رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٤

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي

رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٤

المؤلف:

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي


المحقق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الأسدي للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٨٩

١
٢

سورة النحل

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وتسمى سورة النّعم ؛ لكثرة تعداد النعم فيها.

وهي مائة وثماني وعشرون آية.

قال ابن عباس وأكثر المفسرين : هي مكية ، واستثنى ابن عباس في رواية عنه قوله : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ) فقال : نزلت بعد مقتل حمزة ، وكذلك قال الشعبي ، وزاد : إلى آخر السورة (١).

واستثنى في رواية أخرى عنه ثلاث آيات : (وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً) إلى قوله : (يَعْمَلُونَ)(٢) وكذلك قال قتادة منضما إلى ما قاله الشعبي.

واستثنى مقاتل (٣) : (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا) ، وقوله : (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ) ، وقوله : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً) وقوله : (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ) ، وقوله تعالى : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ) إلى آخرها فقال : نزلن بالمدينة.

وقال جابر بن زيد : من أول النحل إلى آخر أربعين آية مكي ، والباقي مدني (٤). (أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ)(١)

__________________

(١) أخرج أبو الشيخ عن الشعبي قال : نزلت النحل كلها بمكة إلا هؤلاء الآيات (وَإِنْ عاقَبْتُمْ ...) إلى آخرها (الإتقان ١ / ٤٩).

(٢) في الأصل : يعلمون.

(٣) تفسير مقاتل (٢ / ٢١٣).

(٤) زاد المسير (٤ / ٤٢٦).

٣

قوله تعالى : (أَتى أَمْرُ اللهِ) قال ابن عباس : «لما نزلت قوله تعالى : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) [القمر : ١] قال الكفار بعضهم لبعض : إن هذا يزعم أن القيامة قد اقتربت ، فأمسكوا عن بعض ما تعملون حتى ننظر ، فلما رأوا أنه لا ينزل شيء قالوا : ما نرى شيئا ، فأنزل الله تعالى : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ) [الأنبياء : ١] فأشفقوا من قرب الساعة ، فلما امتدت الأيام قالوا : يا محمد! ما نرى شيئا مما تخوّفنا به ، فأنزل الله تعالى : (أَتى أَمْرُ اللهِ)(١) فوثب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورفع الناس رؤوسهم ، فنزل : (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) ، فاطمأنوا» (٢).

والمعنى : قرب ما تستعجلون به استهزاء وتكذيبا ؛ من قيام الساعة أو نزول العذاب.

(فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) أي : لا تطلبوه قبل حينه.

ولما كان استعجالهم بذلك استهزاء وكفرا قال : (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ).

وقرأ حمزة والكسائي : «تشركون» بالتاء على الخطاب في الموضعين (٣).

(يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ) (٢)

__________________

(١) في الأصل زيادة : «فلا تستعجلوه» وانظر : أسباب النزول للواحدي (ص : ٢٨٤).

(٢) أخرجه الطبري (١٤ / ٧٥) عن ابن جريج. وانظر : أسباب النزول للواحدي (ص : ٢٨٤) ، وزاد المسير (٤ / ٤٢٦).

(٣) الحجة للفارسي (٢ / ٣٥٨) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٣٢٩) ، والكشف (١ / ٥١٥) ، والنشر في القراءات العشر (٢ / ٢٨٢) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٧٧).

٤

قوله تعالى : (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ) قرأ ابن كثير وأبو عمرو بالتخفيف ، والباقون بالتشديد (١). يريد جبريل عليه‌السلام.

(بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ) وهو الوحي ؛ سمّي روحا ؛ لما فيه من حياة القلوب.

(عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) وهم الأنبياء عليهم‌السلام ، (أَنْ أَنْذِرُوا) قال الزمخشري (٢) : هو بدل من «الروح» ، أي : ينزلهم بأن أنذروا ، وتقديره : بأنه أنذروا ، أي : بأن الشأن أقول لكم أنذروا ، المعنى : اعلموا (أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ).

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) (٤)

ثم دلّهم على قدرته وعظمته ووحدانيته فقال : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ) ، ثم نزّه نفسه عما يقولون فقال : (تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ).

قوله تعالى : (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ) سبب نزولها : أن أبي بن خلف أخذ عظما نخرا فجعل يفتّه بيده ، ويقول : يا محمد! كيف يبعث الله هذا بعد ما رمّ (٣).

والمعنى : خلق الإنسان من مني غير حساس ولا متحرك.

(فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) أي : مخاصم منطيق ، مظهر للحجة بعد ما كان نطفة ، فكيف ينكر قدرتي أو يستبعدها وهو يعلم هذه الحالة من نفسه؟ فلا يستدل بما

__________________

(١) الحجة للفارسي (٣ / ٣١) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٣٨٥) ، والنشر (٢ / ٣٠٢) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٧٧) ، والسبعة في القراءات (ص : ٣٧٠).

