رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٨

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي

رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٨

المؤلف:

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي


المحقق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الأسدي للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٨٨

سورة التكوير

بسم الله الرّحمن الرّحيم

وهي تسع وعشرون آية. وهي مكية بإجماعهم (١).

(إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (١) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (٢) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (٤) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (٥) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (٦) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (٧) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (٨) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (٩) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (١٠) وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (١١) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (١٢) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (١٣) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ)(١٤)

أخرج الحاكم في صحيحه من حديث ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أحب أن ينظر في يوم القيامة فليقرأ : (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ)(٢).

واختلفوا في معنى : " كوّرت" ؛ فقال جمهور المفسرين واللغويين : هو من كوّرت العمامة ؛ إذا [لففتها](٣).

__________________

(١) انظر : البيان في عدّ آي القرآن (ص : ٢٦٥).

(٢) أخرجه الحاكم (٢ / ٥٦٠ ح ٣٩٠٠).

(٣) في الأصل : لفيتها. والتصويب من ب. وقد ذكر هذا المعنى : الطبري (٣٠ / ٦٤) ، والواحدي في الوسيط (٤ / ٤٢٨) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٩ / ٣٨).

٥٠١

فالمعنى : يلفّ ضوؤها لفّا ، [فيذهب](١) انبساطه في الآفاق.

وهذا معنى قول ابن عباس : أظلمت (٢).

وقول مجاهد : اضمحلّت (٣).

وقول سعيد بن جبير : غوّرت (٤).

وقال الربيع بن خثيم : يرمى بها في البحر فتصير نارا (٥).

وقيل : ترمى في النار.

وقيل : تعاد إلى ما خلقت منه.

وقيل : هو من قولهم : طعنه فكوّره ؛ إذا ألقاه (٦). فالمعنى : تلقى وتطرح من فلكها.

قوله تعالى : (وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) أي : تناثرت وتساقطت. يقال : انكدر الطائر من الهواء ؛ إذا انقضّ (٧).

__________________

(١) في الأصل : فذهب. والتصويب من ب.

(٢) أخرجه الطبري (٣٠ / ٦٤) ، وابن أبي حاتم (١٠ / ٣٤٠٢). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ٤٢٦) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في البعث.

(٣) أخرجه الطبري (٣٠ / ٦٤). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ٤٢٧) وعزاه لعبد بن حميد.

(٤) أخرجه الطبري (٣٠ / ٦٤) ، وابن أبي حاتم (١٠ / ٣٤٠٢). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ٤٢٦) وعزاه لابن أبي حاتم.

(٥) أخرجه الطبري (٣٠ / ٦٤). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ٤٢٨) وعزاه لسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر.

(٦) انظر : اللسان (مادة : كور).

(٧) انظر : اللسان (مادة : كدر).

٥٠٢

وأنشدوا قول العجّاج (١) :

أبصر خربان فضاء فانكدر

تقضّي البازي إذا البازي [كسر](٢)

قال عطاء وابن السائب : تمطر السماء يومئذ نجوما ، فلا يبقى نجم في السماء إلا وقع على الأرض ؛ وذلك أنها في قناديل معلّقة بين السماء والأرض بسلاسل من النور ، وتلك السلاسل بأيدي ملائكة ، فإذا مات من في السموات ومن في الأرض تساقطت تلك السلاسل من أيدي الملائكة ؛ لأنه مات من كان يمسكها (٣).

قوله تعالى : (وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ) أزيلت عن أماكنها.

قال مقاتل (٤) : سويّت بالأرض كما خلقت أول مرة ، ليس عليها جبل ولا فيها واد.

وقيل : سيرت في الجو ، كقوله : (وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) [النمل : ٨٨].

__________________

(١) البيت للعجاج يصف بازيا. انظر : ديوانه (ص : ٢٨) ، واللسان (مادة : ظفر) ، وتاج العروس (مادة : خرب ، ظفر) ، والقرطبي (١٩ / ٢٢٧) ، والماوردي (٦ / ٢١٢) ، والبحر (٨ / ٤٢٢) ، والدر المصون (٦ / ٤٨٤).

