رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٨

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي

رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٨

المؤلف:

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي


المحقق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الأسدي للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٨٨

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ودليل هذا قوله تعالى : (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ) أي : الذين جاؤوا في حال قولهم : (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ) ، فمن ترحّم على أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يكن في قلبه عليهم غلّ ، فله حظّ في [فيء](١) المسلمين ، ومن شتمهم ولم يترحّم عليهم ، أو كان في قلبه غل [لهم](٢) فما جعل الله له حقا في شيء من فيء المسلمين بنصّ الكتاب.

وكذلك عن مالك بن أنس رضي الله عنه أنه قال : من تنقّص من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رضوان الله عليهم أجمعين ، أو كان في قلبه عليهم غلّ فليس له حق في فيء المسلمين ، ثم تلا هذه الآيات (٣).

فقبّح الله الرافضة من طائفة ما أخسّها وأهونها على الله وعلى عباده المؤمنين.

روى الشعبي عن بعض أشياخه قال : فضلت اليهود والنصارى على الرافضة بخصلة ، سئلت اليهود : من خير أهل ملّتكم؟ فقالت : أصحاب موسى. وسئلت النصارى : من خير أهل ملتكم؟ فقالت : [حواريّوا](٤) عيسى. وسئلت الرافضة : من شر أهل ملتكم؟ فقالوا : أصحاب محمد. أمروا بالاستغفار لهم فسبّوهم ، فالسيف عليهم مسلول إلى يوم القيامة ، لا تقوم لهم راية ، ولا تثبت لهم قدم ، ولا تجتمع لهم كلمة ، كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله (٥).

__________________

(١) زيادة من ب ، ومعاني الزجاج (٥ / ١٤٧).

(٢) زيادة من ب.

(٣) أخرجه أبو نعيم في : حلية الأولياء (٦ / ٣٢٧). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ٢١٦).

(٤) في الأصل : حواري. والمثبت من ب.

(٥) ذكره القرطبي (١٨ / ٣٣) ، والبغوي (٤ / ٣٢١).

٦١

وقد ذكرت في أثناء كتابي هذا من فضائحهم ، وقبائحهم ، ودلائل ضلالهم وكفرهم ، ما أرجو به القربى إلى الله ، والزلفى لديه يوم ألقاه.

وما لم أذكر تفسيره هاهنا من ألفاظ الآية فقد ذكرته قبل.

والغلّ : الحقد الكامن في الصّدر.

وقال الأعمش : الغشّ (١).

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١١) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١٢) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٣) لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (١٤) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٥) كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (١٦) فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ)(١٧)

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا) يعني : عبد الله بن أبيّ وأصحابه ،

__________________

(١) ذكر الماوردي (٥ / ٥٠٧) عن الأعمش في معنى الغل ، قال : العداوة.

٦٢

(يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ) في الكفر ، وهم اليهود (لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ) يعنون : من المدينة (لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ) أي : في قتالكم وفي خذلانكم (أَحَداً أَبَداً).

ثم وعدوهم النصر بقوله : (وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ) ، قال الله مكذبا لهم في مواعيدهم : (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ).

ثم أخبر الله أنهم لا يفعلون ذلك فقال : (لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ) أي : ولئن وجد منهم نصرة (١) على سبيل [الفرض](٢) والتقدير (لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ) منهزمين.

ثم استأنف الله الإخبار بخذلانهم فقال : (ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) يعني : بني النضير لا يصيرون منصورين إذا انهزم [ناصروهم](٣) بعد ذلك.

قوله تعالى : (لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً) أي : لأنتم أيها المؤمنون أشد رهبة (فِي صُدُورِهِمْ) قال مقاتل (٤) : في صدور المنافقين.

وقال غيره : في صدور اليهود.

ويجوز عندي : أن يراد الجميع.

(مِنَ اللهِ) أي : من رهبة الله ، على معنى : من رهبتهم الله.

قال ابن عباس : هم منكم أشد خوفا من الله (٥).

__________________

(١) في ب : النصر.

(٢) في الأصل : القرض. والتصويب من ب.

(٣) في الأصل : ناصرهم. والمثبت من ب.

(٤) تفسير مقاتل (٣ / ٣٤٢).

(٥) ذكره الواحدي في الوسيط (٤ / ٢٧٦).

٦٣

(ذلِكَ) الخوف الذي بهم منكم (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) عظمة الله وشدة انتقامه من أعدائه.

