رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٨

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي

رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٨

المؤلف:

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي


المحقق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الأسدي للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٨٨

وأبو لهب](١) عم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، اسمه : عبد العزى ، وكنّي بأبي لهب : لتوقد وجهه حسنا.

وإنما كنّاه الله تعالى ؛ لاشتهاره بالكنية ، والتسجيل عليه بأنه لا يراد بهذا الأمر الفظيع سواه ، ولما في تسميته بعبد العزى من الشرك (٢).

وقرأ ابن كثير : " لهب" بإسكان الهاء (٣) ، وهما لغتان ، كالنّهر والنّهر ، والشّمع والشّمع. وإنما يسوغ هذا فيما كان على هذا الوزن ، وحرف الحلق عين الفعل [أو لامه](٤).

قوله تعالى : (وَتَبَ) إخبار أن التّباب قد حصل له ووقع به. فالأول دعاء عليه ، والثاني خبر.

ويؤيده قراءة ابن مسعود : " وقد تبّ" (٥).

(ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ) استفهام في معنى الإنكار عليه. ويجوز أن يكون نفيا.

" وما" في قوله : (وَما كَسَبَ) موصولة أو مصدرية ، ومحلها الرفع. على معنى : ما أغنى عنه ماله والذي كسبه ، أو كسبه.

والمراد بكسبه : ولده. وكان قال حين أنذرهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن كان ما يقول محمد

__________________

(١) زيادة من ب.

(٢) قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (٨ / ٧٣٧) : ولا حجة فيه لمن قال بجواز تكنية المشرك على الإطلاق ، بل محل الجواز إذا لم يقتض ذلك التعظيم له أودعت الحاجة إليه.

(٣) الحجة للفارسي (٤ / ١٥١) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٧٧٦) ، والكشف (٢ / ٣٩٠) ، والنشر (٢ / ٤٠٤) ، والإتحاف (ص : ٤٤٥) ، والسبعة (ص : ٧٠٠).

(٤) في الأصل : ولامه. والمثبت من ب.

(٥) انظر هذه القراءة في : الماوردي (٦ / ٣٦٥) ، والبحر المحيط (٨ / ٥٢٦).

٧٦١

حقا فإني أفتدي بمالي وولدي (١).

ويجوز أن يراد : ما أغنى عنه رأس ماله ولا أرباحه التي اكتسبها ، أو ما أغنى عنه ماله الذي ورثه وما كسبه هو.

ثم توعده بالنار فقال : (سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ).

(وَامْرَأَتُهُ) أم جميل بنت حرب ، أخت أبي سفيان ، (حَمَّالَةَ الْحَطَبِ).

قرأ عاصم : " حمّالة" بالنصب على الذم. وقرأ الباقون : بالرفع على الصفة (٢) ، أو على معنى : هي حمالة الحطب.

قال مجاهد والسدي : كانت تمشي بالنميمة (٣). والعرب تقول : فلان يحطب على فلان ؛ إذا كان يغري به ويفسد أمره (٤). قال الشاعر يذكر امرأة :

من البيض لم تصطد على ظهر سوأة

ولم تمش بين الحيّ بالحطب الرّطب (٥)

وقال الضحاك وابن زيد : كانت تحتطب الشوك فتلقيه في طريق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٩ / ٢٦٠).

(٢) الحجة للفارسي (٤ / ١٥١) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٧٧٦ ـ ٧٧٧) ، والكشف (٢ / ٣٩٠) ، والنشر (٢ / ٤٠٤) ، والإتحاف (ص : ٤٤٥) ، والسبعة (ص : ٧٠٠).

(٣) أخرجه مجاهد (ص : ٧٩٣) ، والطبري (٣٠ / ٣٣٩) ، وابن أبي حاتم (١٠ / ٣٤٧٣) ، وابن أبي الدنيا في الصمت (ص : ١٥٨) ، والغيبة والنميمة (ص : ١١٥). وذكره الماوردي (٦ / ٣٦٧) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٩ / ٢٦٠) ، والسيوطي في الدر (٨ / ٦٦٧) وعزاه لابن أبي الدنيا في ذم الغيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد.

(٤) انظر : اللسان (مادة : حطب).

(٥) انظر البيت في : اللسان (مادة : حطب) ، وتاج العروس (مادة : حطب ، حظر) ، والقرطبي (٢٠ / ٢٣٩) ، والماوردي (٦ / ٣٦٧) ، والبحر المحيط (٨ / ٥٢٨) ، والدر المصون (٦ / ٥٨٦) ، وروح المعاني (٣٠ / ٢٦٣).