ورواية الديوان :

دانى جناحيه من الطور فمرّ

تقضي البازي إذا البازي كسر

أبصر خربان فضاء فانكدر

شاكي الكلاليب إذا أهوى اطّفر

وانظر أيضا : الخصائص (٢ / ٩٠) ، وأمالي القالي (٢ / ١٧١) ، والمحتسب (١ / ١٥٧) ، ومجاز القرآن (٢ / ٣٠٠) ، وابن يعيش (١٠ / ٢٥٠) ، والهمع (٢ / ١٥٧) ، والأشموني (٤ / ٣٣٦) ، والطبري (١ / ٣٢٤) ، وروح المعاني (٣٠ / ٥٠).

(٢) في الأصل : كرر. والتصويب من ب ، ومصادر البيت.

(٣) ذكره الواحدي في الوسيط (٤ / ٤٢٨).

(٤) تفسير مقاتل (٣ / ٤٥٥).

٥٠٣

قوله تعالى : (وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ) العشار : جمع عشراء ، وهي الناقة الحامل إذا أتت عليها عشرة أشهر ، ثم هو اسمها إلى أن تضع لتمام السنة ، وهي أنفس ما تكون عند أهلها (١).

ومعنى : " عطّلت" : تركت مهملة مسيّبة ؛ لما دهمهم من أهوال يوم القيامة.

قوله تعالى : (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) قال ابن عباس : ماتت (٢).

وقال جماعة من الصحابة والتابعين : جمعت فاختلطت بالناس من هول القيامة.

وقال السدي وغيره : حشرت لفصل القضاء ، حتى يقتص للجمّاء من القرناء (٣).

قوله تعالى : (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) قرأ ابن كثير وأبو عمرو : " سجرت" بتخفيف الجيم. وشددها الباقون على التكثير (٤).

قال ابن عباس : أوقدت فصارت نارا تضطرم (٥).

فعلى هذا ؛ هو من سجرت التّنّور ؛ إذا أحميته ، ورجل أسجر العين ؛ إذا كانت

__________________

(١) انظر : اللسان (مادة : عشر).

(٢) أخرجه الطبري (٣٠ / ٦٧) ، والحاكم (٢ / ٥٦٠ ح ٣٩٠١). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ٤٢٨ ـ ٤٢٩) وعزاه للفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه والحاكم وصححه.

(٣) ذكره الماوردي (٦ / ٢١٣).

(٤) الحجة للفارسي (٤ / ١٠٠) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٧٥٠) ، والكشف (٢ / ٣٦٣) ، والنشر (٢ / ٣٩٨) ، والإتحاف (ص : ٤٣٤) ، والسبعة (ص : ٦٧٣).

(٥) ذكره الواحدي في الوسيط (٤ / ٤٢٨).

٥٠٤

فيه حمرة (١).

وقيل : هو مثل قوله تعالى : (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) [الطور : ٦] أي : المملوء.

قالوا : ومعنى : سجرت التنور : ملأته حطبا.

قال مجاهد والضحاك ومقاتل وابن السائب وغيرهم : فجّر بعضها إلى بعض ، فصارت بحرا واحدا (٢).

وهو معنى قول الربيع بن خثيم : فاضت (٣).

وقول الفراء (٤) : ملئت وكثر ماؤها.

قال المفسرون : صارت مياهها بحرا واحدا من الحميم لأهل النار.

وقال الحسن البصري رحمه‌الله وقتادة : " سجّرت" : يبست وذهب ماؤها (٥).

قوله تعالى : (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) أي : قرنت بأشكالها.

قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد سئل عن هذه الآية : يقرن الرجل الصالح مع الرجل الصالح في الجنة ، ويقرن الرجل السوء مع الرجل

__________________

(١) انظر : اللسان (مادة : سجر).

(٢) ذكره مقاتل (٣ / ٤٥٥) ، والطبري (٣٠ / ٦٨) ، والماوردي (٦ / ٢١٣) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٩ / ٣٩).

(٣) أخرجه الطبري (٣٠ / ٦٨). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ٤٢٨) وعزاه لسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر.

(٤) معاني الفراء (٣ / ٢٣٩).

(٥) أخرجه الطبري (٣٠ / ٦٨) عن الحسن وقتادة ، وابن أبي حاتم (١٠ / ٣٤٠٣) عن قتادة. وذكره السيوطي في الدر (٨ / ٤٢٧ ـ ٤٢٩) وعزاه لعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن قتادة. ومن طريق آخر عن الحسن والضحاك وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر.

