رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٨

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي

رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٨

المؤلف:

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي


المحقق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الأسدي للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٨٨

منه (١).

وذهب (٢) [الإمامان](٣) الشافعي وأحمد : إلى أن سجود التلاوة غير واجب ، ولذلك أدلة ليس هذا موضع استقصائها.

قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : إن الله لم يكتبها علينا (٤).

قوله : (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ) يعني : بالقرآن والبعث والجزاء.

(وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ) في صدورهم من التكذيب والعناد.

(فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) اجعل لهم ذلك بدل البشارة. وقد فسرنا (٥) ذلك في مواضع.

(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) استثناء منقطع.

والممنون عند أهل اللغة : المقطوع.

__________________

(١) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٩ / ٦٩).

(٢) في ب : ذهب.

(٣) في الأصل : الإمان. والتصويب من ب.

(٤) أخرجه النسائي في الصغرى (١ / ٥٠٦ ح ٩٠٢) ، ومالك في الموطأ (١ / ٢٠٦ ح ٤٨٤) ، والبيهقي في الكبرى (٢ / ٣٢١ ح ٣٥٧٤ ، ٣ / ٢١٣ ح ٥٥٨٧).

(٥) في ب : قررنا.

٥٦١

سورة البروج

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وهي اثنتان وعشرون آية (١) ، وهي مكية بإجماعهم.

(وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (١) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (٢) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (٣) قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (٤) النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (٥) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (٦) وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (٧) وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٨) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٩) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ)(١٠)

قال الله تعالى : (وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ) ، وهي البروج الاثنا عشر. وقد ذكرناها في الحجر (٢).

(وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ) يوم القيامة.

وفي قوله : (وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) أقوال كثيرة ، أشهرها وأولاها : ما روى أبو هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «اليوم الموعود : يوم القيامة ، والشاهد : يوم الجمعة ،

__________________

(١) انظر : البيان في عدّ آي القرآن (ص : ٢٦٩).

(٢) عند الآية رقم : ١٦.

٥٦٢

والمشهود : يوم عرفة» (١). وهو مخرج في الترمذي.

وإلى هذا القول ذهب علي عليه‌السلام ، وابن عباس في بعض الروايات عنه ، وهو قول أكثر المفسرين.

قال بعضهم : سمي يوم الجمعة شاهدا ؛ لأنه يشهد على كل عامل بما عمل فيه ، وسمي يوم عرفة مشهودا ؛ لأن الناس يشهدون فيه [موسم](٢) الحج ، وتشهده الملائكة.

أخبرنا أبو الحسن المؤيد بن محمد الطوسي في كتابه قال : أخبرنا عبد الجبار بن أحمد بن محمد [الخواري](٣) ، أخبرنا علي بن أحمد النيسابوري ، أخبرنا أبو إسحاق المقرئ ـ يعني : الأستاذ الثعلبي صاحب التفسير ـ قال : أخبرنا الحسين بن محمد أبو عبد الله الحافظ ، حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان ، حدثنا إبراهيم بن سهلويه ، حدثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي (٤) ، حدثنا مالك بن ضيغم الراسبي (٥) ، حدثنا أبو سهل المنذراني ، عن خباب ، عن رجل قال : دخلت مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإذا برجل يحدث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والناس حوله ، فقلت : أخبرني عن شاهد

__________________

(١) أخرجه الترمذي (٥ / ٤٣٦ ح ٣٣٣٩).

(٢) في الأصل : بموسم. والتصويب من ب. وانظر : زاد المسير (٩ / ٧١).

(٣) في الأصل : الحوري. والتصويب من ب.

(٤) أحمد بن إبراهيم بن كثير بن زيد الدورقي النكري البغدادي ، أبو عبد الله ، ثقة حافظ ، ولد سنة ثمان وستين ومائة ، ومات سنة ست وأربعين ومائتين (تهذيب التهذيب ١ / ٩ ، والتقريب ص : ٧٧).

(٥) مالك بن ضيغم بن مالك الراسبي ، روى عن أبيه ، روى عنه أحمد بن إبراهيم الدورقي (الجرح والتعديل ٨ / ٢١١).

٥٦٣

ومشهود؟ قال : نعم ، أما الشاهد فيوم الجمعة ، وأما المشهود فيوم [عرفة](١).

فجزته إلى آخر يحدث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقلت : أخبرني عن شاهد ومشهود؟ قال : نعم ، أما الشاهد فيوم الجمعة ، [وأما](٢) المشهود يوم النحر.

