رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٨

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي

رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٨

المؤلف:

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي


المحقق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الأسدي للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٨٨

قرأ أبو عمرو : " خطاياهم" مثل : عطاياهم. وقرأ الباقون : " خطيئاتهم" (١) ، وهما جمعا : خطيئة.

وفي قراءة ابن مسعود : " من خطيئاتهم" (٢).

قوله تعالى : (دَيَّاراً) من الأسماء المستعملة في النفي العام.

قال ابن قتيبة (٣) : يقال : ما بالمنازل ديّار ؛ أي : ما بها أحد.

قال الزجاج (٤) : أصلها : ديوار ، فقلبت الواو ياء [وأدغمت](٥) إحداهما في الأخرى.

قال المفسرون : إنما دعا عليهم ؛ لأن [الله](٦) تعالى أوحى إليه : (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ)(٧) [هود : ٣٦].

قوله تعالى : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَ) قد ذكرنا فيما مضى أن اسم أبيه : [لمك](٨) بن متوشلخ ، واسم أمه : شمخا بنت أنوش.

__________________

(١) الحجة للفارسي (٤ / ٦٧) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٧٢٦) ، والكشف (٢ / ٣٣٧) ، والنشر (٢ / ٣٩١) ، والإتحاف (ص : ٤٢٥) ، والسبعة (ص : ٦٥٣).

(٢) انظر هذه القراءة في : البحر (٨ / ٣٣٧) ، والدر المصون (٦ / ٣٨٦).

(٣) تفسير غريب القرآن (ص : ٤٨٨).

(٤) معاني الزجاج (٥ / ٢٣١).

(٥) في الأصل : وأغدمت. والتصويب من ب ، ومعاني الزجاج ، الموضع السابق.

(٦) زيادة من ب ، ومعاني الزجاج ، الموضع السابق.

(٧) أخرجه الطبري عن قتادة. وذكره الماوردي (٦ / ١٠٥) ، والسيوطي في الدر (٨ / ٢٩٥) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة.

(٨) في الأصل : ملك. والتصويب من ب.

٣٠١

قال المفسرون : كانا مؤمنين (١).

وقرأ سعيد بن بن جبير وسعيد بن المسيب والجحدري : " ولوالدي" على التوحيد ، وهي قراءة أبي بكر الصديق رضي الله عنه (٢).

وقرأ ابن مسعود وأبو العالية والزهري والنخعي : " ولولديّ" من غير ألف ، على التثنية (٣) ، يريد : ابنيه.

وفي استغفار نوح لوالديه وإبراهيم أيضا في قوله : (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَ) [إبراهيم : ٤١] شريعة (٤) وتنبيه لكل مؤمن على الاستغفار لوالديه ، إلا أن يموتا على الكفر ، فلا وجه لاستغفاره لهما.

أخبرنا حنبل بن الفرج إذنا قال : أخبرنا ابن الحصين ، أخبرنا ابن المذهب ، أخبرنا أبو بكر ابن حمدان ، أخبرنا عبد الله بن الإمام أحمد ، حدثني أبي ، حدثنا يزيد ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن عاصم [بن](٥) أبي النجود ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة ، فيقول : يا رب أنى لي هذه؟ فيقول : باستغفار ولدك لك» (٦).

قوله تعالى : (وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً) أي : منزلي. وقيل : مسجدي.

__________________

(١) ذكره الماوردي (٦ / ١٠٦) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ٣٧٥).

(٢) انظر هذه القراءة في : زاد المسير (٨ / ٣٧٥) ، والدر المصون (٦ / ٣٨٧).

(٣) مثل السابق.

(٤) في ب : شرعية.

(٥) في الأصل : عن. والتصويب من ب.

(٦) أخرجه أحمد (٢ / ٥٠٩ ح ١٠٦١٨).

٣٠٢

و" مؤمنا" نصب على الحال (١).

(وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) عام في كل من آمن ، من الرجال والنساء.

(وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً) أي : هلاكا.

فإن قيل : ما فعل بصبيانهم حين أغرقوا؟

قلت : عنه أجوبة :

أحدها : أنه قد روي أن الله أعقم نساءهم أربعين سنة ، فلم يكن لهم عند الغرق صبيان.