٥٠٥

السوء في النار (١). وهذا قول الحسن وقتادة.

وقال [الشعبي](٢) : ردت الأرواح إلى الأجساد (٣).

وعن عكرمة كالقولين (٤).

وقال عطاء : زوّجت نفوس المؤمنين بالحور العين (٥).

قوله تعالى : (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ* بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) قال المفسرون واللغويون : الموؤودة : البنت تدفن وهي حيّة. وكان هذا من فعل الجاهلية ، على ما أشرنا إليه في مواضع.

قال الزجاج (٦) : ومعنى سؤالها : تبكيت قاتليها في القيامة ؛ لأن جوابها : قتلت بغير ذنب.

وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وأبو عبد الرحمن : " سألت" بفتح السين والهمزة ، " قتلت" بسكون اللام وضم التاء (٧) ، على

__________________

(١) أخرجه الطبري (٣٠ / ٦٩) ، وابن أبي حاتم (١٠ / ٣٤٠٤) ، والحاكم (٢ / ٥٦٠ ح ٣٩٠٢) ، وابن أبي شيبة (٧ / ٩٩ ح ٣٤٤٩٢). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ٤٢٩) وعزاه لعبد الرزاق وابن أبي شيبة وسعيد بن منصور والفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم وصححه والبيهقي في البعث وأبي نعيم في الحلية.

(٢) في الأصل : الحسن. والتصويب من ب. وانظر : زاد المسير (٩ / ٣٩).

(٣) أخرجه الطبري (٣٠ / ٧٠). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ٤٣٠) وعزاه لابن المنذر.

(٤) أخرجه الطبري (٣٠ / ٧٠). وذكره الماوردي (٦ / ٢١٤) ، والواحدي في الوسيط (٤ / ٤٢٩).

(٥) ذكره الواحدي في الوسيط (٤ / ٤٢٩) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٩ / ٣٩).

(٦) معاني الزجاج (٥ / ٢٩٠).

(٧) انظر هذه القراءة في : زاد المسير (٩ / ٤٠) ، والدر المصون (٦ / ٤٨٦).

٥٠٦

معنى : سألت ربها أو قاتلها على وجه الخصام والطلب بحقها.

أخرج أبو داود من حديث ابن مسعود : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الوائدة والموؤودة في النار» (١).

قوله تعالى : (وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ) قرأ نافع وعاصم وابن عامر : " نشرت" بالتخفيف. وقرأ الباقون بالتشديد على معنى التكثير (٢).

والمراد : نشر صحف الأعمال يوم الحساب.

قوله تعالى : (وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ) قال الزجاج (٣) : قلعت كما يقلع السقف.

وقرأ ابن مسعود : " قشطت" بالقاف (٤). والمعنى واحد.

قال الفراء وغيره (٥) : القاف والكاف يتعاقبان لتقاربهما ، قالوا : قشط وكشط ، وقافور وكافور ، ولبكت الثّريد ولبقته.

قوله تعالى : (وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ) قرأ نافع وابن عامر بخلاف عنه وحفص : " سعّرت" بالتشديد. وقرأ الباقون بالتخفيف (٦).

والمعنى : أو قدت إيقادا شديدا.

__________________

(١) أخرجه أبو داود (٤ / ٢٣٠ ح ٤٧١٧).

(٢) الحجة للفارسي (٤ / ١٠٠) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٧٥١) ، والكشف (٢ / ٣٦٣) ، والنشر (٢ / ٣٩٨) ، والإتحاف (ص : ٤٣٤) ، والسبعة (ص : ٦٧٣).

(٣) معاني الزجاج (٥ / ٢٩١).

(٤) انظر هذه القراءة في : زاد المسير (٩ / ٤٠) ، والدر المصون (٦ / ٤٨٦).

(٥) معاني الفراء (٣ / ٢٤١).

(٦) الحجة للفارسي (٤ / ١٠٠) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٧٥١) ، والكشف (٢ / ٣٦٣) ، والنشر (٢ / ٣٩٨) ، والإتحاف (ص : ٤٣٤) ، والسبعة (ص : ٦٧٣).

٥٠٧

قوله تعالى : (وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ) أي : أدنيت وقرّبت من المتقين ، كما قال : (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ) [ق : ٣١].

فصل

اعلم أن هذه اثنتا عشرة خصلة ، ستة منها بين يدي الساعة ، وستة في الآخرة.

