رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٨

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي

رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٨

المؤلف:

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي


المحقق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الأسدي للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٨٨

(وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ) يعني : ذلك الفداء.

قال الزجاج (١) : " كلا" ردع [وتنبيه ، أي : لا يرجع أحد من هؤلاء فارتدعوا.

وقال غيره (٢) : " كلا" ردع](٣) للمجرم عن الودادة ، وتنبيه على أنه لا ينفعه الافتداء ولا ينجيه من العذاب.

ولما كان المراد ب" عذاب يومئذ" النار كنى عنها بقوله : (إِنَّها لَظى) قال الفراء (٤) : هو اسم من أسماء جهنم ، فلذلك لم يجره.

وقال غيره : معناها في اللغة : اللهب الخالص.

وقال ابن الأنباري : سميت بذلك ؛ لشدّة توقّدها وتلهّبها ، يقال : هو يتلظى ، أي : يتلهّب ويتوقّد (٥).

(نَزَّاعَةً لِلشَّوى) أي : هي نزاعة ، أو هو خبر بعد خبر ل" إن" ، أو خبر ل" لظى" إن كان الهاء في" إنها" ضمير القصة والشأن ، والجملة خبر" إن" ، أو صفة ل" لظى" إن كان المراد بلظى : اللهب (٦).

وقرأ عمر بن الخطاب وأبو رزين وأبو عبد الرحمن ومجاهد وعكرمة وحفص

__________________

(١) معاني الزجاج (٥ / ٢٢١).

(٢) هو قول الزمخشري في الكشاف (٤ / ٦١٣).

(٣) زيادة من ب ، ومعاني الزجاج (٥ / ٢٢١).

(٤) معاني الفراء (٣ / ١٨٤).

(٥) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ٣٦١).

(٦) انظر : التبيان (٢ / ٢٦٩) ، والدر المصون (٦ / ٣٧٦ ـ ٣٧٧).

٢٨١

عن عاصم : " نزاعة" بالنصب (١).

قال الزجاج (٢) : هي حال مؤكدة ، كما قال : (هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً) [فاطر : ٣١].

وقال غيره : على الاختصاص للتهويل (٣).

قال الفراء والزجاج (٤) : الشّوى : الأطراف ؛ اليدان والرجلان والرأس.

وأنشد على ذلك :

سليم الشّظى عبل الشّوى شنج النّساء

 ...................(٥)

وقال مجاهد وغيره : الشّوى : جمع شواة ، وهي جلدة الرأس (٦).

وأنشدوا قول الأعشى :

قالت قتيلة ما له

قد جلّلت شيبا شواته (٧)

__________________

(١) الحجة للفارسي (٤ / ٦٢) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٧٢٣) ، والكشف (٢ / ٣٣٥) ، والنشر (٢ / ٣٩٠) ، والإتحاف (ص : ٤٢٤) ، والسبعة (ص : ٦٥٠ ـ ٦٥١).

(٢) معاني الزجاج (٥ / ٢٢١).

(٣) في ب : للتنويل.

(٤) معاني الفراء (٣ / ١٨٥) ، ومعاني الزجاج (٥ / ٢٢١).

(٥) صدر بيت لامرئ القيس ، وعجزه : (له حجبات مشرفات على الفال). انظر : ديوانه (ص : ٣٦) ، واللسان (مادة : شنج ، فيل ، شظي) ، وتاج العروس (مادة : شنج ، عبل ، فيل ، شظي ، نسا) ، والقرطبي (١٨ / ٢٨٨).

(٦) ذكره الماوردي (٦ / ٩٣) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ٣٦٢) ، والسيوطي في الدر (٨ / ٢٨٢) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر.

(٧) البيت للأعشى ، وليس في ديوانه. وهو في : اللسان (مادة : شوا) ، والطبري (٢٩ / ٧٦) ، والقرطبي (١٨ / ٢٨٨) ، والبحر (٨ / ٣٢٥) ، والدر المصون (٦ / ٣٧٧) ، وروح المعاني (٢٩ / ٦٠) ، والمزهر للسيوطي (٢ / ٣٠٩ ، ٣١١).

