رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٨

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي

رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٨

المؤلف:

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي


المحقق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الأسدي للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٨٨

قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٧) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(٨)

قوله تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ) أي : كلّفوا العمل بها ، (ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها) لم يعملوا بها ، وهم : اليهود (كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً) كتبا كبارا من كتب العلم ، فهو يمشي بها ولا يدري منها إلا ما يثقله ويتعبه ، وكلّ من علم ولم يعمل فهو من أهل هذا المثل ، أعاذنا الله من ذلك.

والأسفار : جمع سفر ، مثل : شبر وأشبار.

(بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ) إن شئت كان المضاف محذوفا ، على تقدير : بئس مثل القوم مثل الذين كذبوا ، فيكون" الذين" في موضع رفع ؛ لقيامه مقام المضاف المحذوف. وإن شئت كان" الذين" في موضع الجر ؛ وصفا للقوم ، والمخصوص بالذم محذوف ، تقديره : بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله ، المثل المضروب لهم (١).

وقال الواحدي (٢) : هو ذم لمثلهم. والمراد به : ذمهم.

والآيتان بعد هذه سبق تفسيرهما في البقرة (٣).

__________________

(١) انظر : التبيان (٢ / ٢٦١) ، والدر المصون (٦ / ٣١٦).

(٢) في الوسيط (٤ / ٢٩٥).

(٣) عند الآية رقم : ٩٤ ، ٩٥.

١٢١

وكان اليهود يكرهون [الموت](١) لسوء ما اختاروا لأنفسهم من حب الرئاسة والنفاسة على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حتى أنكروا ما عرفوه ووجدوه مكتوبا عندهم في التوراة ، فأنزل الله تعالى : (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ) ، وقرأ زيد بن علي : " إنّه ملاقيكم" (٢).

وقرأ ابن مسعود : " تفرون منه ملاقيكم" (٣).

قال الزجاج (٤) : دخلت الفاء في خبر" إنّ" ، ولا يجوز : إنّ زيدا فمنطلق ؛ لأن" الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم" فيه معنى الشرط والجزاء. ويجوز أن يكون تمام الكلام : " قل إن الموت الذي تفرون منه" كأنه قيل : إن فررتم من أيّ موت كان من قتل أو غيره فإنه ملاقيكم ، ويكون" فإنه" استئناف بعد الخبر الأول.

قال غيره (٥) في قراءة زيد : قد جعل" إن الموت الذي تفرّون منه" كلاما برأسه ، أي : إن الموت هو الشيء الذي تفرّون منه ، ثم استؤنف : " إنه ملاقيكم".

وقراءة ابن مسعود ظاهرة.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(٩)

قوله تعالى : (إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ) يعني : النداء الثاني إذا جلس الإمام على المنبر

__________________

(١) زيادة من ب.

(٢) انظر هذه القراءة في : البحر (٨ / ٢٦٤) ، والدر المصون (٦ / ٣١٧).

(٣) انظر هذه القراءة في : زاد المسير (٨ / ٢٦١) ، والكشاف (٤ / ٥٣٢).

(٤) معاني الزجاج (٥ / ١٧١).

(٥) هو قول الزمخشري في الكشاف (٤ / ٥٣٢).

١٢٢

(مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) وقرأت لعبد الوارث عن أبي عمرو : " الجمعة" بسكون الميم (١) ، واسمه : " عروبة" في اللغة القديمة.

ويقال : أول من سمّاه الجمعة : كعب [بن](٢) لؤي (٣).

(فَاسْعَوْا إِلى) قال البخاري في صحيحه (٤) : قرأ عمر : " فامضوا".

قلت : [وهي](٥) قراءة ابن مسعود ، وكان يقول : لو قرأتها" فاسعوا" لسعيت حتى يسقط ردائي (٦).

والمراد بالسّعي : المشي.

قال عطاء : هو الذهاب والمشي إلى الصلاة (٧).

وقال عكرمة والضحاك : " فاسعوا" أي : اعملوا (٨) ، على معنى : اعملوا على المضي إلى ذكر الله ، وذلك بتعاطي أسبابه المؤدية إليه.

__________________

(١) انظر : إتحاف فضلاء البشر (ص : ٤١٦) ، وزاد المسير (٨ / ٢٦٢).

(٢) زيادة من ب.