ثم ذكر أثر ذلك فقال : (لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً) أي : لا يقدرون على مقاتلتكم مجتمعين متساندين ، يعني : اليهود والمنافقين ، (إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ) بالخنادق والدروب ، (أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ) دون أن يبرزوا ويصحروا (١) لكم.

قرأ ابن كثير وأبو عمرو : " جدار" على لفظ الواحد ، والمراد الجمع.

وقرأ الباقون : " جدر" بضم الجيم والدال على الجمع ، كحمار وحمر (٢).

وقرأ أبو بكر الصديق وابن أبي عبلة : " جدر" بفتح الجيم [والدال (٣).

وقرأ عمر بن الخطاب ومعاوية وعاصم الجحدري : " جدر" بفتح الجيم](٤) وسكون الدال (٥) ، وهي لغة في الجدار.

وقرأ علي بن أبي طالب وأبو عبد الرحمن السلمي وعكرمة والحسن وابن سيرين وابن يعمر : بضم الجيم وسكون الدال ، مخففة من جدر (٦).

(بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ) أي : بأسهم الذي يوصفون به إنما هو بينهم إذا اقتتلوا ، ولو قاتلوكم لم يبق لهم ذلك البأس ؛ لأن الشجاع يجبن ، والعزيز يذلّ عند محاربة الله

__________________

(١) أصحر القوم : إذا برزوا إلى فضاء لا يواريهم شيء (اللسان ، مادة : صحر).

(٢) الحجة للفارسي (٤ / ٣٧) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٧٠٥) ، والكشف (٢ / ٣١٦) ، والنشر (٢ / ٣٨٦) ، والإتحاف (ص : ٤١٣ ـ ٤١٤) ، والسبعة (ص : ٦٣٢).

(٣) انظر هذه القراءة في : زاد المسير (٨ / ٢١٨) ، والدر المصون (٦ / ٢٩٨).

(٤) زيادة من ب.

(٥) انظر : إتحاف فضلاء البشر (ص : ٤١٣) ، وزاد المسير (٨ / ٢١٨).

(٦) انظر : إتحاف فضلاء البشر (ص : ٣١٣ ـ ٣١٤) ، وزاد المسير (٨ / ٢١٨).

٦٤

ورسوله.

قال الواحدي (١) : بعضهم فظّ على بعض ، وبينهم مخالفة وعداوة.

(تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً) مجتمعين مؤتلفين (وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) مفترقة غير متّفقة ، ومختلفة غير مؤتلفة.

وهذا أحد الأسباب التي [فلّ](٢) الله بها جمع اليهود وكسر شوكتهم.

وقال مجاهد : أراد أن دين المنافقين يخالف دين اليهود (٣).

وفي ذلك تشجيع للمؤمنين عليهم ، وإغراء لهم بهم.

(ذلِكَ) إشارة إلى اختلافهم فيما بينهم ، (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) أنّ تشتّت قلوبهم مما يوهنهم ويخذلهم.

ثم ضرب الله تعالى لليهود مثلا ، فذلك قوله تعالى : (كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً) أي : مثل اليهود كمثل الذين من قبلهم في زمان قريب.

قال مجاهد : كفار قريش يوم بدر (٤) ، وكان بينهما ستة أشهر.

وقال ابن عباس : كمثل بني قينقاع (٥).

وقال قتادة : مثل قريظة كمثل الذين من قبلهم بني النضير ، أجلوا عن الحجاز

__________________

(١) الوسيط (٤ / ٢٧٦).

(٢) في الأصل : قلّ. والتصويب من ب.

(٣) أخرجه مجاهد (ص : ٦٦٥) ، والطبري (٢٨ / ٤٨). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ١١٥) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر.

(٤) مثل السابق.

(٥) أخرجه الطبري (٢٨ / ٤٨).

٦٥

إلى الشام (١). وكان بينهما سنتان.

والمراد : [التمثيل بينهم](٢) في الخذلان ، واستيلاء أهل الإسلام عليهم.

(ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ) سوء عاقبته في الدنيا ، (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) في الآخرة.

ثم ضرب مثلا لليهود والمنافقين حين أخلفوهم ما وعدوهم وغروهم فقال تعالى : (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ) قال مجاهد : هذا مثل ضربه الله للكافر في طاعة الشيطان ، وهو عامّ في الناس كلهم (٣).