فإن قيل : أين جواب : (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) [التكوير : ١] وما في [حيزه](١)؟

قلت : قوله : (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) أي : من خير وشر.

فإن قيل : كل نفس تعلم ما أحضرت ، فما معنى قوله عزوجل : (عَلِمَتْ نَفْسٌ)؟

قلت : قد أجاب عنه الزمخشري فقال (٢) : هو من عكس كلامهم الذي يقصدون به الإفراط فيما يعكس عنه. ومنه قوله عزوجل : (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) [الحجر : ٢] ومعناه : معنى كم ، وأبلغ منه قول القائل :

قد أترك القرن مصفرّا أنامله

 ...................(٣)

وتقول لبعض قواد العساكر : كم عندك من الفرسان؟ فيقول : رب فارس عندي ، أو لا تعدم عندي فارسا ، وعنده المقانب (٤). وقصده بذلك : التمادي في تكثير فرسانه. ولكنه أراد إظهار براءته من التّزيّد ، وأنه ممن يقلّل كثير ما عنده ،

__________________

(١) في الأصل : خبره. والمثبت من ب.

(٢) الكشاف (٤ / ٧١٠).

(٣) صدر بيت للهذلي ، وعجزه : (كأن أثوابه مجّت بفرصاد). وهو في : اللسان (مادة : قدد ، أسن) ، وتاج العروس (مادة : قدد) ، والكتاب (٤ / ٢٢٤) ، والدر المصون (١ / ٤٧) ، وروح المعاني (٧ / ١٣٤).

(٤) المقانب : جماعة الخيل (الصحاح ، مادة : قنب).

٥٠٨

فضلا أن يتزيّد ، فجاء بلفظ التقليل ، ففهم منه معنى [الكثرة](١) عن الصحة واليقين.

ويروى أن ابن مسعود رضي الله عنه سمع قارئا يقرأ هذه السورة ، فلما انتهى إلى قوله : (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) قال : وانقطاع ظهراه (٢).

(فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (١٥) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (١٦) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (١٧) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (١٨) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (١٩) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (٢٠) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (٢١) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (٢٢) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (٢٣) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (٢٤) وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (٢٥) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (٢٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٢٧) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (٢٨) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ)(٢٩)

قوله تعالى : (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ* الْجَوارِ الْكُنَّسِ) قال الزجاج وغيره (٣) : " لا" مزيدة مؤكدة. والمعنى : فأقسم بالخنس.

والخنّس : جمع خانس وخانسة ، والكنّس : جمع كانس وكانسة ، والجواري : جمع جارية ، وعامة المفسرين يقولون : هي النجوم.

قال ابن قتيبة (٤) : وإنما سمّاها خنّسا ؛ لأنها تسير في البروج والمنازل كسير

__________________

(١) في الأصل : التكثير. والمثبت من ب ، والكشاف (٤ / ٧١٠).

(٢) انظر هذه القراءة في : الكشاف (٤ / ٧١٠) ، والبحر (٨ / ٤٢٥).

(٣) معاني الزجاج (٥ / ٢٩١).

(٤) تفسير غريب القرآن (ص : ٥١٧).

٥٠٩

الشمس والقمر ، ثم تخنس ، أي : ترجع ، بينا ترى أحدها في آخر البروج كرّ راجعا إلى أوله ، وسمّاها كنّسا ؛ لأنها تكنس ، أي : تستتر ، كما تكنس الظباء.

قال قتادة : تبدو بالليل وتخفى بالنهار فلا ترى (١).

قال الزجاج (٢) : تخنس : أي : تغيب ، (وكذلك تكنس ، أي : تدخل في كناسها أي : تغيب) (٣) في المواضع (٤) التي تغيب فيها.

ويروى : أن رجلا من مراد قال لعلي عليه‌السلام : ما الخنّس الجواري الكنّس؟

قال : هي الكواكب تخنس بالنهار فلا ترى ، وتكنس بالليل فتأوي إلى مجاريها. قال : وهن : بهرام ، وزحل ، وعطارد ، والزهرة ، والمشتري (٥).

قال الماوردي (٦) : وفي تخصيصها بالذكر وجهان :

أحدهما : [لأنها](٧) تستقبل الشمس. وهذا قول بكر بن عبد الله المزني.

