رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٨

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي

رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٨

المؤلف:

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي


المحقق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الأسدي للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٨٨

علي (١) ، عن أبيه (٢) ، عن جدّه : «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له : ما ولد لك؟ قال : يا رسول الله ما عسى أن يولد لي ، إما غلام أو جارية ، قال : فمن يشبه؟ قال : يشبه أمه أو أباه. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا تقولن كذا ، إن النطفة إذا استقرّت في الرحم ، أحضرها الله كل نسب بينها وبين آدم ، أما قرأت هذه الآية في كتاب الله : (فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) أي : من نسبك» (٣).

قوله تعالى : (كَلَّا) ردع عن الاغترار (بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ) وهو الجزاء أو دين الإسلام.

(وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ) ملائكة يحفظون عليكم أفعالكم وأقوالكم ، ويكتبونها عليكم ؛ لتجازوا بها.

(كِراماً) على ربهم (كاتِبِينَ) ما تملونه عليهم من خير وشر.

وفي قوله : (يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) تحقيق لمعنى ضبطهم وإحاطتهم بأعمالهم

__________________

(١) موسى بن علي بن رباح اللخمي ، أبو عبد الرحمن المصري ، صدوق ربما أخطأ ، ولي إمرة مصر سنة ستين ومائة ، ولد بالغرب سنة تسع وثمانين ، ومات بالإسكندرية سنة ثلاث وستين ومائة (تهذيب التهذيب ١٠ / ٣٢٣ ، والتقريب ص : ٥٥٣).

(٢) علي بن رباح بن قصير اللخمي ، أبو عبد الله ، ويقال : أبو موسى ، تابعي ثقة ، مات سنة بضع عشرة ومائة (تهذيب التهذيب ٧ / ٢٨٠ ، والتقريب ص : ٤٠١).

(٣) أخرجه الطبراني في الكبير (٥ / ٧٤ ح ٤٦٢٤) ، والطبري (٣٠ / ٨٧) ، وابن أبي حاتم (١٠ / ٣٤٠٨) ، والواحدي في الوسيط (٤ / ٤٣٧).

قال ابن كثير (٤ / ٤٨٢) بعد أن ذكر هذا الحديث : وهكذا رواه ابن أبي حاتم والطبراني من حديث مطهّر بن الهيثم به. وهذا الحديث لو صحّ لكان فيصلا في هذه الآية ، ولكن إسناده ليس بالثابت ؛ لأن مطهّر بن الهيثم قال فيه أبو سعيد بن يونس : كان متروك الحديث. وقال ابن حبان : يروي عن موسى بن علي وغيره بما لا يشبه حديث الأثبات.

٥٢١

التي يكتبونها.

(إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (١٣) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (١٤) يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (١٥) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (١٦) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٧) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٨) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ)(١٩)

قوله تعالى : (وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ) عن الجحيم ، وهذا كقوله : (وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها) [المائدة : ٣٧].

وقيل : وما هم عن القيامة بغائبين. فيكون الكلام منعطفا على الأبرار والفجار.

ثم عظّم ذلك اليوم فقال مخاطبا لنبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ).

وقال الكلبي : الخطاب للإنسان لا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١).

ثم كرر ذلك تفخيما لشأن يوم القيامة فقال : (ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ).

ثم أجمل القول في وصفه فقال : (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً).

قرأ ابن كثير وأبو عمرو : " يوم" بالرفع ، على البدل من" يوم الدين" ، أو على معنى : هو يوم. وقرأ الباقون : بالنصب (٢) ، على معنى : يدانون يوم الدين ، أو بإضمار : اذكر.

__________________

(١) ذكره الواحدي في الوسيط (٤ / ٤٣٩) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٩ / ٤٩).

(٢) الحجة للفارسي (٤ / ١٠٢) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٧٥٣ ـ ٧٥٤) ، والكشف (٢ / ٣٦٤ ـ ٣٦٥) ، والنشر (٢ / ٣٩٩) ، والإتحاف (ص : ٤٣٥) ، والسبعة (ص : ٦٧٤).

٥٢٢

قال مقاتل (١) : [يعني](٢) : لا تملك نفس لنفس كافرة شيئا.

والصحيح عمومه ، وأن أحدا لا يملك لأحد نفعا ولا ضرا إلا بأمر الله ، ألا تراه يقول : (وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ). والله أعلم.

__________________

(١) انظر : تفسير مقاتل (٣ / ٤٥٩).