وذهب جمهور المفسرين إلى أنه إنسان مخصوص ، ضربه الله مثلا لهؤلاء المغرورين. وهذا شرح قصته :

ذكر ابن عباس وغيره من [أهل العلم بالتفسير والسير](٤) : أن عابدا من بني إسرائيل يقال له : برصيصا ، كان تعبّد في صومعة له زمانا طويلا ، لم يعص الله فيه طرفة عين ، وكان يؤتى بالمجانين فيداويهم ويعوذهم فيبرؤون على يده ، وأن إبليس أعياه أمره ، فجمع له المردة فقال : ألا أحد منكم يكفيني أمر برصيصا؟ فقال الأبيض ـ وهو صاحب الأنبياء ـ : أنا أكفيك أمره ، فانطلق على صورة الرهبان فأتى صومعته فناداه فلم يجبه برصيصا ، وكان لا ينفتل عن صلاته إلا في كل عشرة أيام مرة ، فلما رأى أنه لا يجيبه أقبل على العبادة في أصل صومعته ، فلما انفتل

__________________

(١) أخرجه ابن أبي حاتم (١٠ / ٣٣٤٧). وذكره الماوردي (٥ / ٥٠٩) ، والسيوطي في الدر (٨ / ١١٦) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٢) في الأصل : التمثل بهم. والتصويب من ب.

(٣) أخرج مجاهد في تفسيره (ص : ٦٦٥) قال : يعني الناس عامة ، وعنه الطبري (٢٣ / ٢٩٧).

(٤) في الأصل : أهل التفسير والعلم بالسير. والمثبت من ب.

٦٦

برصيصا اطّلع فرآه منتصبا يصلي على هيئة حسنة ، فلما رأى ذلك من حاله تذمّر في نفسه حين لم يجبه ، فقال له : كنت مشغولا عنك حين ناديتني ، فحاجتك؟ فقال : حاجتي أحببت أن [أكون](١) معك [فأتأدّب بك](٢) وأقتبس من علمك ، ونجتمع على العبادة ، فتدعو لي وأدعو لك ، قال برصيصا : إني لفي شغل عنك ، فإن كنت مؤمنا فإن الله سيجعل لك فيما أدعو للمؤمنين والمؤمنات نصيبا إن استجاب لي ، ثم أقبل على صلاته وترك الأبيض ، وأقبل الأبيض يصلي ، فلم يلتفت برصيصا إليه أربعين يوما ، فلما انفتل رآه قائما يصلي ، فلما رأى برصيصا شدة اجتهاده ، وكثرة تضرّعه وابتهاله إلى الله تعالى [كلمه](٣) فقال له : حاجتك؟ فأعاد عليه القول ، فأذن له فصعد إليه فأقام معه حولا لا يفطر إلا في كل أربعين يوما وربما زاد على ذلك فمدّ إلى الثمانين ، فلما رأى برصيصا شدة اجتهاده تقاصرت إليه نفسه وأعجبه شأن الأبيض ، فلما حال الحول قال الأبيض لبرصيصا : إني منطلق عنك ، فإن لي صاحبا غيرك ، ظننت أنك أشد اجتهادا مما أرى ، وكان بلغنا عنك غير الذي رأيت ، قال : فدخل على برصيصا من ذلك أمر شديد ، وكره مفارقته للذي رأى من شدة اجتهاده ، فلما ودّعه قال الأبيض : إن عندي دعوات أعلمكها تدعو بهن للمبتلى والمجنون فيعافى بإذن الله ، فقال برصيصا : إني أكره هذه المنزلة ؛ لأن لي [في](٤) نفسي شغلا ، وإني أخاف إن علم الناس بهذا شغلوني عن العبادة ،

__________________

(١) زيادة من ب.

(٢) في الأصل : فتأدب. والتصويب والزيادة من ب.

(٣) في الأصل : فكلمه. والتصويب من ب.

(٤) زيادة من ب.

