رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٦

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي

رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٦

المؤلف:

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي


المحقق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الأسدي للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٥

١
٢

سورة الروم

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وهي ستون آية في العدد الكوفي ، وستون إلا آية في العدد المدني ، وهي مكية بالإجماع.

والسبب في نزولها : «أنه كان بين فارس والروم حرب ، فغلبت فارس الروم ، فشقّ ذلك على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ؛ لكون الروم أهل كتاب ، وفرح المشركون بذلك ؛ لما بينهم وبين فارس من الاشتراك في الإشراك والاتحاد في التكذيب بالمعاد. وقال كفار قريش لأصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لئن قاتلتمونا لنظهرن عليكم كما ظهر إخواننا على إخوانكم ، فأنزل الله تعالى : (الم* غُلِبَتِ الرُّومُ* فِي أَدْنَى الْأَرْضِ ...) الآيات فخرج بها أبو بكر الصديق إلى المشركين فقالوا : هذا كلام صاحبكم فقال : الله أنزل هذا ، وكانت فارس قد غلبت الروم حتى اتخذوهم شبه العبيد. فقالوا لأبي بكر : نراهنك على أن الروم لا تغلب فارس ، وكان الذي راهنه أبيّ بن خلف ، وقيل : أبو سفيان بن حرب ، وذلك قبل تحريم الرهان ، فقالوا لأبي بكر : اجعل بيننا وبينك أجلا ننتهي إليه ، فسمّوا بينهم ست سنين ، فلام المسلمون أبا بكر على تسمية الست ، وقالوا : هلّا قررتها كما أقرّها الله تعالى ، لو شاء الله أن يقول : ستا لقال ، فمضت الست قبل أن تظهر الروم ، فأخذ المشركون رهن أبي بكر ، فلما دخلت السنة السابعة ظهر الروم على فارس» (١).

__________________

(١) أخرجه الترمذي (٥ / ٣٤٤ ح ٣١٩٤) من حديث نيار بن مكرم الأسلمي ، وأخرج الحاكم (٢ / ٤٤٥) نحوه عن ابن عباس وقال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، والطبري ـ

٣

وجاء في رواية أخرى : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأبي بكر : ألا احتطت ، فزاد في الخطر ومادّ في الأجل ، فظهرت الروم على فارس ، فأخذ أبو بكر رهانهم ، وأتى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : تصدق به ، وأسلم عند ذلك خلق كثير (١).

(الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٣) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤) بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٥) وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) (٧)

قوله تعالى : (غُلِبَتِ الرُّومُ* فِي أَدْنَى الْأَرْضِ) يعني : في أدنى أرض العرب ؛ لأنها الأرض المعهودة عندهم.

قال ابن عباس : هي الأردن [و] فلسطين (٢).

وقال عكرمة : أذرعات وكسكر (٣).

__________________

ـ (٢١ / ١٦ ـ ١٨) ، وابن أبي حاتم (٩ / ٣٠٨٦). وانظر : الدر المنثور (٦ / ٤٧٩ وما بعدها).

(١) أخرجه الطبري (٢١ / ١٧). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٦ / ٢٨٧ ـ ٢٨٨) ، وبنحوه السيوطي في الدر (٦ / ٤٧٩ ـ ٤٨٠) وعزاه لأبي يعلى وابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن البراء بن عازب.

(٢) ذكره الماوردي (٤ / ٢٩٨) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٦ / ٢٨٨) كلاهما من قول السدي. وما بين المعكوفين زيادة من المصدرين السابقين.

(٣) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٤٢٧) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٦ / ٢٨٨).

وأذرعات : بالفتح ثم السكون وكسر الراء جمع أذرعة ، وهي بلد في أطراف الشام يجاور أرض ـ

٤

وقيل : أراد في أدنى أرضهم على إنابة اللام مناب المضاف إليه ، أي : في أقرب أرض الروم إلى عدوهم.

قال مجاهد : هي أرض الجزيرة ، وهي أدنى أرض الروم إلى فارس (١).