٢٨٢

وقال الحسن وأبو العالية : الشّوى : محاسن الوجه (١).

قال الضحاك : تنزع الجلد واللحم عن العظم (٢).

(تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ) عن الحق ، (وَتَوَلَّى) أعرض عنه ، فتقول : إليّ يا مشرك ، إليّ يا منافق ، إليّ يا فاسق ، إليّ يا ظالم.

وقيل : دعاؤها مجاز عن إحضارهم ، كأنها تدعوهم فتحضرهم ، كقول ذي الرمة :

ليالي اللهو يطبيني فأتبعه

 ...................(٣)

أي : يدعوني ، يقال : [أطباه وطباه](٤) ؛ إذا دعاه (٥).

وقول أبي النجم :

 ..........

تقول للرّائد أعشبت انزل (٦)

وقيل : هو دعاء الزبانية.

(وَجَمَعَ فَأَوْعى) أي : جمع المال [فجعله](٧) في وعاء وكنزه ولم يؤدّ حقوقه.

__________________

(١) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ٣٦٢).

(٢) ذكره الماوردي (٦ / ٩٣) ، والواحدي في الوسيط (٤ / ٣٥٢).

(٣) صدر بيت الذي الرمة ، وعجزه : (كأنني ضارب في غمرة لعب) ، وهو في : اللسان (مادة : ضرب ، طبي) ، وروح المعاني (٢٩ / ٦١).

(٤) في الأصل : أبطاه وبطاه. والتصويب من ب.

(٥) انظر : اللسان (مادة : طبي).

(٦) عجز بيت لأبي النجم ، وصدره : (مستأسد أذنابه في عيطل). انظر : اللسان (مادة : عشب ، أسد) ، والكشاف (٤ / ٦١٣) ، والمستقصى في أمثال العرب (١ / ٣٦٤).

(٧) في الأصل : جعله. والتصويب من ب.

٢٨٣

(إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (١٩) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (٢٠) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (٢١) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (٢٢) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (٢٣) وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (٢٤) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (٢٥) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (٢٦) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٢٧) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (٢٨) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٢٩) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٣٠) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٣١) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٣٢) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (٣٣) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٣٤) أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ)(٣٥)

قوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً) المراد بالإنسان : الناس ، فلذلك استثنى منه [إلا](١) المصلين.

وقيل : المراد بالإنسان : الكافر. فيكون استثناء منقطعا.

والهلع : سرعة الجزع عند مسّ المكروه ، وسرعة المنع عند مسّ الخير. من قولهم : ناقة هلوع : سريعة السير.

قال [المفسرون](٢) : ما بعد الهلوع تفسير له.

(إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ) وهو الفقر والمرض ونحو ذلك ، (جَزُوعاً) لا يصبر.

__________________

(١) زيادة من ب.

(٢) في الأصل : بعض المفسيرين. والتصويب من ب.

٢٨٤

(وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ) وهو المال والشّرف ونحوهما (مَنُوعاً) لا يشكر بفعل ما أوجب الله عليه بسبب إحسانه إليه.

ثم استثنى الموحدين فقال : (إِلَّا الْمُصَلِّينَ* الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ) أي : محافظون على الصلاة المكتوبة ، على الوجه المأمور به.

وقال الزجاج (١) : هم الذين لا يزيلون وجوههم عن سمت القبلة.

وقال عقبة بن عامر رضي الله عنه : هو الذي إذا صلى لم يلتفت عن يمينه ولا عن شماله (٢).

(وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ) وهو الزكاة المفروضة.

(لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) مفسّر في الذاريات (٣).

وما بعده مفسّر في المؤمنين (٤) إلى قوله : والذين هم بشهادتهم قائمون وقرأ حفص : "(بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ)" على الجمع (٥).

والإفراد أولى ؛ لأنه مصدر.

والمعنى : يقومون فيها بالحق ولا يكتمونها.

وقال سهل : قائمون بحفظ ما يشهدون به ، من شهادة أن لا إله إلا الله ، فلا

__________________

(١) معاني الزجاج (٥ / ٢٢٢).

(٢) أخرجه الطبري (٢٩ / ٨٠) ، وابن أبي حاتم (١٠ / ٣٣٧٤) ، وابن المبارك في الزهد (ص : ٤١٩).