٧٦٢

ليلا (١).

والقولان عن ابن عباس.

وقال قتادة : كانت تعيّر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالفقر ، وكانت تحتطب ، فعيّرت بذلك (٢).

قال الثعلبي (٣) : وهذا قول ليس بقوي ؛ لأن الله وصفهم بالمال والولد ، وحمل الحطب ليس بعيب.

قلت : وليس هذا التضعيف بشيء ؛ لأن الاحتطاب مع كثرة المال دناءة وخسّة يأباها ذووا الأنفة.

وقال سعيد بن جبير : حمالة الخطايا (٤). تقول العرب : فلان حاطب قريته ؛ إذا كان مفسدا فيهم ، جانيا عليهم (٥).

قوله تعالى : (فِي جِيدِها) أي : في عنقها (حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ).

قال ابن قتيبة وغيره (٦) : المسد : ما أحكم فتله من أي شيء كان.

__________________

(١) أخرجه الطبري (٣٠ / ٣٣٩) ، وابن أبي حاتم (١٠ / ٣٤٧٣). وذكره الماوردي (٦ / ٣٦٧) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٩ / ٢٦١) ، والسيوطي في الدر (٨ / ٦٦٧) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد. ومن طريق آخر عن ابن عباس وعزاه لابن جرير والبيهقي في الدلائل وابن عساكر.

(٢) ذكره الطبري (٣٠ / ٣٣٩) بلا نسبة ، والماوردي (٦ / ٣٦٧) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٩ / ٢٦١).

(٣) تفسير الثعلبي (١٠ / ٣٢٧).

(٤) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٩ / ٢٦١).

(٥) انظر : اللسان (مادة : حطب).

(٦) تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة (ص : ١٦١). وذكره الواحدي في الوسيط (٤ / ٥٦٩).

٧٦٣

والمعنى : في عنقها حبل من ما مسد ، رابطة به حزمة من الحطب على ظهرها.

ذكر الله صورتها وهيئتها والحطب على ظهرها ، والحبل في عنقها ؛ تصغيرا لها ، وتحقيرا لشأنها. ولن تجد أنكى لها ولزوجها من المناداة عليها بذلك ، وهما من الشرف والعزة والمنعة والمال بالمكانة التي كانا عليها.

وقيل : المعنى : في جيدها في جهنم حبل من مسد ، وهي سلسلة من حديد ، ذرعها سبعون ذراعا ، قد أحكم فتلها ، تعذّب بها في النار.

قال أهل العلم (١) : وفي هذه السورة دلالة واضحة على صحة نبوة سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأن الله تعالى أخبر عن مصير أبي لهب وامرأته إلى النار ، وكانا من أحرص الناس على إبطال أمره ، وإفساد ما جاء به ، ولم يؤمنا به نقاما ، ليظهرا للناس الخلف فيما توعّدا به.

وعندي : أن فيه دلالة على صحة نبوته من وجهين آخرين :

أحدهما : أنه لو لم يكن هذا من عند الله تعالى لم يقدم سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على التسجيل عليهما به ؛ لجواز وقوع الإسلام منهما في ثاني الحال ، فيفضي إلى تطرّق الطعن عليه من أعدائه.

الثاني : أنه أخبر بذلك واستمرّ موجبه ، وهو [كفرهما](٢) إلى الموت المفضي بهما إليه.

قالت أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنه : «لما نزلت هذه السورة أقبلت

__________________

(١) هو قول ابن الجوزي في : زاد المسير (٩ / ٢٦٠).

(٢) في الأصل : كفرهم. والتصويب من ب.

٧٦٤

أم جميل (١) ولها ولولة وفي يدها فهر (٢) وهي تقول : مذمّما أبينا ، ودينه قلينا ، وأمره عصينا ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المسجد ومعه أبو بكر ، فقال : هذه أم جميل يا رسول الله ، وأنا أخاف أن تراك ، فقال : إنها لن تراني ، وقرأ قرآنا اعتصم به قال : (وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً) [الإسراء : ٤٥] ، ثم أقبلت على أبي بكر ولم تر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالت : يا أبا بكر إني أخبرت أن صاحبك هجاني ، فقال : لا ، ورب هذا البيت ما هجاك ، فولّت فعثرت في مرطها فقالت : تعس مذمم ، ثم انصرفت» (٣).