فجزتهما إلى غلام كأنّ وجهه الدينار ، وهو يحدث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقلت : أخبرني عن شاهد ومشهود؟ قال : نعم ، أما الشاهد فمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأما المشهود فيوم القيامة ، أما سمعته يقول : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً) [الأحزاب : ٤٥] ، وقال عزوجل : (ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) [هود : ١٠٣].

فسألت عن الأول فقالوا : ابن عباس ، وسألت عن الثاني فقالوا : ابن عمر ، وسألت عن الثالث فقالوا : الحسن بن علي عليهم‌السلام (٣).

قلت : وهذا القول المروي عن الحسن بن علي رواه ميمون [بن](٤) مهران عن ابن عباس (٥).

__________________

(١) في الأصل : النحر. والمثبت من ب ، وتفسير الثعلبي (١٠ / ١٦٥).

(٢) في الأصل : أما. والتصويب من ب.

(٣) أخرجه الثعلبي (١٠ / ١٦٥ ـ ١٦٦). وذكره الواحدي في الوسيط (٤ / ٤٥٨).

(٤) زيادة من ب.

(٥) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٩ / ٧١). قلت : وقول الحسن بن علي أخرجه الطبراني في الأوسط (٩ / ١٨٢ ح ٩٤٨٢) ، والصغير (٢ / ٢٦٣ ح ١١٣٧) من حديث الحسين بن علي ، والطبري (٣٠ / ١٣٠). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ٤٦٤) وعزاه لابن جرير وابن مردويه.

٥٦٤

وروى الوالبي عنه : أن الشاهد : هو الله تعالى ، والمشهود : يوم القيامة (١).

وقال سعيد بن جبير : الشاهد : هو الله تعالى ، والمشهود : بنو آدم (٢).

وقال الحسين بن الفضل : الشاهد : هذه الأمة ، والمشهود : جميع الأمم. ودليله قوله : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ)(٣).

وقال [الترمذي](٤) : الشاهد : الحفظة ، والمشهود : بنو آدم (٥).

وقيل : الحجر الأسود والحجيج (٦).

وقال صاحب الكشاف (٧) : وشاهد في ذلك اليوم ـ يعني : يوم القيامة ـ ، ومشهود فيه ، والمراد بالشاهد : من يشهد فيه من الخلائق كلهم ؛ وبالمشهود : ما في ذلك اليوم من عجائبه.

وقيل : غير ذلك ، والله تعالى أعلم.

فإن قيل : أين جواب القسم؟

__________________

(١) أخرجه الطبري (٣٠ / ١٣١) من رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. وانظر رواية الوالبي عن ابن عباس في زاد المسير (٩ / ٧١). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ٤٦٤) وعزه لابن جرير من طريق علي عن ابن عباس.

(٢) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٩ / ٧٢).

(٣) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٩ / ٧٣).

(٤) في الأصل وب : اليزيدي. والمثبت من زاد المسير (٩ / ٧٣). وهو محمد بن علي الترمذي ، وليس هو صاحب الجامع.

(٥) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٩ / ٧٣).

(٦) مثل السابق.

(٧) الكشاف (٤ / ٧٣٠).

٥٦٥

فقلت : عنه جوابان :

أحدهما : أنه قوله : (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ). قاله قتادة والزجاج (١).

الثاني : أنه قوله : (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ)(٢). قاله الفراء (٣).

قال الزمخشري (٤) : هو محذوف ، يدل عليه : (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) ، كأنه قيل : أقسم بهذه الأشياء [أنهم ملعونون](٥) ، يعني : كفار قريش ، كما لعن أصحاب الأخدود.

قوله تعالى : (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) أي : لعنوا.

والأخدود : الشق المستطيل في الأرض ، ويجمع : أخاديد (٦). وهم قوم كفرة ، حفروا حفائر ، وأوقدوا فيها نارا ، وألقوا فيها من لم يجبهم إلى الكفر.

وكان من قصتهم : ما أخبرنا به أبو علي بن الفرج في كتابه ، أخبرنا أبو القاسم هبة الله بن الحصين ، أخبرنا أبو علي الحسن بن علي الواعظ ، أخبرنا أبو بكر بن مالك ، أخبرنا عبد الله بن الإمام أحمد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثنا عفان ، حدثنا حماد بن سلمة ، أخبرنا ثابت ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن صهيب ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كان ملك فيمن كان قبلكم ، وكان له ساحر ، فلما كبر الساحر قال للملك :

__________________

(١) أخرجه الطبري (٣٠ / ١٣٥). وانظر : معاني الزجاج (٥ / ٣٠٧).