(وَهُمْ) يعني : الروم (مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ) وقرأ أبو الدرداء وأبو رجاء وعكرمة : «غلبهم» بسكون اللام (٢) ، وهما مصدران ؛ [كالحلب](٣) والحلب ، والجلب والجلب ، وهذا من باب إضافة المصدر إلى المفعول.

والمعنى : وهم من بعد غلب فارس إياهم (سَيَغْلِبُونَ) فارس.

(فِي بِضْعِ سِنِينَ) في البضع أقوال ذكرتها في سورة يوسف (٤).

وقد أخرج الترمذي من حديث أبي سعيد قال : «لما كان يوم بدر ظهرت الروم على فارس ، فأعجب ذلك المؤمنين ، فنزلت : (الم* غُلِبَتِ الرُّومُ) إلى قوله تعالى : (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ) قال : ففرح المؤمنون بظهور الروم على فارس» (٥).

وقرأ جماعة : منهم أبو سعيد الخدري ، والحسن ، وعيسى بن عمر : «غلبت

__________________

ـ البلقاء وعمان (معجم البلدان ١ / ١٣٠) ، وتسمى الآن : درعا.

وكسكر : بالفتح ثم السكون وكاف أخرى ، ومعناه : عامل الزرع ، وهي منطقة واسعة على نهر دجلة بالعراق (معجم البلدان ٤ / ٤٦١).

(١) ذكره الماوردي (٤ / ٢٩٨) ، والواحدي في الوسيط (٣ / ٤٢٧) بلا نسبة ، وابن الجوزي في زاد المسير (٦ / ٢٨٨).

(٢) انظر هذه القراءة في : زاد المسير (٦ / ٢٨٨).

(٣) في الأصل : كالحب.

(٤) عند الآية رقم : ٤٢.

(٥) أخرجه الترمذي (٥ / ٣٤٣ ح ٣١٩٢).

٥

الروم» بفتح الغين واللام ، «سيغلبون» بضم الياء وفتح اللام (١) ، وبها قرأت لأوقية عن اليزيدي ، فيكون قوله : «غلبهم» من باب إضافة المصدر إلى الفاعل.

والمعنى : غلبت الروم فارس في أدنى الأرض «وهم» يعني : الروم (مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ) أي : يغلبهم المسلمون ، (فِي بِضْعِ سِنِينَ) عند انقضاء هذه المدة أخذ المسلمون في جهاد الروم.

(لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) أي : من قبل أن يغلبوا وما بعد ما يغلبون.

(وَيَوْمَئِذٍ) يعني : يوم غلبة الروم فارس (يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ) تعالى أهل الكتاب على فارس.

وقيل : يفرح المؤمنون بنصر الله إياهم في إظهار صدقهم وتحقيق معجزة نبيهم.

ويجيء على الحديث الذي رويناه آنفا ؛ أن يراد : نصر المؤمنين يوم بدر. ويجوز أن يراد عموم ذلك.

قال الزجاج (٢) : وهذه من الآيات التي تدل على أن القرآن من عند الله ؛ لأنه أنبأ بما سيكون ، وهذا لا يعلمه إلا الله تعالى.

قوله تعالى : (وَعْدَ اللهِ) قال الزجاج (٣) : النصب على أنه مصدر مؤكد ؛ لأن قوله : (مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ) هو وعد من الله تعالى للمؤمنين ، فقوله : (وَعْدَ اللهِ) بمنزلة وعد الله وعدا.

__________________

(١) ذكر هذه القراءة أبو حيان في : البحر المحيط (٧ / ١٥٧) ، والسمين الحلبي في : الدر المصون (٥ / ٣٧٠ ، ٣٧١).

(٢) معاني الزجاج (٤ / ١٧٥).

(٣) معاني الزجاج (٤ / ١٧٧).

٦

(لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ) أن الروم تظهر على فارس ، (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ) من أهل مكة (لا يَعْلَمُونَ) أن الله وعد بذلك.

(يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) مما يتعلق بمكاسبهم ومعايشهم.

قال الحسن البصري : بلغ ـ والله ـ من علم أحدهم بالدنيا أنه ينقر الدرهم بيده فيخبرك بوزنه ولا يحسن يصلي (١).

