رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٨

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي

رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٨

المؤلف:

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي


المحقق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الأسدي للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٨٨

قال ميمون بن مهران : قال لها : أبو بكر خليفة من بعدي (١).

قال جماعة من المفسرين : قال لها لما رأى عندها من الغيرة والكراهية : إني مسرّ إليك شيئين : إني قد حرّمت مارية على نفسي ، وإن الخلافة من بعدي في أبي بكر وعمر.

(فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ) أخبرت حفصة عائشة بالحديث ، (وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ) أطلع الله نبيه على قول حفصة لعائشة ، (عَرَّفَ بَعْضَهُ) أعلم حفصة ببعض ما أفشت عليه من السّرّ (وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ) تكرما.

قال سفيان : ما زال التغافل من فعل الكرام (٢).

وقرأ الكسائي : " عرف" بتخفيف الراء (٣) ، أي : جازى عليه. [تقول](٤) : أنا أعرف لأهل الإحسان ، وأعرف لأهل الإساءة ، أي : لا أقصّر في [مجازاتهم](٥). وعليه حملوا قوله تعالى : (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ) [البقرة : ١٩٧] أي : يجازيكم به الله.

ولا يجوز أن تحمل هذه القراءة على العلم ؛ لأن الله قد أعلمه بالحديث كله ، وأحاط النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم به علما.

قال المفسرون : جازاها عليه بطلاقها.

__________________

(١) ذكره السيوطي في الدر المنثور (٨ / ٢١٩) وعزاه لابن عساكر.

(٢) ذكره الزمخشري في الكشاف (٤ / ٥٦٩ ـ ٥٧٠).

(٣) الحجة للفارسي (٤ / ٥٠) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٧١٣) ، والكشف (٢ / ٣٢٥) ، والنشر (٢ / ٣٨٨) ، والإتحاف (ص : ٤١٩) ، والسبعة (ص : ٦٤٠).

(٤) في الأصل : بقوله. والتصويب من ب.

(٥) في الأصل : مجازتهم. والمثبت من ب.

١٨١

فإن قيل : ما معنى مجازاتها على بعض إفشائها السر؟

قلت : تخفيف ما جازاها به بالنسبة إلى ما كانت تستحقه في مقابلة إظهار سره ، ومخالفة أمره.

فإن قيل : ما البعض الذي عرّفها به ، على قراءة الجمهور؟

قلت : عرّفها أنها أفشت عليه تحريمه مارية ، وتغافل عن الباقي.

وقال ابن عباس بالعكس من ذلك.

فإن قيل : ما الحكمة في الإعراض عن السر الآخر ، وهو إمامة الشيخين عليهما‌السلام؟

قلت : لم يكن [مأذونا](١) له في إشاعته وإذاعته ، فأعرض عنه قطعا لقالة الناس ، وحسما لمادّة انتشاره.

فإن قيل : فلم كره صلى‌الله‌عليه‌وسلم إظهار حفصة تحريمه مارية؟

قلت : إجلالا لمنصب النبوة عن إظهار ما الأحسن والأجمل كتمانه.

(فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ) أي : بذلك البعض الذي عرّفها إياه (قالَتْ) مستفهمة له : (مَنْ أَنْبَأَكَ هذا) كأنها خافت أن تكون عائشة أشاعت سرّها إليه (قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ).

ثم خاطب عائشة وحفصة فقال : (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) مالت عما يجب عليكما من مناصحة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واتباع مرضاته.

__________________

(١) في الأصل : مأذون. والتصويب من ب.

١٨٢

وقال ابن عباس : زاغت وأثمت (١).

قال مجاهد : كنا نحسب" صغت" شيئا هينا ، حتى وجدنا في قراءة ابن مسعود : " فقد زاغت قلوبكما" (٢).

وفي الصحيحين من حديث ابن عباس قال : «لم أزل حريصا على أن أسأل عمر بن الخطاب عن المرأتين من أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اللتين قال الله : (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) حتى حج عمر وحججت معه ، فلما كان ببعض الطريق عدل عمر وعدلت معه بالإداوة (٣) فتبرّز ، ثم أتاني فسكبت على يديه فتوضأ ، فقلت : يا أمير المؤمنين من المرأتان من أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اللتان قال الله عزوجل : (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما)؟ فقال عمر : وا عجبا لك يا ابن العباس!!. ـ قال الزهري : كره والله ما سأله عنه ولم يكتمه ـ. قال : هما عائشة وحفصة ، ثم أخذ يسوق الحديث ...» (٤). وفيه طول.