والثاني : لأنها تقطع المجرّة. وهذا قول ابن عباس.

__________________

(١) أخرجه الطبري (٣٠ / ٧٥). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ٤٣٢) وعزاه لعبد بن حميد.

(٢) معاني الزجاج (٥ / ٢٩٢).

(٣) ما بين القوسين سقط من ب.

(٤) في ب : الموضع.

(٥) أخرجه الطبري (٣٠ / ٧٤ ـ ٧٥) ، وابن أبي حاتم (١٠ / ٣٤٠٤). وذكره الماوردي (٦ / ٢١٦) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٩ / ٤٢) ، والسيوطي في الدر (٨ / ٤٣١) وعزاه لسعيد بن منصور والفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه.

(٦) تفسير الماوردي (٦ / ٢١٦).

(٧) في الأصل : أنها. والتصويب من ب ، وتفسير الماوردي ، الموضع السابق.

٥١٠

وذهب جماعة ، منهم : ابن مسعود ، وإبراهيم النخعي ، وجابر بن زيد ، إلى أنها : بقر الوحش (١).

وقال سعيد بن جبير وابن عباس في رواية العوفي عنه : هي الظباء (٢).

والمراد بانخناسها : رجوعها بعد جريها إلى كناسها ، وهو اسم للمكان الذي تأوي إليه ؛ لأنها تكنس فيه ، أي : تدخل وتستتر.

قوله تعالى : (وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ) يقال : عسعس الليل ، وقد يقلب فيقال : سعسع. قال اللغويون : هو من الأضداد ، يقال : عسعس الليل ؛ إذا أقبل ، وعسعس ؛ إذا أدبر (٣). وأنشدوا :

حتى إذا الصبح لها تنفّسا

وانجاب عنها ليلها وعسعسا (٤)

والمعنيان مذكوران في التفسير ، ورجح بعضهم المعنى الثاني بقوله : (وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ). قال [الزجاج](٥) : تنفّس الصبح : امتدّ وصار نهارا بيّنا.

__________________

(١) أخرجه الطبري (٣٠ / ٧٥ ـ ٧٦) ، وابن أبي حاتم (١٠ / ٣٤٠٥) ، والحاكم (٢ / ٥٦٠ ح ٣٩٠٣) ، والطبراني في الكبير (٩ / ٢١٩ ح ٩٠٦٣) ، وابن سعد في الطبقات (٦ / ١٠٦). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ٤٣١ ـ ٤٣٢) وعزاه لعبد الرزاق وسعيد بن منصور والفريابي وابن سعد وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه من طرق عن ابن مسعود.

(٢) أخرجه الطبري (٣٠ / ٧٦). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ٤٣٢) وعزاه لابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس.

(٣) انظر : اللسان (مادة : عسس).

(٤) البيت لعلقمة بن قرط. وهو في : الطبري (٣٠ / ٧٩) ، والقرطبي (١٩ / ٢٣٨) ، ومجاز القرآن (٢ / ٢٨٨) ، وزاد المسير (٩ / ٤٣) ، والبحر (٨ / ٤٢٢) ، والماوردي (٦ / ٢١٧) ، وروح المعاني (٣٠ / ٥٨). ونسبه السمين الحلبي في الدر المصون (٦ / ٤٨٧) للعجاج.

(٥) معاني الزجاج (٥ / ٢٩٢). وما بين المعكوفين زيادة من ب.

٥١١

ثم ذكر جواب القسم فقال : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ).

قال الزجاج (١) : يعني : القرآن نزل به جبريل عليه‌السلام.

ثم وصف جبريل بقوله : (ذِي قُوَّةٍ) ، فهو كقوله : (شَدِيدُ الْقُوى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى) [النجم : ٥ ـ ٦] والمعنى : ذي قوة على أعداء الله ، (عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ) صاحبه وهو الله عزوجل (مَكِينٍ) رفيع المنزلة والمكانة عند ذي العرش.

(مُطاعٍ) في الملائكة ممتثل الأمر فيهم ، علما منهم بأن إيراده وإصداره منوط بإذن رب العزة جل وعلا.

قال المفسرون : من طاعة الملائكة لجبريل عليه‌السلام : أنه أمر خازن الجنة ليلة المعراج حتى فتح لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبوابها فدخلها ، ورأى ما فيها ، وأمر خازن النار ففتح له عنها حتى نظر إليها (٢).