الثاني : أنهم كانوا كفارا في علم الله تعالى ؛ لأن نوحا لم يقدم على قوله : (وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) إلا بطريق الوحي.

الثالث : أنهم أغرقوا بآجالهم لا على وجه العقوبة لهم. والله سبحانه وتعالى أعلم.

__________________

(١) انظر : الدر المصون (٦ / ٣٨٧).

٣٠٣

سورة الجن

بسم الله الرّحمن الرّحيم

وهي ثماني وعشرون آية (١). وهي مكية بإجماعهم.

(قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (١) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (٢) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (٣) وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللهِ شَطَطاً (٤) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً (٥) وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (٦) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً)(٧)

قوله تعالى : (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَ) قال الزجاج (٢) : وقرئت : " أحي إليّ" بغير واو ، [وهو من](٣) وحيت إليه ، [والأكثر](٤) أوحيت. والأصل : يعني في" أحي" : وحي ، ولكن الواو إذا انضمت فقد تبدل منها الهمزة ، نحو : (وَإِذَا الرُّسُلُ

__________________

(١) انظر : البيان في عدّ آي القرآن (ص : ٢٥٦).

(٢) معاني الزجاج (٥ / ٢٣٣).

(٣) زيادة من ب ، ومعاني الزجاج ، الموضع السابق.

(٤) في الأصل : وأكثر. والتصويب من ب ، ومعاني الزجاج ، الموضع السابق.

٣٠٤

أُقِّتَتْ) [المرسلات : ١١] ، أصله : وقّتت ؛ لأنه من الوقت.

قال الزمخشري (١) : هو من القلب المطلق جوازه في كل واو مضمومة ؛ وقد أطلقه المازني في المكسورة أيضا ؛ كإشاح ، وإسادة ، وإعاء أخيه.

وقرأ ابن أبي عبلة : " وحي" على الأصل (٢).

(أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ) [اتفق](٣) القراء العشرة وأكثر القراء على فتح هذه الهمزة ، وذلك أنه مفعول [قام](٤) مقام الفاعل ل" أوحي". وقد ذكرنا في الأحقاف سبب نزول هذه الآية ، وسبب استماعهم ، وعددهم ، ومعنى النّفر (٥).

قال المفسرون : كانوا من الشيصبان ـ قبيلة من الجن (٦) ـ ، وهم أكثر الجن عددا ، وعامة جنود إبليس منهم (٧).

(فَقالُوا) لقومهم حين رجعوا إليهم : (إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً) بديعا يعجب منه ؛ لبلاغته ، وهو مصدر وضع موضع العجب.

(يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ) يدعو إلى الصواب من التوحيد والإيمان والطاعة.

(فَآمَنَّا بِهِ) أي : بالقرآن.

قوله تعالى : (وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا) قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص :

__________________

(١) الكشاف (٤ / ٦٢٥).

(٢) انظر هذه القراءة في : البحر المحيط (٨ / ٣٣٩) ، والدر المصون (٦ / ٣٨٨).

(٣) في الأصل : اتفقوا. والتصويب من ب.

(٤) في الأصل : أقام. والتصويب من ب.

(٥) عند الآية رقم : ٢٩.

(٦) قوله : " قبيلة من الجن" ساقط من ب.

(٧) الكشاف (٤ / ٦٢٥).

٣٠٥

" وأنه" بفتح الهمزة وما بعدها إلى قوله : (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ) ، وهي اثنتا عشرة همزة. وكسرها الباقون (١).

فمن فتح ذلك حمله على" أوحي" ، ومن كسر فعلى الاستئناف.

وقرأ أبو جعفر المدني : (وَأَنَّهُ تَعالى ، وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ)(٢) ، (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ) بالفتح فيهن ؛ لما ذكرناه ، وكسر ما عدا هذه المواضع الثلاثة على الاستئناف (٣).

قال الزجاج (٤) : والذي يختاره النحويون : قراءة نافع وأبي عمرو وعاصم في هذا ؛ لأنه عندهم ما كان محمولا على الوحي ، فهو" أنه" بالفتح ، وما كان من قول الجن [فهو](٥) مكسور معطوف على قوله : (فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً). وعلى هذه القراءة يكون المعنى : وقالوا إنه تعالى جدّ ربنا ، [وقالوا إنه كان يقول سفيهنا](٦).