٦٧

فلم يزل به حتى علّمه ، ثم انطلق حتى أتى على إبليس فقال له : والله قد (١) أهلكت الرجل. قال : فانطلق الأبيض فتعرّض لرجل فخنقه ، ثم جاءه في صورة رجل متطبّب فقال : إن بصاحبكم جنونا أفأعالجه؟ قالوا : نعم. فقال لهم : إني لا أقوى على جنّيته ، ولكن سأرشدكم إلى من يدعو الله تعالى له فيعافيه ، فقالوا له : دلّنا؟ فقال لهم : انطلقوا إلى برصيصا فإن عنده اسم الله الذي إذا دعي به أجاب ، فانطلقوا إليه فسألوه ذلك ، فدعا بتلك الدعوات فذهب عنه الشيطان ، وكان الأبيض يفعل بالناس مثل ذلك ثم يبعثهم (٢) إلى برصيصا فيدعو لهم فيعافون. قال : فانطلق الأبيض فتعرّض لجارية من أبناء (٣) ملوك بني إسرائيل ، بين ثلاثة إخوة ، فخنقها ثم جاء إليهم في صورة متطبّب فقال : أعالجها؟ قالوا : نعم. قال : إن الذي عرض لها مارد لا يطاق ولكن سأرشدكم إلى رجل تثقون به تدعونها عنده ، فإذا جاء شيطانها دعا لها ، فقالوا : ومن هو؟ فقال : برصيصا ، قالوا : وكيف لنا أن يقبلها منا وهو أعظم شأنا من ذلك؟ قال : إن قبلها وإلا [فضعوها](٤) في صومعته وقولوا له : هي أمانة عندك ، فانطلقوا إليه فأبى عليهم ، فوضعوها في صومعته ، وقيل : وضعوها في غار إلى جانب صومعته وقالوا : هي أمانة عندك ، ثم انصرفوا ، فلما انفتل برصيصا من صلاته جاءه الشيطان فقال له : لو نزلت إليها فمسحتها بيدك ، ودعوت الله لها فيعافيها وتذهب إلى أهلها ، فنزل ، فلما دنا من باب الغار دخل فيها الشيطان ، فإذا

__________________

(١) في ب : قد والله.

(٢) في ب : يرسلهم.

(٣) في الأصل زيادة قوله : الملوك.

(٤) في الأصل : ضعوها. والمثبت من ب.

٦٨

هي تركض فسقطت عنها ثيابها ، فنظر برصيصا إلى شيء لم ينظر إلى مثله حسنا وجمالا ، فأتاه الشيطان فقال له : ويحك واقعها فلن تجد مثلها ، وتتوب بعد ذلك ، فتدرك الأمر الذي تريد ، فلم يزل به حتى واقعها ، وضرب على أذنه ، فلم يزل يختلف إليها إلى أن حملت ، فقال له الشيطان : ويحك يا برصيصا لقد انفضحت (١) ، فهل لك أن تقتل هذه وتتوب ، فإن سألوك عنها قلت : جاء شيطانها فذهب بها ، فلم يزل به حتى قتلها ودفنها ، ثم رجع إلى صومعته فأقبل على عبادته (٢) ، فجاءه إخوتها يسألونه عنها فقال : جاءها شيطانها فذهب بها ولم أطقه ، فصدّقوه وانصرفوا.

وفي بعض الروايات أنه قال : فدعوت الله لها فعافاها ورجعت إليكم ، فتفرّقوا ينظرون لها أثرا ، فلما أمسوا جاء الشيطان إلى كبيرهم في منامه فقال : ويحك ، إن برصيصا فعل بأختك كذا وكذا ، وإنه دفنها في موضع كذا وكذا من جبل كذا ، فقال : هذا حلم ، فبرصيصا خير من ذلك ، فتتابع عليه ثلاث ليال ولا يكترث ، فانطلق إلى الأوسط كذلك ، ثم إلى الأصغر بمثل ذلك ، فقال الأصغر لإخوته : لقد رأيت كذا وكذا ، فقال الأوسط : وأنا والله ، فقال الأكبر : وأنا والله ، فأتوا برصيصا فسألوه عنها ، فقال : قد أعلمتكم بحالها فكأنكم اتهمتموني؟ قالوا : لا والله ، واستحيوا وانصرفوا. فجاءهم الشيطان فقال : ويحكم إنها لمدفونة في موضع كذا وكذا وإن إزارها لخارج من التراب ، فانطلقوا فحفروا فرأوا أختهم ، فقالوا : يا عدو

__________________

(١) في ب : قد افتضحت.

(٢) في ب : صلاته.

٦٩

[الله](١) أقتلتها؟ اهبط ، فهدموا صومعته ، ثم أوثقوه وجعلوا في عنقه حبلا ، ثم قادوه إلى الملك فأقرّ على نفسه ، وذلك أن الشيطان أتاه فقال : تقتلها ثم تكابر ، فلما أقرّ أمر الملك بقتله وصلبه ، فعرض له الشيطان الأبيض وكان إبليس قال له : ما يغني عنك ما فعلت؟ إن قتل فهو كفارة له لما كان منه ، فقال الأبيض : أنا أكفيكه ، فأتاه فقال له : أتعرفني؟ قال : لا ، قال : أنا صاحبك الذي علمتك الدعوات ، ويحك أما (٢) اتقيت الله في أمانة! خنت أهلها ، وأنت تزعم أنك أعبد بني إسرائيل ، ثم إنك أقررت على نفسك فافتضحت وفضحت أشباهك من الناس ، فإن متّ على هذه الحال لم تفلح ولا أحد من نظرائك ، فقال : فكيف أصنع؟ قال : [تطيعني](٣) في خصلة حتى أنجيك وآخذ بأعينهم وأخرجك من مكانك ، قال : وما هي؟ قال : تسجد لي؟ قال : أفعل ، فسجد له ، فقال : يا برصيصا هذا الذي [أردت](٤) منك ، صارت عاقبة أمرك إلى أن كفرت ، إني بريء منك ، ثم قتل. فضرب الله هذا [المثل](٥) لليهود حين غرّهم المنافقون ، ثم أسلموهم (٦).