(٢) وقال ابن جرير الطبري (٣٠ / ١٣٥) : جواب القسم متروك ، والخبر مستأنف ؛ لأن علامة جواب القسم لا تحذفها العرب من الكلام إذا أجابته.

(٣) معاني الفراء (٣ / ٢٥٣).

(٤) الكشاف (٤ / ٧٣٠).

(٥) في الأصل : أنه لملعونون. والتصويب من ب ، والكشاف ، الموضع السابق.

(٦) انظر : اللسان (مادة : خدد).

٥٦٦

إني قد كبرت سني وحضر أجلي ، فادفع إليّ غلاما فلأعلمه السحر ، فدفع إليه غلاما وكان يعلمه السحر ، وكان بين الساحر وبين الملك راهب ، فأتى الغلام [على](١) الراهب فسمع من كلامه ، فأعجبه نحوه وكلامه ، فكان إذا أتى الساحر ضربه وقال : ما حبسك؟ [وإذا أتى أهله ضربوه وقالوا : ما حبسك؟](٢) ، فشكا ذلك إلى الراهب فقال : إذا أراد الساحر أن يضربك فقل : حبسني أهلي ، وإذا أراد أهلك أن يضربوك فقل : حبسني الساحر. قال : فبينما هو كذلك [إذا أتى](٣) ذات يوم على دابة عظيمة وقد حبست الناس ، فلا يستطيعون أن يجوزوا ، فقال : اليوم أعلم أمر الراهب [أحبّ](٤) إلى الله أم أمر الساحر ، وأخذ حجرا فقال : اللهم إن كان أمر الراهب أحبّ إليك وأرضى لك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يجوز الناس ، ورماها فقتلها ، ومضى الناس. فأخبر الراهب بذلك ، فقال : أي بني! أنت أفضل مني ، وإنك ستبتلى ، فإن ابتليت فلا تدل عليّ ، فكان الغلام يبرئ الأكمه وسائر الأدواء ، ويشفيهم ، وكان للملك جليس فعمي ، فسمع به فأتاه ، وأتى بهدايا كثيرة فقال : اشفني ولك ما هاهنا ، فقال : ما أنا أشفي أحدا ، إنما يشفي الله عزوجل ، فإن آمنت به دعوت الله فشفاك ، فآمن ، فدعا الله له فشفاه ، ثم أتى الملك فجلس معه نحو ما كان يجلس ، فقال له الملك : يا فلان ، من ردّ عليك بصرك؟ فقال : ربي. قال : أنا ، قال : لا ، ولكن ربي وربك الله ، قال : أو لك رب

__________________

(١) في الأصل : إلى. والمثبت من ب ، ومسند أحمد (٦ / ١٧).

(٢) زيادة من ب ، والمسند ، الموضع السابق.

(٣) مثل السابق.

(٤) مثل السابق.

٥٦٧

غيري؟ قال : نعم ، فلم يزل يعذبه حتى دلّ على الغلام ، فبعث إليه فقال : أي شيء بلغ من سحرك أن تبرئ الأكمه والأبرص ، وهذه الأدواء؟ قال : ما أشفي أنا أحدا ، ما يشفي إلا الله ، قال : أنا؟ قال : لا ، قال : أو لك رب غيري؟ قال : نعم ، ربي وربك الله ، فأخذه أيضا بالعذاب ، فلم يزل به حتى دلّ على الراهب ، فأتى بالراهب فقال : ارجع عن دينك فأبى ، فوضع [المنشار](١) في مفرق رأسه حتى وقع شقّاه. وقال للأعمى : ارجع [عن دينك ، فأبى ، فوضع المنشار في مفرق رأسه حتى وقع شقّاه في الأرض. وقال للغلام : ارجع](٢) عن دينك فأبى ، فبعث به مع نفر إلى جبل كذا وكذا ، وقال : إذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فدهدهوه (٣) من فوقه ، فذهبوا به ، فلما علوا به الجبل ، قال : اللهم اكفنيهم بما شئت ، فرجف بهم الجبل فدهدهوا أجمعون ، وجاء الغلام يتلمّس حتى دخل على الملك ، فقال : ما فعل أصحابك؟ فقال : كفانيهم الله عزوجل ، فبعث به في قرقور (٤) في البحر مع نفر ، فقال : إذا لججتم البحر فإن رجع عن دينه وإلا فغرّقوه ، فلجّجوا به البحر ، فقال الغلام : اللهم اكفنيهم بما شئت ، فغرقوا أجمعون ، وجاء الغلام يتلمّس حتى دخل على الملك فقال : ما فعل أصحابك؟ قال : كفانيهم الله عزوجل ، ثم قال للملك : إنك لست قاتلي حتى تفعل ما آمرك [به](٥) ، فان أنت فعلت ما آمرك به قتلتني ،