فأما من فتح ؛ [فذكر](٧) بعض النحويين : أنه معطوف على الهاء ، المعنى عنده : فآمنا به وبأنه تعالى جدّ ربنا ، وكذلك بعد هذا عنده.

__________________

(١) الحجة للفارسي (٤ / ٦٨ ـ ٦٩) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٧٢٧ ـ ٧٢٨) ، والكشف (٢ / ٣٣٩) ، والنشر (٢ / ٣٩١) ، والإتحاف (ص : ٤٢٥) ، والسبعة (ص : ٦٥٦).

(٢) زيادة من ب.

(٣) النشر (٢ / ٣٩١) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٤٢٥).

(٤) معاني الزجاج (٥ / ٢٣٣ ـ ٢٣٤).

(٥) في الأصل : فهور. والتصويب من ب.

(٦) زيادة من معاني الزجاج (٥ / ٢٣٤).

(٧) في الأصل : فقال. والتصويب من ب ، ومعاني الزجاج ، الموضع السابق.

٣٠٦

وهذا رديء في القياس لا يعطف على الهاء المخفوضة إلا بإظهار الخافض ، ولكن وجهه : أن يكون محمولا على معنى : آمنا به صدّقنا ، فيكون المعنى : وصدّقنا أنه تعالى جدّ ربنا.

ومعنى : جدّ ربنا : عظمته. تقول العرب : جدّ فلان في عيني ، بمعنى : عظم ، ومنه الحديث : «كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جدّ فينا ، أي : عظم» (١).

وقال أبو عبيدة (٢) : جدّه : ملكه وسلطانه.

وقيل : غناه. ومنه : «لا ينفع ذا الجدّ منك الجد» (٣).

وقوله تعالى : (مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً) بيان ل" جدّ ربنا" جل وعلا.

قوله تعالى : (وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللهِ شَطَطاً) قال مجاهد وقتادة : هو إبليس (٤).

وقال مقاتل (٥) : كفارهم ، " على الله شططا" : جورا وكذبا ، وهو [وصفه](٦) بالشريك والولد.

قوله تعالى : (وَأَنَّا ظَنَنَّا) كان في ظن هؤلاء النفر من الجن أن أحدا من الثقلين لن يكذب على الله ، وهذا القول خارج مخرج الاعتذار من سوء ما سلف منهم

__________________

(١) أخرجه أحمد (٣ / ١٢٠ ح ١٢٢٣٦).

(٢) مجاز القرآن (٢ / ٢٧٢).

(٣) أخرجه البخاري (١ / ٢٨٩ ح ٨٠٨) ، ومسلم (١ / ٣٤٧ ح ٤٧٧).

(٤) أخرجه الطبري (٢٩ / ١٠٧) ، وابن أبي حاتم (١٠ / ٣٣٧٧). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ٢٩٨) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد.

(٥) تفسير مقاتل (٣ / ٤٠٥).

(٦) في الأصل : وصف. والتصويب من ب.

٣٠٧

والاستعتاب.

و" كذبا" صفة مصدر محذوف ، تقديره : قولا كذبا ، أو هو بمعنى : مكذوب فيه.

وقرأت ليعقوب : " أن لن تقوّل" بفتح القاف والواو وتشديدها (١) ، فيكون" كذبا" : تقوّلا ؛ لأن التقوّل لا يكون إلا كذبا.

(وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِ) قال ابن زيد وغيره : كان الرجل في الجاهلية إذا [سافر](٢) فنزل بواد أو قفر (٣) مساء قال : أعوذ بسيّد هذا الوادي من شرّ سفهاء قومه ، فيبيت في جوار منهم (٤).

قال مقاتل (٥) : كان أول من تعوّذ بالجن قوم من أهل اليمن ، ثم بنو حنيفة ، ثم فشا ذلك في العرب.

قال كردم بن أبي السائب (٦) : خرجت مع أبي إلى المدينة في حاجة ، وذلك أول ما ذكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة ، فآوانا المبيت إلى راعي غنم ، فلما انتصف الليل جاء ذئب فأخذ حملا من الغنم ، فوثب الراعي ، فنادى : يا عامر الوادي جارك ، فنادى

__________________

(١) انظر : النشر (٢ / ٣٩٢) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٤٢٥).