__________________

(١) في هامش ب : أسند البزار قصتها من حديث ابن عباس ، وقال : حديث الإسناد ، ويدخل في مسند أبي بكر رضي الله عنه.

(٢) الفهر : الحجر ملء الكفّ (اللسان ، مادة : فهر).

(٣) أخرجه الحاكم (٢ / ٣٩٣ ح ٣٣٧٦) وقال : حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

٧٦٥

سورة الإخلاص

بسم الله الرّحمن الرّحيم

وهي أربع آيات (١).

وهل هي مكية أو مدنية؟ على قولين (٢).

والكلام فيها تحصره فصول ثلاثة :

الفصل الأول : في فضيلتها :

أخبرنا أبو المجد محمد بن أبي بكر الكرابيسي قراءة عليه وأنا أسمع ، أخبرنا الشيخان عبد الرزاق بن إسماعيل بن محمد وابن عمه [المطهر](٣) بن عبد الكريم بن محمد قالا : أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن حمد الدوني ، أخبرنا أبو نصر أحمد بن الحسين بن الكسار الدينوري ، أخبرنا الحافظ أبو بكر أحمد بن محمد السني ، أخبرنا أبو يعلى ، حدثنا حوثرة بن أشرس (٤) قال : حدثنا المبارك بن فضالة ، عن ثابت ، عن أنس بن مالك : «أن رجلا قال : يا رسول الله إني أحب (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) قال :

__________________

(١) انظر : البيان في عدّ آي القرآن (ص : ٢٩٦).

(٢) ممن قال بأنها مكية : ابن مسعود والحسن وعطاء وعكرمة وجابر. وممن قال بأنها مدنية : ابن عباس وقتادة والضحاك والسدي (انظر : الماوردي (٦ / ٣٦٩ ، وزاد المسير ٩ / ٢٦٤).

(٣) في الأصل : المظفر. والتصويب من ب.

(٤) حوثرة بن أشرس بن عون بن مجشر بن حجين ، المحدث الصدوق ، أبو عامر العدوي البصري ، توفي في آخر سنة اثنتين وثلاثين ومائتين (سير أعلام النبلاء ١٠ / ٦٦٨).

٧٦٦

حبّك إياها أدخلك الجنة» (١).

وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها : «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث رجلا على سرية وكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم فيختم ب (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) ، فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : سلوه لأي شيء يصنع ذلك؟ فقال : لأنها صفة الرحمن ، فأنا أحبّ أن أقرأ بها ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أخبروه أن الله عزوجل يحبه» (٢).

وبالإسناد قال السني : حدثنا قتيبة بن سعيد ، عن مالك ، عن عبيد الله بن عبد الرحمن ، عن عبيد ـ مولى آل زيد بن الخطاب ـ قال : سمعت أبا هريرة يقول : «أقبلنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسمع رجلا يقرأ : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وجبت ، فسألته ما ذا يا رسول الله؟ قال : الجنة» (٣).

وبالإسناد قال السني : أخبرنا أبو يعلى ، حدثنا عبيد الله بن معاذ ، حدثنا أبي ، حدثنا شعبة ، عن علي بن مدرك ، عن إبراهيم النخعي ، عن الربيع بن خثيم ، عن عبد الله بن مسعود ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن كل ليلة ، قالوا : ومن يستطيع ذلك؟ قال : بلى (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ)(٤).

وبه قال الحافظ أبو بكر السني : أخبرنا الحسين بن يوسف ، ثنا علي بن

__________________

(١) أخرجه البخاري (١ / ٢٦٨ ح ٧٤١) ، وابن السني في عمل اليوم والليلة (ص : ٣٢٣ ـ ٣٢٤).

(٢) أخرجه البخاري (٦ / ٢٦٨٦ ح ٦٩٤٠) ، ومسلم (١ / ٥٥٧ ح ٨١٣).

(٣) أخرجه النسائي في السنن الكبرى (٦ / ١٧٧ ح ١٠٥٣٨) ، وابن السني في عمل اليوم والليلة (ص : ٣٢٤).

(٤) أخرجه النسائي في الكبرى (٦ / ١٧٢ ح ١٠٥١١) ، وابن السني في عمل اليوم والليلة (ص : ٣٢٤).

٧٦٧

عبد الرحمن بن المغيرة ، حدثنا عثمان بن صالح ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثني زبان بن فائد ، عن سهل بن معاذ ، عن أبيه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) حتى ختمها عشر مرات بني له بها قصر في الجنة» (١).