وباقي الآية مفسّر في الأنفال (٧).

__________________

(١) زيادة من ب.

(٢) في ب : ما.

(٣) في الأصل : تطعني. والمثبت من ب.

(٤) زيادة من ب.

(٥) في الأصل : مثلا. والمثبت من ب.

(٦) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ٢١٩ ـ ٢٢٢).

(٧) عند الآية رقم : ٤٨.

٧٠

قوله تعالى : (فَكانَ عاقِبَتَهُما) أي (١) : الشيطان وذلك الإنسان.

وقال مقاتل (٢) : يعني : عاقبة اليهود والمنافقين.

(أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها) وقرأ ابن مسعود : " خالدان فيها" على أنه خبر" أنّ" (٣). و" في النار" : لغو ، وعلى القراءة المشهورة : " خالدين" حال من الضمير في قوله : " في النار" (٤). [أي](٥) : أنهما ثابتان في النار خالدين فيها.

وكرر" في" كقولهم : زيد في الدار قائم فيها.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (١٩) لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ)(٢٠)

قوله تعالى : (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ) أي : لينظر أحدكم ما الذي قدّم ليوم القيامة من الأعمال ، فهل قدّم صالحا أو طالحا؟

والمراد من ذلك : الحضّ على ما يقرّب من الجنة ويبعد من النار.

فإن قيل : لم نكّر النفس والغد؟

__________________

(١) في ب : يعني.

(٢) تفسير مقاتل (٣ / ٣٤٣).

(٣) انظر هذه القراءة في : البحر (٨ / ٢٤٨) ، والدر المصون (٦ / ٢٩٩).

(٤) انظر : التبيان (٢ / ٢٥٩) ، والدر المصون (٦ / ٢٩٩).

(٥) زيادة من ب.

٧١

فقد أجاب عنه صاحب الكشاف فقال (١) : أما تنكير النفس فاستقلال للأنفس النواظر فيما قدّ من للآخرة ، كأنه قال : فلتنظر نفس واحدة في ذلك.

وأما تنكير الغد فلتعظيمه وإبهام أمره ، كأنه قيل : لغد لا يعرف كنهه لعظمه.

فإن قيل : بين نزول هذه الآية وبين يوم القيامة زمن طويل ، فما معنى قوله : " لغد"؟

قلت : عنه جوابان :

أحدهما : أنه أراد تقريبه ، فجعله في القرب بمنزلة الغد ؛ تهييجا لدواعي العباد على الاستعداد له والعمل لأجله ، كما قرّب زمن إهلاك القرون الماضية فقال : (كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ) [يونس : ٢٤] ؛ [ليكون](٢) ذلك في جهة الاعتبار والادّكار ، كأنه بالنسبة إلى يومهم الحاضر أمسهم الذاهب ، فإنه أبلغ في الموعظة والتخويف.

الثاني : أنه عبّر عن الآخرة بالغد ؛ تنزيلا للآخرة والدنيا على أنهما نهاران : يوم وغد.

فإن قيل : لم كرّر الأمر بالتقوى؟

قلت : عنه جوابان :

أحدهما : أنه كرّره توكيدا ، وهذا [باب](٣) واسع في كلام العرب والكتاب العزيز. وقد سبق ذكره في مواضع.

والثاني : أن الأمر الأول بالتقوى يجوز أن يكون المراد به : اتقوا الله في [امتثال ما

__________________

(١) الكشاف (٤ / ٥٠٨).

(٢) في الأصل : لكون. والتصويب من ب.

(٣) في الأصل : بيان. والتصويب من ب.

٧٢

أمرتم به من الطاعات. والثاني يجوز أنه يراد به : واتقوا الله في](١) اجتناب ما نهيتم عنه من المعاصي ؛ لأنه عقّب كل واحد من الأمرين بما يدل على هذا التفسير ، فحينئذ [يسلم بهذا التقرير](٢) من التكرير.