(٢) الكشاف (٢ / ٥٥٤).

(٣) أسباب النزول للواحدي (ص : ٢٨٥) ، وزاد المسير (٤ / ٤٢٨ ـ ٤٢٩). وذكره السيوطي في الدر (٧ / ٧٥) وعزاه لسعيد بن منصور وابن المنذر والبيهقي في البعث عن أبي مالك.

٥

يعرفه على ما ينكره.

(وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٥) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (٦) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ)(٧)

ثم ذكّرهم نعمه عليهم حضّا لهم على الشكر وترك الشرك والكفر فقال : (وَالْأَنْعامَ) وهي الأزواج الثمانية ، وانتصابها [بمضمر](١) ، فسّره الظاهر وهو (خَلَقَها) ، ثم يبتدئ (لَكُمْ فِيها دِفْءٌ) ، أو يعطف على الإنسان ، ثم يبتدئ : (خَلَقَها لَكُمْ) ، أي : لأجلكم ولمصالحكم.

والدّفء : ما يستدفأ به من الأكسية والأخبية المتخذة من الصوف والشعر والوبر(٢).

قال الفراء (٣) : يقال : دفيت تدفأ دفاء ودفأ بفتح الدال وكسرها.

(وَمَنافِعُ) سوى الدّفء من نسلها ودرّها وركوبها والعمل عليها ، (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) ، فإن قيل : تقديم [«ومنها»](٤) مؤذن بالاختصاص ، وقد يؤكل من غير بهيمة الأنعام؟

__________________

(١) في الأصل : بمضر. والتصويب من الكشاف (٢ / ٥٥٥).

(٢) انظر : اللسان (مادة : دفأ).

(٣) انظر قول الفراء في : الوسيط (٣ / ٥٦).

(٤) في الأصل : وهو منها.

٦

قلت : المقصود من ذلك الامتنان عليهم [وتذكيرهم](١) بنعمة الله عليهم بما به قوام معيشتهم ، ولا شك أن بهيمة الأنعام أصل في ذلك ، وما عداها من الدجاج والأوز والبط وغير ذلك في حكم التابع ، لشذوذ الانتفاع به.

قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ) أي تجمل وزينة (حِينَ تُرِيحُونَ) أي : تردونها إلى مراحها ، وهو المكان الذي تأوي إليه (وَحِينَ تَسْرَحُونَ) أي : ترسلونها إلى مراعيها. يقال : سرح القوم إبلهم سرحا (٢) ، وإنما قدّم الإراحة على السّرح ؛ لأن الجمال والزينة فيها أظهر إذا أقبلت بطانا حفّلا (٣) ممتدات الأسنام تتناوح بالثغاء [وتتجاوب](٤) بالرغاء.

(وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ) يريد الحمولة من الإبل (إِلى) كل بعيد (بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ) لولا الإبل ، بأنفسكم فضلا عن الأثقال وحملها على ظهوركم ، (إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ) قرأت لأبي جعفر : «إلا بشق» بفتح الشين ، وهما لغتان في معنى المشقة (٥).

وقيل : الشّق ـ بفتح الشين ـ : مصدر شقّ عليه الأمر شقا ، والشّق ـ بالكسر ـ : النّصف (٦).

__________________

(١) في الأصل : وتذكرهم.

(٢) انظر : اللسان (مادة : سرح).

(٣) حفل اللّبن في الضّرع : اجتمع. وضرع حافل ، أي : ممتلئ لبنا ، والجمع : حفّل (اللسان ، مادة : حفل) والمقصود : رجعت ضروعها ملأى.

(٤) في الأصل : وتتجواب.

(٥) النشر في القراءات العشر (٢ / ٣٠٢) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٧٧).

(٦) انظر : (اللسان ، مادة : شقق).

٧

قال الفراء (١) : فكأن الجهد ينقص من قوّة الرّجل ونفسه ، كأنه قد ذهب نصفه.

وقيل : المعنى : «وتحمل أثقالكم» ذنوبكم التي أثقلتكم «إلى بلد» وهو مكة كرمها الله تعالى وشرفها.

(إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) رحمكم وخلق لكم ما تنتفعون به وتأكلون منه ، وترتفقون بالركوب والحمل عليه.

فإن قيل : الهاء من «بالغيه» ما هو موضعها من الإعراب؟

قلت : مذهب سيبويه : أن موضعها الجر بإضافة «بالغي» إليه.

وكان الأخفش يقول : موضعها من الإعراب : النصب (٢) ، ويحتج بقوله : (إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ) [العنكبوت : ٣٣] ، ومثله : (وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ) [هود : ١٠٩].

(وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ)(٨)

(وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً) مفعول لأجله (٣) ، أي : خلقها لأجل الركوب والزينة.