فإن قيل : ما وجه الجمع وهما قلبان؟

قلت : لأن الاثنين فما فوقهما جماعة ، ولهم ضابط وهو : أن كل ما في الإنسان منه واحد يثنّى على لفظ الجمع ؛ لزوال اللبس ، [تقول](٥) : ضربت ظهورهما

__________________

(١) أخرجه الطبري (٢٨ / ١٦١). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ٢١٩) وعزاه لابن جرير وابن مردويه.

(٢) أخرجه مجاهد (ص : ٦٨٣) ، والطبري (٢٨ / ١٦١). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ٢١٩) وعزاه لعبد بن حميد.

(٣) الإداوة : إناء صغير من جلد يتّخذ للماء كالسطيحة ونحوها (اللسان ، مادة : أدا).

(٤) أخرجه البخاري (٥ / ١٩٩١ ح ٤٨٩٥) ، ومسلم (٢ / ١١١١ ح ١٤٧٩).

(٥) في الأصل : بقوله : والتصويب من ب.

١٨٣

وقطعت رؤوسهما. ويجوز أن يثنّى على واحد قال :

 ................

ظهراهما مثل ظهور [التّرسين](١)

فجاء باللغتين.

قوله تعالى : (وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ) أي : تتعاونا عليه بما يسوؤه ، من الإفراط في الغيرة ، وإفشاء السر ، (فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ) وليه وناصره ، وزيادة" هو" للإيذان بتحقيق مناصرة الله له ومظاهرته ، (وَجِبْرِيلُ) عطف على"(هُوَ مَوْلاهُ)".

[(وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ)](٢) قال ابن مسعود وعكرمة والضحاك : أبو بكر وعمر (٣).

وقال مجاهد وسعيد بن جبير : عمر (٤).

وروي عن مجاهد : أنه علي عليه‌السلام (٥).

__________________

(١) عجز بيت لخطام المجاشعي ، وصدره : (ومهمهين قذفين مرتين). وهو في : اللسان (مادة : مرت) ، والقرطبي (٥ / ٧٣ ، ٦ / ١٧٤) ، وروح المعاني (١٦ / ٢٨٢).

وما بين المعكوفين في الأصل : الفرسين. والتصويب من ب ، ومصادر البيت.

(٢) زيادة من ب.

(٣) أخرجه الطبري (٢٨ / ١٦٣) عن الضحاك ، والطبراني في الكبير (١٠ / ٢٠٥ ح ١٠٤٧٧). وذكره الماوردي (٦ / ٤١) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ٣١٠). والسيوطي في الدر (٨ / ٢٢٣) وعزاه للطبراني وابن مردويه وأبي نعيم في فضائل الصحابة عن ابن مسعود مرفوعا.

(٤) أخرجه ابن أبي شيبة (٦ / ٣٥٦ ح ٣١٩٩٦) ، وابن أبي حاتم (١٠ / ٣٣٦٢) كلاهما عن سعيد بن جبير. وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ٣١٠) ، والسيوطي في الدر (٨ / ٢٢٣) وعزاه لسعيد بن منصور وابن سعد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن عساكر عن سعيد بن جبير.

(٥) ذكره الماوردي (٦ / ٤١).

١٨٤

وقال السدي : أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١).

وقال ابن زيد : الملائكة (٢).

وقال قتادة : الأنبياء عليهم‌السلام (٣).

وقيل : الخلفاء من الصحابة.

وقيل : هو عام في كل من آمن وعمل صالحا.

قال صاحب الكشاف (٤) : إن قلت : صالح المؤمنين واحد أو جمع؟

قلت : [هو](٥) واحد أريد به الجمع ، كقولك : لا يفعل هذا الصالح من الناس ، يريد : الجنس. ويجوز أن يكون أصله : " صالحوا المؤمنين" بالواو ، فكتب بغير واو على اللفظ ؛ لأن لفظ الواحد والجمع واحد فيه ، كما جاءت أشياء في المصحف متبوع فيها حكم اللفظ دون وضع الخط.

قوله تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ) أي : والملائكة على كثرتهم ، وامتلاء السموات من جموعهم ، بعد نصرة الله وجبريل وصالحي المؤمنين.