(٣) قال الحافظ ابن حجر في الفتح (٢ / ٣٥٥) : روى عبد الرزاق بإسناد صحيح (٣ / ١٥٩ ح ٥١٤٤) عن محمد بن سيرين قال : جمع أهل المدينة قبل أن يقدمها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقبل أن تنزل الجمعة ، فقالت الأنصار : إن لليهود يوما يجتمعون فيه كل سبعة أيام ، وللنصارى كذلك ، فهلم فلنجعل يوما نجتمع فيه فنذكر الله تعالى ونصلي ونشكره ، فجعلوه يوم العروبة. ا ه. فظهر من الأثر أن أول من سمى الجمعة : الأنصار.

(٤) ذكره البخاري معلقا (٤ / ١٨٥٨).

(٥) في الأصل : وفي. والتصويب من ب.

(٦) أخرجه الطبري (٢٨ / ١٠١).

(٧) ذكره الواحدي في الوسيط (٤ / ٢٩٩) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ٢٦٤).

(٨) أخرجه الطبري (٢٨ / ١٠١).

١٢٣

وقال الحسن : أما والله ما هو بالسعي على الأقدام ، فقد نهوا أن يأتوا المسجد إلا وعليهم السكينة والوقار ، ولكن [بالقلوب](١) والنية والخشوع (٢). ونحوه عن قتادة (٣).

والمعني بذكر الله : الخطبة والصلاة.

(وَذَرُوا الْبَيْعَ) أي : دعوا التجارة في ذلك الوقت.

وشدّد في ذلك الإمام أحمد رضي الله عنه فقال : لو باع لم يصح البيع. وهو قول مالك (٤).

فصل

تجب الجمعة على من سمع النداء من أهل المصر ، إذا كان المؤذن صيّتا والريح ساكنة. وحدّه مالك بفرسخ (٥) ، ولم يحدّه الشافعي.

وعن الإمام أحمد كالمذهبين (٦).

وتجب الجمعة على أهل القرى.

__________________

(١) في الأصل : بالقوب. والتصويب من ب.

(٢) أخرجه مجاهد في تفسيره (ص : ٦٧٤) ، وابن أبي حاتم (١٠ / ٣٣٥٦) ، وابن أبي شيبة (١ / ٤٨٢ ح ٥٥٥٧). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ١٦٢) وعزاه لسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٣) أخرجه الطبري (٢٨ / ١٠٠) ، والبيهقي في الشعب (٣ / ٨٨ ح ٢٩٦٦). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ١٦٢) وعزاه لعبد بن حميد والبيهقي في شعب الإيمان.

(٤) انظر : المغني (٢ / ٧١).

(٥) انظر : الشرح الكبير لدردير (١ / ٣٧٣).

(٦) انظر : المغني (٢ / ١٠٦).

١٢٤

وقال أبو حنيفة : لا تجب إلا على [أهل](١) الأمصار (٢).

ولا تنعقد الجمعة بأقل من أربعين ، في أصح الروايات عن الإمام أحمد.

والرواية الأخرى : خمسون ، والرواية الثالثة : ثلاثة (٣).

وفي وجوب الجمعة على العبد روايتان :

[إحداهما](٤) : لا تجب. وهو قول الأكثرين.

والثانية : تجب ، وهو قول الحسن وقتادة (٥).

وتجب على الأعمى إذا وجد قائدا ، خلافا لأبي حنيفة (٦).

وهل من شرطها إذن الإمام؟ على روايتين (٧).

وتجوز إقامة الجمعة في موضعين من البلد فصاعدا عند الحاجة ، خلافا لمالك والشافعي [وأبي يوسف (٨).

ويجوز إقامتها قبل الزوال ، خلافا لأكثرهم (٩).

وإذا وقع العيد في يوم الجمعة فاجتزأ بالعيد وصلى الجمعة ظهرا جاز ، إلا

__________________

(١) زيادة من ب.

(٢) انظر : المغني (٢ / ١٠٦) ، والمبسوط للشيباني (١ / ٣٤٥).

(٣) انظر : المغني (٢ / ٨٨ ـ ٨٩).

(٤) في الأصل : أحدهما. والتصويب من ب.

(٥) انظر : المغني (٢ / ٩٥).

(٦) انظر : المغني (٢ / ٩٦) ، والمبسوط للسرخسي (٢ / ٢٢).

(٧) انظر : المغني (٢ / ٩٠).

(٨) انظر : المغني (٢ / ٩٢) ، وبدائع الصنائع (١ / ٢٦٠) ، ومواهب الجليل (٢ / ١٩٦).

(٩) انظر : المغني (٢ / ١٠٤).

١٢٥

الإمام ، وبه قال الشعبي والنخعي ، خلافا لأكثرهم (١).