قال الزمخشري (٢) : قوله : (يَعْلَمُونَ) بدل من قوله : (لا يَعْلَمُونَ) وهذا الإبدال من النكتة أنه أبدله منه ، وجعله بحيث يقوم مقامه ويسدّ مسدّه ، ليعلمك أنه لا فرق بين عدم العلم الذي هو الجهل ، وبين وجود العلم الذي لا يتجاوز الدنيا ، وقوله تعالى : (ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا)(٣) يفيد أن [للدنيا](٤) ظاهرا وباطنا ، فظاهرها ما يعرفه الجهال من التمتع بزخارفها والتنعم بملاذها ، وباطنها وحقيقتها أنها مجاز إلى الآخرة ، يتزود منها إليها بالطاعة والأعمال الصالحة.

(وَهُمْ) الثانية يجوز أن تكون مبتدأ ، و (غافِلُونَ) خبره ، والجملة خبر «هم» الأولى ، وأن يكون [تكريرا للأولى](٥) ، و «غافلون» [خبر](٦) الأولى.

__________________

(١) أخرجه ابن أبي حاتم (٩ / ٣٠٨٨). وذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٤٢٨) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٦ / ٢٨٩) ، والسيوطي في الدر (٦ / ٤٨٤) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.

(٢) الكشاف (٣ / ٤٧٣ ـ ٤٧٤).

(٣) قوله : وقوله : (ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) مكرر في الأصل.

(٤) في الأصل : الدنيا. والتصويب من الكشاف (٣ / ٤٧٤).

(٥) في الأصل : تكرير الأولى. والتصويب من الكشاف (٣ / ٤٧٤).

(٦) في الأصل : خبره. والتصويب من الكشاف ، الموضع السابق.

٧

(أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (٨) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٩) ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ)(١٠)

قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ) يجوز أن يكون (فِي أَنْفُسِهِمْ) ظرفا ، على معنى : أو لم يحدثوا (١) التفكر في أنفسهم ، أي : في قلوبهم [الفارغة من الفكر](٢) ، والتفكر لا يكون إلا في القلوب ، ولكنه زيادة تصوير لحال المتفكرين ، كقولك : «اعتقده في قلبك وأضمره في نفسك» ، وأن يكون صلة للتفكر ، كقولك : تفكّر في الأمر (٣).

(ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ) قال صاحب الكشاف (٤) : يجوز أن يكون «ما» نفيا فتقف على قوله : (فِي أَنْفُسِهِمْ) وتبتدئ ب «ما» ، وقد عدى التفكر ب «في» ، فجرى مجرى قوله : (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ

__________________

(١) قوله : «يحدثوا» مكرر في الأصل.

(٢) زيادة من الكشاف (٣ / ٤٧٤).

(٣) إلى هنا ينتهي كلام الزمخشري في الكشاف (٣ / ٤٧٤).

(٤) لم أقف عليه في الكشاف.

٨

السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [الأعراف : ١٨٥].

ويجوز أن تجعل «ما» متصلا بما قبله وإن كان نفيا ، كقوله تعالى : (وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) [فصلت : ٤٨]. والمعنى : لم يخلقهما عبثا ولا باطلا.

قال الفراء والزجاج (١) في قوله تعالى : (إِلَّا بِالْحَقِ) أي : إلا للحق ، أي : لإقامة الحق ، يعني : للثواب والعقاب.

وقال الزمخشري (٢) : الباء في قوله : (إِلَّا بِالْحَقِ) مثلها في قولك : دخلت عليه بثياب السفر ، واشترى الفرس بسرجه ولجامه ، يريد : اشتراه وهو ملتبس بالسرج واللجام ، غير منفك عنهما. وكذلك المعنى : ما خلقهما إلا وهي ملتبسة بالحق مقترنة به.

(وَأَجَلٍ مُسَمًّى) أي : وتقرير أجل مسمى ، وهو قيام الساعة.

قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) هذا الاستفهام في معنى التقرير لسيرهم في البلاد ونظرهم في آثار الهالكين من الأمم المكذبة.

ثم وصفهم فقال : (كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ) حرثوها وقلبوها للزراعة والغرس ، ويقال لبقر الحرث : المثيرة ، ومنه : الثّور ؛ لإثارته الأرض.