(٢) زيادة من ب.

٥٢٣

سورة المطففين

بسم الله الرّحمن الرّحيم

وهي ست وثلاثون آية (١).

قال ابن مسعود والضحاك : هي مكية (٢).

وقال ابن عباس والحسن وقتادة : مدنية (٣).

قال مقاتل : هي أول سورة نزلت في المدينة (٤).

واستثنى ابن عباس وقتادة منها ثماني آيات من قوله : (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) إلى آخرها فقالا : نزلت بمكة (٥).

وقال ابن السائب وجابر بن زيد : نزلت هذه السورة بين مكة والمدينة (٦).

قال هبة الله المفسر (٧) : نزلت في الهجرة بين مكة والمدينة ، نصفها يقارب مكة ، ونصفها يقارب المدينة.

__________________

(١) انظر : البيان في عدّ آي القرآن (ص : ٢٦٧).

(٢) انظر : الماوردي (٦ / ٢٢٥) ، وزاد المسير (٩ / ٥١).

(٣) مثل السابق.

(٤) ذكره الماوردي (٦ / ٢٢٥).

(٥) انظر : الماوردي (٦ / ٢٢٥) ، وزاد المسير (٩ / ٥١).

(٦) انظر : المصدرين السابقين ، والإتقان (١ / ٤٥).

(٧) في الناسخ والمنسوخ (ص : ١٩٥).

٥٢٤

(وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (١) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (٢) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (٣) أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (٤) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (٥) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) (٦)

قال الله تعالى : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) قال ابن عباس : لما قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا ، فأنزل الله : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) ، فأحسنوا الكيل بعد ذلك (١).

وقال السدي : قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة وبها رجل يقال له : أبو جهينة ، ومعه صاعان يكيل بأحدهما ويكتال بالآخر ، فأنزل الله هذه الآية (٢).

وقد ذكرنا معنى" ويل" في البقرة (٣).

قال ابن قتيبة (٤) : والمطفّف : الذي لا يوفي الكيل. يقال : إناء [طفّان](٥) ؛ إذا لم يكن مملوءا (٦).

__________________

(١) أخرجه النسائي (٦ / ٥٠٨ ح ١١٦٥٤) ، وابن ماجه (٢ / ٧٤٨ ح ٢٢٢٣) ، والطبراني في الكبير (١١ / ٣٧١ ح ١٢٠٤١) ، والشعب (٤ / ٣٢٧ ح ٥٢٨٦). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ٤٤١) وعزاه للنسائي وابن ماجه وابن جرير والطبراني وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان بسند صحيح.

(٢) ذكره الواحدي في أسباب النزول (ص : ٤٧٥) ، والوسيط (٤ / ٤٤٠) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٩ / ٥٢).

(٣) عند الآية رقم : ٧٩.

(٤) تفسير غريب القرآن (ص : ٥١٩).

(٥) في الأصل : طفاف. والتصويب من ب ، وتفسير غريب القرآن ، الموضع السابق.

(٦) انظر : اللسان (مادة : طفف).

٥٢٥

وقال الزجاج (١) : إنما قيل : مطفّف ؛ لأنه لا يكاد يسرق في الميزان والمكيال إلا الشيء الطفيف ، وإنما أخذ من : طفّ الشيء ، وهو جانبه.

قال (٢) : وقد فسّر أمرهم في السورة فقال : (الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ).

قال الفراء والزجاج وغيرهما من اللغويين (٣) : المعنى : إذا اكتالو من الناس استوفوا عليهم الكيل.

و" على" و" من" يتعاقبان.

ولم يذكر الوزن ؛ لأن الكيل والوزن بهما الشراء والبيع غالبا ، فذكر أحدهما يدل على الآخر.

(وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) أي : كالوا لهم أو وزنوا لهم. فحذف الحرف الجار وأوصل الفعل ، كما قال :

ولقد جنيتك أكمؤا وعساقلا

 ...........(٤)

أي : جنيت لك [هذا](٥) ، كقولهم : نصحتك وشكرتك.

__________________

(١) معاني الزجاج (٥ / ٢٩٧).

(٢) أي : الزجاج.

(٣) معاني الفراء (٣ / ٢٤٦) ، ومعاني الزجاج (٥ / ٢٩٧).

