رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٨

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي

رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٨

المؤلف:

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي


المحقق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الأسدي للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٨٨

لكم من أحكام الظهار وغيره لتصدقوا بالله ورسوله ، في امتثال ما أمر به واجتناب ما نهى عنه ، واتباع ما شرعه من الظهار وغيره ، ورفض ما كنتم عليه في جاهليتكم.

(وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ) التي لا يجوز تعدّيها وانتهاك حرمها ، (وَلِلْكافِرِينَ) قال ابن عباس : لمن جحد هذا وكذب به (١) (عَذابٌ أَلِيمٌ).

(إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٥) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٦) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(٧)

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) [يعادونهما](٢) ويخالفون أمرهما ونهيهما. وقد سبق معنى" المحادة" في براءة (٣).

(كُبِتُوا) قال المقاتلان (٤) : أخزوا كما أخزي من قبلهم من أهل الشرك. وقد سبق معنى" الكبت" في آل عمران (٥).

__________________

(١) ذكره الواحدي في الوسيط (٤ / ٢٦٢) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ١٨٧).

(٢) في الأصل : يعادنهما. والتصويب من ب.

(٣) عند الآية رقم : ٦٣.

(٤) تفسير مقاتل بن سليمان (٣ / ٣٣٠).

(٥) عند الآية رقم : ١٢٧.

٢١

(وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ) تدلّ على صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وصحة ما جاء به ، (وَلِلْكافِرِينَ) الذين جحدوا هذه الآحكام تكبّرا وعنادا (عَذابٌ مُهِينٌ) يذهب بعزّهم وكبرهم.

ثم بيّن وقت ذلك العذاب فقال : (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً) أي : يبعثهم كلهم ، لا يغادر منهم أحدا.

وقيل : " جميعا" حال ، أي : يبعثهم مجتمعين يوم القيامة (فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا) على رؤوس الأشهاد توبيخا لهم وتقريعا ، (أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ) حفظه الله ونسوه هم تهاونا به.

قوله تعالى : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ) وقرأ أبو جعفر : " ما تكون" بالتاء (١).

قال ابن قتيبة (٢) : النجوى : السّرار.

وقال غيره : النجوى : التناجي.

وقال الزجاج (٣) : ما يكون من خلوة ثلاثة يسرون شيئا ويتناجون به إلا هو رابعهم ، أي : عالم به.

قال ابن عباس : ما من شيء تناجي به صاحبك إلا هو رابعكم بالعلم (٤).

__________________

(١) النشر (٢ / ٣٨٥) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٤١٢).

(٢) تفسير غريب القرآن (ص : ٤٥٧).

(٣) معاني الزجاج (٥ / ١٣٧).

(٤) ذكره الواحدي في الوسيط (٤ / ٢٦٣).

٢٢

قرأ يعقوب : " ولا أكثر" بالرفع ، وقرأ الباقون : بالنصب (١).

قال الزمخشري (٢) : فمن رفع : عطف على محل" لا" مع" أدنى" ؛ كقولك : لا حول ولا قوة إلا بالله ، بفتح الحول ورفع القوة. ويجوز أن يكونا مرفوعين على الابتداء ، كقولك : لا حول ولا قوة إلا بالله ، وأن يكون ارتفاعهما عطفا على محل" من نجوى" ، كأنه قيل : ما يكون أدنى ولا أكثر إلا هو معهم.

ومن نصب : فعلى أن" لا" لنفي الجنس ، ويجوز أن يكونا مجرورين عطفا على" نجوى" ، كأنه قيل : ما يكون من أدنى ولا أكثر إلا هو معهم.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩) إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)(١٠)

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى) نزلت في اليهود والمنافقين ، كانوا يتناجون فيما بينهم ، ويوهمون المؤمنين أنهم يتناجون فيما يسوؤهم ، فيحزنون

__________________

(١) النشر (٢ / ٣٨٥) ، والإتحاف (ص : ٤١٢).