أخبرنا الشيخان أبو القاسم وأبو الحسن قالا : أخبرنا عبد الأول ، أخبرنا عبد الرحمن ، أخبرنا عبد الله ، أخبرنا محمد الفربري ، حدثنا محمد البخاري ، حدثنا إسماعيل ، حدثنا مالك.

وأخبرنا حنبل بن عبد الله إذنا ، أخبرنا أبو القاسم بن الحصين ، أخبرنا ابن المذهب ، أخبرنا القطيعي ، حدثنا عبد الله بن الإمام [أحمد](٢) قال : حدثني أبي ، قال : حدثنا إسحاق ، حدثنا مالك ، عن عبد الرحمن بن عبد الله الأنصاري ، عن أبيه ، عن أبي سعيد الخدري : «أن رجلا قال : يا رسول الله! إن لي جارا يقوم بالليل ولا يقرأ إلا (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) كأنه يقللها ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن» (٣). انفرد بإخراجه البخاري.

وبالإسناد [قال](٤) الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن

__________________

(١) أخرجه أحمد (٣ / ٤٣٧) ، والطبراني في الكبير (٢٠ / ١٨٣ ح ٣٩٧) ، وابن السني في عمل اليوم والليلة (ص : ٣٢٤ ـ ٣٢٥).

وفي هامش ب : قد رواه الإمام أحمد في مسنده فقال : حدثنا حسن ، ثنا ابن لهيعة ، ح وحدثنا يحيى بن غيلان ، ثنا رشدين ، ثنا زبان بن فائد الحبراني ، فذكره. وفيه زيادة : قال عمر : يا رسول الله إذا نستكثر ، فقال : الله أكثر وأطيب (انظر : مسند أحمد ٣ / ٤٣٧).

(٢) زيادة من ب.

(٣) أخرجه البخاري (٤ / ١٩١٥ ح ٤٧٢٦) ، وأحمد (٣ / ٤٣ ح ١١٤١٠).

(٤) في الأصل : عن. والمثبت من ب.

٧٦٨

[يزيد](١) بن كيسان ، حدثني أبو حازم ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «احشدوا ، فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن ، قال : فحشد من حشد ، ثم خرج فقرأ : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ* اللهُ الصَّمَدُ) ثم دخل فقال بعضنا لبعض : هذا خبر جاءه من السماء ، فذلك الذي أدخله ، ثم خرج فقال : إني قد قلت لكم سأقرأ عليكم ثلث القرآن ، وإنها تعدل ثلث القرآن» (٢). انفرد بإخرجه مسلم فرواه عن يعقوب الدورقي ، عن يحيى.

الفصل الثاني في سبب نزولها :

أخرج الترمذي من حديث أبي بن كعب : «أن المشركين قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : انسب لنا ربك ، فأنزل الله تبارك وتعالى : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ* اللهُ الصَّمَدُ* لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ) لأنه ليس شيء يولد إلا سيموت ، وليس شيء يموت إلا سيورث ، وإن الله تعالى لا يموت ولا يورث ، (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) قال : لم يكن له شبيه ولا [عدل](٣) ، وليس كمثله شيء» (٤).

وروى الشعبي عن جابر قال : «قالوا يا رسول الله : انسب لنا ربك ، فنزلت : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) إلى آخرها» (٥).

__________________

(١) في الأصل : زيد. والتصويب من ب ، والمسند (٢ / ٤٢٩).

(٢) أخرجه مسلم (١ / ٥٥٧ ح ٨١٢) ، وأحمد (٢ / ٤٢٩ ح ٩٥٣١).

(٣) في الأصل : عديل. والتصويب من ب ، وجامع الترمذي (٥ / ٤٥١).

(٤) أخرجه الترمذي (٥ / ٤٥١ ح ٣٣٦٤).

(٥) أخرجه الطبراني في الأوسط (٦ / ٢٥ ح ٥٦٨٧) ، والطبري (٣٠ / ٣٤٣) ، والبيهقي في الشعب (٢ / ٥٠٨ ح ٢٥٥٢) ، وأبو نعيم في الحلية (٤ / ٣٣٥). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ٦٦٩) وعزاه لأبي يعلى وابن جرير وابن المنذر والطبراني في الأوسط وأبي نعيم في الحلية والبيهقي بسند حسن.