(٤) صدر بيت ، وعجزه : (ولقد نهيتك عن بنات الأوبر). وهو في : الإنصاف (١ / ٣١٩ ، ٢ / ٧٢٦) ، وأوضح المسالك (١ / ١٨٠) ، والخصائص (٣ / ٥٨) ، وسر صناعة الإعراب (ص : ٣٦٦) ، وجمهرة اللغة (ص : ٣٣١) ، واللسان ، (مادة : حجر) ، وتاج العروس (مادة : وبر) ، والعين (٢ / ٢٩٠) ، والمقتضب (٤ / ٤٨) ، والمحتسب (٢ / ٢٢٤) ، والحجة للفارسي (٢ / ١٨٤).

(٥) في الأصل : وهذا. والمثبت من ب.

٥٢٦

قال الفراء (١) : هو من كلام أهل الحجاز ومن جاورهم.

فعلى هذا : يكون الضميران في موضع نصب.

وقيل : " هم" توكيد.

المعنى : وإذا كال المطففون ، فيكون الضميران في موضع رفع.

والأول هو الوجه الصحيح.

ومعنى : " يخسرون" : ينقصون ، كقوله : (وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ) [الرحمن : ٩] ، وقد مرّ تفسيره.

ثم وبّخهم وخوّفهم فقال : (أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ* لِيَوْمٍ عَظِيمٍ) أي : ألا يتوهّمون ويخطر ببالهم أنهم مبعوثون ومحاسبون ، يريد : أن من توهم البعث والجزاء على الأعمال جدير [بأن](٢) يتحاشى ظلم الناس في أموالهم.

وقال ابن عباس وعامة المفسرين : يريد : ألا يستيقن من فعل هذا أنه مبعوث ومحاسب (٣).

قال مقاتل (٤) : المطفّف في الكيل والوزن شاك في البعث يوم القيامة.

قال الزجاج (٥) : لو ظنوا أنهم يبعثون ما نقصوا الكيل والوزن.

__________________

(١) معاني الفراء (٣ / ٢٤٦).

(٢) في الأصل : أن. والمثبت من ب.

(٣) ذكره الواحدي في الوسيط (٤ / ٤٤١).

(٤) لم أقف عليه في تفسير مقاتل.

(٥) معاني الزجاج (٥ / ٢٩٨).

٥٢٧

قال صاحب الكشاف (١) : وفي هذا الإنكار والتعجيب وكلمة الظن ، ووصف اليوم بالعظم ، وقيام الناس فيه لله خاضعين ، ووصف ذاته برب العالمين : بيان بليغ لعظم الذنب ، وتفاقم الإثم في التطفيف ، وفيما كان في مثل حاله من الحيف وترك القيام بالقسط ، والعمل على التسوية والعدل في كل أخذ وإعطاء ، بل (٢) في كل قول وعمل.

فصل : يتضمن نبذة زاجرة عن التطفيف

روى مجاهد وطاووس والضحاك عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خمس بخمس ، قالوا : يا رسول الله وما خمس بخمس؟ قال : ما نقض قوم العهد إلا سلّط الله عليهم عدوهم ، وما حكموا بغير ما أنزل الله عزوجل إلا فشا فيهم الفقر ، وما ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت ، وما طفّفوا الكيل إلا منعوا النبات وأخذوا بالسنين ، ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم القطر» (٣).

وقال مالك بن دينار : دخلت على جار لي وقد نزل به الموت ، فجعل يقول : جبلين من نار ، جبلين من نار. قلت : ما تقول؟ أتهجر (٤)؟ قال : يا أبا يحيى ، إن لي مكيالين كنت أكيل بأحدهما وأكتال بالآخر ، قال : فقمت فجعلت أضرب أحدهما

__________________

(١) الكشاف (٤ / ٧٢١).

(٢) قوله : " في كل أخذ وإعطاء بل" ساقط من ب.

(٣) أخرجه الطبراني في الكبير (١١ / ٤٥ ح ١٠٩٩٢) ، والديلمي في الفردوس (٢ / ١٩٧ ح ٢٩٧٨).

قال الهيتمي في مجمع الزوائد (٣ / ٦٥) : رواه الطبراني في الكبير ، وفيه إسحاق بن عبد الله بن كيسان المروزي ، ليّنه الحاكم ، وبقية رجاله موثقون وفيهم كلام.

(٤) هجر في نومه ومرضه يهجر هجرا : هذى (اللسان ، مادة : هجر).

٥٢٨

بالآخر ، فقال : يا أبا يحيى ، كلما ضربت أحدهما بالآخر ازداد عظما ، فمات في وجعه (١).