قوله تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ) من قبل (فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) قال الزجاج (٣) : تركوا ذكره وما أمرهم به ، فترك ذكرهم بالرحمة والتوفيق.

وقيل : فأنساهم أنفسهم ؛ لشدة ما لا بسهم في الآخرة من أهوال القيامة.

قال ابن عباس : يريد : قريظة والنضير وبني قينقاع (٤) ، وهو قوله : (أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ).

فإن قيل : لا يخفى على أدنى من له مسكة من عقل أن أصحاب الجنة وأصحاب النار لا يستويان ، فما معنى نفي المساواة بينهما؟

قلت : المقصود : تنبيه العباد من رقدة غفلتهم عن الآخرة ، كما تقول لرجل منهمك على أفعال تجلب له بها ضررا : إنّها نفسك ، فتجعله بمنزلة من لا يعرف نفسه ، فتنبّهه بذلك على خطر النفس وشرفها ، ولزوم السعي لأسباب حفظها.

(لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٢١) هُوَ اللهُ الَّذِي لا

__________________

(١) زيادة من ب.

(٢) في الأصل : مسلم بهذا التفسير. والمثبت من ب.

(٣) معاني الزجاج (٥ / ١٤٩).

(٤) ذكره الواحدي في الوسيط (٤ / ٢٧٨) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ٢٢٤).

٧٣

إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (٢٢) هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٢٣) هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(٢٤)

قوله تعالى : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ) المعنى : لو ركّبنا في جبل عقلا وتمييزا وأنزلنا هذا القرآن العظيم عليه ، (لَرَأَيْتَهُ) لمواعظ القرآن وزواجره مع ما ركّب فيه من الصلابة (خاشِعاً) ذليلا خاضعا (مُتَصَدِّعاً) مشفقا (مِنْ خَشْيَةِ اللهِ).

والغرض : توبيخ الإنسان على قسوة قلبه ، وقلّة خشوعه عند تلاوة القرآن ، وإعراضه عن تدبّر آياته ، والتفكّر في عجائب ما صرّف فيه من الوعد والوعيد.

وهذا تمثيل وتخييل ، ألا ترى إلى قوله : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ ...) الآية.

وما بعدها إلى آخر السورة سبق تفسيره.

وقد أشرت إلى شرح أسماء الله الحسنى على وجه الاختصار في قوله : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) في أواخر الأعراف (١) ، فتطلب تفسيرها من هناك وفي أماكنها في غضون هذا الكتاب.

والمصوّر : الذي أنشأ خلقه على صور شتى ؛ ليتعارفوا بها.

وقرأ الحسن وأبو الجوزاء وأبو عمران وابن السميفع : " المصوّر" بفتح الواو

__________________

(١) عند الآية رقم : ١٨٠.

٧٤

والراء (١) ، على معنى : الذي برأ [المصوّر](٢).

أخبرنا الشيخ أبو المجد محمد بن محمد بن أبي بكر [الهمذاني](٣) قراءة عليه وأنا أسمع بدمشق ، أخبرنا الشيخان أبو المحاسن عبد الرزاق بن إسماعيل بن محمد وابن عمه أبو سعيد المطهّر بن عبد الكريم بن محمد [القومسانيان](٤) قالا : أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن حمد بن الحسن الدوني ، أخبرنا القاضي أبو نصر أحمد بن الحسين بن الكسّار الدينوري ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن محمد بن إسحاق السني ، حدثنا محمد بن الحسين بن مكرم (٥) ، حدثنا محمود بن غيلان (٦) ، حدثنا أبو أحمد الزبيري (٧) ، حدثنا خالد بن طهمان أبو العلاء (٨) ، حدثنا نافع بن أبي نافع (٩) ، عن

__________________

(١) انظر : إتحاف فضلاء البشر (ص : ٤١٤) ، وزاد المسير (٨ / ٢٢٩).

(٢) في الأصل : الصور. والتصويب من ب.

(٣) في الأصل : الهمداني. والمثبت من ب.

(٤) في الأصل : القوسانيان. والتصويب من ب.

وقومسان : من نواحي همذان (معجم البلدان ٤ / ٤١٤).

(٥) محمد بن الحسين بن مكرم ، أبو بكر البغدادي ، كان قد انتقل إلى البصرة فسكنها حتى مات بها ، وكان ثقة ، توفي في ذي القعدة من سنة تسع وثلاثمائة (تاريخ بغداد ٢ / ٢٣٣).