__________________

(١) في الأصل : الميشار. والمثبت من ب ، والمسند (٦ / ١٧).

(٢) زيادة من ب ، والمسند ، الموضع السابق.

(٣) الدّهدهة : قذفك الحجارة من أعلى إلى أسفل دحرجة ، ودهدهت الحجر فتدهده : دحرجته فتدحرج (اللسان ، مادة : دهده).

(٤) القرقور : ضرب من السفن. وقيل : هي السفينة العظيمة أو الطويلة (اللسان ، مادة : قرر).

(٥) زيادة من ب ، والمسند (٦ / ١٧).

٥٦٨

وإلا فإنك لا تستطيع قتلي. قال : وما هو؟ قال : تجمع الناس في صعيد واحد ، ثم تصلبني على جذع ، وتأخذ سهما من كنانتي (١) ، ثم قل : بسم الله رب الغلام ، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني ، ففعل ، ووضع السهم في كبد قوسه وقال : بسم الله ربّ الغلام ، فوضع السهم في صدغه ، فوضع الغلام يده على موضع السهم ومات ، فقال الناس : آمنا برب الغلام ، فقيل للملك : أرأيت ما كنت تحذر ، فقد والله نزل بك ، فقد آمن الناس كلهم ، فأمر بأفواه السكك فخدّدت فيها الأخاديد ، وأضرمت فيها النيران ، وقال : من رجع عن دينه فدعوه ، وإلا فأقحموه فيها ، فكانوا يتعادون فيها ويتدافعون ، فجاءت امرأة بابن لها ترضعه ، فكأنها تقاعست أن تقع في النار ، فقال الصبي : يا أماه اصبري فإنك على الحق» (٢). هذا حديث صحيح انفرد بإخراجه مسلم. فرواه عن هدبة [بن](٣) خالد (٤) ، عن حماد بن سلمة. ولم يخرج البخاري عن صهيب شيئا.

قال سعيد بن المسيب : كنا عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، إذ ورد عليه قوم فقالوا : إنهم وجدوا ذلك الغلام ـ يعني : الذي ذكرناه ـ وهو واضع يده على صدغه ، فكلما مدّت يده عادت إلى صدغه ، فكتب عمر : واروه حيث وجدتموه (٥).

وروي عن علي عليه‌السلام أنه قال حين اختلف المسلمون في المجوس وما

__________________

(١) الكنانة : جعبة السهام تتّخذ من جلود لا خشب فيها ، أو من خشب لا جلود فيها (اللسان ، مادة : كنن).

(٢) أخرجه مسلم (٤ / ٢٢٩٩ ح ٣٠٠٥) ، وأحمد (٦ / ١٦ ـ ١٧).

(٣) في الأصل : عن. والتصويب من ب.

(٤) ويقال له : هداب بن خالد ، كما جاء في مسلم (٤ / ٢٢٩٩).

(٥) ذكر نحوه الواحدي في الوسيط (٤ / ٤٦٠) من قول ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر.

٥٦٩

يجري عليهم من الأحكام : هم أهل كتاب ، وكانت الخمر قد أحلت لهم ، فتناولها ملك من ملوكهم فغلبته على عقله ، فتناول أخته فوقع عليها ، فلما ذهب عنه السّكر ندم وقال لها : ويحك ما هذا الذي أتيت؟ وما المخرج منه؟ قالت : تجمع أهل مملكتك فتعلمهم أن الله قد أحلّ لهم ذلك ، ففعل ، فأبوا عليه ، فخدّ لهم أخدودا في الأرض ، وأوقدوا فيه النيران ، وعرضهم عليها ، فمن أبى قبول ذلك قذفه فيها ، ومن أجاب خلى سبيله ، فأنزل الله فيهم : (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) إلى قوله : (وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ)(١).