وقال الفضيل بن عياض : بخس الميزان سواد الوجه يوم القيامة (٢).

وقال نافع : كان ابن عمر رضي الله عنهما يمرّ بالبائع فيقول : اتق الله وأوف الكيل والوزن ، فإن المطففين يوقفون يوم القيامة ، حتى إن العرق ليلجمهم إلى أنصاف آذانهم (٣).

وقال الإمام أحمد : حدثنا وكيع ، عن هشام صاحب الدستوائي ، عن القاسم بن أبي بزة ، حدثني من سمع : أن عمر رضي الله عنه قرأ : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) فلما بلغ : (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) بكى حتى خرّ ، وامتنع من قراءة ما بعده (٤).

قوله تعالى : (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) قال الزجاج (٥) : " يوم" منصوب بقوله : " مبعوثون". المعنى : ألا يظنون أنهم يبعثون يوم القيامة.

قال يزيد الرّشك : يقومون بين يديه للقضاء (٦).

وقال سعيد بن جبير : يقومون من قبورهم (٧).

__________________

(١) أخرج نحوه أحمد في الزهد (ص : ٣٩٤). وذكره الواحدي في الوسيط (٤ / ٤٤١).

(٢) ذكره الزمخشري في : الكشاف (٤ / ٧٢١).

(٣) أخرج نحوه الطبري (٣٠ / ٩٢) من حديث ابن عمر ، مرفوعا. وذكره القرطبي (١٩ / ٢٥٣ ـ ٢٥٤)

(٤) أخرجه أحمد في الزهد (ص : ٢٤٠).

(٥) معاني الزجاج (٥ / ٢٩٨).

(٦) ذكره الماوردي (٦ / ٢٢٦).

(٧) ذكره الماوردي (٦ / ٢٢٦) ، والواحدي في الوسيط (٤ / ٤٤١) بلا نسبة.

٥٢٩

" لرب العالمين" أي : لأمره.

ويدل على صحة هذا : ما أخبرنا به الشيخ أبو العباس الخضر بن كامل المعبر الخاتوني ، بظاهر دمشق قراءة عليه وأنا أسمع سنة ست وستمائة ، أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن علي بن أحمد الخياط المقرئ سنة سبع وثلاثين وخمسمائة قال : أخبرنا أبو الحسين أحمد بن محمد بن النقور البزاز ، أخبرنا أبو الحسين محمد بن عبد الله الدقاق المعروف بابن أخي ميمي ، أخبرنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي ، حدثنا أبو نصر عبد الملك بن عبد العزيز التمار ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر : «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ هذه الآية : (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) قال : يقومون حتى يبلغ [الرشح](١) أطراف آذانهم» (٢). هذا حديث صحيح اتفق الشيخان على إخراجه في صحيحيهما. فرواه البخاري عن إبراهيم بن المنذر ، عن معن ، عن مالك ، عن نافع. وأخرجه مسلم عن أبي نصر التمار ، عن حماد بن سلمة. فهو يعلو لي [برجل](٣) من طريق (٤) الصحيحين.

وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن العرق يوم القيامة ليذهب في الأرض سبعين ذراعا ، وإنه ليبلغ إلى أفواه الناس أو إلى آذانهم» (٥).

__________________

(١) في الأصل : الوسخ. والتصويب من ب.

(٢) أخرجه البخاري (٤ / ١٨٨٤ ح ٤٦٥٤) ، ومسلم (٤ / ٢١٩٦ ح ٢٨٦٢).

(٣) في الأصل : رجل. والتصويب من ب.

(٤) في ب : طريقي.

(٥) أخرجه مسلم (٤ / ٢١٩٦ ح ٢٨٦٣).

٥٣٠

وفي صحيح مسلم من حديث المقداد بن الأسود (١) قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إذا كان يوم القيامة أدنيت الشمس من العباد حتى تكون [قدر](٢) ميل أو ميلين. قال الراوي عن المقداد : فلا أدري أمسافة الأرض ، أو الميل الذي [تكحل](٣) به العين. قال : ثم [تصهرهم](٤) الشمس ، فيكونون في العرق كقدر أعمالهم ، فمنهم من يأخذه إلى عقبيه ، [ومنهم من يأخذه إلى ركبتيه](٥) ، ومنهم من يأخذه إلى حقويه ، ومنهم من يلجمه إلجاما. قال : فرأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يشير بيده إلى فيه ، قال : يلجمه إلجاما» (٦).

(كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (٧) وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (٨) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٠) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (١١) وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٣) كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ

__________________

(١) المقداد بن عمرو بن ثعلبة بن مالك بن ربيعة بن ثمامة بن مطرود البهراني ، أبو الأسود الزهري ، ويقال : أبو عمرو ، ويقال : أبو معبد ، المعروف بالمقداد بن الأسود ، كان أبوه حليفا لبني كندة ، وكان هو حليفا للأسود بن عبد يغوث الزهري ، فتبنّاه الأسود فنسب إليه ، أسلم قديما ، وشهد بدرا والمشاهد ، وكان فارسا يوم بدر ، مات سنة ثلاث وثلاثين (تهذيب التهذيب ١٠ / ٢٥٤ ، والتقريب ص : ٥٤٥).

(٢) في الأصل : قد. والتصويب من ب.

(٣) في الأصل : نكحل. والمثبت من ب.

(٤) في الأصل : تظهرهم. والتصويب من ب.

(٥) زيادة من ب.

(٦) أخرجه مسلم (٤ / ٢١٩٦ ح ٢٨٦٤).

٥٣١

لَمَحْجُوبُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (١٦) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) (١٧)

قوله تعالى : (كَلَّا) ردع وزجر لهم عن التطفيف ، والغفلة عن ذكر البعث.

وقوله تعالى : (إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ) مبتدأ.

وقال أبو حاتم : "(كَلَّا)" مبتدأ يتصل بما بعده ، على معنى : حقا إن كتاب الفجار (لَفِي سِجِّينٍ). وهو قول الحسن (١).

وكتابهم : كتب أعمالهم.

قال أبو عبيدة (٢) : "(سِجِّينٍ)" فعّيل من السّجن.

قال قتادة ومجاهد والضحاك ومقاتل : "(سِجِّينٍ)" : الأرض السابعة السفلى (٣).

وفي حديث البراء بن عازب أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «سجين أسفل سبع أرضين» (٤).

قال عطاء الخراساني : هي الأرض السابعة ، وفيها إبليس وذريته (٥).

(وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ) على وجه التعظيم لأمره.

__________________

(١) ذكره الواحدي في الوسيط (٤ / ٤٤٣).

(٢) مجاز القرآن (٢ / ٢٨٩).

(٣) أخرجه الطبري (٣٠ / ٩٤ ـ ٩٥). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ٤٤٤) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد. ومن طريق آخر عن قتادة. وانظر : تفسير مقاتل (٣ / ٤٦١).

(٤) أخرجه الطبري (٣٠ / ٩٦). وذكره الماوردي (٦ / ٢٢٧).

(٥) ذكره الواحدي في الوسيط (٤ / ٤٤٤).

٥٣٢

وقال الزجاج (١) : المعنى : ليس سجين مما كنت تعلمه أنت ولا قومك ، ثم فسره فقال : (كِتابٌ مَرْقُومٌ) أي : مكتوب.

وقال غيره : "(مَرْقُومٌ)" أي : مثبت عليهم ، كالرّقم في [الثوب](٢) لا يمحى حتى يجازوا به.

قال صاحب الكشاف (٣) : " سجين" كتاب جامع ، وهو ديوان الشر ، دوّن الله فيه أعمال الشياطين وأعمال الكفرة والفسقة من الجن والإنس ، وهو كتاب مرقوم مسطور بيّن الكتابة ، أو معلم يعلم من رآه أنه لا خير فيه. فالمعنى : أن ما كتب من أعمال الفجار مثبت في ذلك الديوان. وسمي سجّينا : فعّيلا من السّجن ، وهو الحبس والتضييق ؛ لأنه سبب الحبس والتضييق في جهنم ، أو لأنه مطروح كما روي تحت الأرض السابعة في مكان وحش مظلم ، وهو مسكن إبليس وذريته استهانة به وإذالة ، وليشهده الشياطين المدحورون ، كما يشهد ديوان الخير الملائكة المقربون.

وقال الواحدي (٤) : ذكر قوم أن قوله : (كِتابٌ مَرْقُومٌ) تفسير للسّجّين ، وهو بعيد ؛ لأنه ليس السجين من الكتاب المرقوم في شيء ، على ما حكينا عن المفسرين ، فالوجه أن يجعل هذا بيانا للكتاب المذكور في قوله : (إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ) ، على تقدير : هو كتاب مرقوم.

قوله تعالى : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) قال صاحب النظم : هذا منتظم بقوله :

__________________

(١) معاني الزجاج (٥ / ٢٩٨).