(٢) في الأصل : سنافر. والتصويب من ب.

(٣) القفر والقفرة : الخلاء من الأرض وجمعه قفور. وقيل : القفر مفازة لا نبات فيها ولا ماء ، وقالوا : أرض مقفر أيضا (لسان العرب ، مادة : قفر).

(٤) أخرجه الطبري (٢٩ / ١٠٨). وذكره الماوردي (٦ / ١١١) ، والواحدي في الوسيط (٤ / ٣٦٣ ـ ٣٦٤).

(٥) تفسير مقاتل (٣ / ٤٠٥).

(٦) كردم بن أبي السائب الأنصاري ، له صحبة ، سكن المدينة (الإصابة ٥ / ٥٧٧).

٣٠٨

مناد لا نراه : يا سرحان (١) أرسله ، فإذا الحمل يشتدّ (٢) حتى دخل الغنم فلم تصبه كدمة (٣) ، فأنزل الله تعالى على رسوله بمكة : (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً)(٤).

قال مقاتل (٥) وجمهور المفسرين : زاد الإنس الجن بسبب تعوذهم بهم رهقا ، وذلك أن رؤساؤهم قالوا : قد سدنا الجن والإنس.

وقيل : زاد الجن والإنس رهقا.

قال الحسن : شرا (٦).

__________________

(١) السرحان : الذئب ، وقيل : الأسد ، وجمعه : سراح وسراحين (النهاية ٢ / ٣٥٨).

(٢) أي : يسرع.

(٣) الكدم : تمشمش العظم وتعرّقه ، وقيل : هو العض بأدنى الفم كما يكدم الحمار ، وقيل : هو العض عامة ، كدمه يكدمه ويكدمه كدما ؛ إذا أثّرت فيه بحديدة (لسان العرب ، مادة : كدم).

(٤) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (١٩ / ١٩١ ح ٤٣٠) وأبو الشيخ في العظمة (٥ / ١٦٦٥ ح ١١٠٥٢٥) ، والعقيلي في الضعفاء (١ / ١٠١ ح ١١٨) ، وابن أبي حاتم (١٠ / ٣٣٧٧). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ٢٩٨) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم والعقيلي في الضعفاء والطبراني وأبي الشيخ في العظمة وابن عساكر.

قال ابن كثير في تفسيره (٤ / ٤٣٠) : وروي عن عبيد بن عمير ومجاهد وأبي العالية والحسن وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي نحوه ، ثم قال : وقد يكون هذا الذئب الذي أخذ الحمل وهو ولد الشاة ، كان جنيا حتى يرهب الإنسي ويخاف منه ، ثم رده عليه لما استجار به ليضله ويهينه ويخرجه عن دينه. والله تعالى أعلم.

(٥) تفسير مقاتل (٣ / ٤٠٦).

(٦) ذكره البغوي في تفسيره (٤ / ٤٠٢).

٣٠٩

وقال مقاتل (١) : غيا.

وأصل الرّهق : الغشيان. المعنى : [زادوهم](٢) اجتراء على غشيان الإثم والمحارم.

ثم أخبر الله تعالى أن الجن كانوا على نحو ما كان عليه كفار قريش من إنكار البعث بعد الموت فقال تعالى : (وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً).

(وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (٨) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (٩) وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (١٠) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً)(١١)

قوله تعالى : (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ) قال الكلبي : أتيناها (٣).

وقال غيره : اللّمس : المسّ ، فاستعير للطلب ؛ لأن الماسّ طالب متعرف.

والمعنى : طلبنا بلوغ السماء ، واستماع كلام أهلها.

(فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً) الحرس : اسم مفرد في معنى الحرّاس ، [كالخدم](٤) في معنى الخدّام ، والحرس : الملائكة الذين يحرسون السماء من استراق السمع ، (وَشُهُباً) جمع شهاب ، وهو النجم المضيء. وقد ذكرناه في قوله : (فَأَتْبَعَهُ

__________________

(١) تفسير مقاتل (٣ / ٤٠٦).

(٢) في الأصل : زادهم. والتصويب من ب.

(٣) ذكره الواحدي في الوسيط (٤ / ٣٦٥).

(٤) في الأصل : كاخدم. والتصويب من ب.