وقال قتادة : هم [ناس](٢) اقتتل مؤمنهم وكافرهم ، فظهر المؤمنون ، ثم تعاهدوا أن لا يغدر بعضهم ببعض ، فغدر الكفار بهم ، فأخذوهم ، فقال لهم رجل من المؤمنين : أوقدوا نارا واعرضونا عليها ، فمن تابعكم على دينكم فذاك الذي تحبون ، ومن لم يتابعكم اقتحم النار ، فاسترحتم منه ، ففعلوا ، فجعل المسلمون يقتحمونها (٣).

وقال الربيع بن أنس : اعتزل قوم من المؤمنين الناس في الفترة ، فأرسل إليهم جبّار من عبدة الأوثان ، فعرض عليهم الدخول في دينه ، فأبوا ، فاتخذ لهم أخدودا فألقاهم فيه (٤).

__________________

(١) أخرجه الطبري (٣٠ / ١٣٢). وذكره الواحدي في الوسيط (٤ / ٤٦٠ ـ ٤٦١) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٩ / ٧٤ ـ ٧٥) ، والسيوطي في الدر (٨ / ٤٦٧) وعزاه لعبد بن حميد.

(٢) زيادة من ب.

(٣) أخرجه الطبري (٣٠ / ١٣٢). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ٤٦٥) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر.

(٤) أخرجه الطبري (٣٠ / ١٣٤) ، وابن أبي حاتم (١٠ / ٣٤١٤).

٥٧٠

وقال مقاتل (١) : آمن قوم من قوم يوسف بن ذي نواس بأرض العرب ، بعد ما رفع عيسى عليه‌السلام ، فخذّ لهم أخدودا وأضرم فيه النار ، وعرض عليهم الكفر ، وحرّق من أبى منهم.

قال وهب بن منبه : كانوا اثني عشر ألفا (٢).

واختلفوا في أصحاب الأخدود أين كانوا؟ وممن كانوا؟ فقال علي عليه‌السلام : كانوا في الحبش (٣).

وقال الحسن : من اليمن (٤).

وقال الضحاك : كانوا [من](٥) نصارى اليمن ، قبل مبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأربعين سنة (٦).

وقال مجاهد : من أهل نجران (٧).

وقال ابن عباس : من بني إسرائيل (٨).

__________________

(١) تفسير مقاتل (٣ / ٤٦٩).

(٢) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٩ / ٧٦).

(٣) أخرجه ابن أبي حاتم (١٠ / ٣٤١٣). وذكره الماوردي (٦ / ٢٤١) ، والسيوطي في الدر (٨ / ٤٦٥) وعزاه لابن أبي حاتم وابن المنذر من طريق الحسن عن علي.

(٤) ذكره الماوردي (٦ / ٢٤٢) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٩ / ٧٦).

(٥) زيادة من زاد المسير (٩ / ٧٦).

(٦) ذكره الماوردي (٦ / ٢٤٢) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٩ / ٧٦).

(٧) أخرجه الطبري (٣٠ / ١٣٣) ، ومجاهد (ص : ٧٤٧). وذكره الماوردي (٦ / ٢٤١) ، والسيوطي في الدر (٨ / ٤٦٥) وعزاه للفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر.

(٨) أخرجه الطبري (٣٠ / ١٣٢). وذكره الماوردي (٦ / ٢٤١) ، والسيوطي في الدر (٨ / ٤٦٥) وعزاه لابن جرير.

٥٧١

وفي حديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنه كان إذا ذكر أصحاب الأخدود تعوّذ بالله من [جهد](١) البلاء (٢).

قوله تعالى : (النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ) بدل من"(الْأُخْدُودِ)" (٣) ، كأنه قال : قتل أصحاب النار.

وفي قوله : "(ذاتِ الْوَقُودِ)" إيذان بأنها نار شديدة الاضطرام.

وقرأ أبو رزين وأبو عبد الرحمن ومجاهد : " الوقود" بضم الواو (٤). وقد ذكرناه في البقرة (٥).

قوله : (إِذْ) ظرف ل" قتل" (٦) ، على معنى : لعنوا حين قعدوا على حافات الأخدود يعرضون المؤمنين على الكفر أو الإحراق.

قال مجاهد : كانوا قعودا على الكراسي عند الأخدود (٧).

(وَهُمْ) يعني : الملك وأصحابه (عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ) حضور ، ينظرون ذلك ويشاهدونه.