(٢) في الأصل : الثبوت. والتصويب من ب.

(٣) الكشاف (٤ / ٧٢٢).

(٤) الوسيط (٤ / ٤٤٤).

٥٣٣

(يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) ، وما بينهما اعتراض (١).

وما بعده مفسّر فيما مضى إلى قوله : (كَلَّا) وهو ردع للمعتدي الأثيم عن قوله : (بَلْ رانَ).

وقرأ حفص : "(بَلْ رانَ)" بإظهار اللام (٢).

قال الزجاج (٣) : الإدغام أجود ؛ لقرب اللام من الراء ، ولغلبة الراء على اللام. وإظهار اللام جائز ؛ لأن اللام من كلمة والراء من كلمة أخرى.

قال (٤) : و" ران" بمعنى غطّى على قلوبهم. يقال : ران على قلبه الذّنب يرين رينا ؛ إذا غشي على قلبه (٥). ويقال : غان على قلبه يغين غينا ، والغين : كالغيم الرقيق ، والرّين : كالصدأ يغشى على القلب.

وقال غيره : الغين يقال بالراء وبالغين ، ففي القرآن : "(كَلَّا بَلْ رانَ)".

وفي الحديث : «إنه ليغانّ على قلبي» (٦) ، وكذلك الراية تقال بالراء والغين ، والرّميصاء تكتب [بالغين](٧) وبالراء ؛ لأن الرّمص يكتب بهما.

__________________

(١) ذكره الواحدي في الوسيط (٤ / ٤٤٥) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٩ / ٥٥).

(٢) الحجة للفارسي (٤ / ١٠٤) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٧٥٤) ، والكشف (١ / ١٨٢) ، والنشر (٢ / ٦٠) ، والإتحاف (ص : ٤٣٥) ، والسبعة (ص : ٦٧٥).

(٣) معاني الزجاج (٥ / ٢٩٩).

(٤) أي : الزجاج.

(٥) انظر : اللسان (مادة : رين).

(٦) أخرجه مسلم (٤ / ٢٠٧٥ ح ٢٧٠٢).

(٧) في الأصل : بالعين. والمثبت من ب.

٥٣٤

قال الحسن في هذه الآية : هو ورود الذنب حتى يعمى القلب (١).

وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكت في قلبه نكتة (٢) ، فإذا هو نزع واستغفر وتاب صقل قلبه ، وإن عاد زيد فيها ، حتى تعلو قلبه ، وهو الرّان الذي ذكر الله : (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ)(٣).

وقال ابن مسعود رضي الله عنه : «إن الرجل ليذنب الذنب فينكت على قلبه نكتة سوداء ، ثم يذنب الذنب فينكت أخرى ، حتى يصير قلبه مثل لون الشاة الرّبداء» (٤).

وقال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه : القلب مثل الكف ، فإذا أذنب العبد انقبض وقبض أصبعا ، ثم إذا أذنب انقبض وقبض أصبعا أخرى ، ثم إذا أذنب انقبض وقبض أصابعه ، ثم يطبع الله على قلبه ، [وكانوا](٥) يرون أن ذلك هو الرّين ، ثم قرأ هذه الآية (٦).

__________________

(١) أخرجه الطبري (٣٠ / ٩٨). وذكره الماوردي (٦ / ٢٢٩) ، والسيوطي في الدر (٨ / ٤٤٧) وعزاه لعبد بن حميد.

(٢) النكتة : أثر قليل كالنّقطة شبه الوسخ في المرآة والسيف ونحوهما (النهاية ٥ / ١١٣).

(٣) لم أقف عليه في صحيح البخاري ، وقد أخرجه الترمذي (٥ / ٤٣٤ ح ٣٣٣٤).

(٤) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (٥ / ٤٤٠ ح ٧٢٠٤). والرّبداء : أي : لونها بين السواد والغبرة (النهاية ٢ / ١٨٣).

(٥) في الأصل : وكا. والتصويب من ب.

(٦) أخرجه البيهقي في الشعب (٥ / ٤٤١ ح ٧٢٠٦) ، وابن أبي حاتم (١٠ / ٣٤٠٩). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ٤٤٦) وعزاه للفريابي والبيهقي.

٥٣٥

قوله تعالى : (كَلَّا) ردع عن الذنوب التي توجب الرّين على القلوب ، (إِنَّهُمْ) يعني : الفجار (عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ).