٣١٠

شِهابٌ ثاقِبٌ) [الصافات : ١٠].

والرّصد : مثل الحرس ، اسم مفرد في معنى الجمع ، على معنى : ذوي شهاب راصدين بالرجم ، وهم الملائكة الذين يرجمونهم بالشهب.

ويجوز أن يكون صفة للشهاب ، بمعنى : الراصد.

قوله تعالى : (وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ) يعني : أشرّ أريد بهم بحراسة السماء بالشهب ، أي : عذاب وبلاء ، (أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً) خيرا ورحمة.

قال مقاتل (١) : هذا قول مؤمني الجن ، قالوا : لا ندري أشرّ أريد بمن في الأرض ، بإرسال محمد إليهم فيكذبونه فيهلكون ، أم أراد بهم ربهم رشدا ، وهو أن يؤمنوا به فيهتدوا.

ثم أخبروا عن حال أنفسهم فقالوا : (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ) أي : الأبرار المتقون ، (وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ) أي : قوم دون الصالحين.

وقولهم : (كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً) بيان للقسمة المذكورة ، أي : كنا ذوي مذاهب مختلفة.

قال الحسن : الجن أمثالكم ، منهم قدرية ومرجئة (٢) ورافضة وشيعة (٣).

__________________

(١) تفسير مقاتل (٣ / ٤٠٦).

(٢) الإرجاء على معنيين : أحدهما : بمعنى التأخير. والثاني : إعطاء الرجاء ، أما إطلاق اسم المرجئة بالمعنى الأول فهو صحيح لأنهم كانوا يأخرون العمل على النية. والمرجئة أصناف أربعة مرجئة الخوارج ، ومرجئة القدرية ومرجئة الجبرية والمرجئة الخالصة. (انظر : الملل والنحل ١ / ١٢٥).

(٣) ذكره الواحدي في الوسيط (٤ / ٣٦٦) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ٣٨٠).

٣١١

وقال مجاهد : يعنون : مسلمين وكافرين (١).

والطّرائق : جمع طريقة ، والقدد : جمع قدّة ، وهي القطعة ، وأنشد ابن عباس رضي الله عنهما :

ولقد قلت وزيد حاسر

يوم ولّت خيل زيد قددا (٢)

وفيه إضمار ، تقديره : ذوي طرائق أو في [طرائق](٣).

(وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (١٢) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (١٣) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (١٤) وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (١٥) وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (١٦) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً)(١٧)

قوله تعالى : (وَأَنَّا ظَنَنَّا) أي : أيقنا (أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ) أي : لن نفوته طلبا إذا طلبنا ، (وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً).

قال الزمخشري (٤) : قوله : "(فِي الْأَرْضِ)" ، "(هَرَباً)" : حالان ، أي : لن نعجزه كائنين في الأرض ، ولن نعجزه هاربين منها إلى السماء. وهذه صفات أحوال الجن

__________________

(١) أخرجه الطبري (٢٩ / ١١٢). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ٣٠٤) وعزاه لعبد بن حميد.

(٢) انظر البيت في : الدر المنثور (٨ / ٣٠٤).

(٣) في الأصل : طريق. والتصويب من ب.

(٤) الكشاف (٤ / ٦٢٩).

٣١٢

وما هم عليه من أحوالهم وعقائدهم.

قوله تعالى : (وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ) أي : لما سمعنا القرآن صدّقنا أنه من عند الله ، (فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ) أي : فهو لا يخاف ، ولو لا تقدير هذا المبتدأ لكان وجه الكلام : لا [تخف](١).

(بَخْساً) نقصانا من ثواب عمله ، (وَلا رَهَقاً) ظلما ومكروها يغشاه.

قوله تعالى : (وَمِنَّا الْقاسِطُونَ) أي : الجائرون الظالمون بالكفر. يقال : قسط : إذا جار ، فهو قاسط. وأقسط : إذا عدل ، فهو مقسط (٢).

(فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً) قال الفراء (٣) : أمّوا الهدى.

وقال غيره : تحرّوا : توخّوا وقصدوا الحق.

(وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً) أي : وقودا للنار.