(٢) الكشاف (٤ / ٤٨٩).

٢٣

لذلك. فلما طال ذلك وكثر شكوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنهاهم أن يتناجوا دون المسلمين ، فلم ينتهوا (١).

والنّجوى : مشتق من النّجوة ، وهو ما ارتفع وبعد ؛ سميت بذلك ؛ لبعد الحاضرين عنها (٢).

وحكى ابن سراقة : أن السّرار : ما كان بين اثنين ، والنجوى : ما كان بين ثلاثة (٣).

(وَيَتَناجَوْنَ) وقرأ حمزة ويعقوب بخلاف عنه : " وينتجون" مثل : يشترون (٤). والمعنى : ويتناجون (بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) على المؤمنين (وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) لأنه نهاهم عن النجوى.

(وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ) وهو قول اليهود ومن انتحل مذهبهم من المنافقين : السّام عليك.

أخرج الإمام أحمد في المسند قال : حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت : «[استأذن](٥) رهط من اليهود على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : السام عليك ، فقالت عائشة : فقلت : بل السام عليكم واللعنة ، قال : يا عائشة! إن الله عزوجل يحب الرفق في الأمر كله. قالت : ألم تسمع ما قالوا؟ قال : قد قلت :

__________________

(١) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ١٨٨).

(٢) انظر : اللسان (مادة : نجا).

(٣) ذكره الماوردي (٥ / ٤٩٠).

(٤) الحجة للفارسي (٤ / ٣٤) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٧٠٤) ، والكشف (٢ / ٣١٤) ، والنشر (٢ / ٣٨٥) ، والإتحاف (ص : ٤١٢) ، والسبعة (ص : ٦٢٨).

(٥) في الأصل : استأذ. والتصويب من ب ، ومسند أحمد (٦ / ٣٧).

٢٤

وعليكم» (١).

وأخرجه البخاري عن أبي نعيم ، ومسلم عن زهير كلاهما عن ابن عيينة (٢).

قال ابن زيد والزجاج (٣) : السّام : الموت (٤).

وكانوا إذا خرجوا يقولون فيما بينهم : لو كان نبيا لاستجيب له فينا ، فذلك قولهم : (لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ).

فإن قيل : ما الذي حيّاه الله تعالى به؟

قلت : قوله تعالى : (وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى) [النمل : ٥٩] ، فالسلام هو التحية التي ارتضاها للأنبياء والأولياء في الجنة.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) قال عطاء ومقاتل (٥) : يريد : المنافقين (٦). على معنى : آمنوا بألسنتهم أو على زعمهم.

ويجوز عندي : أن يكون على طريقة التهكم بهم ، كقول الكفار للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) [الحجر : ٦].

وذكر جماعة ، منهم الزجاج (٧) : أنه خطاب للمؤمنين ، نهوا أن يفعلوا فعل اليهود والمنافقين ، فقال : (إِذا تَناجَيْتُمْ ...) الآية.

__________________

(١) أخرجه أحمد (٦ / ٣٧ ح ٢٤١٣٦).

(٢) أخرجه البخاري (٦ / ٢٥٣٩ ح ٦٥٢٨) ، ومسلم (٤ / ١٧٠٦ ح ٢١٦٥).

(٣) معاني الزجاج (٥ / ١٣٧).

(٤) ذكره الطبري (٢٨ / ١٥) ، والماوردي (٥ / ٤٩٠) ، عن ابن زيد.

(٥) تفسير مقاتل (٣ / ٣٣٢).

(٦) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ١٩٠).

(٧) معاني الزجاج (٥ / ١٣٨).

٢٥

ثم أخبر أن ذلك من فعل الشيطان فقال : (إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ) من تزيينه وتسويله ، (لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا) ، وذلك أنهم كانوا إذا رأوهم يتناجون ترامت بهم الظنون وقالوا : لعلهم قد سمعوا عن إخواننا الذين خرجوا في السرايا قتلا وهزيمة ، وما أشبه ذلك مما يحزنهم.