وقال بعض العلماء (٣) : (ثَمَ) إشارة إلى الظرف [المذكور](٤) ، وهو : عند ذي العرش ، فالمعنى : مطاع في ملائكة الله المقربين.

وقرئ : " ثمّ" بضم الثاء (٥) ؛ تعظيما لأمانة جبريل ، وبيانا لأنها أفضل صفاته المعدودة.

وقد سبق في غير موضع : أن جبريل عليه‌السلام أمين الوحي ورسول الله إلى

__________________

(١) معاني الزجاج (٥ / ٢٩٢).

(٢) ذكره الواحدي في الوسيط (٤ / ٤٣١) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٩ / ٤٣).

(٣) هذا قول الزمخشري في الكشاف (٤ / ٧١٣).

(٤) زيادة من ب ، والكشاف ، الموضع السابق.

(٥) انظر هذه القراءة في : زاد المسير (٩ / ٤٣) ، والدر المصون (٦ / ٤٨٧).

٥١٢

أنبيائه.

قوله تعالى : (وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ) يعني : [محمدا](١) صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وكان كفار مكة رموه بالجنون ، فسلب عنه ما أثبتوه له بهتا وعنادا منهم. ونسبته إليهم بقوله : " وما صاحبكم (٢) " كلام يلوح منه التوبيخ لهم ، والإشعار بأنهم كذبة عند أنفسهم.

المعنى : وما صاحبكم الذي صحبتموه الزمان الطويل وعرفتموه بضدّ ما به قرفتموه ، وما زال مشهورا بينكم بالرزانة ، موصوفا بالأمانة ، بمجنون ، فكيف استجزتم لأنفسكم عظيم الاجتراء على المكابرة والافتراء؟

قوله تعالى : (وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) أي : رأى ربه.

وقيل : جبريل ، رآه على صورته التي خلق عليها ، بالأفق التي تطلع منه الشمس ، فتبيّن الأشياء وتظهرها. وقد ذكرنا ذلك في النجم (٣).

قوله تعالى : (وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ) أي : وما محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما يخبر به من الغيب من الوحي والإخبار عما كان ويكون بظنين.

قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي : " بظنين" بالظاء ، أي : بمتّهم على ما يخبر به من ذلك عن الله عزوجل. وقرأ الباقون : "(بِضَنِينٍ)" بالضاد (٤) ، من الضّنّ ، وهو البخل ، أي : وما هو ببخيل فيبخل عليكم بما ينفعكم من الوحي.

__________________

(١) في الأصل : محمد. والتصويب من ب.

(٢) في الأصل زيادة قوله : بمجنون.

(٣) عند الآية رقم : ٧.

(٤) الحجة للفارسي (٤ / ١٠١) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٧٥٢) ، والكشف (٢ / ٣٦٤) ، والنشر (٢ / ٣٩٨ ـ ٣٩٩) ، والإتحاف (ص : ٤٣٤) ، والسبعة (ص : ٦٧٣).

٥١٣

والقراءة بالظاء أشبه بسياق الآية ، وهو في مصحف ابن مسعود : بالظاء ، وفي مصحف أبيّ : بالضاد.

قوله تعالى : (وَما هُوَ) يعني : القرآن (بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) نفي لقول كفار مكة : هذا كهانة.

قال مقاتل (١) : قال كفار مكة : إنما تجيء به الشياطين ، فتلقيه على لسان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قوله تعالى : (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) قال الزجاج (٢) : أيّ طريق تسلكون أبين من هذه الطريقة التي بيّنت لكم.

وقال غيره (٣) : هذا استضلال للكفار ، كما يقال لتارك الجادة اعتسافا أو ذهابا (٤) في بنيات الطريق : أين تذهب ؛ مثّلت حالهم بحاله في تركهم الحق ، وعدولهم عنه إلى الباطل.

قوله تعالى : (إِنْ هُوَ) يعني : القرآن (إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) [موعظة للخلق أجمعين.

(لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ) بدل من"(لِلْعالَمِينَ)" (٥)](٦).

__________________

(١) تفسير مقاتل (٣ / ٤٥٧).

(٢) معاني الزجاج (٥ / ٢٩٣).

(٣) هو قول الزمخشري في الكشاف (٤ / ٧١٤).

(٤) في ب : وذهابا.