ويروى : أن الحجاج [قال](٤) لسعيد بن جبير حين أراد قتله : ما تقول فيّ؟ قال : قاسط عادل ، فقال القوم : ما أحسن ما قال ، حسبوا أنه وصفه بالقسط والعدل ، فقال الحجاج : يا جهلة ، إنه سماني ظالما مشركا ، وتلا لهم قوله تعالى : (وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً) ، وقوله تعالى : (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ)(٥) [الأنعام : ١].

__________________

(١) في الأصل : تخاف. والمثبت من ب.

(٢) انظر : اللسان (مادة : قسط).

(٣) معاني الفراء (٣ / ١٩٣).

(٤) زيادة من ب.

(٥) ذكره الزمخشري في : الكشاف (٤ / ٦٣٠) ، والمناوي في : فيض القدير (٢ / ٤٧٢).

٣١٣

(وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ) قال صاحب الكشاف (١) : " أن" مخففة من الثقيلة ، فهو من جملة [الموحى. والمعنى](٢) : وأوحي إليّ أن الشأن والحديث لو استقام الجن على الطريقة المثلى ، أي : [لو](٣) ثبت أبوهم الجانّ على ما كان عليه من عبادة الله والطاعة ولم يستكبر عن السجود لآدم ولم يكفر ، وتبعه ولده على الإسلام ، (لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً). ويجوز أن يكون معناه : وأن لو استقام الجن الذين استمعوا على طريقتهم التي كانوا عليها قبل الاستماع ، ولم ينتقلوا عنها إلى الإسلام ، لوسّعنا عليهم الرزق مستدرجين لهم.

وقال مقاتل (٤) وجمهور المفسرين : هذا إخبار عن أهل مكة. المعنى : وأن لو استقاموا على طريقة الهدى.

وذهب قوم : إلى أن المراد بها : طريقة الكفر. وهو قول محمد بن كعب والربيع والفراء وابن قتيبة (٥).

فعلى الأول يكون المعنى : لو آمنوا لوسّعنا عليهم (لِنَفْتِنَهُمْ) لنختبرهم فننظر كيف شكرهم.

وعلى الثاني يكون المعنى : وأن لو استقاموا على طريقتهم في الكفر لوسّعنا عليهم لنوقعهم في الفتنة.

__________________

(١) الكشاف (٤ / ٦٣٠ ـ ٦٣١).

(٢) في الأصل وب : الوحي المعنى ، والمثبت من الكشاف (٤ / ٦٣٠).

(٣) زيادة من ب ، والكشاف (٤ / ٦٣٠).

(٤) تفسير مقاتل (٣ / ٤٠٧).

(٥) معاني الفراء (٣ / ١٩٣) ، وتفسير غريب القرآن لابن قتيبة (ص : ٤٩٠). وذكره الماوردي (٦ / ١١٦) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ٣٨١).

٣١٤

والماء الغدق : الكثير ، وإنما ذكر لأن عامة الخير والرزق [به](١).

وقيل : المعنى : لأكثرنا لهم الماء فأغرقناهم كقوم نوح.

وليس هذا القول بشيء.

قوله تعالى : نسلكه وقرأ أهل الكوفة : "(يَسْلُكْهُ)" بالياء (٢) (عَذاباً) أي : في عذاب ، إما بتقدير حذف الجار ، وإما لكون" نسلكه" في معنى : ندخله (صَعَداً) شاقا.

والمعنى : ذا صعود.

وجاء في التفسير : أنه جبل في النار يكلّف صعوده. وسنذكره إن شاء الله عند قوله : (سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً) [المدثر : ١٧].

(وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً (١٨) وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (١٩) قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (٢٠) قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (٢١) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٢) إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً)(٢٣)

قوله تعالى : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ) اتفق القرّاء على فتح الهمزة هاهنا ، وفيه وجهان :

__________________

(١) في الأصل : منه ، والمثبت من ب.

(٢) الحجة للفارسي (٤ / ٦٩) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٧٢٩) ، والكشف (٢ / ٣٤٢) ، والنشر (٢ / ٣٩٢) ، والإتحاف (ص : ٤٢٥) ، والسبعة (ص : ٦٥٦).

٣١٥

أحدهما : أن يكون من جملة الموحى.