(٦) محمود بن غيلان العدوي مولاهم ، أبو أحمد المروزي الحافظ ، نزيل بغداد ، ثقة ، توفي سنة تسع وأربعين ومائتين (تهذيب التهذيب ١٠ / ٥٨ ، والتقريب ص : ٥٢٢).

(٧) هو محمد بن عبد الله بن الزبير. تقدمت ترجمته.

(٨) خالد بن طهمان السلولي ، أبو العلاء الخفاف الكوفي ، صدوق رمي بالتشيع ، ثم اختلط (تهذيب التهذيب ٣ / ٨٥ ، والتقريب ص : ١٨٨).

(٩) نافع بن أبي نافع البزاز ، مولى أبي أحمد ، ثقة ، روى عن معقل بن يسار ، وأبي هريرة ، وروى عنه خالد بن طهمان ، وابن أبي ذئب (تهذيب التهذيب ١٠ / ٣٦٦ ، والتقريب ص : ٥٥٨).

٧٥

معقل بن يسار (١) قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قال حين يصبح ثلاث مرات : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، وقرأ ثلاث آيات من آخر الحشر ، وكّل به سبعون ألف ملك يصلّون عليه حتى يمسي ، وإن مات في ذلك اليوم مات شهيدا ، وإن قالها حين يمسي كان بتلك المنزلة» (٢).

وفي حديث أبي هريرة : سألت حبيبي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن اسم الله الأعظم قال : عليك بآخر سورة الحشر فأكثر قراءتها ، فأعدت عليه فأعاد عليّ ، فأعدت عليه فأعاد عليّ (٣). والله تعالى أعلم.

__________________

(١) معقل بن يسار بن عبد الله بن معير المزني ، أبو علي ، ويقال : أبو يسار ، ويقال : أبو عبد الله البصري ، صحابي ممن بايع تحت الشجرة ، وهو الذي ينسب إليه نهر معقل بالبصرة. مات بعد الستين (تهذيب التهذيب ١٠ / ٢١٢ ، والتقريب ص : ٥٤٠).

(٢) أخرجه الترمذي (٥ / ١٨٢ ح ٢٩٢٢) ، وابن النسي في عمل اليوم والليلة (ص : ٣٢٠).

(٣) ذكره الثعلبي في تفسيره (٩ / ٢٨٩).

٧٦

سورة الممتحنة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

وهي ثلاث عشرة آية ، وهي مدنية بإجماعهم (١).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (٢) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣) قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)(٤)

__________________

(١) انظر : البيان في عدّ آي القرآن (ص : ٢٤٤).

٧٧

قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ) ذهب عامة المفسرين إلى أنها نزلت في قصة حاطب بن أبي بلتعة ، وكان من حديثه : أن سارة مولاة عمرو بن صيفي بن هاشم بن عبد مناف أتت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مكة إلى المدينة بعد بدر بسنتين ، فقال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أمسلمة جئت؟ قالت : لا ، قال : أمهاجرة جئت؟ قالت : لا ، قال : فما جاء بك؟ قالت : كبت الأصل والعشيرة والموالي ، وقد ذهبت مواليّ واحتجت حاجة شديدة ، فقدمت عليكم لتعطوني وتكسوني وتحملوني ، قال لها : فأين أنت من شباب أهل مكة ، وكانت مغنية ، فقالت : ما طلب مني شيء بعد وقعة بدر ، فحثّ عليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بني عبد المطلب وبني المطلب ، فكسوها وأعطوها نفقة ، وحملوها.

فأتاها حاطب بن أبي بلتعة حليف بني أسد بن عبد العزى فكتب معها كتابا إلى أهل مكة وأعطاها عشرة دنانير على أن توصل الكتاب إلى أهل مكة ، وفيه : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يريدكم فخذوا حذركم ، فنزل جبريل وأخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك بعد خروج سارة ، فأرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليا وعمارا والزبير وطلحة والمقداد وأبا مرثد في طلب الكتاب (١) ، فكان من القصة : ما أخبرنا به الشيخان الإمام أبو محمد عبد الله بن أحمد المقدسي قراءة عليه وأنا أسمع بجامع دمشق ، وأبو بكر محمد بن سعيد بن الموفق الخازن النيسابوري بقراءتي عليه ببغداد ، قالا : أخبرنا أبو زرعة طاهر بن محمد المقدسي ، أخبرنا أبو الحسن مكي بن منصور بن علان

__________________

(١) انظر : أسباب النزول للواحدي (ص : ٤٤١) ، والبغوي (٤ / ٣٢٨ ـ ٣٢٩) ، وزاد المسير (٨ / ٢٣٠ ـ ٢٣١).