٧٦٩

الفصل الثالث : في تفسيرها :

(قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ (١) اللهُ الصَّمَدُ (٢) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ)(٤)

قال الله تعالى : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) قال الزجاج (١) : هو كناية عن ذكر الله تعالى. والمعنى : الذي سألتم تبيين نسبته : هو الله. و" أحد" مرفوع على معنى : هو أحد. المعنى : هو الله هو أحد. ويجوز أن يكون" هو" (٢) [للأمر](٣) ، كما تقول : هو زيد قائم ، أي : الأمر زيد قائم. فالمعنى : الأمر الله أحد.

قرأت على الشيخين أبي البقاء اللغوي وأبي عمرو الياسري لأبي عمرو من رواية أبي خلاد عن اليزيدي عنه : " أحد الله" بضم الدال وصلتها باسم الله من غير تنوين ولالتقاء ساكنين (٤).

(اللهُ الصَّمَدُ) قال بعض المفسرين : الصمد : الذي يصمد إليه في الحوائج (٥). ويروى هذا مرفوعا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. يقال : صمدت صمده ؛ إذا قصدت قصده (٦).

وقال الزجاج (٧) : الصّمد : السيد الذي ينتهي إليه السّؤدد.

__________________

(١) معاني الزجاج (٥ / ٣٧٧).

(٢) في هامش ب : ويسمى ضمير الشأن.

(٣) في الأصل : الأمر. والتصويب من ب ، ومعاني الزجاج (٥ / ٣٧٧).

(٤) انظر : الحجة للفارسي (٤ / ١٥٣) ، والسبعة (ص : ٧٠١).

(٥) ذكره الطبري (٣٠ / ٣٤٧) ، والماوردي (٦ / ٣٧١) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٩ / ٢٦٧).

(٦) انظر : اللسان (مادة : صمد).

(٧) معاني الزجاج (٥ / ٣٧٧ ـ ٣٧٨).

٧٧٠

قال الشاعر :

لقد بكّر النّاعي بخيري بني أسد

بعمرو بن ميمون وبالسّيّد الصّمد (١)

قال غيره : ومعنى هذا : أن السؤدد قد انتهى إليه ، فلا سيد فوقه (٢).

وقال ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة وقتادة والضحاك والسدي : الصّمد : الذي لا جوف له (٣).

قال ابن قتيبة (٤) : كأن الدال في هذا التفسير مبدلة عن تاء.

وحكى الزجاج والخطابي (٥) : أن الصّمد : الباقي بعد فناء خلقه.

قوله تعالى : (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ) تكذيب لليهود والنصارى في قولهم : عزير ابن الله ، والمسيح ابن الله.

والمعنى : " لم يلد" ؛ لأنه لا يجانس حتى يكونه له صاحبة من جنسه فيتوالدان ، ويدل عليه قوله في موضع آخر : (أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ

__________________

(١) البيت لسبرة بن عمرو الأسدي. وهو في : اللسان (مادة : صمد ، خير) ، ومجاز القرآن (٢ / ٣١٦) ، والطبري (٣٠ / ٣٤٧) ، والقرطبي (٢٠ / ٢٤٥) ، والماوردي (٦ / ٣٧١) ، وزاد المسير (٩ / ٢٦٨) ، والبحر (٨ / ٥٢٩) ، والدر المصون (٦ / ٥٨٩) ، وإصلاح المنطق (ص : ٤٩) ، والأغاني (٢٢ / ٩٦) ، ونسبه الجاحظ في البيان والتبيين (ص : ١٠٦) لامرأة من بني أسد. وفي كل المصادر : " عمرو بن مسعود" بدل : " عمرو بن ميمون".

(٢) ذكره الواحدي في الوسيط (٤ / ٥٧١).

(٣) أخرجه مجاهد (ص : ٧٩٤) ، والطبري (٣٠ / ٣٤٤ ـ ٣٤٥). وذكره الماوردي (٦ / ٣٧١) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٩ / ٢٦٨) ، والسيوطي في الدر (٨ / ٦٧١) وعزاه للطبراني في السنة عن الضحاك.

(٤) تفسير غريب القرآن (ص : ٥٤٢).

(٥) شأن الدعاء للخطابي (ص : ٨٥).

٧٧١

صاحِبَةٌ) [الأنعام : ١٠١] ، " ولم يولد" ؛ لأن كل مولود محدث وجسم ، وهو تعالى منزه عن ذلك.

(وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) قرأ حمزة : " كفوا" بسكون الفاء. وقرأ حفص : بالتثقيل وقلب الهمزة واوا ، الباقون : بالتثقيل والهمز (١). وقد ذكرنا أنها لغات فيما مضى.