والثاني : أن يكون المعنى : ولأن المساجد لله (فَلا تَدْعُوا). فتكون اللام متعلقة : ب" لا تدعوا". على معنى : فلا تدعوا (مَعَ اللهِ أَحَداً) في المساجد ؛ لأنها لله خالصة. ومثله : (وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) [المؤمنون : ٥٢] ، أي : ولأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون ، أي : لهذا فاتقون. وهذا مذهب الخليل.

قال أبو علي (١) : ويجوز أيضا في غير هذا الحرف مما قرئ بالفتح أن يحمل على هذا التأويل إذا كان مما يليق به.

وفي معنى المساجد أربعة أقوال :

أحدها : أنها المساجد المعهودة. قاله ابن عباس (٢).

قال قتادة : كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم أشركوا بالله ، [فأمر الله](٣) عزوجل المسلمين أن يخلصوا له الدعاء إذا دخلوا مساجدهم (٤).

الثاني : أنها الأعضاء السبعة التي يسجد عليها العبد. قاله سعيد بن جبير (٥). على معنى : أنها لله خلقا وملكا ، فلا يذللها لغيره جل وعلا.

وهي على التفسير الأول : جمع مسجد ، بكسر الجيم. وعلى الثاني : جمع مسجد ، بفتح الجيم.

__________________

(١) انظر : الحجة (٤ / ٦٩).

(٢) ذكره الماوردي (٦ / ١١٩) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ٣٨٢).

(٣) زيادة من ب ، ومصادر التخريج.

(٤) أخرجه الطبري (٢٩ / ١١٧). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ٣٠٦) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر.

(٥) ذكره الواحدي في الوسيط (٤ / ٣٦٧) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ٣٨٢).

٣١٦

الثالث : أن المراد بالمساجد : البقاع كلها. قاله الحسن (١). على معنى : أن الأرض كلّها مواضع للسجود ، وهي كلها لله فلا تعبدوا عليها غيره.

الرابع : أن المساجد : السجود. يقال : سجدت سجودا ومسجدا ـ بفتح الجيم ـ ، كما يقال : ضربت في الأرض ضربا ومضربا ، ثم يجمع [فيقال](٢) : المساجد والمضارب. قاله ابن قتيبة (٣).

فيكون المعنى : وأن السجود لله مختص به لا يشارك فيه ، فلا تعبدوا (٤) غيره.

قوله تعالى : (وَأَنَّهُ) من جملة الموحى أيضا (لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ) يعني : محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يَدْعُوهُ) يصلي ببطن نخلة ، على ما ذكرناه في الأحقاف (٥) ، (كادُوا) يعني : الجن (يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً) يركب بعضهم بعضا ، حرصا على سماع القرآن (٦).

وقيل : هو من قول الجن حين رجعوا إلى قومهم ، [فوصفوا](٧) لهم أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وما رأوا من ائتمامهم به في الركوع والسجود والقيام. والقولان عن ابن عباس (٨).

__________________

(١) ذكره الواحدي في الوسيط (٤ / ٣٦٧) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ٣٨٣).

(٢) في الأصل : ويقال. والمثبت من ب ، وتفسير غريب القرآن (ص : ٤٩١).

(٣) تفسير غريب القرآن (ص : ٤٩١).

(٤) في الأصل زيادة قوله : به.

(٥) عند الآية رقم : ٢٩.

(٦) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ٣٨٣) من رواية عطية عن ابن عباس.

(٧) في الأصل وب : وصفوا. والمثبت من زاد المسير (٨ / ٣٨٣).

(٨) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ٣٨٣ ـ ٣٨٤).

٣١٧

وقال الحسن وقتادة : المعنى : لما قام عبد الله يدعو الله [أي](١) : يعبده ويوحده ويدعو إليه ، كاد الإنس والجن يكونون عليه لبدا ، ليبطلوا الحق الذي جاء به (٢).

وقرأ هشام عن ابن عامر : " لبدا" بضم اللام (٣).

قال الفراء (٤) : ومعنى القراءتين واحد ، يقال : لبدة ولبدة.

وقال غيره : لبدا : جمع لبدة ، وهي ما يلبد بعضه على بعض ، ومنها : لبدة الأسد.

قال الزجاج (٥) : معنى" لبدا" : يركب بعضهم بعضا ، وكل شيء ألصقته بشيء إلصاقا شديدا فقد لبّدته ، ومن هذا اشتقاق هذه اللّبود التي [تفرش](٦).