ويروى عن أبي جعفر : «وآثاروا الأرض» بالمد (٣).

وقال ابن مجاهد : ليس هذا بشيء.

__________________

(١) معاني الفراء (٢ / ٣٢٢) ، ومعاني الزجاج (٤ / ١٧٨).

(٢) الكشاف (٣ / ٤٧٤).

(٣) انظر هذه القراءة في : البحر (٧ / ١٥٩) ، والدر المصون (٥ / ٣٧٢).

٩

قال أبو الفتح (١) : ظاهره لعمري منكر ، إلا أن له وجها [مّا ، وليس](٢) لحنا مقطوعا به ، وذلك أنه أراد : (وَأَثارُوا) ، إلا أنه أشبع الفتحة من الهمزة ، فأنشأ عنها ألفا ، وقد ذكرنا ذلك وشواهده ، ونحوه :

 .............

ومن ذمّ الرجال بمنتزاح (٣)

أراد : بمنتزح. وقد سبق إنشاد البيت.

وهذا لعمري مما يختص به ضرورة الشعر ، ولا يجوز في القرآن.

قوله تعالى : (وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها) أي : وعمرها أولئك [المدمرون](٤) أكثر مما عمرتها قريش ؛ لشدة بطشهم وطول أعمارهم وآمالهم ، وكثرة عددهم وعددهم.

ويجوز أن يكون الضمير المرفوع في «عمروها» في الموضعين للذين من قبلهم ، على معنى : وعمروها أكثر مما عمّروا فيها ، فيكون عمر وعمّر لغتين من البقاء ، وهذا الوجه [ذكره](٥) صاحب كشف المشكلات وإيضاح المعضلات (٦).

قوله تعالى : (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى) قرأ ابن كثير ونافع وأبو

__________________

(١) المحتسب (٢ / ١٦٣).

(٢) في الأصل : وما ليس. والتصويب من المحتسب ، الموضع السابق.

(٣) البيت لابن هرمة يرثي ابنه ، وصدر البيت : (فأنت من الغوائل حين ترمى). وهو في : اللسان مادة :

(نزح ، نجد) ، وروح المعاني (٩ / ١٩٤ ، ١٢ / ٢٢٨ ، ١٨ / ٥٦).

(٤) في الأصل : المدميرون. انظر : الكشاف (٣ / ٤٧٥).

(٥) زيادة على الأصل.

(٦) كشف المشكلات (٢ / ٢١١).

١٠

عمرو : «عاقبة» بالرفع ، ونصبها الباقون (١).

فمن رفع «العاقبة» جعلها اسم «كان» ، و «السوأى» الخبر. ومن نصب «العاقبة» جعلها الخبر و «السوأى» الاسم.

قال الفراء وابن قتيبة والزجاج وغيرهم (٢) : السّوأى : تأنيث [الأسوأ](٣) ، وهو الأفصح ، كما أن الحسنى تأنيث الأحسن.

ويجوز أن يكون السوأى مصدرا بمنزلة الإساءة ، فيكون التقدير ـ على قراءة من رفع «العاقبة» ـ : ثم كان عاقبة الذين أساؤوا إساءة التكذيب ، فيكون «كذبوا» هو الخبر.

ويكون التقدير على قراءة من نصب «العاقبة» : ثم كان التكذيب عاقبة الذين أساؤوا إساءة (٤).

والمعنى عند المفسرين : ثم كان عاقبة الذين أشركوا النار.

فإن قيل : ما إعراب قوله تعالى : (أَنْ كَذَّبُوا) على القول المشهور في تفسير «السّوأى»؟

قلت : يجوز أن يكون مفعولا له ، أي : لأن كذبوا. ويجوز أن يكون في موضع رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : هو أن كذبوا (٥).

__________________

(١) الحجة للفارسي (٣ / ٢٦٦) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٥٥٦) ، والكشف (٢ / ١٨٢) ، والنشر (٢ / ٣٤٤) ، والإتحاف (ص : ٣٤٧) ، والسبعة (ص : ٥٠٦).