قال أبي بن كعب : المعنى : لم يكن له مثل ولا عديل (٢).

قال مجاهد : لم يكن له صاحبة (٣).

قال قتادة : لا يكافئه أحد من خلقه (٤).

وفيه تقديم وتأخير ، تقديره : لم يكن له أحد كفوا ، لكنه راعى رؤوس الآي.

قرأت على أبي الحسن علي بن أبي بكر ، أخبركم أبو الوقت فأقرّ به.

وأخبرنا أحمد بن عبد الله العطار قال : أخبرنا أبو الوقت قال : أخبرنا الداودي ، أخبرنا السرخسي ، أخبرنا الفربري ، حدثنا البخاري ، حدثنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيب ، حدثنا أبو الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «قال الله عزوجل : كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك ، وشتمني ولم يكن له ذلك. فأما تكذيبه إياي [فقوله](٥) : لن يعيدني كما بدأني ، وليس أول الخلق بأهون عليّ من إعادته.

__________________

(١) انظر : الحجة للفارسي (٤ / ١٥٨) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٧٧٧) ، والكشف (١ / ١١٦) ، والنشر (٢ / ٢١٥) ، والإتحاف (ص : ٤٤٥) ، والسبعة (ص : ٧٠١ ـ ٧٠٢).

(٢) ذكره الماوردي (٦ / ٣٧٢).

(٣) أخرجه الطبري (٣٠ / ٣٤٨). وذكره الماوردي (٦ / ٣٧٢).

(٤) ذكره الماوردي (٦ / ٣٧٢).

(٥) في الأصل : قوله. والمثبت من ب ، والصحيح.

٧٧٢

وأما شتمه إياي فقوله : اتخذ الله ولدا ، وأنا الأحد الصمد ، لم ألد ولم أولد ، ولم يكن لي كفوا أحد» (١).

__________________

(١) أخرجه البخاري (٤ / ١٩٠٣ ح ٤٦٩٠).

٧٧٣

سورة الفلق

بسم الله الرّحمن الرّحيم

وهي خمس آيات (١).

وهل هي وأختها من المكي أو المدني؟ فيه قولان (٢).

وكان السبب في نزولها : على ما روي عن عائشة وابن عباس وعامة المفسرين ، وصح به الحديث : «أن غلاما من اليهود كان يخدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فدبّت إليه اليهود ، فلم يزالوا به حتى أخذ مشاطة رأس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعدة أسنان من مشطه ، فأعطاها اليهود ، فسحروه فيها ، وكان الذي تولى ذلك رجل منهم يقال له : لبيد بن الأعصم ، وجعله في بئر لبني زريق يقال لها : بئر ذروان (٣). فمرض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وانتثر شعر رأسه ، ولبث ستة أشهر يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن ، وجعل يذوب ، ولم يدر ما عراه ، فبينا هو نائم أتاه ملكان ، فقعد أحدهما عند رأسه ، والآخر عند رجليه ، فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه : ما بال الرجل؟ قال : مطبوب. فقال : ومن طبّه؟ قال : لبيد بن أعصم. قال : وبم طبّه؟ قال : بمشط ومشاطة. قال :

__________________

(١) انظر : البيان في عدّ آي القرآن (ص : ٢٩٧).

(٢) ممن قال بأنها مكية : الحسن وعكرمة وعطاء وجابر. وممن قال بأنها مدنية : ابن عباس في أحد قوليه وقتادة (انظر : الماوردي ٦ / ٣٧٣ ، وزاد المسير ٩ / ٢٧٠). والقول بأنها مدنية أصح.

(٣) ذروان : بئر لبني زريق بالمدينة (معجم معالم الحجاز ٣ / ٢٥٣).

٧٧٤

وأين هو؟ قال : في جفّ طلعة تحت راعوفة (١) في بئر ذروان. فانتبه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مذعورا فقال : يا عائشة! أشعرت أن الله أخبرني بدائي ، ثم بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليا والزبير وعمار بن ياسر فنزحوا ماء تلك البئر كأنه نقاعة الحناء ، ثم رفعوا الصخرة وأخرجوا الجف ـ والجفّ : قشر الطّلع ـ وإذا فيه مشاطة رأسه وأسنان من مشطه ، وإذا وتر معقد فيه إحدى عشرة عقدة مغرزة بالإبر ، فأنزل الله هاتين السورتين ، فجعل كلما قرأ آية انحلّت عقدة ، ووجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خفة حين انحلّت العقدة الأخيرة ، فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كأنما نشط من عقال ، وجعل جبريل يقول : بسم الله أرقيك ، والله يشفيك ، من كل شيء يؤذيك ، من حاسد وعين ، الله يشفيك ، فقالوا : يا رسول الله! أفلا نأخذ الخبيث فنقتله؟ فقال : أما أنا فقد شفاني الله ، وأكره أن أثير على الناس شرا» (٢).