يشير بذلك : إلى قسوة قلوبهم ، وفرط اجترائهم على الفساد.

__________________

(١) زيادة من مصادر التخريج.

(٢) أخرجه ابن أبي شيبة (٧ / ٧٩ ح ٣٤٣٣٣). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ٤٦٦) وعزاه لابن أبي شيبة عن عوف.

(٣) انظر : التبيان (٢ / ٢٨٤) ، والدر المصون (٦ / ٥٠٣).

(٤) انظر هذه القراءة في : زاد المسير (٩ / ٧٧) ، والدر المصون (٦ / ٥٠٣).

(٥) عند الآية رقم : ٢٤.

(٦) انظر : التبيان (٢ / ٢٨٤) ، والدر المصون (٦ / ٥٠٣).

(٧) ذكره الواحدي في الوسيط (٤ / ٤٦١).

٥٧٢

وقيل : معنى شهادتهم على إحراق المؤمنين : أنهم وكّلوا بذلك ، وجعلوا شهودا يشهد بعضهم لبعض عند الملك ، أن أحدا منهم لم يفرّط فيما أمره وفوّض إليه من التعذيب.

وقيل : هم شهود يؤدّون شهادتهم يوم القيامة ، (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) [النور : ٢٤].

قوله تعالى : (وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ) وقرأ جماعة : منهم أبو حيوة ، وابن أبي عبلة : " نقموا" بكسر القاف (١). وقد ذكرنا فيما مضى أنهما لغتان.

قال ابن عباس : ما كرهوا منهم إلا أنهم آمنوا (٢).

وقال مقاتل (٣) : ما عابوا عليهم.

وقد ذكرنا فيما مضى أنه كقول الشاعر :

ولا عيب فيهم ...

 ...................(٤)

وقول الآخر :

ما نقم الناس من أميّة إلا

[أنهم](٥) يحلمون إن غضبوا (٦)

__________________

(١) انظر هذه القراءة في زاد المسير (٩ / ٧٧) ، والدر المصون (٦ / ٥٠٣).

(٢) ذكره الواحدي في الوسيط (٤ / ٤٦١).

(٣) تفسير مقاتل (٣ / ٤٧٠) ولفظه : ما عذبهم.

(٤) تقدم.

(٥) زيادة من ب.

(٦) البيت لابن قيس الرقيات. انظر : ديوانه (ص : ٤) ، والخزانة (٧ / ٢٨٨) ، والبحر المحيط (٥ / ٧٤) ، وزاد المسير (٣ / ٤٧١ ـ ٤٧٢) ، وتهذيب اللغة (٩ / ٢٠٢) ، ومجاز القرآن (١ / ١٧٠) ، والقرطبي (٨ / ٢٠٧) ، والطبري (٦ / ٢٩٢) ، وروح المعاني (٦ / ١٧٣ ، ١٠ / ١٣٩).

٥٧٣

(وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) من إحراقهم المؤمنين وغيره (شَهِيدٌ) لم يخف عليه ما صنعوا. وهذا وعيد لهم.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) وهم أصحاب الأخدود.

ومعنى : "(فَتَنُوا)" : أحرقوا. وقد ذكرناه في قوله : (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) [الذاريات : ١٣].

(ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا) من شركهم ومعاصيهم وما فعلوا بالمؤمنين (فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ) جزاء على كفرهم (وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ) وهو عذاب زائد على عذاب جهنم ، كأنها نار أخرى تضرم لهم ، فيصلونها زيادة على ما يستحقه أمثالهم في الكفر.

وقيل : لهم عذاب الحريق في الدنيا.

قال الكلبي : ارتفعت النار من الأخدود إلى الملك وأصحابه فأحرقتهم (١).

وقال الربيع بن أنس : قبض الله عزوجل أرواح المؤمنين قبل أن تمسهم النار ، وخرجت النار على من في شفير الأخدود من الكفار ، فأحرقتهم (٢).

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (١١) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (١٢) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (١٣) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (١٤) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (١٥) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٦) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (١٧) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (١٨) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (١٩) وَاللهُ

__________________

(١) ذكره الواحدي في الوسيط (٤ / ٤٦١).

(٢) أخرجه الطبري (٣٠ / ١٣٤) ، وابن أبي حاتم (١٠ / ٣٤١٤). وذكره الثعلبي (١٠ / ١٧٤).

٥٧٤

مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (٢٠) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (٢١) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ)(٢٢)

قوله تعالى : (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ) أي : إن أخذه الجبابرة والظّلمة بالعنف (لَشَدِيدٌ).

(إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ) الخلق في الدنيا (وَيُعِيدُ) هم في الأخرى.

(وَهُوَ الْغَفُورُ) لذنوب المؤمنين (الْوَدُودُ) المحبّ لهم أو المتحبّب إليهم.

وقد فسرنا الودود في هود (١).

(ذُو الْعَرْشِ) صاحبه.

قرأ حمزة والكسائي : " المجيد" بالجر ، صفة العرش ، يشير إلى علوّه وعظمه. وقرأ الباقون : "(الْمَجِيدُ)" بالرفع ، صفة لذو العرش (٢). وهو أشبه ؛ لأن المجيد لم يسمع في غير صفة الله تعالى.

(فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) فلا يسأل عما يفعل من تسليط الكافرين على المؤمنين وغيره.

وقال عطاء : لا يعجز عن شيء يريده (٣).

قوله تعالى : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ) وهم الذين تجنّدوا وتحزّبوا على أولياء الله.

(فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ) بدل من"(الْجُنُودِ)" (٤).

__________________

(١) عند الآية رقم : ٩٠.

(٢) الحجة للفارسي (٤ / ١١٠) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٧٥٧) ، والكشف (٢ / ٣٦٩) ، والنشر (٢ / ٣٩٩) ، والإتحاف (ص : ٤٣٦) ، والسبعة (ص : ٦٧٨).

(٣) ذكره الواحدي في الوسيط (٤ / ٤٦٢).

(٤) انظر : التبيان (٢ / ٢٨٤) ، والدر المصون (٦ / ٥٠٤).

٥٧٥

والمعنى : قد عرفت تكذيبهم للرسل وما نزل بهم لتكذيبهم.

(بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا) من قومك (فِي تَكْذِيبٍ) يريد : في أيّ تكذيب.

وفي ضمن ذلك تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وخويف لكفار (١) قريش ، ألا تراه يقول : (وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ) يريد : لا يفوتونه إذا طلبهم ، أو لا يخفون عليه.

(بَلْ هُوَ) إشارة إلى الذين كذّبوا به (قُرْآنٌ مَجِيدٌ) كريم عظيم عال على سائر الكتب ؛ بما اشتمل عليه من البلاغة والحكم والأحكام والإخبار بما كان ويكون ، لا كما قالوا : سحر ، وكهانة ، وأساطير الأولين.

وقرأ جماعة ، منهم : أبو العالية ، وأبو الجوزاء ، وأبو عمران ، وابن السميفع : " قرآن" بغير تنوين ، " مجيد" بالجر على الإضافة (٢).

(فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) عند الله ، محروس من الشياطين.

وقرأ نافع : " محفوظ" بالرفع ، صفة ل" قرآن" (٣) ، كما قال : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) [الحجر : ٩].

وقرأ [يحيى](٤) بن يعمر : " في لوح" بضم اللام (٥). واللّوح : الهواء. يريد [والله](٦) أعلم : ما فوق السماء السابعة.

__________________

(١) في ب : كفار.

(٢) انظر هذه القراءة في : زاد المسير (٩ / ٧٩) ، والدر المصون (٦ / ٥٠٤).

(٣) الحجة للفارسي (٤ / ١١٢) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٧٥٨) ، والكشف (٢ / ٣٦٩) ، والنشر (٢ / ٣٩٩) ، والإتحاف (ص : ٤٣٦) ، والسبعة (ص : ٦٧٨).

(٤) في الأصل : الجني. والتصويب من ب.

(٥) انظر هذه القراءة في : البحر (٨ / ٤٤٦) ، والدر المصون (٦ / ٥٠٥).

(٦) في الأصل : الله. والتصويب من ب.

٥٧٦

وقال الثعلبي ـ في هذه القراءة ـ (١) : المعنى : أنه يلوح ، وهو ذو نور وعلو وشرف. والله تعالى أعلم.

__________________

(١) تفسير الثعلبي (١٠ / ١٧٥).

٥٧٧

سورة الطارق

بسم الله الرّحمن الرّحيم

وهي سبعة عشر آية (١) ، وهي مكية بإجماعهم.

(وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (١) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (٢) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (٣) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (٤) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (٥) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (٦) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (٧) إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (٨) يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (٩) فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ)(١٠)

قال الله تعالى : (وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ) يريد : النجم ؛ [لأنه](٢) يطرق ليلا.