٧٨

[الكرجي](١) ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري ، أخبرنا أبو العباس الأصم ، أخبرنا الربيع ، أخبرنا محمد بن إدريس الشافعي ، أخبرنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن الحسن بن محمد [بن](٢) علي (٣) ، عن عبيد الله بن أبي رافع (٤) قال : سمعت عليا رضي الله عنه يقول : «بعثنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنا والمقداد والزبير فقال : انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ (٥) ، فإن بها ظعينة (٦) معها كتاب ، فخرجنا تتعادى بنا خيلنا ، فإذا نحن بظعينة ، فقلنا : أخرجي الكتاب ، [فقالت : ما معي كتاب ، فقلنا لها : لتخرجنّ الكتاب](٧) ، أو لنلقينّ الثياب ، فأخرجته من عقاصها (٨) ، فأتينا به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإذا فيه : من حاطب بن أبي بلتعة إلى

__________________

(١) في الأصل : الكرخي. والتصويب من ب. وانظر ترجمته في : سير أعلام النبلاء (١٩ / ٧١ ـ ٧٢) ، والتقييد (ص : ٤٥١).

(٢) في الأصل : عن. والتصويب من ب.

(٣) الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب الهاشمي ، أبو محمد المدني ، وأبوه يعرف بابن الحنفية ، ثقة فقيه ، كان من ظرفاء بني هاشم وأهل الفضل منهم ، مات سنة مائة أو قبلها ، وليس له عقب (تهذيب التهذيب ٢ / ٢٧٦ ، والتقريب ص : ١٦٤).

(٤) عبيد الله بن أبي رافع المدني ، مولى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكاتب علي رضي الله عنه ، كان ثقة كثير الحديث (تهذيب التهذيب ٧ / ١٠ ، والتقريب ص : ٣٧٠).

(٥) خاخ ـ ويقال : روضة خاخ ـ : موضع بين الحرمين بقرب حمراء الأسد من المدينة (معجم البلدان ٢ / ٣٣٥).

(٦) الظعينة : المرأة ، وأصله : المرأة في الهودج على ناقتها (تفسير الطبري ١٧ / ٦٢١).

(٧) زيادة من مصادر تخريج الحديث.

(٨) العقاص : جمع ، واحده : عقيصة ، وهي الخصلة. والعقص : أن تأخذ المرأة كل خصلة من شعرها فتلويها ثم تعقدها حتى يبقى فيها التواء ثم ترسلها ، فكل خصلة عقيصة (اللسان ، مادة : عقص).

٧٩

ناس (١) من المشركين بمكة ، يخبر ببعض أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : ما هذا يا حاطب؟ [فقال](٢) : لا تعجل عليّ ، فإني كنت امرءا ملصقا في قريش ، ولم أكن من أنفسها ، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها قراباتهم ، ولم يكن لي بمكة قرابة ، فأحببت إذ فاتني ذلك أن أتخذ عندهم يدا ، والله ما فعلته شكا في ديني ، ولا أرضى بالكفر بعد الإسلام ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنه قد صدق. فقال عمر رضي الله عنه : دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنه قد شهد بدرا ، وما يدريك لعلّ الله اطّلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ، ونزلت : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ ...) الآية» (٣). أخرجه البخاري عن الحميدي. وأخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة وغيره ، كلهم عن سفيان.

وفي رواية أخرى : «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : وما يدريك يا عمر ، لعلّ الله اطّلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ، ففاضت عينا عمر ، وقال : الله ورسوله أعلم» (٤).

[وفي](٥) رواية أخرى : «أنهم همّوا بالرجوع ، فقال علي عليه‌السلام : والله ما كذبنا ، وسلّ سيفه وقال : أخرجي الكتاب وإلا والله لأجرّدنّك ، ولأضربنّ عنقك ،

__________________

(١) في ب : أناس.

(٢) في الأصل : قال. والمثبت من ب.

(٣) أخرجه البخاري (٤ / ١٨٥٥ ح ٤٦٠٨) ، ومسلم (٤ / ١٩٤١ ح ٢٤٩٤) ، والشافعي في مسنده (ص : ٣١٦).

(٤) أخرجه البخاري (٥ / ٢٣٠٩ ح ٥٩٠٤).

(٥) في الأصل : في. والتصويب من ب.

٨٠