وقد نهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن النجوى التي هي في مظنة الأذى ، ففي الصحيح (١) من حديث ابن مسعود : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجينّ اثنان دون صاحبهما ، فإن ذلك يحزنه» (٢).

قوله تعالى : (وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ) أي : وليس الشيطان. وقيل : الحزن بضار المؤمنين (شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) قال مقاتل (٣) : إلا بإذن الله في الضرّ.

ثم ندب الله تعالى المؤمنين إلى الالتجاء إليه والاعتماد عليه فقال : (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)(١١)

قوله تعالى : (إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ) قرأ عاصم : " في المجالس" على إرادة العموم ، أو لأن مجلس الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مجلس لكل واحد منهم. وقرأ

__________________

(١) في ب : الصحيحين.

(٢) أخرجه مسلم (٤ / ١٧١٨ ح ٢١٨٤).

(٣) تفسير مقاتل (٣ / ٣٣٢).

٢٦

الباقون : " في المجلس" (١).

قال مقاتل بن حيان : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكرم أهل بدر ، فجاء ناس منهم يوما وقد سبقوا إلى المجلس ، فقاموا حيال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينتظرون أن يوسع لهم فلم يوسع ، فشقّ ذلك على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال لمن حوله : قم يا فلان قم يا فلان ، وشقّ ذلك على من أقيم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية (٢).

قال قتادة : كانوا يتنافسون في مجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكانوا إذا رأوا من جاءهم مقبلا ضنّوا بمجلسهم عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأمرهم الله أن يفسح بعضهم لبعض (٣).

ومعنى : تفسحّوا توسعّوا.

(فَافْسَحُوا) أي : ليفسح بعضكم لبعض ، (يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ) في الجنة.

وقيل : في كل ما تحبون الفسحة فيه ، من مكان ورزق وقبر وغيره.

وقيل : نزلت في مراكز القتال ، وهو قول ابن عباس والحسن وأبي العالية في آخرين (٤).

__________________

(١) الحجة للفارسي (٤ / ٣٥) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٧٠٤) ، والكشف (٢ / ٣١٤ ـ ٣١٥) ، والنشر (٢ / ٣٨٥) ، والإتحاف (ص : ٤١٢) ، والسبعة (ص : ٦٢٨ ـ ٦٢٩).

(٢) أخرجه ابن أبي حاتم (١٠ / ٣٣٤٣ ـ ٣٣٤٤). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ٨٢) وعزاه لابن أبي حاتم.

(٣) أخرجه الطبري (٢٨ / ١٧) ، وابن أبي حاتم (١٠ / ٣٣٤٣). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ٨٢) وعزاه لعبد بن حميد وعبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٤) أخرجه الطبري (٢٨ / ١٧) ، عن ابن عباس ، ولفظه : ذلك في مجلس القتال. وذكره الماوردي (٥ / ٤٩٢) ، والسيوطي في الدر (٨ / ٨١) وعزاه لعبد بن حميد ، كلاهما عن الحسن.

٢٧

وكانوا رضي الله عنهم يتراصّون فيها ، فيأتي الرجل الصف فيقول : تفسحّوا لي ، فيأبون ؛ حرصا على الشهادة.

(وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا) قرأ نافع وابن عامر وعاصم : بضم الشين (١). والابتداء على هذه القراءة : " أنشزوا" بضم الهمزة.

قال الحسن : إذا قيل لكم انهضوا إلى قتال عدوكم فانهضوا (٢).

وقال قتادة : إذا دعيتم إلى خير فأجيبوا (٣).

وهو عامّ في كل ما يأمرهم به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأصله من النّشز ، وهو المكان المرتفع (٤).

(يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) من المؤمنين [(دَرَجاتٍ).