ويجوز أن يكون" وجبريل" : مبتدأ ، فيكون" صالح المؤمنين" : عطفا عليه ، " والملائكة" : عطف أيضا ، و" ظهير" : خبر المبتدأ (٦).

__________________

(١) ذكره الماوردي (٦ / ٤١).

(٢) مثل السابق.

(٣) أخرجه الطبري (٢٨ / ١٦٣). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ٢٢٤) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر.

(٤) الكشاف (٤ / ٥٧١).

(٥) زيادة من ب ، والكشاف ، الموضع السابق.

(٦) انظر : التبيان (٢ / ٢٦٤ ـ ٢٦٥) ، والدر المصون (٦ / ٣٣٦).

١٨٥

فإن [قيل](١) : المخبر عنهم جمع ، فكيف [جاء](٢) الخبر على لفظ الواحد؟

قلت : المعنى : والملائكة فوج ظهير ، أي : مظاهر ، أو كل واحد منهم ظهير.

والجواب المتداول بين أكثر أهل العلم : أن" ظهير" في تأويل ظهراء ، كقول الشاعر :

 .............

إنّ العواذل لسن لي بأمين (٣)

(عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً)(٥)

قوله تعالى : (عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَ) أخرج البخاري في صحيحه من حديث عمر قال : «اجتمع نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الغيرة عليه ، فقلت لهن : (عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ) ، فنزلت هذه الآية» (٤).

وهذا تخويف لنساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ولعمري إنهن خير نساء الأمة ، لكن لو طلقهن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعصيانهن ، وإيذائهن له ، كان غيرهن من المؤمنات السليمات من ذلك لو تزوجهن رسول الله خيرا منهن ، فهو على سبيل الفرض والتقدير ، لا أن غيرهنّ خيرا منهن.

__________________

(١) زيادة من ب.

(٢) في الأصل : جاز. والتصويب من ب.

(٣) عجز بيت ، وصدره : (يا عاذلاتي لا تزدن ملامتي) وهو في : اللسان (مادة : ظهر) ، والطبري (١٩ / ٥٤) ، والقرطبي (١٣ / ٨٣) ، والخصائص (٣ / ١٧٤) ، ومغني اللبيب (ص : ٢٧٩) وفيهم : " بأمير" بدل : " بأمين".

(٤) أخرجه البخاري (٤ / ١٨٦٩ ح ٤٦٣٢).

١٨٦

ثم وصف الأزواج فقال : (مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ) أي : مقرّات مخلصات (قانِتاتٍ) أي : طائعات (سائِحاتٍ) أي : صائمات ، وقيل : مهاجرات. وقد ذكرنا ذلك في براءة عند قوله : (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ) [التوبة : ١١٢].

قال الزمخشري (١) : فإن قلت : لم أخليت الصفات كلّها عن العاطف ، ووسط بين الثيبات والأبكار؟

قلت : لأنهما صفتان متنافيتان لا يجتمعن فيهما اجتماعهنّ في سائر الصفات ، فلم يكن (٢) بدّ من الواو.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٨) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)(٩)

__________________

(١) الكشاف (٤ / ٥٧١ ـ ٥٧٢).

(٢) في الأصل زيادة قوله : بعد.

١٨٧

قوله تعالى : (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) وقاية الأنفس : أن تعمل بطاعة الله وطاعة رسوله ، [ووقاية](١) الأهلين : أن تأمرهم بذلك.

قال علي عليه‌السلام : علّموهم وأدّبوهم (٢).

ومعنى : " وقودها الناس والحجارة" مذكور في البقرة (٣).

(عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ) أي : في أجرامهم غلظة وشدة ، أي : جفاء وقوة.

وقيل : غلاظ القلوب ، شداد الأبدان ، لم يخلق الله في قلوبهم الرحمة ، وهم الزبانية التسعة عشر وأعوانهم من خزنة النار.

وفي كتاب الزهد للإمام أحمد : أن داود كان يعاتب في كثرة البكاء ، [فقال](٤) : ذروني أبكي قبل أن تؤمر بي ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون (٥).

فصل

ينبغي لمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتدبر ما اشتملت عليه هذه الآية ، من الأمر بوقاية النفس والأهل نار جهنم ، فيأخذ به ويتدبر ما تضمنته من التهديد ،

__________________

(١) في الأصل : وقاية. والتصويب من ب.