والخطبة شرط في الجمعة ، خلافا لداود (٢). والطهارة فيها مستحبة ، خلافا لأحد قولي الشافعي (٣) ، والقيام ليس بشرط في الخطبة خلافا للشافعي (٤)](٥).

ولا يجب القعود بين الخطبتين ، خلافا له أيضا (٦).

والخطبتان واجبتان ، ومن شرطهما : التحميد ، والصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقراءة آية ، والموعظة (٧).

وقال أبو حنيفة : إن اقتصر الخطيب على قول : الحمد لله ، أو سبحان الله : جاز (٨).

ويسنّ للإمام إذا صعد المنبر أن يسلّم على الناس ، خلافا لأبي حنيفة ومالك (٩).

فصل : في فضيلة الجمعة

قرأت على أبي المجد محمد بن الحسين ، أخبركم أبو منصور محمد بن أسعد

__________________

(١) انظر : المغني (٢ / ١٠٥).

(٢) انظر : المغني (٢ / ٧٤).

(٣) انظر : المغني (٢ / ٧٧) ، والحاوي للماوردي (٢ / ٤٤٣).

(٤) انظر : المغني (٢ / ٧٤) ، والحاوي للماوردي (٢ / ٤٣٣).

(٥) ما بين المعكوفين زيادة من ب.

(٦) انظر : المغني (٢ / ٧٦).

(٧) انظر : المغني (٢ / ٧٥ ـ ٧٦).

(٨) انظر : المغني (٢ / ٧٦) ، والمحيط البرهاني (٢ / ١٧١).

(٩) انظر : المغني (٢ / ٧١) ، والتاج والإكليل (٢ / ١٧١).

١٢٦

فأقرّ به قال : حدثنا أبو محمد الحسين بن مسعود ، أخبرنا عبد الواحد بن أحمد ، أخبرنا أبو منصور السمعاني ، حدثنا أبو جعفر الرياني ، حدثنا حميد بن زنجويه ، حدثنا النضر بن شميل ، حدثنا محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة ، فيه خلق آدم ، وفيه أدخل الجنة ، وفيه أهبط منها ، وفيه تقوم الساعة ، وفيه ساعة لا يوافقها [مسلم](١) يصلي ، يسأل الله فيها خيرا إلا أعطاه إياه ، وقال بيده يقلّلها ، فقال عبد الله بن سلام : قد علمت أية ساعة هي ، هي آخر ساعات الجمعة ، هي الساعة التي خلق الله فيها آدم. قال الله تعالى : (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ)(٢). هذا حديث صحيح.

قال الإمام أحمد في الساعة التي يستجاب فيها الدعوة : أكثر الأحاديث أنها بعد العصر ، وترجى بعد زوال الشمس (٣).

ويروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنها ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضى الصلاة» (٤).

__________________

(١) زيادة من ب ، والترمذي (٢ / ٣٦٢).

(٢) أخرجه الترمذي (٢ / ٣٦٢ ح ٤٩١).

(٣) انظر : الترمذي (٢ / ٣٦٠).

(٤) أخرجه مسلم (٢ / ٥٨٤ ح ٨٥٣) من حديث أبي موسى الأشعري :

قال الحافظ ابن حجر في الفتح (٢ / ٤٢١) بعد أن ذكر أكثر من أربعين قولا في الساعة التي يستجاب فيها الدعوة : قال المحب الطبري : أصح الأحاديث فيها حديث أبي موسى ، وأشهر الأقوال فيها قول عبد الله بن سلام. انتهى. ـ

١٢٧

وعن ابن عباس : أنها ما (١) بين الأذان إلى انصراف الإمام.

وقال أبو هريرة : التمسوا الساعة التي في الجمعة في ثلاث مواطن : ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، وما بين أن ينزل الإمام إلى أن يكبر ، وما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس (٢).