(٣) عند الآية رقم : ١٩.

(٤) عند الآية رقم : ٧ ـ ٨.

(٥) الحجة للفارسي (٤ / ٦٣ ـ ٦٤) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٧٢٤) ، والكشف (٢ / ٣٣٦) ، والنشر (٢ / ٣٩١) ، والإتحاف (ص : ٤٢٤) ، والسبعة (ص : ٦٥١).

٢٨٥

يشركون به في شيء من الأقوال والأفعال والأحوال (١).

(فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (٣٦) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (٣٧) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (٣٨) كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (٣٩) فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (٤٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٤١) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٤٢) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (٤٣) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ)(٤٤)

قوله تعالى : (فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ) نزلت في جماعة من الكفار جلسوا حول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستهزؤون بالقرآن والمؤمنين ويقولون : إن دخل هؤلاء الجنة كما يقول محمد [لندخلنها](٢) قبلهم (٣).

والمعنى : ما لهم مسرعين نحوك ، مادّي أعناقهم إليك ، مقبلين بأبصارهم عليك.

وقد ذكرنا معنى الإهطاع في إبراهيم (٤).

__________________

(١) تفسير سهل التستري (ص : ١٧٨).

(٢) في الأصل : لندخلها. والمثبت من ب.

(٣) انظر : أسباب نزول القرآن للواحدي (ص : ٤٦٦).

(٤) عند الآية رقم : ٤٣.

٢٨٦

(عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ) [جمع : عزة ، يريد : جماعات](١) في تفرقة. كأنّ كل فرقة [تعتزي](٢) إلى غير من تعتزي إليه الأخرى.

وفي الحديث : «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج على أصحابه يوما وهم حلق حلق متفرقون ، فقال : ما لي أراكم عزين؟» (٣).

فإن قيل : ما إعراب هاتين الآيتين؟

قلت : [ما](٤) رفع بالابتداء ، واللام خبره ، وفيه ضميره ، " قبلك" : حال من الواو في" كفروا" ، " مهطعين" حال بعد حال ، وكذلك" عزين" ، والتقدير : عزين عن اليمين وعن الشمال. ومن رأى وصف الحال كان" عزين" صفة ل" مهطعين". ويجوز أن يكون" عزين" حالا من الضمير في" مهطعين". ويجوز أن يكون" مهطعين" حالا من الضمير في" قبلك". ويجوز في" قبلك" أن يكون ظرفا [للام](٥) ، أو ل" مهطعين". ويجوز أن يتعلق" عن اليمين" بمضمر أيضا في موضع الحال ، أو صفة ل" مهطعين". ويجوز أن يكون صلة ل" عزين" (٦).

قوله تعالى : (كَلَّا) ردع لهم عن طمعهم في دخولهم الجنة ، وإعلام لهم أنهم لا يدخلونها.

ثم ابتدأ فقال : (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ) أي : من نطفة ، ثم من علقة ، ثم من

__________________

(١) في الأصل : يريد جمع عزة جماعات. والتصويب من ب.

(٢) في الأصل : تعظزى. والمثبت من ب.

(٣) أخرجه مسلم (١ / ٣٢٢ ح ٤٣٠) ، وأحمد (٥ / ١٠٧ ح ٢١٠٦٥).

(٤) زيادة من ب.

(٥) في الأصل : واللام. والتصويب من ب.

(٦) انظر : التبيان (٢ / ٢٦٩) ، والدر المصون (٦ / ٣٧٩).

٢٨٧

مضغة. يشير بذلك إلى أنهم من أصل واحد ، ومادة واحدة ، وأنه لا فضل لأحد على أحد إلا بالإيمان والتقوى ، فكيف يتعظّمون على المؤمنين ويعتقدون أنهم أولى بالجنة منهم لشرفهم.

قال قتادة في هذه الآية : إنما خلقت يا ابن آدم من قذر ، فاتّق الله تعالى (١).

وفي الحديث : «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلا هذه الآية ثم بزق على كفه ثم قال : يا ابن آدم! أنّى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه ، حتى إذا سويتك وعدّلتك مشيت بين بردين (٢) ، وللأرض منك وئيد (٣) ، فجمعت ومنعت ، حتى إذا بلغت التراقي (٤) قلت : أتصدّق ، وأنّى أوان الصدقة؟!» (٥).