(٢) أخرجه الطبري (٢٨ / ١٦٥) ، والبيهقي في الشعب (٦ / ٣٩٧ ح ٨٦٤٨) ، والحاكم (٢ / ٥٣٦ ح ٣٨٢٦). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ٢٢٥) وعزاه لعبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في المدخل.

(٣) عند الآية رقم : ٢٤.

(٤) في الأصل : قال. والتصويب من ب.

(٥) أخرجه أحمد في الزهد (ص : ٨٨).

١٨٨

وينظر بنور إيمانه قيام الخزنة الغلاظ الشداد على عذاب أهل النار ، بأيديهم مقامع الحديد ، يمضون فيهم أمر الله جلّ وعز (١).

كان مالك بن دينار يقول : لو وجدت أعوانا لفرقتهم في منار الأرض ينادون : أيها الناس النار النار (٢).

وفي الحديث : «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلا هذه الآية وعنده بعض أصحابه [وفيهم](٣) شيخ فغشي عليه ، فناداه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [فقال](٤) : قل : لا إله إلا الله ، فقالها فبشره بالجنة ، فقال أصحابه : أمن بيننا يا رسول الله؟ قال : نعم ، ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد» (٥).

وقد كنا يوما نتدارس القرآن في بيت من بيوت الله برأس عين ، سنة اثنتين وعشرين وستمائة ، وكان عام قحط وغلاء وموت ذريع بسبب الجوع ، فأتينا على هذه الآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) وعندنا رجل من ذوي اليسار يستمع القرآن سماع تفكر واعتبار ، فصاح صيحة شديدة ، وألقى نفسه في وسط الحلقة كهيئة الولهان ، ثم تراجعت إليه نفسه ، فقال لنا :

__________________

(١) في ب : عزوجل.

(٢) أخرجه أحمد في الزهد (ص : ٣٨٧). وذكره أبو نعيم في : حلية الأولياء (٢ / ٣٦٩) ، وابن الجوزي في : صفة الصفوة (٣ / ٢٨٦).

(٣) في الأصل : فيهم. والتصويب من ب.

(٤) زيادة من الحاكم (٢ / ٣٨٢).

(٥) أخرجه الحاكم (٢ / ٣٨٢ ح ٣٣٣٨) ، والبيهقي في الشعب (١ / ٤٦٨ ح ٧٣٤).

١٨٩

أشهدكم أن لله في مالي مائة مكّوك (١) من الحنطة ، وستمائة درهم أصلحها بها وأطعمها لفقراء المسلمين ، أقي بها نفسي وأهلي من نار جهنم ، ثم نهض وأمضى ذلك باطلاع منا في أيام ، فكان مجموع ما أنفق نحوا من مائتين وخمسين دينارا تقريبا.

قوله تعالى : (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ) أي : فيما أمرهم.

وقيل : " ما أمرهم" في محل النصب على البدل (٢) ، أي : لا يعصون ما أمر الله ، أي : أمره ، كقوله : (أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) [طه : ٩٣].

(وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) قال بعضهم : ليست الجملتان في معنى واحد ؛ لأن معنى الأولى أنهم يتقبلون أوامر الله ولا يأبونها.

ومعنى الثانية : يؤدون ما أمروا به ، لا يتثاقلون عنه ولا يتوانون فيه.

قوله تعالى : (تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً) قال أبو زيد : توبة صادقة ، يقال : نصحته ، أي : صدقته (٣).

وفي الحديث : التوبة النصوح : أن يتوب التائب ثم لا يرجع إلى الذنب (٤).

وقال بعض أهل المعاني (٥) : وصفت التوبة بالنصح على الإسناد المجازي ،

__________________

(١) المكّوك : مكيال معروف لأهل العرب ، والجمع : مكاكيك ، وهو صاع ونصف (اللسان ، مادة : مكك).

(٢) انظر : الدر المصون (٦ / ٣٣٧).

(٣) ذكره الواحدي في الوسيط (٤ / ٣٢١).

(٤) أخرج نحوه ابن أبي شيبة (٧ / ١٠٧ ح ٣٤٥٦٠) ، والبيهقي في الشعب (٥ / ٣٨٧ ح ٧٠٣٥) من حديث ابن مسعود. وذكره الواحدي في الوسيط (٤ / ٣٢٢).