قال ابن عباس : يرفع الله الذين أوتوا العلم من المؤمنين](٥) على الذين لم يؤتوا العلم درجات (٦).

وكان ابن مسعود يقول : أيها الناس! افهموا هذه الآية ولترغّبكم في العلم ،

__________________

(١) الحجة للفارسي (٤ / ٣٥) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٧٠٥) ، والكشف (٢ / ٣١٥) ، والنشر (٢ / ٣٨٥) ، والإتحاف (ص : ٤١٢) ، والسبعة (ص : ٦٢٩).

(٢) ذكره الماوردي (٥ / ٤٩٢) ، والسيوطي في الدر (٨ / ٨١) وعزاه لعبد بن حميد.

(٣) أخرجه الطبري (٢٨ / ١٨). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ٨٢) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد.

(٤) انظر : اللسان (مادة : نشز).

(٥) زيادة من ب.

(٦) أخرجه الحاكم (٢ / ٥٢٣ ح ٣٧٩٣) وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، ووافقه الذهبي. وذكره السيوطي في الدر (٨ / ٨٢ ـ ٨٣) وعزاه لابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في المدخل.

٢٨

فإن الله يرفع المؤمن العالم فوق من لا يعلم درجات (١).

قال الماوردي (٢) : يحتمل هذا وجهين :

أحدهما : أن يكون إخبارا عن حالهم عند الله تعالى في الآخرة.

والثاني : أن يكون [أمرا](٣) برفعهم في المجالس المقدم ذكرها ، ليترتّب الناس فيها بحسب فضائلهم في الدين والعلم.

وهذه الآية من جملة دلائل فضل العلم وأهله ، وفي ذلك من الآثار والأخبار والدلائل العقلية ما لو ذكرت شطره لطال الكتاب ، فتطلّب ذلك في أماكنه ومظانّه تجده.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ)(١٣)

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ) أي : إذا أردتم مناجاته ، بدليل قوله : (فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً).

قال ابن عباس : سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى شقّوا عليه ، فأراد الله أن يخفف عن

__________________

(١) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ١٩٤).

(٢) تفسير الماوردي (٥ / ٤٩٣).

(٣) في الأصل : إخبارا. والتصويب من ب ، والماوردي (٥ / ٤٩٣).

٢٩

نبيه ، فأنزل هذه الآية (١).

وقال المقاتلان (٢) : كان المكثرون يكثرون على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويغلبون الفقراء عليه ، فكره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك ، فنزلت هذه الآية.

قال المفسرون : لم يناجه أحد إلا علي بن أبي طالب رضي الله عنه تصدق بدينار (٣).

وكان علي عليه‌السلام يقول : آية في كتاب الله عزوجل لم يعمل بها أحد قبلي ، ولن يعمل بها أحد بعدي ؛ آية النجوى ، كان لي دينار فبعته بعشرة دراهم ، فلما أردت أن أناجي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قدمت درهما فنسختها الآية الأخرى : (أَأَشْفَقْتُمْ ...) الآية (٤).

قوله تعالى : (ذلِكَ) إشارة إلى الصدقة (خَيْرٌ لَكُمْ) لما فيه من طاعة الله (وَأَطْهَرُ) لذنوبكم ، (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا) يعني : ما تقدمونه بين يدي نجواكم صدقة (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

__________________

(١) أخرجه الطبري (٢٨ / ٢٠) ، وابن أبي حاتم (١٠ / ٣٣٤٤). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ٨٣) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.

(٢) تفسير مقاتل بن سليمان (٣ / ٣٣٤).

(٣) أخرجه مجاهد (ص : ٦٦٠). وذكره الماوردي (٥ / ٤٩٣) ، والسيوطي في الدر (٨ / ٨٤) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم ، كلاهما عن مجاهد.