(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (١) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (٢) وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (٣) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (٤) وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ)(٥)

قال الله تعالى : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) أي : ألوذ به وألجأ إليه.

و" الفلق" : الصبح ، في قول الحسن ومجاهد (٣) وسعيد بن جبير وقتادة وعامة

__________________

(١) في هامش ب : راعوفة البئر : هي صخرة تترك في أسفل البئر إذا حفرت تكون ناتئة هناك ، فإذا أرادوا تنقية البئر جلس المستقي عليها. وقيل : هي حجر يكون على رأس البئر يقوم المستقي عليه.

ويروى بالثاء المثلثة. والمشهور : الأول (انظر : اللسان ، مادة : رعف).

(٢) أخرجه مختصرا : البخاري (٣ / ١١٩٢ ح ٣٠٩٥) ، ومسلم (٤ / ١٧١٩ ـ ١٧٢٠ ح ٢١٨٩) كلاهما من حديث عائشة. وذكره الثعلبي (١٠ / ٣٣٨) واللفظ له.

(٣) أخرجه مجاهد (ص : ٧٩٦).

٧٧٥

المفسرين واللغويين والعرف (١). تقول : هو أبين من فلق الصبح وفرق الصبح.

وقال الضحاك : " الفلق" : الخلق كله (٢).

قال الزجاج (٣) : إذا تأملت الخلق بان لك أن أكثره عن انفلاق ؛ كالأرض بالنبات ، والسحاب بالمطر.

وقال وهب والسدي : سجن في جهنم (٤).

وجاء في بعض الآثار : أنه بيت في جهنم ، إذا فتح صاح جميع أهل النار من شدة حرّه (٥).

وهذه الأقوال الثلاثة مروية عن ابن عباس.

(مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ) من الجن والإنس وسائر المخلوقات.

(وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ) أخرج الترمذي من حديث عائشة قالت : «نظر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى القمر فقال : يا عائشة! استعيذي بالله من شر هذا ، هو الغاسق إذا وقب» (٦).

__________________

(١) أخرجه الطبري (٣٠ / ٣٥٠). وذكره الماوردي (٦ / ٣٧٤) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٩ / ٢٧٢) ، والسيوطي في الدر (٨ / ٦٨٨) وعزاه لابن جرير عن ابن عباس.

(٢) أخرجه الطبري (٣٠ / ٣٥١) ، وابن أبي حاتم (١٠ / ٣٤٧٥) كلاهما عن ابن عباس. وذكره الماوردي (٦ / ٣٧٤) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٩ / ٢٧٣).

(٣) معاني الزجاج (٥ / ٣٧٩).

(٤) أخرجه الطبري (٣٠ / ٣٥١) عن السدي ، ولفظه : جب في جهنم. وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٩ / ٢٧٣).

(٥) أخرجه الطبري (٣٠ / ٣٥٠).

(٦) أخرجه الترمذي (٥ / ٤٥٢ ح ٣٣٦٦).

٧٧٦

قال ابن قتيبة (١) : يقال : " الغاسق" : القمر إذا كسف فاسودّ. ومعنى" وقب" : دخل في الكسوف.

وقال ابن زيد : يعني : الثريا إذا سقطت. قال : وكانت الأسقام والطواعين تكثر عند وقوعها ، وترتفع عند طلوعها (٢).

وقال ابن عباس والحسن ومجاهد وعامة المفسرين واللغويين : " الغسق" : الليل (٣). ومعنى" وقب" : دخل في كل شيء فأظلم (٤).

قال الزجاج (٥) : " الغاسق" : البارد ، فقيل لللّيل غاسق ؛ لأنه أبرد من النهار.

وقوله تعالى : (وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ) وقرأت على شيخنا أبي البقاء للكسائي من رواية ابن أبي سريج عنه : " النافثات" بتقدم الألف على الفاء (٦) ، وهنّ اللاتي يعقدن عقدا في خيوط وينفثن عليها بريقهن.