(٢) معاني الزجاج (٤ / ١٧٩). ولم أقف عليه في معاني الفراء.

(٣) في الأصل : الأسواه. وانظر : البحر (٧ / ١٦٠).

(٤) انظر : التبيان (٢ / ١٨٥) ، والدر المصون (٥ / ٣٧٢).

(٥) مثل السابق.

١١

وكان سفيان بن عيينة يقول في هذه : ألا إن لهذه الذنوب عواقب سوء لا يزال الرجل يذنب فينكت على قلبه ، حتى يسوّد القلب كله فيصير كافرا (١).

(اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١١) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (١٢) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (١٣) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (١٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (١٥) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (١٦)

قوله تعالى : (اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي : الله خلقهم أولا ثم يعيدهم بعد الموت ، كما قال تعالى : (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) [الأنبياء : ١٠٤] ، ثم ترجعون إلى ثوابه وعقابه. ولفظ الخلق واحد ومعناه : المخلوقون ، فردّ «نعيده» على اللفظ ، و «ترجعون» على المعنى.

وقد سبق ذكر الإبلاس في الأنعام (٢).

قوله تعالى : (وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ) أي : كانوا في الآخرة كافرين بأصنامهم يتبرأون منهم ، ويجحدون عبادتهم حين يأسهم من الانتفاع بهم.

وقيل : المعنى : وكانوا في الدنيا بسبب شركائهم كافرين.

__________________

(١) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٤٣٠).

(٢) عند الآية رقم : ٤٤.

١٢

قوله تعالى : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ) قال الحسن : هؤلاء في عليين ، وهؤلاء في أسفل السافلين (١).

قال قتادة : فرقة لا اجتماع بعدها (٢).

قوله تعالى : (فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ) الرّوضة عند العرب : كل أرض ذات نبات وماء (٣). وفي أمثالهم : أحسن من بيضة في روضة. يريدون : بيضة النعامة.

والمراد بالروضة : الجنة ، والحبرة : السرور ، يقال : حبره ؛ إذا سرّه سرورا يتهلل له وجهه ويظهر فيه أثره.

ثم اختلفت عباراتهم في تأويل «يحبرون» ؛ فقال ابن عباس : يكرمون (٤). وقال مجاهد : ينعّمون (٥).

وقال [الأوزاعي](٦) : هو السماع في الجنة ، قال : إذا أخذوا في السماع لم تبق في الجنة شجرة إلا وردّت (٧) ، وليس أحد من خلق الله أحسن صوتا من إسرافيل ،

__________________

(١) أخرجه ابن أبي حاتم (٩ / ٣٠٨٩). وذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٤٣٠) ، والسيوطي في الدر (٦ / ٤٨٦) وعزاه لابن أبي حاتم.

(٢) أخرجه الطبري (٢١ / ٢٧) ، وابن أبي حاتم (٩ / ٣٠٨٩). وذكره السيوطي في الدر (٦ / ٤٨٥) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٣) انظر : اللسان (مادة : روض).

(٤) أخرجه الطبري (٢١ / ٢٧). وذكره السيوطي في الدر (٦ / ٤٨٦) وعزاه لابن جرير وابن المنذر.

(٥) أخرجه الطبري (٢١ / ٢٨) ، ومجاهد (ص : ٥٠٠) ، وابن أبي حاتم (٩ / ٣٠٨٩). وذكره السيوطي في الدر (٦ / ٤٨٦) وعزاه للفريابي وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٦) في الأصل : الأزاعي.

(٧) أخرجه ابن أبي شيبة (٧ / ٣٨ ح ٣٤٠٢١) ، والترمذي (٤ / ٦٩٦ ح ٢٥٦٥) كلاهما من حديث الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير. وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٦ / ٢٩٣) ، والسيوطي في الدر ـ

١٣

فإذا أخذ في السماع قطع على أهل سبع سموات صلاتهم وتسبيحهم (١).

وسئل يحيى بن معاذ الرازي : أي الأصوات أحسن؟ فقال : مزامير أنس في مقاصير قدس ، [بألحان](٢) تحميد ، في رياض تمجيد ، في مقعد صدق عند مليك مقتدر (٣).

(فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (١٧) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (١٨) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ)(١٩)

قال المفسرون : لما ذكر الله تعالى تفريق المؤمنين والكافرين ومآل الفريقين ، دلّهم على السبب الموصل لهم إلى الجنة ، وهو تنزيهه عن كل سوء ، والثناء عليه في هذه الأوقات لتجدد نعم الله تعالى فيها على عباده ، فذلك قوله تعالى : (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ).

ذهب جمهور المفسرين إلى أن المراد بالتسبيح : الصلاة ، أي : سبّحوا الله (حِينَ تُمْسُونَ) : أي : تدخلون في وقت المساء ، (وَحِينَ تُصْبِحُونَ) : أي : تدخلون في وقت الصباح ، (وَحِينَ تُظْهِرُونَ) : تدخلون في وقت الظهيرة.

قال ابن عباس : جمعت هذه الآية الصلوات الخمس ومواقيتها ، «حين

__________________

ـ (٦ / ٤٨٦) وعزاه لابن عساكر.

(١) ذكره القرطبي في تفسيره (١٤ / ١٢).

(٢) في الأصل : في بالجنان. والمثبت من زاد المسير (٦ / ٢٩٣).

(٣) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٦ / ٢٩٣).

١٤

تمسون» : المغرب والعشاء ، (وَحِينَ تُصْبِحُونَ) : الفجر ، (وَعَشِيًّا) : العصر ، (وَحِينَ تُظْهِرُونَ) : الظهر (١).

قوله تعالى : (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : اعتراض.

وقرأ عكرمة : «حينا [تمسون وحينا تصبحون](٢)» (٣).

قال أبو الفتح ابن جني (٤) : أراد : حينا [تمسون](٥) فيه ، فحذف «فيه» تخفيفا.

هذا مذهب صاحب الكتاب (٦).

قرئ على أبي المجد محمد بن محمد بن أبي بكر الهمذاني وأنا أسمع ، أخبركم الشيخان أبو المحاسن عبد الرزاق بن إسماعيل بن محمد ، وابن عمه [المطهر](٧) بن عبد الكريم بن محمد [القومسانيان](٨) فأقرّ به قالا : أخبرنا عبد الرحمن بن حمد بن الحسن الدوني ، أخبرنا القاضي أبو نصر أحمد بن الحسين بن الكسار الدينوري ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن محمد بن إسحاق السني ، أخبرني إبراهيم بن محمد

__________________

(١) أخرجه الطبري (٢١ / ٢٩). وذكره السيوطي في الدر (٦ / ٤٨٨) وعزاه لابن جرير وابن أبي شيبة وابن المنذر.

(٢) في الأصل : يمسون وحينا يصبحون. والتصويب من البحر المحيط (٧ / ١٦٢).

(٣) ذكر هذه القراءة أبو حيان في : البحر (٧ / ١٦٢).

(٤) المحتسب (٢ / ١٦٣).

(٥) في الأصل : يمسون. والتصويب من المحتسب ، الموضع السابق.

(٦) يعني : سيبويه.

(٧) في الأصل : المظفر. وهو خطأ. انظر ترجمته في : تاريخ الإسلام (ص : ٣٣٧) ضمن حوادث ووفيات سنة ٥٨٠ ه‍. وقد سبق على الصواب كما أثبتناه.

(٨) في الأصل : القوسيانيان. والصواب ما أثبتناه. وقومسان : من نواحي همذان (معجم البلدان ٤ / ٤١٤).

١٥

الضحاك ، حدثنا محمد بن سنجر ، حدثنا عبد الله بن صالح أبو صالح (١) ، حدثني الليث (٢) ، عن سعيد بن بشير (٣) ، عن محمد بن عبد الرحمن بن البيلماني (٤) ، عن أبيه (٥) ، عن ابن عباس ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قال حين يصبح : (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ* وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ ...) الآية كلها ، أدرك ما فاته في يومه ، ومن قالها حين يمسي أدرك ما فاته في ليلته» (٦).

(وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ (٢٠) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم

__________________

(١) عبد الله بن صالح بن محمد بن مسلم الجهني مولاهم ، أبو صالح المصري ، كاتب الليث بن سعد ، صدوق كثير الغلط ، ثبت في كتابه ، مات سنة اثنتين وعشرين ومائتين (تهذيب التهذيب ٥ / ٢٢٥ ـ ٢٢٨ ، والتقريب ص : ٣٠٨).

(٢) الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي ، أبو الحارث ، كان ثقة كثير الحديث ، نبيلا سخيا ، من سادات أهل زمانه فقها وورعا وعلما وفضلا ، مات في يوم الجمعة نصف شعبان سنة خمس وسبعين ومائة (تهذيب التهذيب ٨ / ٤١٢ ـ ٤١٧ ، والتقريب ص : ٤٦٤).

(٣) سعيد بن بشير الأنصاري النجاري ، مجهول ، روى عن محمد بن عبد الرحمن بن البيلماني ، وروى عنه الليث بن سعد ، ولم يرو عنه غيره (تهذيب التهذيب ٤ / ١٠ ، والتقريب : ٢٣٤).

(٤) محمد بن عبد الرحمن بن البيلماني الكوفي النحوي ، مولى آل عمر ، ضعيف ، وقد اتهمه ابن عدي وابن حبان (تهذيب التهذيب ٩ / ٢٦١ ، والتقريب ص : ٤٩٢).

(٥) عبد الرحمن بن البيلماني ، مولى عمر ، مدني نزل حران ، ضعيف ، مات في ولاية الوليد بن عبد الملك (تهذيب التهذيب ٦ / ١٣٥ ، والتقريب ص : ٣٣٧).

(٦) أخرجه أبو داود (٤ / ٣١٩) ، وابن السني في عمل اليوم والليلة (ص : ٤٠).

١٦

مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (٢١)

قوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ) أي : ومن دلائل قدرته وعظمته أن خلق أصلكم يا بني آدم من تراب ، (ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ) من لحم ودم (تَنْتَشِرُونَ) في الأرض.

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) لأن حواء خلقت من ضلع آدم ، والنساء خلقن من أصلاب الرجال. هذا قول قتادة (١).

وقال الكلبي : المعنى : خلق لكم أزواجا من شكلكم وجنسكم (٢).

(لِتَسْكُنُوا إِلَيْها) أي : لتأووا إليها ، (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) بواسطة عصمة النكاح من غير سابقة معرفة ولا نسب.

(وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (٢٢) وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ)(٢٣)

قوله تعالى : (وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ) يريد بالألسنة : اللغات ، وقيل : أشكال النطق ، فإن القدير الحكيم خالف بين مناطق عباده حتى لا تكاد تسمع منطقين متفقين في جهارة ، ولا همس ، ولا فصاحة ، ولا لكنة ، ولا صوت ، ولا

__________________

(١) أخرجه الطبري (٢١ / ٣١). وذكره السيوطي في الدر (٦ / ٤٩٠) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر.

(٢) ذكر ابن الجوزي في زاد المسير (٦ / ٢٩٥) عن الكلبي : جعل لكم آدميات مثلكم ولم يجعلهن من غير جنسكم.

١٧

نغمة ، واختلاف الألوان ظاهر ؛ لأن الخلق ما بين أبيض وأسود وأحمر وآدم.

وقيل : المراد باختلاف الألوان : اختلاف الصور. فسبحان من خالف بين الصور والألوان ، حتى لا تكاد ترى أخوين توأمين متفرعين من أصل واحد متماثلين ، ما ذاك إلا عن قدرة قادر وحكمة حكيم ، فإنها لو اتفقت وتشاكلت لوقع الالتباس في الناس.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ) البر منهم والفاجر ، والجن والإنس.

وقرأت لحفص عن عاصم : (لِلْعالِمِينَ) بكسر اللام (١) ، جمع عالم ، وخص العالمين وإن كانت الآية لكافة الناس عالمهم وجاهلهم ؛ لموضع استدلالهم وتدبرهم.

ويؤيد هذه القراءة قوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) ، وبهذا رجح القرّاء هذه القراءة.

قوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ) قال أبو عبيدة (٢) : المنام : من مصادر النوم ، بمنزلة قام يقوم قياما ومقاما ، وقال يقول مقالا.