قال الفراء والزجاج وابن قتيبة (٣) : كل من أتاك ليلا [فقد](٤) طرقك.

قال المفسرون : يريد : جنس النجوم. ومنه قول هند بنت عتبة :

نحن بنات طارق

 ...................(٥)

تريد : أن أبانا نجم في ارتفاع شرفه وعلوّه.

__________________

(١) انظر : البيان في عدّ آي القرآن (ص : ٢٧٠).

(٢) في الأصل : لا. والتصويب من ب.

(٣) معاني الفراء (٣ / ٢٥٤) ، والزجاج (٥ / ٣١١) ، وتفسير غريب القرآن (ص : ٥٢٣).

(٤) زيادة من ب ، وتفسير غريب القرآن ، الموضع السابق.

(٥) تقدم.

٥٧٨

ويروى [عن](١) علي عليه‌السلام : أنه زحل (٢).

قال ابن عباس : هو نجم مسكنه في السماء السابعة ، لا يسكنها غيره من النجوم (٣).

وقال ابن زيد : يريد : الثريا (٤).

وقد ذكرنا أنه علم له فيما مضى.

(وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ) على معنى التعظيم له ، والتفخيم لشأنه.

قال المفسرون : لم يكن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدري ما المراد به لو لم ينبّه بقوله : (النَّجْمُ الثَّاقِبُ) أي : المضيء ، كأنه يثقب الظلام بضوئه فينفذ فيه.

وجواب القسم : (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ) ، وقد ذكرنا اختلاف القراء السبعة في" لما" في يس عند قوله : (وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا)(٥) ، وأشرنا إلى تعليل القراءتين ، وأوضحنا القول في ذلك إيضاحا شافيا ، فاطلبه هناك.

وقرأ أبيّ بن كعب وأبو المتوكل : " إنّ كلّ نفس" بتشديد النون ونصب" كلّ" (٦).

قال ابن عباس : هم الحفظة من الملائكة (٧).

__________________

(١) في الأصل : على. والتصويب من ب.

(٢) ذكره الطبري (٣٠ / ١٤٢) بلا نسبة ، وابن الجوزي في زاد المسير (٩ / ٨١).

(٣) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٩ / ٨١).

(٤) أخرجه الطبري (٣٠ / ١٤٢). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ٤٧٤) وعزاه لابن جرير.

(٥) عند الآية رقم : ٣٢.

(٦) انظر هذه القراءة في : زاد المسير (٩ / ٨١) ، والدر المصون (٦ / ٥٠٦).

(٧) أخرجه الطبري (٣٠ / ١٤٣). وذكره السيبوطي في الدر (٨ / ٤٧٤) وعزاه لابن جرير.

٥٧٩

قال قتادة : يحفظون عملك ورزقك وأجلك ، إذا توفّيته يا ابن آدم قبضت إلى ربك (١).

ثم نبّه على البعث بقوله : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ) أي : فلينظر منكر البعث ببصيرته نظر تفكر واستدلال ، من أيّ شيء خلقه الله؟!.

وجواب هذا الاستفهام قوله : (خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ) وهو المني. والدّفق : صبّ فيه دفع. والمعنى : مدفوق.

قال الفراء (٢) : هو كقول العرب : سر كاتم ، وهمّ ناصب ، وليل نائم ، وعيشة راضية ، وأهل الحجاز يجعلون المفعول فاعلا.

وقال الزجاج (٣) : مذهب سيبويه وأصحابه أن معناه : النسب إلى الاندفاق. المعنى : من ماء ذي اندفاق.

قال الزمخشري (٤) : ومعنى دافق : النسبة إلى الدفق الذي هو [مصدر](٥) دفق ، كاللّابن والتّامر ، أو الإسناد المجازي. والدفق في الحقيقة لصاحبه ، قال : ولم يقل ماءين ؛ لامتزاجهما في الرحم ، واتحادهما حين ابتدئ في خلقه.

قوله : (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) قال الفراء (٦) : يخرج من الصلب

__________________

(١) أخرجه الطبري (٣٠ / ١٤٣). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ٤٧٤) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر.

(٢) معاني الفراء (٣ / ٢٥٥).

(٣) معاني الزجاج (٥ / ٣١١).

(٤) الكشاف (٤ / ٧٣٦).

(٥) زيادة من الكشاف ، الموضع السابق.

(٦) معاني الفراء (٣ / ٢٥٥).

٥٨٠