وقيل : المعنى : إنا خلقناهم مما يعلمون ، أي : من أجل ما يعلمون ، وهو الطاعة ، على حذف المضاف. المعنى : فما عملوا بها فلا يدخلون الجنة.

فإن قيل : هؤلاء كفار فمن أين علموا أنهم خلقوا للطاعة؟

قلت : علموا ذلك من براهين العقل ، وأدلة السمع الواردة على ألسنة الرسل صلّى الله عليهم.

وقال صاحب الكشاف (٦) : المعنى : كلا إنهم منكرون للبعث والجزاء ؛ فمن

__________________

(١) أخرجه الطبري (٢٩ / ٨٧). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ٢٨٦) وعزاه لعبد بن حميد.

(٢) البردان والأبردان : الغداة والعشي ، وقيل : ظلّاهما (اللسان ، مادة : برد).

(٣) الوئيد : شدة الوطء على الأرض كالدّوي من بعد (اللسان ، مادة : وأد).

(٤) التراقي : جمع ترقوة ، وهي : العظم الذي بين ثغرة النحر والعاتق من الجانبين (اللسان ، مادة : ترق).

(٥) أخرجه أحمد (٤ / ٢١٠) ، والحاكم (٢ / ٥٤٥ ح ٣٨٥٥) وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، ووافقه الذهبي فقال : صحيح.

(٦) الكشاف (٤ / ٦١٦).

٢٨٨

أين يطمعون في دخول الجنة؟

فإن قلت : من أي وجه دلّ هذا الكلام على إنكار البعث؟

قلت : من حيث إنه احتجاج عليهم بالنشأة الأولى ، كالاحتجاج بها عليهم في مواضع من التنزيل ، وذلك قوله : (خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ) أي : من النطفة ، وبالقدرة على أن [نهلكهم](١) ، ونبدل ناسا خيرا منهم ، وأنه [ليس](٢) بمسبوق على ما يريد تكوينه ، لا يعجزه شيء ، والغرض : أن من قدر على ذلك لا تعجزه الإعادة.

قوله تعالى : (فَلا أُقْسِمُ) سبق تفسيره.

(بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ) مشرق كل يوم ومغربه.

(وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) مفسّر في الواقعة (٣).

والآية التي بعدها مفسّرة في الطور (٤).

قوله تعالى : (كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ) قرأ ابن عامر وحفص : " نصب" بضم النون والصاد. وقرأ الباقون بفتح النون وسكون الصاد (٥) ، واحد نصب ، كسقف وسقف ، ورهن ورهن ، فالقراءتان بمعنى واحد.

__________________

(١) في الأصل : نهلكم. والتصويب من ب.

(٢) زيادة من ب ، والكشاف (٤ / ٦١٦).

(٣) عند الآية رقم : ٦٠.

(٤) عند الآية رقم : ٤٥.

(٥) الحجة للفارسي (٤ / ٦٤) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٧٢٤ ـ ٧٢٥) ، والكشف (٢ / ٣٣٦) ، والنشر (٢ / ٣٩١) ، والإتحاف (ص : ٤٢٤) ، والسبعة (ص : ٦٥١).

٢٨٩

قال قتادة وغيره : كأنهم إلى شيء منصوب أو غاية جعلت لهم يسرعون (١).

قال ابن جرير (٢) : [تأويله](٣) : كأنهم إلى صنم منصوب يسرعون.

قال الفراء (٤) : الإيفاض : الإسراع ، وأنشدوا (٥) :

ألا أبغها نعامة ميفاضا

خرجاء ظلّت تطلب الإضاضا (٦)

الميفاض : السريعة ، وخرجاء : ذات لونين سوداء وبيضاء ، ومعنى الإضاض : الموضع الذي يلجأ إليه. يقال : آضتني الحاجة إليك إضاضا.

(خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ) حال من الضمير في" يوفضون" (٧).

(تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) يغشاهم هوان. وقد سبق تفسيره مع ما لم أذكره.

(ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) أي : يوعدونه ، فحذف العائد من [الصلة](٨) إلى الموصول.

__________________

(١) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ٣٦٦).

(٢) تفسير الطبري (٢٩ / ٨٨).

(٣) زيادة من ب.

(٤) معاني الفراء (٣ / ١٨٦).

(٥) في ب : وأنشد الزجاج.

(٦) البيت لم أعرف قائله. وهو في : اللسان وتاج العروس (مادة : أضض ، وفض) ، والطبري (٢٩ / ٨٩) ، والبحر المحيط (٨ / ٣٣٠) ، والدر المصون (٦ / ٣٨١). وفي جميع المصادر : " لأنعتن" بدل : " ألا أبغها".

(٧) انظر : التبيان (٢ / ٢٦٩) ، والدر المصون (٦ / ٣٨١).

(٨) في الأصل : أصله. والتصويب من ب.

٢٩٠

سورة نوح عليه‌السلام

بسم الله الرّحمن الرّحيم

وهي ثلاثون آية في المدني ، وثمان وعشرون في الكوفي (١). وهي مكية بإجماعهم.

(إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١) قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢) أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (٣) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤) قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (٥) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (٦) وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (٧) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (٨) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (٩) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (١٠) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (١١) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (١٢) ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (١٣) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً)(١٤)

__________________

(١) انظر : البيان في عدّ آي القرآن (ص : ٢٥٥).

٢٩١

قوله تعالى : (أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ)" أن" مفسّرة ؛ لأن الإرسال فيه معنى القول ، فهي بمعنى : أي.

ويؤيده قراءة ابن مسعود : " أنذر قومك" بغير" أن" (١).

وإن شئت قلت : هي" أن" الناصبة للفعل ، أصله : بأن أنذر قومك ، فلما حذف الجار وصل الفعل ، فنصب" أن" ، والتقدير : أرسلناه بأن قلنا له : أنذر.

وقوله تعالى : (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) مثل قوله : (أَنْ أَنْذِرْ).

(مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) قال ابن عباس : هو عذاب النار (٢).

وقال الكلبي : هو الطوفان (٣).

قوله تعالى : (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) قال مقاتل (٤) والسدي : " من" هاهنا صلة.

وقال الزجاج (٥) : دخلت" من" ؛ لتخصيص الذنوب من سائر الأشياء ، ولم تدخل لتبعيض الذنوب. ومثله : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) [الحج : ٣٠].

وقال غيره من أهل المعاني : هي للتبعيض ، على معنى : يغفر لكم ما سلف من ذنوبكم إلى وقت إيمانكم ، وذلك بعض ذنوبهم (٦).

(وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) وهو أجل موتهم ، يريد : أنهم يؤخّرون إلى

__________________

(١) انظر هذه القراءة في : الطبري (٢٩ / ٩٠ ـ ٩١) ، والكشاف (٤ / ٦١٨).

(٢) ذكره الماوردي (٦ / ٩٨).

(٣) ذكره الطبري (٢٩ / ٩١) بلا نسبة ، والماوردي (٦ / ٩٨).

(٤) تفسير مقاتل (٣ / ٤٠٠). وذكره الماوردي (٦ / ٩٩).

(٥) معاني الزجاج (٥ / ٢٢٨).

(٦) ذكره الواحدي في الوسيط (٤ / ٣٥٦) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ٣٦٩).

٢٩٢

انقضاء آجالهم فيموتون بغير عقوبة.

(إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ) قال الحسن : هو أجل القيامة (١).

وقال مجاهد : أجل الموت (٢).

وقال السدي : أجل العذاب (٣).

وما بعده ظاهر إلى قوله : (جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) فعلوا ذلك ؛ لئلا [يسمعوا](٤) صوته ، (وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ) لئلا يروه (وَأَصَرُّوا) على كفرهم (وَاسْتَكْبَرُوا) عن اتباعه (اسْتِكْباراً).

(ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً) وهو مصدر في موضع الحال ، أي : دعوتهم مجاهرا لهم بالدعاء إلى التوحيد ، أو صفة مصدر ، تقديره : دعوتهم دعاء جهارا (٥).

قال ابن عباس : بأعلى صوتي (٦).

(ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً) أي : خلطت دعاء العلانية بدعاء السر.

قال بعض أهل المعاني (٧) : افتتح بالمناصحة في السر ، فلمّا لم يقبلوا ثنّى بالمجاهرة ، فلمّا لم يؤثر ثلّث بالجمع بين الإسرار والإعلان.

__________________

(١) ذكره الماوردي (٦ / ٩٩) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ٣٦٩).

(٢) مثل السابق.

(٣) مثل السابق.

(٤) في الأصل : يسمعون. والتصويب من ب.

(٥) انظر : الدر المصون (٦ / ٣٨٣).

(٦) ذكره الواحدي في الوسيط (٤ / ٣٥٧) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ٣٧٠).

(٧) هو قول الزمخشري في : الكشاف (٤ / ٦١٩).

٢٩٣

ومعنى : " ثم" : الدلالة على تباعد الأحوال.

(فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً) أي : توبوا إليه من الكفر والمعاصي.

(يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً) كثيرة الدّرّ. وقد ذكرناه في أول الأنعام (١).

قال الشعبي : خرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه يستسقي ، فلم يزد على الاستغفار حتى رجع ، فقالوا له : ما رأيناك استسقيت؟ فقال : لقد طلبت الغيث بمجاديح (٢) السماء التي بها يستنزل القطر ، ثم قرأ : (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً* يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً)(٣).

وشكا رجل إلى الحسن الفقر ، وآخر قلة ريع أرضه ، وآخر الجدب ، فأمرهم كلهم بالاستغفار ، فقيل له في ذلك ، فتلى هذه الآية (٤).

قوله تعالى : (وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ) قال المفسرون : حبس الله القطر عنهم ، وقطع نسلهم ونسل دوابهم أربعين سنة.

__________________

(١) آية رقم : ٦.

(٢) المجاديح : واحدها مجدح ، والياء زائدة للإشباع ، والقياس أن يكون واحدها : مجداح ، فأما مجدح فجمعه : مجادح. والمجدح : نجم من النجوم قيل : هو الدّبران. وقيل هو ثلاثة كواكب كالأثافي ؛ تشبيها بالمجدح الذي له ثلاث شعب ، وهو عند العرب من الأنواء الدّالة على المطر ، فجعل الاستغفار مشبّها بالأنواء ، مخاطبة لهم بما يعرفونه ، لا قولا بالأنواء.

وجاء بلفظ الجمع ؛ لأنه أراد الأنواء جميعها التي يزعمون أن من شأنها المطر (النهاية في غريب الحديث ١ / ٢٤٣).

(٣) أخرجه الطبري (٢٩ / ٩٣) ، وسعيد بن منصور في سننه (٥ / ٣٥٣ ح ١٠٩٥) ، وعبد الرزاق في مصنفه (٣ / ٨٧ ح ٤٩٠٢).

(٤) ذكره الزمخشري في : الكشاف (٤ / ٦٢٠).

٢٩٤

(وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً) بدل بساتينكم وأنهاركم ، فإنها كانت قد هلكت [ويبست](١).

قوله تعالى : (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً) قال الزجاج (٢) : قيل : ما لكم لا تخافون لله عظمة.

وقيل : لا ترجون عاقبة الإيمان وتوحّدون الله.

وقال الزمخشري (٣) : لا تأملون له توقيرا ، أي : تعظيما. المعنى : ما لكم لا تكونون على حال تأملون فيها تعظيم الله إياكم في دار الثواب ، و" لله" بيان للموقّر.

(وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً) في موضع الحال (٤) ، كأنه قال : ما لكم لا تؤمنون بالله والحال هذه ، وهي حال موجبة للإيمان به ، لأنه خلقكم أطوارا : أي تارات ، خلقكم أولا ترابا ، ثم خلقكم نطفا ، ثم خلقكم علقا ، ثم خلقكم مضغا ، ثم خلقكم عظاما ولحما ، ثم أنشأكم خلقا آخر.

(أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (١٥) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (١٦) وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (١٧) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (١٨) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (١٩)

__________________

(١) في الأصل : يبست. والتصويب من ب.

(٢) معاني الزجاج (٥ / ٢٢٩).