قال الزمخشري (٣) : هذا من باب اللف ، وترتيبه : منامكم بالليل وابتغاؤكم من فضله وهو طلب الرزق بالنهار.

__________________

(١) الحجة للفارسي (٣ / ٢٦٧) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٥٥٧ ـ ٥٥٨) ، والكشف (٢ / ١٨٣) ، والنشر (٢ / ٣٤٤) ، والإتحاف (ص : ٣٤٨) ، والسبعة (ص : ٥٠٦ ـ ٥٠٧).

(٢) مجاز القرآن (٢ / ١٢٠).

(٣) الكشاف (٣ / ٤٨٠).

١٨

(وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٤) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ)(٢٥)

قوله تعالى : (يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً) في «يريكم» وجهان : إضماران ؛ كقوله :

ألا أيّهذا الزّاجري أحضر الوغى

 ................ (١)

وإنزال الفعل منزلة المصدر ، وقد سبق تفسيره في الرعد.

قوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ) أي : بقوله : كونا قائمتين ، فقامتا بغير علاقة ولا دعامة.

(ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ) وذلك حين ينفخ إسرافيل في الصور النفخة الأخيرة على صخرة بيت المقدس فيقول : يا أهل القبور قوموا ، فلا يبقى نسمة من الأولين والآخرين إلا قامت لفصل القضاء.

(ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) قال بعضهم : «إذا» الأولى للشرط ، والثانية للمفاجأة ، وهي تنوب مناب الفاء في جواب الشرط (٢).

__________________

(١) صدر بيت لطرفة ، وعجزه : (وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي) ، انظر : ديوانه (ص : ٣٢) ، واللسان (مادة : أنن ، دنا) ، والبحر (٧ / ١٦٣) ، والدر المصون (١ / ٢٧٥ ، ٥ / ٣٧٥) ، والسبع الطوال (ص : ١٧٢) ، والمقتضب (٢ / ١٣٤) ، والهمع (١ / ٦) ، والخزانة (١ / ١١٩).

(٢) هذا قول الزمخشري في الكشاف (٣ / ٤٨١).

١٩

فإن قيل : بماذا يتعلق «من الأرض»؟

قلت : إما ب «دعاكم» أو ب «دعوة» على معنى : دعوة كائنة من الأرض ، أو بمحذوف في موضع الحال من الكاف والميم في «دعاكم» ، تقديره : دعاكم خارجين من الأرض ، ولا يجوز أن يتعلق ب «تخرجون» ؛ لأن ما بعد «إذا» لا يعمل فيما قبله.

(وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (٢٦) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(٢٧)

قوله تعالى : (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) ذهب عامة المفسرين حسن وقتادة والربيع بن أنس إلى أن المعنى : وهو هيّن عليه (١).

وهو اختيار أبي عبيدة (٢) ، وأنشدوا قول الفرزدق :

إن الذي سمك السماء بنى لنا

بيتا دعائمه أعزّ وأطول (٣)

__________________

(١) ذكره الطبري (٢١ / ٣٦) ، والسيوطي في الدر (٦ / ٤٩١) وعزاه لآدم بن أبي إياس والفريابي وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري والبيهقي في الأسماء والصفات عن مجاهد. ومن طريق آخر عن الحسن وعزاه لابن المنذر.

(٢) مجاز القرآن (٢ / ١٢١).

(٣) البيت للفرزدق ، انظر ديوانه (٢ / ١٥٥) ، واللسان (مادة : كبر ، عزز) ، والقرطبي (١٤ / ٢١) ، والطبري (٢١ / ٣٧) ، وزاد المسير (٣ / ٢٥٩ ، ٦ / ٢٩٧) ، وروح المعاني (٧ / ١٣٥ ، ١٣ / ٩٠) ، والدر المصون (٣ / ٣٤١) ، وشرح المفصل (٦ / ٩٧ ـ ٩٩) ، ومعاهد التنصيص (١ / ١٠٣) ، ومجاز القرآن (٢ / ٢١) ، وتهذيب اللغة (١٠ / ٢١٥).

٢٠