(٤) أخرجه الطبري (٢٨ / ٢٠) ، وابن أبي شيبة (٦ / ٣٧٣ ح ٣٢١٢٥) ، والحاكم (٢ / ٥٢٤ ح ٣٧٩٤). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ٨٤) وعزاه لسعيد بن منصور وابن راهويه وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم وصححه.

٣٠

ثم نسخت [بالآية](١) التي بعدها.

قال المفسرون : لم تطل مدة النسخ.

ويروى أن عليا عليه‌السلام قال : ما كانت إلا ساعة (٢).

وقال مقاتل بن حيان : كانت عشر ليال ، ثم أنزل الله : (أَأَشْفَقْتُمْ)(٣).

قال ابن عباس : أبخلتم (٤).

والمعنى : أخفتم [العيلة](٥) إن قدمتم بين يدي نجواكم صدقات.

(فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا) ما أمرتم به وشقّ عليكم ، (وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ) وعذركم فرخّص لكم بالنسخ ، فلا تفرّطوا فيما أمركم به أمرا جازما ، وشرعه لكم شرعا لازما ؛ من الصلاة والزكاة وسائر الطاعات.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٥) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٦) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٧) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما

__________________

(١) في الأصل : الآية. والتصويب من ب.

(٢) ذكره الماوردي (٥ / ٤٩٣) ، والسيوطي في الدر (٨ / ٨٣ ـ ٨٤) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.

(٣) ذكره الماوردي (٥ / ٤٩٣) ، والسيوطي في الدر (٨ / ٨٤) وعزاه لابن أبي حاتم.

(٤) ذكره الواحدي في الوسيط (٤ / ٢٦٦).

(٥) في الأصل : العلية. والتصويب من ب.

٣١

يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٨) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ)(١٩)

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) وهم المنافقون كانوا يتولون اليهود وينقلون إليهم أسرار المؤمنين.

(ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ) يعني : المنافقين ليسوا من المؤمنين في الدين والولاية ، ولا من اليهود.

(وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ) قال السدي ومقاتل (١) : نزلت في عبد الله بن نبتل المنافق ، وكان رجلا أزرق ، يجالس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويرفع حديثه إلى اليهود (٢).

وفي صحيح الحاكم من حديث ابن عباس : «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان في ظل حجرة من حجره ، وعنده نفر من المسلمين ، فقال : إنه سيأتيكم إنسان ينظر إليكم بعيني شيطان ، فإذا أتاكم فلا تكلموه ، فجاء رجل أزرق ، فدعاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : علام تشتمني أنت وفلان وفلان؟ فانطلق الرجل فدعاهم فحلفوا بالله واعتذروا إليه ، فأنزل الله تعالى : (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ ...) الآية» (٣).

والواو في قوله : (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) واو الحال (٤) ، وهو أبلغ في ذمهم واجترائهم

__________________

(١) تفسير مقاتل (٣ / ٣٣٤).

(٢) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ١٩٦).

(٣) أخرجه أحمد (١ / ٢٦٧ ح ٢٤٠٧) ، والحاكم (٢ / ٥٢٤ ح ٣٧٩٥).

(٤) انظر : الدر المصون (٦ / ٢٩٠).

٣٢

على الله حيث حلفوا ، عالمين بكذب أنفسهم.

قوله تعالى : (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً) أي : سترة يستترون بها من القتل.

وقرئ شاذا : " إيمانهم" بكسر الهمزة (١).

(فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) قال السدي : صدوا الناس عن دين الإسلام (٢).

يريد : أنهم في حال أمنهم كانوا يثبّطون من لقوا عن الدخول في الإسلام ، ويوهنون شأنه في قلوبهم.

وقيل : المعنى : وصدوا المؤمنين عن جهادهم وأخذ أموالهم بما أظهروه لهم من الإيمان.

وما بعده مفسر إلى قوله تعالى : (فَيَحْلِفُونَ لَهُ) قال قتادة ومقاتل (٣) : يحلفون لله في الآخرة أنهم كانوا مؤمنين ، كما حلفوا لأوليائه في الدنيا (٤).

(وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ) من النفع ، (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ) المتوغّلون في الكذب ، المفرطون فيه ، حيث كذبوا وحلفوا لله الذي يعلم السر وأخفى أنهم كانوا مؤمنين.

قوله تعالى : (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ) استولى وغلب عليهم.

قال المبرد : استحوذ على الشيء : حواه وأحاط به.

قال غيره : ومنه قول عائشة رضي الله عنها في وصف عمر بن الخطاب : كان

__________________

(١) انظر هذه القراءة في : البحر المحيط (٨ / ٢٣٦) ، والدر المصون (٦ / ٢٩٠).

(٢) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ١٩٧).

(٣) تفسير مقاتل (٣ / ٣٣٥).

(٤) أخرجه الطبري (٢٨ / ٢٤). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ٨٥) وعزاه لعبد بن حميد.

٣٣

أحوذيا ، نسيج وحده ، قد أعد للأمور أقرانها (١).

تصفه بالقوة والإحاطة بأسباب السياسة وحسن الرعاية والحفظ.

وقد ذكرت اشتقاق الاستحواذ في سورة النساء (٢).

(إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (٢٠) كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢١) لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(٢٢)

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) من المنافقين وغيرهم ، (أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ) الأسفلين.

(كَتَبَ اللهُ) قضى (لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) قال المفسرون : من بعث من الرسل بالحرب فعاقبة الأمر له ، ومن لم يبعث بالحرب فهو غالب بالحجة (٣).

(إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) فهو ينصر حزبه وأولياءه ، ويخذل أعداءه.

قوله تعالى : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) يعني : إيمانا حقيقيا لا

__________________

(١) أخرجه ابن أبي شيبة (٧ / ٤٣٤ ح ٣٧٠٥٥).

(٢) عند الآية رقم : ١٤١.

(٣) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ١٩٨).

٣٤

فرية فيه ولا مرية ، (يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ) قال الزمخشري (١) : هذا من باب التخييل ، خيل أن من الممتنع المحال : أن تجد قوما [مؤمنين](٢) يوالون المشركين ، والغرض به أنه لا ينبغي أن يكون ذلك ، وحقه أن يمتنع ولا يوجد بحال ، مبالغة في النهي عنه والزجر عن ملابسته ، والتوصية بالتصلب في [مجانبة](٣) أعداء الله ، وزاد ذلك تشديدا بقوله : (وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ) وبقوله : (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) وبمقابلة قوله : (أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ) ، وبقوله : (أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ) ، فلا تجد شيئا أدخل في الإخلاص من موالاة أولياء الله ومعاداة أعدائه.

واختلفوا فيمن نزلت هذه الآية ؛ فقال ابن جريج : حدثت أن أبا قحافة سبّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم [فصكّه أبو بكر صكّة](٤) سقط منها. ثم ذكر ذلك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : [أو فعلته](٥)؟ قال : نعم. قال : فلا تعد. فقال أبو بكر : والله! لو كان السيف مني قريبا لقتلته ، فأنزل الله هذه الآية (٦).

وقال ابن مسعود : نزلت في أبي عبيدة بن الجراح قتل أباه يوم أحد ، وفي أبي بكر دعا ابنه يوم بدر إلى البراز فقال : يا رسول الله دعني أكون في الرعيل الأول؟ فقال : أمتعنا بنفسك يا أبا بكر ، وفي مصعب بن عمير قتل أخاه عبيد بن عمير يوم

__________________

(١) الكشاف (٤ / ٤٩٦).

(٢) في الأصل : يؤمنون بالله واليوم الآخر. والمثبت من ب ، والكشاف ، الموضع السابق.

(٣) في الأصل : مجانبته. والمثبت من ب ، والكشاف ، الموضع السابق.

(٤) في الأصل : فصحكه أبو بكر صحكة. والتصويب من ب.