(٥) هذا قول الزمخشري في : الكشاف (٤ / ٥٧٣).

١٩٠

والنصح صفة للتائبين ، وهو أن ينصحوا بالتوبة أنفسهم.

وقرأ أبو بكر عن عاصم : " نصوحا" بضم النون (١).

قال الأخفش : لا أعرفه.

وقال غيره : هو فعول ، [مصدر كالذّهوب](٢) والجلوس ، أي : توبة ذات نصوح.

وقيل : اشتقاقها من نصاحة الثوب ، وهي خياطته.

والنّاصح : الخياط ، والنّصاح : السّلك [الذي يخاط](٣) به (٤).

كأن المعنى : توبوا توبة ترمّ خللكم وترفؤ خروق دينكم.

وقيل : من قولهم : عسل ناصح ؛ إذا خلص من شمعه (٥).

أي : توبوا توبة خالصة.

فإن قيل : ما وجه قراءة ابن أبي عبلة : " ويدخلكم" بالجزم؟

قلت : العطف على محل : (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ)(٦).

فإن قيل : ما العامل في (يَوْمَ لا يُخْزِي)؟

قلت : " ويدخلكم".

__________________

(١) الحجة للفارسي (٤ / ٥١) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٧١٤) ، والكشف (٢ / ٣٢٦) ، والنشر (٢ / ٣٨٨ ـ ٣٨٩) ، والإتحاف (ص : ٤١٩) ، والسبعة (ص : ٦٤١).

(٢) في الأصل : كاللاهوت. والتصويب والزيادة من ب.

(٣) في الأصل : يخيط. والتصويب والزيادة من ب.

(٤) انظر : اللسان (مادة : نصح).

(٥) مثل السابق.

(٦) انظر : الدر المصون (٦ / ٣٣٨) ، والكشاف (٤ / ٥٧٤).

١٩١

فإن قيل : لم عدل عن لفظ الإكرام إلى نفي الخزي عن النبي؟

قلت : تعريضا بخزي الذين كذبوه وكفروا به.

فإن قيل : (وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) ما موضعه من الإعراب؟

قلت : يجوز أن يكون منصوبا عطفا على"(النَّبِيَ)". ويجوز أن يكون مرفوعا على الابتداء.

وقوله تعالى : (نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) مبتدأ وخبر ، والجملة خبر المبتدأ الأول (١).

وقد فسرنا : (يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) في الحديد (٢).

(يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا) قال ابن عباس : ليس أحد من المسلمين إلا يعطى يوم القيامة نورا. فأما المنافق فيطفأ نوره ، والمؤمن مشفق مما رأى من إطفاء نور المنافقين فهو يقول : (رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا)(٣).

والآية التي بعدها مفسّرة في براءة (٤).

(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ)(١٠)

__________________

(١) انظر : الدر المصون (٦ / ٣٣٨).

(٢) عند الآية رقم : ١٢.

(٣) أخرجه الحاكم (٢ / ٥٣٨ ح ٣٨٣٢). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ٢٢٨) وعزاه للحاكم والبيهقي في البعث.

(٤) عند الآية رقم : ٧٣.

١٩٢

ثم مثّل الله تعالى حال الكفار في أنهم يعاقبون على كفرهم وعداوتهم للمؤمنين ، غير نافع لهم ما بينهم وبينهم من لحمة نسب أو مصاهرة فقال : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ) واسمها : واعلة. وقال [مقاتل](١) : والعة (٢).

(وَامْرَأَتَ لُوطٍ) واسمها : واهلة. وقال مقاتل (٣) : والهة.

(كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما) قال ابن عباس : ما بغت امرأة نبي قط ، وإنما كانت خيانتهما في الدين ، كانت امرأة نوح تخبر الناس أنه مجنون ، وكانت امرأة لوط تدل على الأضياف ، فإذا نزل بلوط ضيف بالليل أو قدت النار ، وإذا نزل بالنهار دخّنت ليعلم قومه أنه قد نزل بلوط ضيف (٤).

وقال السدي : كانت خيانتهما : كفرهما (٥).

وقال الضحاك : نميمتهما (٦).

وقال الكلبي : نفاقهما (٧).

__________________

(١) زيادة من ب. انظر : تفسير مقاتل (٣ / ٣٨٠).