(٣) الكشاف (٤ / ٦٢٠).

(٤) انظر : الدر المصون (٦ / ٣٨٤).

٢٩٥

لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً)(٢٠)

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً) مفسّر في تبارك الملك (١).

(وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً) قال الحسن : يعني : في سماء الدنيا (٢).

وقوله : " فيهن" كما تقول : أتيت بني تميم ، وإنما أتيت بعضهم.

وقال عبد الله بن عمرو بن العاص : إن الشمس والقمر وجوههما قبل السموات ، وظهورهما قبل الأرض ، يضيئان لأهل السموات كما [يضيئان](٣) لأهل الأرض (٤).

وقد فسّرنا هذه الآية في أواخر الفرقان (٥).

قوله تعالى : (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) أي : ابتداء خلقكم من الأرض.

قال الخليل (٦) وغيره : " نباتا" : مصدر مخالف للصدر ، مجازه : فنبتّم نباتا.

قال ابن قتيبة (٧) : ومثله : (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) [المزمل : ٨] فجاء على بتل. قال

__________________

(١) عند الآية رقم : ٣.

(٢) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ٣٧١).

(٣) في الأصل : يضآ. والتصويب من ب.

(٤) أخرجه الطبري (٢٩ / ٩٧) ، وأبو الشيخ في العظمة (٤ / ١١٤١ ح ٦١٥٣). وذكره الواحدي في الوسيط (٤ / ٣٥٨) ، والسيوطي في الدر (٨ / ٢٩١) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وأبي الشيخ في العظمة.

(٥) عند الآية رقم : ٦١.

(٦) انظر : العين (٨ / ١٣٠).

(٧) انظر قول ابن قتيبة في : زاد المسير (٨ / ٣٧٢).

٢٩٦

الشاعر :

وخير الأمر ما استقبلت منه

وليس بأن تتبّعه اتّباعا (١)

قال (٢) : وإنما تجيء المصادر مخالفة للأفعال ؛ لأن الأفعال وإن اختلفت أبنيتها واحدة في المعنى.

وقال الزجاج (٣) : " نباتا" محمول في المصدر على المعنى ؛ لأن معنى" أنبتكم" : جعلكم تنبتون نباتا.

قوله تعالى : (سُبُلاً فِجاجاً) أي : طرقا واسعة. وقد سبق ذكره.

(قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (٢١) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (٢٢) وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (٢٣) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً)(٢٤)

قرأ نافع وابن عامر وعاصم : " وولده" بفتح الواو واللام. وقرأ الباقون : بضم الواو وسكون اللام (٤).

__________________

(١) البيت للقطامي. انظر : ديوانه (ص : ٣٥) ، والكتاب (٤ / ٨٢) ، والدر المصون (٢ / ٧٦) ، واللسان ، مادة : (تبع) ، والقرطبي (٤ / ٦٩) ، وزاد المسير (٨ / ٣٧٢).

(٢) أي : ابن قتيبة.

(٣) معاني الزجاج (٥ / ٢٣٠).

(٤) الحجة للفارسي (٤ / ٦٥ ـ ٦٦) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٧٢٥) ، والكشف (٢ / ٩٢) ، والنشر (٢ / ٣٩١) ، والإتحاف (ص : ٤٢٤) ، والسبعة (ص : ٦٥٢ ـ ٦٥٣).

٢٩٧

قال الزجاج (١) : هما بمعنى واحد ، كالعرب والعرب ، والعجم والعجم.

وقرأ الحسن وأبو العالية والجحدري : بكسر الواو وسكون اللام (٢).

والمعنى : أن الأتباع والفقراء اتبعوا الأغنياء والكبراء الذين زادتهم أموالهم وأولادهم خسارا في الآخرة.

قوله تعالى : (وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً) يعني : الرؤساء احتالوا في إبطال الدين وكيد نوح مكرا عظيما.

وقرئ : " كبارا" بالتخفيف مع ضم الكاف وكسرها (٣) ، وكلها لغات. وقد أشرنا إليها في أول ص (٤).

(وَقالُوا) أي : وقال بعضهم لبعض (لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ) أي : لا تدعنّ عبادتها (وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا). وضم الواو من" ودّا" : نافع (٥) ، وهذه أسماء أصنامهم.