فصل : في وعيد من ترك الجمعة بغير عذر

قرئ على الشيخ أبي الحسن علي بن ثابت الطالباني البغدادي الفقيه برأس عين وأنا أسمع ، أخبركم أبو منصور بن مكارم فأقرّ به ، أخبرنا نصر بن محمد بن صفوان ، أخبرنا علي بن إبراهيم السّراج ، أخبرنا هبة الله بن إبراهيم بن أنس ، حدثنا ابن طوق ، [حدثنا](٣) زيد بن عبد العزيز بن حيان ، حدثنا محمد بن عبد الله بن عمار ، حدثنا المعافى بن عمران رحمة الله عليه ، عن فضيل بن مرزوق ، عن رجل من أهل الخير والصلاح ، عن محمد بن علي ، عن سعيد بن المسيب ، عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو على منبره يوم الجمعة يقول : «يا أيها الناس! توبوا إلى الله قبل أن تموتوا ، وبادروا بالأعمال الصالحة ، وصلوا الذي بينكم وبين ربكم بكثرة ذكركم إياه ، وكثرة صدقتكم في السر والعلانية

__________________

ـ ثم قال : وما عداهما إما موافق لهما أو لأحدهما ، أو ضعيف الإسناد ، أو موقوف استند قائله إلى اجتهاد دون توقيف ، ولا يعارضهما حديث أبي سعيد في كونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنسيها بعد أن علمها ؛ لاحتمال أن يكونا سمعا ذلك منه قبل أن أنسي.

(١) في ب : فيما.

(٢) ذكره ابن حجر في الفتح (٢ / ٤١٧).

(٣) زيادة على الأصل.

١٢٨

تؤجروا ، وتنصروا ، وترزقوا.

واعلموا أن الله افترض عليكم الجمعة فريضة مفروضة ، من يومي هذا ، في مقامي هذا ، في شهري هذا ، في عامي هذا ، إلى يوم القيامة ، فمن تركها في حياتي أو بعد مماتي جحودا بها واستخفافا بها ، فلا جمع الله شمله ، ولا بارك له في أمره ، ألا ولا صلاة له ، ألا ولا زكاة له ، ألا ولا حج له ، [ألا](١) ولا صوم له ، ولا برّ له (٢). فمن تاب تاب الله عليه» (٣).

وقرأت على القاضي أبي المجد القزويني ، أخبركم أبو منصور الطوسي فأقرّ به ، قال : حدثنا أبو محمد البغوي ، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي ، أخبرنا أبو الحسن الطيسفوني ، أخبرنا عبد الله بن عمر الجوهري ، حدثنا أحمد بن علي الكشميهني ، حدثنا علي بن [حجر](٤) ، حدثنا إسماعيل بن جعفر ، عن محمد بن عمرو ، عن عبيدة بن (٥) سفيان ، عن أبي الجعد ـ يعني : الضمري (٦) ـ قال : قال

__________________

(١) زيادة من ب ، ومصادر التخريج.

(٢) في ب : بركة.

(٣) أخرجه عبد بن حميد (ص : ٣٤٤) ، وأبو يعلى في مسنده (٣ / ٣٨١ ـ ٣٨٢ ح ١٨٥٦) ، والطبراني في الأوسط (٢ / ٦٤ ح ١٢٦١).

(٤) في الأصل : حجرة. والمثبت من ب. وانظر ترجمته في : تهذيب التهذيب (٧ / ٢٥٩) ، والتقريب (ص : ٣٩٩).

(٥) في الأصل وب زيادة لفظة : " أبي". وهو وهم. انظر ترجمته في : تهذيب التهذيب (٧ / ٧٧) ، والتقريب (ص : ٣٧٩).

(٦) في الأصل : الضمرتي. والتصويب من ب. وانظر ترجمته في : تهذيب التهذيب (١٢ / ٥٧) ، والتقريب (ص : ٦٢٨).

١٢٩

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من ترك الجمعة ثلاث مرات تهاونا بها ، طبع [الله](١) على قلبه» (٢). هذا حديث حسن. ولا يعرف لأبي الجعد الضمري حديث سوى هذا ، وله صحبة ، ولا يعرف له اسم.

وفي صحيح مسلم من حديث ابن عمر وأبي هريرة قالا : سمعنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول وهو على أعواد منبره : «لينتهينّ أقوام عن ودعهم الجمعات ، أو ليختمنّ الله على قلوبهم ، ثم ليكوننّ من الغافلين» (٣).

فصل في فضيلة التبكير إلى الجمعة

أخبرنا الشيخان أبو القاسم وأبو الحسن قالا : أخبرنا عبد الأول ، أخبرنا عبد الرحمن ، أخبرنا عبد الله ، أخبرنا محمد ، حدثنا البخاري ، حدثنا عبد الله بن يوسف ، أخبرنا مالك.

وأخبرنا المؤيد بن محمد الطوسي في كتابه ، أخبرنا الفراوي ، أخبرنا عبد الغافر ، أخبرنا محمد بن عيسى بن عمرويه الجلودي ، أبنا [أبو إسحاق](٤) إبراهيم الفقيه ، أخبرنا مسلم ، أخبرنا قتيبة بن سعيد ، أخبرنا مالك.