(٢) في تفسير مقاتل : والغة.

(٣) تفسير مقاتل (٣ / ٣٨٠).

(٤) أخرج نحوه الطبري (٢٨ / ١٧٠) ، وابن أبي حاتم (١٠ / ٣٣٦٢) ، والحاكم (٢ / ٥٣٨ ح ٣٨٣٣). وذكره الواحدي في الوسيط (٤ / ٣٢٢) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ٣١٥). وذكر نحوه السيوطي في الدر (٨ / ٢٢٨) وعزاه لعبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه من طرق عن ابن عباس.

(٥) ذكره الماوردي (٦ / ٤٦) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ٣١٥).

(٦) مثل السابق.

(٧) ذكره الواحدي في الوسيط (٤ / ٣٢٢).

١٩٣

(فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً) أي : من عذاب الله شيئا.

(وَقِيلَ) لهما عند موتهما أو يوم القيامة ، فأخبر عنه بلفظ الماضي ؛ لتحقق [كونه](١) ، (ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ).

(وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١١) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ)(١٢)

ثم مثّل حال المؤمنين في أن وصلة الكفار لا تضرّهم فقال : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ) أي : مثل امرأة فرعون ، فحذف المضاف ، وهو بدل من قوله : " مثلا" ، [واسمها](٢) : آسية بنت مزاحم عليهاالسّلام ، وهي من النساء الكوامل.

أخبرنا الشيخان أبو القاسم وأبو الحسن قالا : أخبرنا أبو الوقت ، أخبرنا أبو الحسن الداودي ، أخبرنا أبو محمد السرخسي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا آدم ، حدثنا شعبة ، عن عمرو بن مرة ، عن مرة ، عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران ، وآسية امرأة فرعون ، وفضل عائشة على النساء

__________________

(١) في الأصل : كونهما. والتصويب من ب.

(٢) في الأصل : أو اسمها. والتصويب من ب.

١٩٤

كفضل الثريد على سائر الطعام» (١). وأخرجه مسلم أيضا.

قال المفسرون : كانت قد آمنت بموسى عليه‌السلام.

قال أبو هريرة : ضرب فرعون لامرأته أوتادا في يديها ورجليها ، وكانوا إذا تفرّقوا عنها أظلّتها الملائكة فقالت : (رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ) ، فكشف الله عن بيتها في الجنة حتى رأته قبل موتها (٢).

(وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ) قيل عمله : جماعه (٣). وقيل : دينه (٤). رويا عن ابن عباس.

(وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أهل دينه.

قوله تعالى : (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ) عطف على" امرأة فرعون" (٥) ، بتقدير حذف المضاف ، أي : ومثل مريم ابنة عمران (الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها).

(فَنَفَخْنا فِيهِ) أي : في الفرج.

وقيل : في جيب درعها. وقد ذكرناه في سورة الأنبياء (٦).

(وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها) التي أنزلها في الصحف.

__________________

(١) أخرجه البخاري (٣ / ١٣٧٤ ح ٣٥٥٨) ، ومسلم (٤ / ١٨٨٦ ح ٢٤٣١).

(٢) ذكره الواحدي في الوسيط (٤ / ٣٢٣) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ٣١٥) ، والسيوطي في الدر (٨ / ٢٢٩) وعزاه لأبي يعلى والبيهقي بسند صحيح.

(٣) ذكره الماوردي (٦ / ٤٨) ، والواحدي في الوسيط (٤ / ٣٢٣) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ٣١٦) ، والسيوطي في الدر (٨ / ٢٢٩) وعزاه لوكيع في الغرر.

(٤) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ٣١٦).

(٥) انظر : الدر المصون (٦ / ٣٣٩).

(٦) عند الآية رقم : ٩٢.

١٩٥

وقيل (١) : هي قول جبريل : (أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ) [مريم : ١٩].

وقرأ جماعة ، منهم : أبيّ بن كعب ، وعاصم الجحدري : " بكلمة" على التوحيد (٢) ، إشارة إلى عيسى عليه‌السلام.

وقرأت لأبان عن عاصم : " وصدقت" بالتخفيف ، وهي في معنى التشديد (٣).

وقرأ أبو عمرو وحفص : " وكتبه" على الجمع. وقرأ الباقون : " وكتابه" على إرادة الجمع (٤) ، أو الإنجيل.

(وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ) أي : من القوم القانتين.

قال قتادة (٥) : من القوم المطيعين [لربهم](٦).

وقال عطاء : من المصلّين ، كانت تصلي بين المغرب والعشاء (٧). والله تعالى أعلم.

__________________

(١) في الأصل زيادة قوله : هو.

(٢) انظر هذه القراءة في : زاد المسير (٨ / ٣١٦) ، والدر المصون (٦ / ٣٣٩).

(٣) انظر هذه القراءة في : البحر المحيط (٨ / ٢٩٠) ، والدر المصون (٦ / ٣٣٩).

(٤) الحجة للفارسي (٤ / ٥٢) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٧١٥) ، والكشف (٢ / ٣٢٦) ، والنشر (٢ / ٣٨٩) ، والإتحاف (ص : ٤١٩) ، والسبعة (ص : ٦٤١).

(٥) أخرجه الطبري (٢٨ / ١٧٢). وذكره الواحدي في الوسيط (٤ / ٣٢٤) ، والسيوطي في الدر (٨ / ٢٢٩) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر.

(٦) في الأصل وب : لربها. وهو خطأ ؛ لأن فيها إعادة الضمير المفرد إلى لفظ دال على الجماعة ، والصواب ـ والله أعلم ـ كما ذكرناه ؛ لأنه من المتعارف لغويا أن يتفق الضمير العائد مع ما عاد عليه لفظا ومعنى وتذكيرا وتأنيثا وإفرادا وتثنية وجمعا. (هامش الوسيط ٤ / ٣٢٤).

(٧) ذكره الواحدي في الوسيط (٤ / ٣٢٤).

١٩٦

سورة الملك

بسم الله الرّحمن الرّحيم

وهي إحدى وثلاثون آية في المدني ، وثلاثون في الكوفي (١). وهي مكية بإجماعهم.

قال ابن مسعود : هي المانعة من عذاب القبر (٢).

(تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (٢) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (٣) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ)(٤)

أخبرنا أبو [المجد](٣) محمد بن أبي بكر ، أخبرنا عبد الرزاق بن إسماعيل بن محمد وابن عمه مطهر بن عبد الكريم بن محمد قالا : أخبرنا أبو محمد

__________________

(١) انظر : البيان في عدّ آي القرآن (ص : ٢٥١).

(٢) أخرجه البيهقي في الصغرى (ص : ٥٥٣). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ٣١٨) ، والسيوطي في الدر (٨ / ٢٣١) وعزاه لابن مردويه.

(٣) زيادة على الأصل. وفي ب : أخبرنا محمد. انظر ترجمته في : التقييد (ص : ١٠٨).

١٩٧

عبد الرحمن بن [حمد](١) الدوني ، أخبرنا القاضي أبو نصر ابن الكسار ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن محمد بن إسحاق السني ، أخبرنا أبو عبد الرحمن النسائي ، أخبرنا إسحاق بن منصور ومحمد بن المثنى ، حدثنا يحيى [بن](٢) سعيد ، عن شعبة ، عن قتادة ، عن عباس الجشمي (٣) ، عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «في القرآن سورة ، ثلاثون آية ، شفعت لصاحبها حتى غفر له (تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ)(٤)» (٥).

وفي حديث ابن عباس : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «وددت أن (تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) في قلب كل عبد مؤمن (٦)» (٧).

وفي حديث ابن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال :

__________________

(١) في الأصل : أحمد. والمثبت من ب.

(٢) في الأصل وب : عن. والتصويب من عمل اليوم والليلة. وفي هامش ب : صوابه : بن سعيد. وهو : يحيى بن سعيد بن فروخ القطان التميمي ، أبو سعيد البصري الأحول ، ثقة متقن ، حافظ إمام قدوة ، مات سنة ثمان وتسعين ومائة ، وله ثمان وسبعون سنة (تهذيب التهذيب ١١ / ١٩٠ ـ ١٩٢ ، والتقريب ص : ٥٩١).

(٣) عباس الجشمي ، يقال : اسم أبيه عبد الله ، روى عن عثمان وأبي هريرة ، وعنه قتادة وسعيد الجريري (تهذيب التهذيب ٥ / ١١٨ ، والتقريب ص : ٢٩٤).

(٤) في هامش ب : ذكره ابن طقوش ، وهو في سننه ، وفي د ت ق. ورواه أحمد أيضا في مسنده.