وقال بعض المفسرين : المراد بهن : بنات لبيد بن الأعصم ، سحرن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٧).

__________________

(١) تفسير غريب القرآن (ص : ٥٤٣).

(٢) أخرجه الطبري (٣٠ / ٣٥٢) ، وأبو الشيخ في العظمة (٤ / ١٢١٩ ح ٦٩٤١). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ٦٨٩) وعزاه لابن جرير وأبي الشيخ.

(٣) أخرجه مجاهد (ص : ٧٩٦).

(٤) أخرجه الطبري (٣٠ / ٣٥١). وذكره الماوردي (٦ / ٣٧٥) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٩ / ٢٧٤).

(٥) معاني الزجاج (٥ / ٣٧٩).

(٦) النشر (٢ / ٤٠٤) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٤٤٥).

(٧) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٩ / ٢٧٥).

٧٧٧

والمعنى : استعذ بالله من شر سحرهن.

(وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ) وقد ذكرنا الحسد وما جاء فيه وفي ذمّه في سورة البقرة.

قال صاحب الكشاف (١) : إن قلت : قوله : (مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ) تعميم في كل ما يستعاذ منه ، فما معنى الاستعاذة [بعده] من الغاسق والنفاثات والحاسد؟

قلت : قد خصّ شر هؤلاء من كل شر ؛ لخفاء أمره ، وأنه يلحق الإنسان من حيث لا يعلم ، كأنما يغتال به.

فإن قلت : لم عرّف بعض المستعاذ منه ونكّر بعضه؟

قلت : عرّف" النفاثات" ؛ لأن كل نفاثة شريرة ، ونكّر" غاسق" ؛ لأن كل غاسق لا يكون فيه الشر ، إنما يكون في بعض دون بعض ، وكذلك كل حاسد لا يضر. ورب حسد محمود ، وهو الحسد في الخيرات. ومنه قوله عليه‌السلام : «لا حسد إلا في اثنتين» (٢).

وقال :

 ..............

إن العلى حسن في مثلها الحسد (٣)

وبالإسناد السابق قال أبو بكر السني : أخبرنا أبو عبد الرحمن ـ يعني : النسائي ـ ، حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا الليث بن سعد ، عن يزيد بن أبي حبيب ،

__________________

(١) الكشاف (٤ / ٨٢٧).

(٢) أخرجه البخاري (١ / ٣٩ ح ٧٣) ، ومسلم (١ / ٥٥٨ ح ٨١٥).

(٣) عجز بيت لأبي تمام الطائي ، وصدره : (واعذر حسودك فيما قد خصصت به). وهو في : الكشاف (٤ / ٨٢٧) ، والبحر المحيط (٨ / ٥٣٤).

٧٧٨

عن أبي عمران أسلم ، عن عقبة بن عامر قال : «تبعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو راكب ، فوضعت يدي على قدمه فقلت : أقرئني سورة هود وسورة يوسف ، فقال : لن تقرأ شيئا أبلغ عند الله عزوجل من (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ)(١).

__________________

(١) أخرجه النسائي في الصغرى (٨ / ٢٥٤ ح ٥٤٣٩) ، وابن السني في عمل اليوم والليلة (ص : ٣٢٥ ـ ٣٢٦).

٧٧٩

سورة الناس

بسم الله الرّحمن الرّحيم

وهي ست آيات (١).

(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (١) مَلِكِ النَّاسِ (٢) إِلهِ النَّاسِ (٣) مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (٤) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (٥) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ)(٦)

قال الله تعالى : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) قال أهل المعاني : لما كانت الاستعاذة من شر الموسوس في صدور الناس اقتطعهم من بين سائر الخلق ، بإضافة الرب إليهم ، تحقيقا لمعنى استحقاق الاستعاذة به ، وتنبيها لهم على الالتجاء إليه ، والخضوع بين يديه ؛ لأنه ربهم ومالكهم الذي يقدر على دفع ما يضرهم عنهم.

و (مَلِكِ النَّاسِ) عطف بيان ، لأنه قد يقال لغيره ربّ.

و (إِلهِ النَّاسِ) زيادة في البيان أيضا ، لأنه قد يقال لغيره جل وعلا ربّ ملك.

وأما الإله فهو الذي لا يشارك فيه.

(مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ) وهو الشيطان.

وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «الشيطان جاثم على قلب ابن

__________________

(١) انظر : البيان في عدّ آي القرآن (ص : ٢٩٨).

٧٨٠