وأخبرنا الشيخان الإمام أبو محمد ابن قدامة المقدسي وأبو بكر محمد بن سعيد بن الموفق النيسابوري بقراءتي عليه قالا : أخبرنا أبو زرعة المقدسي ، أخبرنا أبو

__________________

(١) زيادة من ب ، والترمذي (٢ / ٣٧٣).

(٢) أخرجه الترمذي (٢ / ٣٧٣ ح ٥٠٠).

(٣) أخرجه مسلم (٢ / ٥٩١ ح ٨٦٥).

(٤) في الأصل : إسحاق بن ، والتصويب مع الزيادة من : التقييد (ص : ١٨٦).

١٣٠

الحسن مكي بن منصور [بن](١) علان الكرجي ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري ، أخبرنا أبو العباس الأصم ، أخبرنا الربيع ، أخبرنا الشافعي ، أخبرنا مالك.

وقرأت على أبي المجد القزويني ، أخبركم محمد بن أسعد الطوسي فأقرّ به ، حدثنا أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي ، أخبرنا أبو الحسن الشيرزي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن سميّ مولى أبي بكر بن عبد الرحمن (٢) ، عن أبي صالح السمان ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرّب بدنة ، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا ، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة ، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة [يستمعون](٣) الذكر» (٤). هذا حديث متفق على صحته.

وبالإسناد قال : أخبرنا الربيع ، أخبرنا الشافعي ، أخبرنا سفيان ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا كان يوم الجمعة كان على كل باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون الناس على منازلهم ، الأول فالأول ، فإذا خرج الإمام طويت الصحف واستمعوا الخطبة ، والمهجّر إلى الصلاة

__________________

(١) زيادة من ب.

(٢) سميّ مولى أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي ، أبو عبد الله المدني ، ثقة ، قتلته الحرورية يوم قديد سنة ثلاثين ومائة (تهذيب التهذيب ٤ / ٢٠٩ ، والتقريب ص : ٢٥٦).

(٣) في الأصل : يسمعون. والمثبت من ب ، والصحيحين.

(٤) أخرجه البخاري (١ / ٣٠١ ح ٨٤١) ، ومسلم (٢ / ٥٨٢ ح ٨٥٠) ، والشافعي في مسنده (ص : ٦٢).

١٣١

كالمهدي بدنة ، ثم الذي يليه كالمهدي بقرة ، ثم الذي يليه كالمهدي كبشا ، حتى ذكر الدجاجة والبيضة» (١) هذا حديث متفق على صحته ، أخرجاه من طرق ، عن الزهري ، عن أبي عبد الله الأغر وأبي سلمة ، عن أبي هريرة.

قال الخليل بن أحمد رحمه‌الله : التّهجير إلى الجمعة : التّبكير (٢).

واختلفوا في هذه الساعات ؛ فذهب بعضهم إلى أنها ساعات لطيفة بعد الزوال ، لا يريد به حقيقة الساعات التي يدور عليها حساب الليل والنهار ؛ لأن الرّواح لا يكون إلا بعد الزوال ، فهو كقول القائل : جلست عند فلان ساعة ، لا يريد به التحديد بساعة النهار.

وقيل : المراد منه : ساعات النهار ، فبيّن فضل من جاء في الساعة الأولى من النهار مبكرا قبل الزوال. وجاء بلفظ الرواح ؛ لأنه خرج لفعل يفعله وقت الرواح ، كما يقال للقاصدين إلى الحج : حجّاج ، وللخارجين إلى الغزو : غزاة ، ولما يحجوا ويغزوا بعد.

وقيل : من راح إلى الجمعة ، أي : من خفّ إليها ، يقال : تروّح القوم وراحوا ؛ إذا ساروا أيّ وقت كان (٣).

(فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(١٠)

__________________

(١) أخرجه البخاري (١ / ٣١٤ ح ٨٨٧ ، ٣ / ١١٧٥ ح ٣٠٣٩) ، ومسلم (٢ / ٥٨٧ ح ٨٥٠) ، والشافعي في مسنده (ص : ٦٢).

(٢) انظر : المغرب (٢ / ٣٧٩).

(٣) انظر : اللسان (مادة : روح).

١٣٢

قوله تعالى : (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) هذا أمر إباحة. وقد تقدمت نظائره.

قال ابن عباس : إن شئت فاخرج ، وإن شئت فصلّ إلى العصر ، وإن شئت فاقعد (١).

(وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) أي : اطلبوا الرزق بأنواع التجارة.

وكان عراك بن مالك إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد ، وقال : اللهم! أجبت دعوتك ، وصليت فريضتك ، وانتشرت كما أمرتني ، فارزقني من فضلك ، وأنت خير الرازقين (٢).

وقيل : " ابتغوا من فضل الله" من عيادة مريض ، وحضور جنازة ، وزيارة أخ في الله. ويروى هذا المعنى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٣).

وقال الحسن وسعيد بن جبير في قوله : (وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) : اطلبوا العلم (٤).

(وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)(١١)

قوله تعالى : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً) السبب في

__________________

(١) ذكره الواحدي في الوسيط (٤ / ٣٠٠).

(٢) أخرجه ابن أبي حاتم (١٠ / ٣٣٥٦). وذكره الماوردي (٦ / ١٠).

(٣) أخرجه الطبري (٢٨ / ١٠٣) من حديث أنس.

(٤) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ٢٦٨).

١٣٣

نزولها : [ما](١) أخبرنا به الشيخان أبو القاسم وأبو الحسن قالا : أخبرنا أبو الوقت ، أخبرنا أبو الحسن الداودي ، أخبرنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن حمويه السرخسي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري ، حدثنا حفص بن عمر ، حدثنا خالد بن عبد الله ، أخبرنا حصين ، عن سالم [بن](٢) أبي الجعد ، [وعن](٣) أبي سفيان (٤) ، عن جابر بن عبد الله قال : «أقبلت عير يوم الجمعة ونحن مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فثار الناس إلا اثني عشر رجلا ، فأنزل الله تعالى : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها)(٥). وأخرجه مسلم أيضا.

وفي رواية : «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يخطب قائما ، فجاءت عير من الشام ، فخرج الناس إليها ، فلم يبق إلا اثنا عشر رجلا فيهم أبو بكر وعمر» (٦).

وفي رواية : «إلا اثنا عشر رجلا أنا فيهم» (٧).

قال الحسن وأبو مالك : أصاب أهل المدينة جوع وغلا السعر ، فقدم دحية بن خليفة بتجارة من الشام ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخطب يوم الجمعة ، فلما رأوه قاموا إليه بالبقيع ، خشوا أن يسبقوا إليه ، فلم يبق من القوم مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا رهط ، منهم أبو بكر

__________________

(١) زيادة من ب.

(٢) في الأصل : عن. والتصويب من البخاري وب.

(٣) في الأصل : عن. والتصويب من البخاري ، وب.

(٤) هو طلحة بن نافع الواسطي ، أبو سفيان الإسكاف ، نزل مكة ، صدوق (تهذيب الكمال ١٣ / ٤٣٨ ـ ٤٤٠ ، والتقريب ص : ٢٨٣).

(٥) أخرجه البخاري (٤ / ١٨٥٩ ح ٤٦١٦) ، ومسلم (٢ / ٥٩٠ ح ٨٦٣).

(٦) أخرجه مسلم (٢ / ٥٩٠ ح ٨٦٣).

(٧) أخرجه مسلم ، الموضع السابق.

١٣٤

وعمر ، فنزلت هذه الآية ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والذي نفسي بيده ، لو تتابعتم حتى لم يبق منكم أحد لسال بكم الوادي نارا» (١).

وقال قتادة ومقاتل (٢) : بلغنا أنهم فعلوا ذلك ثلاث مرات لعير تقدم من الشام ، وكان ذلك يوافق يوم الجمعة.

والمراد باللهو : الطّبل ، وذلك أن العير كانت إذا قدمت المدينة استقبلوها بالطّبل والتصفيق.

وقال مقاتل (٣) : كان دحية بن خليفة إذا قدم من الشام يقدم بكل ما يحتاج إليه من دقيق أو برّ أو غيره ، فينزل عند أحجار الزيت ـ وهو مكان في سوق المدينة ـ ، ثم يضرب الطّبل ليؤذن الناس بقدومه.

والضمير في" إليها" راجع إلى التجارة ؛ لأنها أهمّ. هذا قول الفراء (٤) والمبرد.

وقيل : التقدير : وإذا رأوا تجارة انفضوا إليها أو لهوا انفضوا إليه ، فحذف أحدهما لدلالة المذكور عليه ، وكذلك قراءة من قرأ : " انفضوا إليه" على ضمير المذكّر (٥).

وهي قراءة ابن مسعود ، وهذا اختيار الزجاج (٦).