(٥) انظر : التبيان (٢ / ٢٨٢) ، والدر المصون (٦ / ٤٨٧).

(٦) زيادة من ب.

٥١٤

وإنما صح إبدال الذين [شاؤوا الاستقامة](١) من" العالمين" ؛ لأنهم لموضع اختصاصهم بالنفع ، كأنه لم يوعظ به سواهم ، وإن كان الوعظ بالقرآن للجميع أن يستقيم على الحق والإيمان.

والمعنى : أن القرآن إنما يتّعظ به من استقام على الحق.

ثم أعلم أن المشيئة في التوفيق إليه فقال : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ).

قال أبو هريرة وسليمان بن موسى : لما نزلت : (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) قال أبو جهل : الأمر إلينا ، إن شئنا استقمنا ، وإن شئنا لم نستقم ، فأنزل الله : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ)(٢).

فصل

ذهب جماعة من نقلة التفسير إلى أن قوله : (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) ، وقوله في عبس : (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) [عبس : ١٢] ، وقوله في الإنسان وفي المزمل (٣) : (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) منسوخ بقوله : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ)(٤).

__________________

(١) في الأصل : شاء بالإستقامة. والتصويب من ب.

(٢) أخرجه الطبري (٣٠ / ٨٤). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ٤٣٦) وعزاه لابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة. ومن طريق آخر عن سليمان بن موسى ، وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم. وانظر : أسباب النزول للواحدي (ص : ٤٧٣).

(٣) في سورة الإنسان عند الآية رقم : ٢٩ ، وفي المزمل عند الآية رقم : ١٩.

(٤) انظر : الناسخ والمنسوخ لابن سلامة (ص : ١٥٩) ، والناسخ والمنسوخ لابن حزم (ص : ٦٤) ، ونواسخ القرآن لابن الجوزي (ص : ٥٠٠) قال : وليس هذا بكلام من يدري ما يقول.

٥١٥

وهذا ليس بصحيح ؛ لأنه لا تنافي بين ما ادّعوه ناسخا ومنسوخا ، وإنما هو إعلام أن مشيّتهم منوطة بمشيّته سبحانه وتعالى ، والأمر كذلك.

قال الحسن : والله ما شاءت العرب الإسلام حتى شاء الله لها (١).

__________________

(١) ذكره القرطبي (١٩ / ٢٤٣).

٥١٦

سورة الانفطار

بسم الله الرّحمن الرّحيم

وهي تسع عشرة آية ، وهي مكية بإجماعهم (١).

(إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (١) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (٢) وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (٤) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (٥) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (٦) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (٧) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (٨) كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (٩) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (١٠) كِراماً كاتِبِينَ (١١) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ)(١٢)

قال الله سبحانه وتعالى : (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) يعني : انشقت ، كقوله : (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ) [الفرقان : ٢٥].

(وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ) تساقطت.

قال ابن عباس : تسقط سودا لا ضوء لها (٢).

(وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ) فتح بعضها إلى بعض ، فامتزج العذب بالملح وصارت بحرا واحدا.

__________________

(١) انظر : البيان في عدّ آي القرآن (ص : ٢٦٦).

(٢) ذكره الماوردي (٦ / ٢٢٠).

٥١٧

(وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ) أي : بحثرت وقلبت ؛ لبعث من فيها من الموتى.

وقال الفراء (١) : تخرج ما في بطنها من الذهب والفضة ، وذلك من أشراط الساعة أن تخرج الأرض ذهبها وفضّتها ، ثم تخرج الموتى.

وجواب" إذا" : (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) وهو مفسّر في قوله : (يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ) [القيامة : ١٣].

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) الإنسان : اسم جنس ، يريد : الكافر.

وقال ابن عباس : يريد : أبا الأشدّين (٢) ، وقد ذكرناه في المدثر (٣).

وقال عطاء : يريد : الوليد بن المغيرة (٤).

وقال عكرمة : أبيّ بن خلف (٥).

والاستفهام في معنى [إنكار](٦) الاغترار به جلّت عظمته.

قال الزجاج (٧) : ما خدعك وسوّل لك ، حتى أضعت ما وجب عليك.

وقال غيره : المعنى : ما غرّك بربك الكريم المتجاوز عنك ، إذ لم يعاجلك بالعقوبة.