(٥) في الأصل : أفعلته. والتصويب من ب.

(٦) ذكره الماوردي (٥ / ٤٩٧) ، والواحدي في أسباب النزول (ص : ٤٣٤). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ٨٦) وعزاه لابن المنذر.

٣٥

أحد ، وفي عمر بن الخطاب قتل خاله العاص بن هشام يوم بدر ، وفي علي وحمزة قتلا عتبة وشيبة ابني ربيعة (١).

وقال السدي : نزلت في عبد الله بن عبد الله بن أبيّ بن سلول ، وذلك أنه كان جالسا إلى جنب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فشرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ماء ، فقال عبد الله : يا رسول الله أبق فضلة من شرابك؟ قال : وما تصنع بها؟ قال : أسقيها أبي لعل الله سبحانه وتعالى يطهّر قلبه ، ففعل ، فأتى بها أباه. فقال : ما هذا؟ قال : فضلة شراب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جئتك بها لتشربها ، لعل [الله](٢) يطهر قلبك ، فقال : هلّا جئتني ببول أمك ، فرجع إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله ائذن لي في قتل أبي ، [فقال](٣) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ارفق به وأحسن إليه ، فنزلت هذه الآية (٤).

وقيل : نزلت في قصة حاطب بن أبي بلتعة (٥). وسنذكرها إن شاء الله في أول الممتحنة.

قوله تعالى : (كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) أي : أثبت في قلوبهم التصديق.

ومعناه : جمع في قلوبهم الإيمان حى استكملوه.

(وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) قال ابن عباس : هو النصر (٦) ، سمي روحا ؛ لأن به حياة أمرهم.

__________________

(١) ذكره الواحدي في أسباب النزول (ص : ٤٣٤) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ١٩٨).

(٢) زيادة من ب.

(٣) في الأصل : قال. والتصويب من ب.

(٤) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ١٩٩).

(٥) وذلك حين كتب إلى أهل مكة يخبرهم بمسير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهم عام الفتح.

(٦) ذكره الواحدي في الوسيط (٤ / ٢٦٨) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ٢٠٠).

٣٦

وقال الربيع : الرّوح : القرآن (١).

وقال السدي : الإيمان (٢).

وقال مقاتل (٣) : الرحمة.

وقيل : جبريل عليه‌السلام (٤).

وما بعده ظاهر ومفسّر إلى آخر السورة. والله أعلم.

__________________

(١) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ٢٠٠).

(٢) مثل السابق.

(٣) تفسير مقاتل (٣ / ٣٣٦).

(٤) قاله الماوردي (٥ / ٤٩٦).

٣٧

سورة الحشر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وهي أربع وعشرون آية ، وهي مدنية بإجماعهم (١).

قال المفسرون : نزلت جميعها في بني النضير (٢).

وكان ابن عباس يسميها سورة بني النضير (٣).

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (٢) وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (٣) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤) ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ

__________________

(١) انظر : البيان في عدّ آي القرآن (ص : ٢٤٣).

(٢) أخرجه البخاري (٤ / ١٨٥٢ ح ٤٦٠٠). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ٨٨) وعزاه لسعيد بن منصور والبخاري وابن مردويه.

(٣) انظر : الإتقان في علوم القرآن (١ / ١٥٤). قال ابن حجر في الفتح (٧ / ٣٣٢) : كأن ابن عباس كره تسميتها سورة الحشر ؛ لئلا يظنّ أن المراد بالحشر يوم القيامة ، وإنما المراد به هنا إخراج بني النّضير.