__________________

(١) انظر : أسباب النزول للواحدي (ص : ٤٤٩). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ١٦٦ ـ ١٦٧) وعزاه لعبد بن حميد عن الحسن.

(٢) تفسير مقاتل (٣ / ٣٦١).

(٣) تفسير مقاتل (٣ / ٣٦١).

(٤) معاني الفراء (٣ / ١٥٧).

(٥) وهي قراءة ابن مسعود وابن أبي عبلة ، كما في زاد المسير (٨ / ٢٧٠).

(٦) معاني الزجاج (٥ / ١٧٢).

١٣٥

وقد قرئ : " انفضوا إليهما" (١).

(وَتَرَكُوكَ قائِماً) يعني : على المنبر.

وقال الواحدي (٢) : أجمعوا على أن هذا القيام كان في الخطبة.

وسئل ابن مسعود : أكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخطب قائما أو قاعدا؟ قال : أما تقرأ : (وَتَرَكُوكَ قائِماً)(٣).

(قُلْ ما عِنْدَ اللهِ) من ثواب الصلاة والثبات مع نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) فإنه ينعم بالنوال قبل السؤال ، ويرزق على كل [حال](٤).

قال الزجاج (٥) : أي : ليس يفوتهم من أرزاقهم لتخلّفهم عن النظر إلى الميرة شيء ، ولا بتركهم البيع في وقت الصلاة. والله تعالى أعلم.

__________________

(١) وهي قراءة ابن مسعود وابن أبي عبلة ، كما في زاد المسير (٨ / ٢٧٠).

(٢) الوسيط (٤ / ٣٠١).

(٣) أخرجه ابن ماجه (١ / ٣٥٢ ح ١١٠٨) ، والطبراني في الكبير (١٠ / ٧٦ ح ١٠٠٠٣). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ١٦٧) وعزاه لابن أبي شيبة وابن ماجة والطبراني وابن مردويه.

(٤) زيادة من ب.

(٥) معاني الزجاج (٥ / ١٧٣).

١٣٦

سورة المنافقون (١)

بسم الله الرّحمن الرّحيم

وهي كالجمعة إحدى عشرة آية (٢) ، مدنية بإجماعهم.

وكان السبب في نزولها : ما صحّت به الأخبار ، ونقله أئمة الحديث ؛ كالبخاري ومسلم وغيرهما ، وأنا أجمع متفرّق ما نقلوه على وجه الاختصار بسياقة محصلة للمقصود ، فأقول :

اعلم أن عبد الله بن أبيّ خرج مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في جماعة من المنافقين في غزوة المريسيع ـ وهو ماء لبني المصطلق ـ طلبا للغنيمة لا رغبة في الجهاد ؛ لأنه كان سفرا قريبا ، فلما قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غزوته أقبل رجل من جهينة يقال له : سنان ، وهو حليف لعبد الله بن أبيّ ، ورجل من غفار يقال له : جهجاه بن سعيد ، وهو أجير لعمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فدار بينهما كلام ، فرفع الغفاري يده فلطم الجهني فأدماه ، فنادى الجهني : يا للأنصار ، فأقبلوا ، ونادى الغفاري : يا للمهاجرين ، فأقبلوا ، وأصلح الأمر قوم من المهاجرين ، فبلغ الخبر عبد الله بن أبيّ ، فقال لجماعة عنده من المنافقين : والله ما مثلكم ومثل هؤلاء إلا كما قال القائل : سمّن كلبك يأكلك ، ولكن هذا فعلكم بأنفسكم ، آويتموهم في منازلكم ، وأنفقتم عليهم

__________________

(١) في ب : المنافقين.

(٢) انظر : البيان في عدّ آي القرآن (ص : ٢٤٧).