قال المفسرون : انتقلت عنهم إلى العرب ، ولذلك سمّت العرب بعبد ودّ ، وعبد يغوث.

أخبرنا الشيخان أبو القاسم وأبو الحسن ، قالا : أخبرنا عبد الأول ، أخبرنا

__________________

(١) معاني الزجاج (٥ / ٢٣٠).

(٢) انظر : إتحاف فضلاء البشر (ص : ٤٢٤) ، وزاد المسير (٨ / ٣٧٣).

(٣) وهي قراءة أبي رجاء وأبي عمران وغيرهما. انظر هذه القراءة في : زاد المسير (٨ / ٣٧٣) ، والدر المصون (٦ / ٣٨٥).

(٤) عند الآية رقم : ٥.

(٥) الحجة للفارسي (٤ / ٦٧) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٧٢٦) ، والكشف (٢ / ٣٣٧) ، والنشر (٢ / ٣٩١) ، والإتحاف (ص : ٤٢٥) ، والسبعة (ص : ٦٥٣).

٢٩٨

عبد الرحمن ، أخبرنا عبد الله ، أخبرنا محمد ، حدثنا البخاري ، حدثنا إبراهيم [بن](١) موسى ، حدثنا هشام ، عن ابن جريج ، وقال عطاء : عن ابن عباس : «صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد ؛ أما ودّ فكانت لكلب بدومة الجندل ، وأما سواع فكانت لهذيل ، وأما يغوث فكانت لمراد ، ثم لبني غطيف بالجرف عند سبأ ، وأما يعوق فكانت [لهمدان](٢) ، وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع (٣) ، أسماء رجال صالحين من قوم نوح ، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا وسموها بأسمائهم ، ففعلوا ، فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم عبدت» (٤). انفرد بإخراجه البخاري.

قال الزجاج (٥) : " يغوث ويعوق" لا ينصرفان ؛ لأنهما في وزن الفعل ، وهما معرفتان.

وقرأ الأعمش : " يغوثا ويعوقا" بالصرف (٦).

قال الزمخشري (٧) : هذه قراءة مشكلة ؛ لأنهما [إن](٨) كانا عربيين أو عجميين

__________________

(١) زيادة من ب ، والصحيح.

(٢) في الأصل : لهمذان. والمثبت من ب ، والصحيح.

(٣) في الأصل وب زيادة قوله : ونسرا ، وهي غير موجودة في الصحيح.

(٤) أخرجه البخاري (٤ / ١٨٧٣ ح ٤٦٣٦).

(٥) معاني الزجاج (٥ / ٢٣١).

(٦) انظر : إتحاف فضلاء البشر (ص : ٤٢٥) ، والكشاف (٤ / ٦٢٢).

(٧) الكشاف (٤ / ٦٢٢).

(٨) زيادة من ب ، والكشاف ، الموضع السابق.

٢٩٩

ففيهما سببا عدم (١) الصرف : إما التعريف ووزن الفعل ، وإما التعريف والعجمة ؛ ولعله قصد الازدواج فصرفهما ، لمصادفته أخواتهما منصرفات ؛ ودّا وسواعا ونسرا ، كما قرئ : (وَضُحاها) [الشمس : ١] بالإمالة ، لوقوعه مع الممالات ؛ للازدواج.

قوله تعالى : (وَقَدْ أَضَلُّوا)(٢) يعني : الأصنام ، وقيل : الرؤساء ، (كَثِيراً) يريد : خلقا كثيرا من الناس.

وهذا من شكاية نوح عليه‌السلام إلى ربه عزوجل.

ثم دعا على [قومه](٣) حين أيس من إيمانهم فقال : (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالاً).

(مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً (٢٥) وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (٢٦) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (٢٧) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً)(٢٨)

قوله تعالى : (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا)" ما" صلة. والمعنى : من خطاياهم ، أي : من أجلها وبسببها أغرقوا.

__________________

(١) في ب والكشاف : منع.

(٢) في الأصل زيادة قوله : كثيرا ، وستأتي بعد.

(٣) زيادة من ب.

٣٠٠