٣٨

تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ)(٥)

الإشارة إلى قصتهم :

قال العلماء بالتفسير والسير : لما قدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة ، صالحه بنو النضير على أن لا يقاتلوه ولا يقاتلوا معه ، فقبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك منهم ، فلما غزا رسول الله الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدرا [وظهر](١) على المشركين قالت بنو النضير : والله! إنه النبي الذي نجد نعته في التوراة لا تردّ له راية ، ثم قالوا : استأنوا به حتى ننظر ما يكون من أمره في وقعة أخرى ، فلما كانت أحد وانهزم المسلمون ارتابت بنو النضير ، وأظهروا العداوة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [والمؤمنين](٢) ، فركب كعب بن [الأشرف](٣) في أربعين راكبا من اليهود إلى مكة فأتوا قريشا فحالفوهم على أن تكون كلمتهم واحدة على محمد ، وتوثّقوا على ذلك بين أستار الكعبة ، فنزل جبريل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره بذلك ، فلما قفل كعب بن الأشرف أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقتله ، فانتدب له أخوه من الرضاعة محمد بن مسلمة الأنصاري رضي الله عنه ، فقتله ، وقصة قتله معروفة عند أهل النقل.

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اطلع من بني النضير على خيانة ونقض عهد ، حين أتاهم ومعه أبو بكر وعمر وعلي في نفر من أصحابه يستعينهم في دية الرجلين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري في منصرفه من بئر معونة ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد آمنهما ، فقالوا : نفعل ، وهمّوا بالغدر به ، فقال عمرو بن جحّاش : أنا أظهر على البيت

__________________

(١) في الأصل : وظهرا. والتصويب من ب.

(٢) في الأصل : والمؤمنون. والتصويب من ب.

(٣) في الأصل : الأشر. والتصويب من ب.

٣٩

فأطرح عليه صخرة ، فقال سلام بن مشكم : لا تفعلوا والله ليخبرنّ بما هممتهم به ، فأوحى الله تعالى إليه ما [كادوه](١) به ، فنهض سريعا فتوجه إلى المدينة ولحقه أصحابه ، فقالوا : قمت يا رسول الله ولم نشعر! فقال : همّت يهود بالغدر ، فأخبرني الله بذلك فقمت ، وبعث إليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم محمد بن مسلمة : أن اخرجوا من بلدي فلا تساكنوني وقد هممتم بما هممتم به ، وقد أجّلتكم عشرا ، فمن رؤي بعد ذلك منكم ضربت عنقه ، فأخذوا في التجهيز ، فدسّ إليهم ابن أبيّ يقول : لا تخرجوا فإن معي ألفين من قومي وغيرهم ، وتمدّكم قريظة وحلفاؤكم من غطفان ، فاغترّوا بقوله ، فأرسلوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقولون : إنا لا نخرج فاصنع ما بدا لك ، فكبّر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكبّر المسلمون لتكبيره ، وقال : حاربت [يهود](٢) ، ثم سار إليهم في أصحابه ، فلما رأوه قاموا على حصونهم معهم النبل والحجارة فاعتزلتهم قريظة وخذلهم ابن أبيّ وحلفاؤهم من غطفان ، وحاصرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إحدى وعشرين ليلة ، وقطع نخلهم ، فضرعوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في طلب الصلح فأبى عليهم إلا أن يخرجوا من المدينة على ما [يأمرهم](٣) به ، فقالوا : ذلك لك ، فصالحهم على الجلاء ، وعلى أن لهم ما أقلّت إبلهم من أموالهم إلا الحلقة ، وهي السلاح (٤).

__________________

(١) في الأصل : دوه. والتصويب من ب.

(٢) في الأصل : اليهود. والمثبت من ب.

(٣) في الأصل : مرهم. والتصويب من ب.

(٤) أخرج بعضه أبو داود (٤ / ٢٣٤ ـ ٢٣٥ ح ٣٠٠٤). وأخرجه مطولا عبد الرزاق (٥ / ٣٥٩ ـ ٣٦٠ ح ٩٧٣٣) ، وعزاه السيوطي في الدر (٨ / ٩٣) لعبد الرزاق وعبد بن حميد وأبي داود وابن المنذر والبيهقي في الدلائل. ـ

٤٠