__________________

(١) معاني الفراء (٣ / ٢٤٣).

(٢) ذكره الماوردي (٦ / ٢٢١) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٩ / ٤٧).

(٣) عند الآية رقم : ٣٠.

(٤) ذكره الواحدي في الوسيط (٤ / ٤٣٤) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٩ / ٤٧).

(٥) أخرجه ابن أبي حاتم (١٠ / ٣٤٠٨). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ٤٣٩) وعزاه لابن المنذر.

(٦) في الأصل : الإنكار. والتصويب من ب.

(٧) معاني الزجاج (٥ / ٢٩٥).

٥١٨

قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه : غرّه والله! جهله وحمقه (١).

وقال الحسن : غرّه والله! شيطانه الخبيث (٢).

وقال قتادة : غرّه عدوّه المسلّط عليه (٣).

قال مقاتل (٤) : غرّه عفو الله عنه ، حين لم يعاقبه في أول مرة.

وقيل لفضيل بن عياض : لو أقامك الله فقال : ما غرك بربك الكريم؟ ماذا كنت تقول؟ قال : أقول : غرّني سترك المرخى (٥). فنظمه محمد بن السماك فقال رضي الله عنهما :

يا كاتم الذّنب أما تستحي

والله في الخلوة ثانيكا

غرّك من ربك إمهاله

وستره طول مساويكا

وقال يحيى بن معاذ الرازي : لو أقامني الله بين يديه وقال : ما غرّك بي؟ لقلت : غرّني بك برّك بي سالفا وآنفا (٦).

قوله تعالى : (فَسَوَّاكَ) أي : فجعلك سويا سالم الأعضاء (فَعَدَلَكَ) تعديلا متناسبا.

__________________

(١) أخرجه ابن أبي حاتم (١٠ / ٣٤٠٨). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ٤٣٩) وعزاه لسعيد بن منصور وابن أبي حاتم وابن المنذر.

(٢) ذكره القرطبي (١٩ / ٢٤٥).

(٣) أخرجه الطبري (٣٠ / ٨٧). وذكره الواحدي في الوسيط (٤ / ٤٣٤).

(٤) تفسير مقاتل (٣ / ٤٥٨) وفيه : غرّه الشيطان. وانظر قول مقاتل في : الوسيط (٤ / ٤٣٤).

(٥) ذكره الواحدي في الوسيط (٤ / ٤٣٥) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٩ / ٤٧).

(٦) مثل السابق.

٥١٩

قرأ أهل الكوفة : " فعدلك" بتخفيف الدال. وقرأ الباقون : بالتشديد (١).

قيل : هما بمعنى واحد.

وقيل : " عدلك" بالتخفيف ، بمعنى : صرفك.

قال الفراء (٢) : صرفك إلى أي صورة شاء.

وقال غيره (٣) : صرفك إلى خلقة حسنة مفارقة لسائر الخلق.

قوله تعالى : (فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ)" ما" مزيدة.

والمعنى : في أي صورة شاء ، حسنة أو قبيحة ، أو طويل أو قصير ، أو ذكر أو أنثى ، ركّبك.

وقال مجاهد : في أي صورة من صور القرابات (٤).

أخبرنا أبو الحسن المؤيد بن محمد في كتابه ، أخبرنا عبد الجبار بن أحمد بن محمد الخواري ، أخبرنا علي بن أحمد النيسابوري ، أخبرنا أبو معمر المفضل بن إسماعيل بجرجان ، أخبرنا جدي أبو بكر الإسماعيلي ، أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسن النحاس ، حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا مطهّر بن الهيثم الطائي (٥) ، حدثنا موسى بن

__________________

(١) الحجة للفارسي (٤ / ١٠٢) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٧٥٢ ـ ٧٥٣) ، والكشف (٢ / ٣٦٤) ، والنشر (٢ / ٣٩٩) ، والإتحاف (ص : ٤٣٤) ، والسبعة (ص : ٦٧٤).

(٢) معاني الفراء (٣ / ٢٤٤).

(٣) هو قول الزمخشري في الكشاف (٤ / ٧١٦).

(٤) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٩ / ٤٨).

(٥) مطهر بن الهيثم بن الحجاج الطائي البصري ، متروك الحديث (تهذيب التهذيب ١٠ / ١٦٣ ، والتقريب ص : ٥٣٥).

٥٢٠