قال الزجاج (١) : في هذه الآية دليل على أن الله تعالى يرى في القيامة ، لو لا ذلك ما كان في هذه الآية فائدة ، ولا خسّت منزلة الكفار بأنهم يحجبون عن الله عزوجل. وقال الله في المؤمنين : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ* إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) [القيامة : ٢٢ ـ ٢٣] ، فأعلم الله تعالى أن المؤمنين ينظرون إلى الله تعالى ، وأعلم أن الكافرين محجوبون عن الله.

أخبرنا أبو بكر عبد الرزاق بن عبد القادر الجيلي في كتابه ، قال : حدثنا أحمد بن عبد الله بن مرزوق ، أخبرنا جعفر بن أحمد بن عبد الواحد الثقفي ، أخبرنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن عبد الرحيم ، أخبرنا عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان ، حدثنا الفضل بن [الخصيب](٢) ، حدثنا أبو العباس المزني (٣) ، حدثنا أبو إبراهيم المزني ، عن ابن هرم قال : قال الشافعي رحمه‌الله : قول الله تبارك وتعالى : (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) فيه دلالة على أن أولياء الله يرون الله تبارك وتعالى (٤).

__________________

(١) معاني الزجاج (٥ / ٢٩٩).

(٢) في الأصل : الحصيب. والمثبت من ب. وهو الفضل بن الخصيب ابن العباس بن نصر ، المحدث الصدوق الرحال ، أبو العباس الأصبهاني ، توفي في شهر رمضان سنة تسع عشرة وثلاثمائة (سير أعلام النبلاء ١٤ / ٥٥١ ـ ٥٥٢).

(٣) أحمد بن أصرم بن خزيمة بن عباد بن عبد الله بن حسان بن عبد الله بن مغفل ، أبو العباس المزني ، كان ثقة شديدا على أهل البدع ، توفي بدمشق في جمادى الأولى سنة خمس وثمانين ومائتين (تاريخ بغداد ٤ / ٤٤).

(٤) ذكره الواحدي في الوسيط (٤ / ٤٤٦).

٥٣٦

وقال الربيع بن سليمان : كنت ذات يوم عند الشافعي رضي الله عنه وجاءه كتاب من الصعيد يسألونه عن قول الله تعالى : (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) فكتب فيه : لما حجب قوما بالسّخط دلّ على أن قوما يرونه بالرضا. فقلت له : أو تدين بهذا سيدي؟ فقال : والله! لو لم يوقن محمد بن إدريس أنه يرى ربه في المعاد لما عبده في الدنيا (١).

وقال الكلبي عن ابن عباس : إنهم عن النظر إلى رؤية ربهم لمحجوبون ، والمؤمن لا يحجب عن رؤيته (٢).

وقال مقاتل (٣) : إنهم بعد العرض والحساب لا ينظرون إليه نظر المؤمنين إلى ربهم.

وسئل مالك عن هذه الآية قال : حجب أعداءه فلم يروه ، وتجلى لأوليائه حتى رأوه (٤).

وقد ذكرنا في أثناء كتابنا هذا من دلائل الكتاب والسنة وآثار أخبار الأئمة على إثبات رؤية الله تعالى في الآخرة ، ما لا يسع المسلم تركه ، فنسأل الله أن يعيذنا من الزيغ والعناد ، وأن يمتّعنا بالنظر إليه إذا حجب عنه أهل الإلحاد.

ثم أخبر الله سبحانه وتعالى أنهم بعد حجبهم عنه جل وعلا يدخلون النار فقال : (ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ* ثُمَّ يُقالُ) تصغيرا وتحقيرا وتوبيخا (هذَا)

__________________

(١) ذكره الواحدي في الوسيط (٤ / ٤٤٦).

(٢) ذكره الواحدي في الوسيط (٤ / ٤٤٦) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٩ / ٥٦).

(٣) تفسير مقاتل (٣ / ٤٦١).

(٤) ذكره الواحدي في الوسيط (٤ / ٤٤٦) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٩ / ٥٦).

٥٣٧

العذاب (الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ).

(كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (١٨) وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (١٩) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٢٠) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (٢١) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (٢٢) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٢٣) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (٢٤) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (٢٥) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (٢٦) وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (٢٧) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ)(٢٨)

قوله تعالى : (كَلَّا) ردع عن التكذيب. ويجوز أن يكون متصلا بما بعده بمعنى : حقا (إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ).

روى البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «عليين في السماء السابعة تحت العرش» (١).