(٥) أخرجه النسائي في الكبرى (٦ / ٤٩٦ ح ١١٦١٢) ، وابن ماجه (٢ / ١٢٤٤ ح ٣٧٨٦) ، وأحمد (٢ / ٢٩٩ ح ٧٩٦٢) ، وابن السني في عمل اليوم والليلة (ص : ٣٢١).

(٦) في هامش ب : رواه عبد بن حميد في مسنده ، والطبراني في معجمه ، وفيه إبراهيم بن الحكم بن أبان ، وهو ضعيف.

(٧) أخرجه عبد بن حميد في مسنده (١ / ٢٠٦ ح ٦٠٣) ، والحاكم في المستدرك (١ / ٧٥٣ ح ٢٠٧٦).

١٩٨

(تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) تجادل عن صاحبها يوم القيامة» (١).

وقد شرحنا" تبارك" في الأعراف (٢).

قال ابن عباس : والمراد بالملك : السّلطان ، فهو يعزّ ويذلّ (٣).

قوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) قال ابن عباس : يريد : الموت في الدنيا والحياة في الآخرة (٤).

وقال قتادة : موت الإنسان وحياته في الدنيا (٥).

قال أهل المعاني (٦) : الحياة : ما يصح بوجوده الإحساس ، أو ما يوجب كون الشيء حيا ، وهو الذي يصح منه أن يعلم ويقدر ، والموت عدم ذلك فيه.

ومعنى خلق ذلك : إيجاده وإعدامه.

فإن قيل : لم قدّم الموت على الحياة؟

قلت : لأنها مسبوقة به ، يدلك قوله : (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) [البقرة : ٢٨] ، فقدّمه في الذّكر ، وإن كان المراد الموت الثاني ، نظرا إلى أنه أسبق.

ولأنه أقرب إلى القهر والملك.

ولأن المقصود التنبيه والحضّ على عمل الآخرة ، فقدم لذلك.

__________________

(١) أخرجه مالك في الموطأ (١ / ٢٠٩ ح ٤٨٧).

(٢) عند الآية رقم : ٥٤.

(٣) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ٣١٩).

(٤) ذكره الماوردي (٦ / ٥٠) بلا نسبة ، والواحدي في الوسيط (٤ / ٣٢٦).

(٥) ذكره الواحدي في الوسيط (٤ / ٣٢٦).

(٦) هو قول الزمخشري في : الكشاف (٤ / ٥٧٩).

١٩٩

(لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) مفسّر في هود (١).

فإن قيل : من أين تعلق قوله : (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) بفعل البلوى؟

قلت : قال الزجاج (٢) : المتعلق ب"(أَيُّكُمْ)" مضمر ، تقديره : ليبلوكم فيعلم أيكم أحسن عملا. وقد ذكرنا فيما مضى أن" أي" لا تعمل فيها ما قبلها.

قوله : (طِباقاً) أي : مطابقة بعضها فوق بعض ، من طابق النعل ؛ إذا خصفها طبقا على طبق. وهذا وصف بالمصدر ، أو يكون المعنى : ذات طباق أو طوبقت طباقا.

(ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) قال مقاتل (٣) : ما ترى يا ابن آدم في خلق السموات من عيب.

وقال قتادة : ما ترى خللا ولا اختلافا (٤).

وقال غيره (٥) : حقيقة التفاوت : عدم التناسب ، كأنّ بعض الشيء يفوت بعضا ولا يلائمه.

وقرأ حمزة والكسائي : " تفوّت" (٦).

ومعنى البنائين واحد ، كالتظاهر والتظهّر ، والتعاهد والتعهّد.

__________________

(١) عند الآية رقم : ٧.

(٢) معاني الزجاج (٥ / ١٩٧).

(٣) تفسير مقاتل (٣ / ٣٨١).

(٤) ذكره الواحدي في الوسيط (٤ / ٣٢٦).

(٥) هذا كلام الزمخشري في : الكشاف (٤ / ٥٨٠).

(٦) الحجة للفارسي (٤ / ٥٣) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٧١٥) ، والكشف (٢ / ٣٢٨) ، والنشر (٢ / ٣٨٩) ، والإتحاف (ص : ٤٢٠) ، والسبعة (ص : ٦٤٤).

٢٠٠