وقرأ جماعة ، منهم : عاصم الجحدري : " لبّدا" بضم اللام وتشديد الباء (٧).

قال الزجاج (٨) : هو جمع لا بد [ولبّد](٩) ، مثل : راكع وركّع.

__________________

(١) زيادة يقتضيها السياق.

(٢) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ٣٨٤).

(٣) الحجة للفارسي (٤ / ٧٠) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٧٢٩) ، والكشف (٢ / ٣٤٢) ، والنشر (٢ / ٣٩٢) ، والإتحاف (ص : ٤٢٥) ، والسبعة (ص : ٦٥٦).

(٤) معاني الفراء (٣ / ١٩٤).

(٥) معاني الزجاج (٥ / ٢٣٧).

(٦) في الأصل : تفترش. والتصويب من ب ، ومعاني الزجاج ، الموضع السابق.

(٧) انظر هذه القراءة في : زاد المسير (٨ / ٣٨٣) ، والدر المصون (٦ / ٣٩٦).

(٨) معاني الزجاج (٥ / ٢٣٧).

(٩) زيادة من معاني الزجاج ، الموضع السابق.

٣١٨

قال إنما ادعو ربي وقرأ عاصم وحمزة : "(قُلْ)" على الأمر (١).

قال مقاتل (٢) : إن كفار مكة قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنك جئت بأمر عظيم لم يسمع بمثله فارجع عنه ، فأنزل الله : (قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي).

ومن قرأ" قال" حمل هذا على [أن](٣) النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أجابهم بهذا.

(قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً) أي : لا أقدر لكم على ضر ولا نفع.

وقيل : المراد بالضر : الغي.

وفي قراءة أبيّ بن كعب : " لا أملك لكم غيا ولا رشدا" (٤).

وقيل : المعنى : لا أقدر على دفع ضر عنكم ، ولا على جلب رشد لكم.

(قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ) قال المفسرون : كان المشركون قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اترك ما تدعو إليه ونحن نجيرك (٥) ، فأنزل الله تعالى : (قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ) أي : لن يمنعني منه أحد إن عصيته ، (وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) ملتجأ. وقد ذكرناه في الكهف (٦).

قوله تعالى : (إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللهِ وَرِسالاتِهِ) استثناء من قوله : (لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا).

__________________

(١) الحجة للفارسي (٤ / ٧٠) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٧٢٩) ، والكشف (٢ / ٣٤٢) ، والنشر (٢ / ٣٩٢) ، والإتحاف (ص : ٤٢٦) ، والسبعة (ص : ٦٥٧).

(٢) تفسير مقاتل (٣ / ٤٠٧).

(٣) زيادة من ب.

(٤) انظر هذه القراءة في : الكشاف (٤ / ٦٣٣).

(٥) ذكره الواحدي في الوسيط (٤ / ٣٦٨) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ٣٨٤).

(٦) عند الآية رقم : ٢٧.

٣١٩

المعنى : لا أملك لكم إلا بلاغا من الله ، وما بينهما جملة اعتراضية.

وقال الزجاج (١) : " إلا بلاغا" بدل من قوله : " ملتحدا". المعنى : ولن أجد من دونه منجى إلا بلاغا ، أي : لا ينجيني إلا أن أبلغ عن الله ما أرسلت به.

وقال غيره : " إلا" هي" إن لا" ، ومعناه : إن لا أبلغ بلاغا ، كقولك : إن لا قياما فقعودا.

" ورسالاته" عطف على" بلاغا" ، كأنه قيل : لا أملك لكم إلا التبليغ والرسالات ، و" من" ليست بصلة للتبليغ ، إنما هي بمنزلة" من" في قوله : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ) [التوبة : ١].

المعنى : بلاغا كائنا من الله.

(حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (٢٤) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (٢٥) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (٢٦) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (٢٧) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً)(٢٨)

قوله تعالى : (حَتَّى إِذا رَأَوْا) يعني : كفار قريش (ما يُوعَدُونَ) من العذاب في الدنيا والآخرة (فَسَيَعْلَمُونَ) حينئذ (مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً) جندا أهم أم المؤمنون.

__________________

(١) معاني الزجاج (٥ / ٢٣٧).

٣٢٠