وقال ابن عباس : هو لوح من زبرجدة خضراء معلق تحت العرش ، أعمالهم مكتوبة فيه (٢).

وقال كعب وقتادة : هو قائمة العرش اليمنى (٣).

__________________

(١) أخرجه أحمد (٤ / ٢٨٧) ، والحاكم (١ / ٩٣ ـ ٩٤ ح ١٠٧) ، والطيالسي (١ / ١٠٢ ح ٧٥٣) ، وابن أبي شيبة (٣ / ٥٤ ـ ٥٥ ح ١٢٠٥٩) ، والبيهقي في الشعب (١ / ٣٥٥ ح ٣٩٥).

(٢) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٩ / ٥٧).

(٣) أخرجه الطبري (٣٠ / ١٠٢). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ٤٤٨) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة.

ومن طريق آخر عن كعب ، وعزاه لعبد بن حميد.

٥٣٨

وقال الضحاك : سدرة المنتهى (١).

وقال الحسن : في علو وصعود إلى الله عزوجل (٢).

قال الزجاج (٣) : أعلى الأمكنة.

قوله تعالى : (وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ* كِتابٌ مَرْقُومٌ) الكلام عليه كالكلام [على](٤) نظيره السابق في هذه السورة.

قال صاحب الكشاف (٥) : " علّيّون" : علم لديوان الخير الذي دوّن فيه كلّ ما عملته الملائكة وصلحاء الثقلين ، منقول من جمع" علّيّ" فعّيل من العلوّ ، كسجّين من السّجن ، سمي بذلك إما لأنه سبب الارتفاع إلى أعالي الدرجات في الجنة ، وإما لأنه مرفوع في السماء السابعة ، حيث يسكن الكروبيّون ، تكريما له وتعظيما.

وقال الواحدي (٦) : " كتاب مرقوم" ليس بتفسير" عليين" ، وهو يحتمل تأويلين :

أحدهما : أن المراد به كتاب أعمالهم ، كما ذكرنا في كتاب الفجار.

الثاني : أنه كتاب في عليين كتب هناك ما أعدّ الله لهم من الكرامة. وهو معنى قول مقاتل (٧) : مكتوب لهم بالخير في ساق العرش.

__________________

(١) أخرجه الطبري (٣٠ / ١٠٢). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ٤٤٨) وعزاه لعبد بن حميد.

(٢) ذكره الماوردي (٦ / ٢٢٩) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٩ / ٥٧).

(٣) معاني الزجاج (٥ / ٢٩٩).

(٤) زيادة من ب.

(٥) الكشاف (٤ / ٧٢٣).

(٦) الوسيط (٤ / ٤٤٧ ـ ٤٤٨).

(٧) تفسير مقاتل (٣ / ٤٦٢).

٥٣٩

ويدل على صحة هذا قوله : (يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) يعني : الملائكة الذين هم في عليين يشهدون ويحضرون ذلك المكتوب.

قوله تعالى : (عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ) سبق تفسير الأرائك ، [وأنها](١) السّرر في الحجال. والمعنى : ينظرون إلى ما أعطاهم الله من الكرامة.

وقيل : ينظرون إلى أعدائهم يعذّبون في النار.

قال بعض العلماء (٢) : ما تحجب الحجال أبصارهم عن الإدراك.

(تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) يعني : بهجته ورونقه.

وقرأت على شيخنا أبي البقاء العكبري رحمه‌الله لأبي جعفر ويعقوب : " تعرف" بضم التاء وفتح الراء ، على البناء للمفعول ، " نضرة" بالرفع (٣).

(يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ) الرّحيق : الخمر (٤) ، في قول جمهور المفسرين واللغويين.

قال الخليل بن أحمد : هو أجود الخمر (٥).

قال الأخفش : هو الخالص من الغش (٦).

__________________

(١) في الأصل : أنها. والتصويب من ب.

(٢) هو قول الزمخشري في الكشاف (٤ / ٧٢٤).

(٣) النشر (٢ / ٣٩٩) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٤٣٥).

(٤) أخرجه مجاهد (ص : ٧٣٩) ، والطبري (٣٠ / ١٠٥ ـ ١٠٦) ، وابن أبي حاتم (١٠ / ٣٤١٠).

وانظر : الدر المنثور (٨ / ٤٥١).

(٥) ذكره الماوردي (٦ / ٢٣٠) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٩ / ٥٨).

(٦) مثل السابق.

٥٤٠