١٣٧

أموالكم ، فقووا وضعفتم ، وايم الله! لو أمسكتم أيديكم لتفرّقت عن هذا جموعه ، ولئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذلّ ، وكان في القوم زيد بن أرقم ، وهو غلام لا يؤبه له ، فقال لعبد الله : أنت والله الذليل القليل البغيض في قومك ، ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في عز من الرحمن ، ومودة من المسلمين ، فقال عبد الله : اسكت ، إنما كنت ألعب ، فأقبل زيد بالخبر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال عمر : دعني أضرب عنق هذا المنافق يا رسول الله ، فقال : إذا ترعد له أنف كثيرة. قال : فإن كرهت أن يقتله رجل من المهاجرين ، فمر سعد بن عبادة أو محمد بن مسلمة أو عباد بن بشر فليقتله ، فقال : إذا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه ، فأرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى عبد الله بن أبيّ فأتاه ، فقال : أنت صاحب هذا الكلام ، فقال : والذي أنزل عليك ما قلت شيئا من هذا ، وإن زيدا لكذاب ، فقال من حضر : يا رسول الله! لا [يصدّق](١) عليه غلام ، عسى أن يكون قد وهم ، فعذره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ففشت الملامة في الأنصار لزيد بن أرقم ، وكذّبوه ، فقال له عمّه : ما أردّت إلا أن يكذّبك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والناس ومقتوك ، فاستحيا زيد ، ووقع عليه من الهمّ ما [لم](٢) يقع على أحد ، وجعل لا يسير قريبا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حياء منه ، وبلغ عبد الله بن عبد الله بن أبيّ ما كان من خبر أبيه ، فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله! بلغني أنك تريد قتل أبي لما بلغك عنه ، فإن كنت فاعلا فمرني به أحمل إليك رأسه ، فو الله لقد علمت الخزرج ما كان بها رجل أبرّ [بوالديه](٣) مني ، وإني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله ، فلا

__________________

(١) في الأصل : تصدق. والمثبت من ب.

(٢) في الأصل : لا. والتصويب من ب.

(٣) في الأصل : بولديه. والتصويب من ب.

١٣٨

تدعنّي نفسي أن أنظر إلى قاتل أبي يمشي في الناس فأقتل مؤمنا بكافر فأدخل النار ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بل نرفق به ، ونحسن صحبته ما بقي معنا ، فلما قاربوا المدينة وقف له ابنه على فوهة الطريق وقال : وراءك؟ فقال له أبوه : ما لك ويلك؟ قال : لا والله لا تدخلها أبدا إلا بإذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لتعلم اليوم من الأعز ومن الأذلّ ، فشكاه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : خلّ عنه. قال زيد بن أرقم : فلما وافى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة جلست في البيت لما بي من الهمّ والحياء ، وأنزل الله سورة المنافقين ، فأرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى زيد [فقال](١) : إن الله قد صدّقك ، وكذّب عبد الله بن أبيّ ، فقرأ عليه سورة المنافقين (٢).

وفي رواية الترمذي : «وكان ذلك في غزوة تبوك» (٣).

قرأت على قاضي القضاة أبي صالح نصر بن عبد الرزاق بن عبد القادر الجيلي الحنبلي ، أخبرتكم شهدة بنت أحمد فأقرّ به قالت : أخبرنا محمد بن عبد السّلام الأنصاري ، أخبرنا أبو بكر البرقاني قال : سمعت عبد الله بن إبراهيم الجرجاني يقول : أخبرني محمد بن سعيد بن هلال الرسعني ، حدثنا المعافى ، حدثنا زهير ، حدثنا أبو إسحاق أنه سمع زيد بن أرقم يقول : «خرجنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سفر أصاب الناس فيه شدّة ، فقال عبد الله بن أبيّ لأصحابه : لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله ، وقال : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ، فأتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبرته بذلك ، فأرسل إلى عبد الله ، فاجتهد يمينه ما

__________________

(١) زيادة من ب.

(٢) انظر : أسباب النزول للواحدي (ص : ٤٥١ ـ ٤٥٣).

(٣) أخرجه الترمذي (٥ / ٤١٧ ح ٣٣١٤).

١٣٩

فعل ، فقالوا : كذب زيد رسول الله ، قال : فوقع في نفسي مما قالوا شدة ، حتى أنزل الله تصديقي : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ) ، قال : ودعاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليستغفر لهم فلوّوا رؤوسهم» (١). أخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة عن حسن بن موسى ، عن زهير ، فكأنني سمعته من طريقه من الفراوي.

(إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (١) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (٣) وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)(٤)

قال الله تعالى : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ) أي : نشهد شهادة تتواطأ عليها قلوبنا وألسنتنا (إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) وهاهنا تم الكلام.

ثم استأنف الله تعالى جملة أخرى وهي قوله : (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ) ، وكأنّ الفائدة فيها : دفع ما عساه أن يتوهمه بعضهم عند مرادفة قوله : (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) لقوله : (قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) من أنه تكذيب لهم في شهادتهم أنه رسول الله.

فلما فصل بين الجملتين بقوله : (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ) زاحت علل

__________________

(١) أخرجه البخاري (٤ / ١٨٦٠ ح ٤٦٢٠) ، ومسلم (٤ / ٢١٤٠ ح ٢٧٧٢).

١٤٠