المراد بموافقة العامّة موافقة الرواية لفتواهم في الجملة ولو واحدا منهم ، ولا يجب كونها موافقة لفتوى الجميع.

٢٢٠