فصل

سئل سعيد بن جبير عن أكل لحوم الخيل فكرهها ، وتلا هذه الآية : (وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها) وقال : هذه للركوب ، وتلا التي قبلها : (وَالْأَنْعامَ

__________________

(١) معاني الفراء (٢ / ٩٧).

(٢) التبيان (٢ / ٧٨).

(٣) التبيان (٢ / ٧٨) ، والدر المصون (٤ / ٣١٤) ، وإعراب القرآن للنحاس (٢ / ٣٩٢).

٨

خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ ..). الآيةفقال : هذه للأكل (١).

وقال الحكم : لحوم الخيل حرام في كتاب الله ، وتلا هذه الآية (٢). وإلى هذا ذهب مالك وأبو حنيفة.

واحتجوا أيضا بما أخرج الإمام أحمد في مسنده من حديث خالد بن الوليد قال : «نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أكل لحوم الخيل والبغال والحمير» (٣).

وذهب الإمامان أحمد والشافعي إلى جواز أكل لحوم الخيل ؛ لما أخرج الإمام أحمد في مسنده والشيخان في صحيحيهما من حديث جابر : «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر وأذن في لحوم الخيل» (٤).

وأخرجوا أيضا من حديث أسماء قالت : «نحرنا في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرسا فأكلناه» (٥).

وأما الآية فلا حجة لهم فيها ؛ لأنها سيقت في معرض الامتنان على الناس ، والمقصود الأعظم منها الركوب لا أكلها ، فلذلك لم يذكره. أو نقول : [لو](٦) ترك

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٤ / ٨٢) ، وابن أبي حاتم (٧ / ٢٢٧٧) ، وابن أبي شيبة (٥ / ١٢١). وذكره السيوطي في الدر (٥ / ١١٢) وزاد نسبته لابن أبي حاتم عن ابن عباس.

(٢) أخرجه الطبري (١٤ / ٨٢). وذكره السيوطي في الدر (٥ / ١١٢) وعزاه لابن جرير وابن المنذر.

(٣) أخرجه أحمد (٤ / ٨٩).

(٤) أخرجه البخاري (٤ / ١٥٤٤ ح ٣٩٨٢) ، ومسلم (٣ / ١٥٤١ ح ١٩٤١) ، وأحمد (٣ / ٣٦١ ح ١٤٩٣٣).

(٥) أخرجه البخاري (٥ / ٢٠٩٩ ح ٥١٩١) ، ومسلم (٣ / ١٥٤١ ح ١٩٤٢) ، وأحمد (٦ / ٣٤٥ ح ٢٦٩٦٤).

(٦) زيادة على الأصل.

٩

ذكر الأكل [لانضم](١) في سلكها والذكر معها ما لم يؤكل ، [والحديث](٢) الذي احتجوا به لا يثبت ، فلا يقاوم أحاديثنا الصحيحة الصريحة (٣).

قال الإمام أحمد : هو حديث منكر. وقال الدارقطني : هو حديث ضعيف ؛ لأنه لو صح لكان النهي محمولا على الإشفاق عليها لأجل الجهاد والاستظهار على العدو ؛ لأن الخيل كانت قليلة عندهم جدا.

قوله تعالى : (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) قال الشعبي : هذا الحرف من أسرار القرآن(٤).

وقال أبو سليمان الدمشقي : من الناس من كره تفسير هذا الحرف في الجملة.

والمقصود من ذلك : إعلام العباد بأن له من المخلوقات ما لا يعلمونه ، [ليزدادوا](٥) علما بقدرة الله وعظمته وسعة ملكه.

وقيل : ويخلق ما لا تعلمون تفاصيله وكنهه وإن [علمتم](٦) جملته كنعيم الجنة وعذاب النار ، فإنه لا يبلغه وصف واصف ، ولا يخطر على قلب بشر.

__________________

(١) في الأصل : لأنظم.

(٢) في الأصل : الحديث.

(٣) قال الطبري (١٤ / ٨٣) : والصواب من القول في ذلك عند نا ما قاله أهل القول الثاني ، وذلك أنه لو كان في قوله تعالى : (لِتَرْكَبُوها) دلالة على أنها لا تصلح إذ كانت للركوب للأكل لكان في قوله : (فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ) دلالة على أنها لا تصلح إذ كانت للأكل والدفء للركوب.

(٤) زاد المسير (٤ / ٤٣٢).

(٥) في الأصل : لزدادوا.

(٦) في الأصل : علتم.

١٠

(وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (٩) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (١٠) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١١) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٢) وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) (١٣)

قوله تعالى : (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) أي : تبيين الطريق الموصل إلى الحق بإقامة الحجج وإيضاح البراهين. والقصد : مصدر بمعنى الفاعل ، وهو القاصد. يقال : سبيل قصد وقاصد أي : مستقيم (١). فالمعنى : على الله هداية الطريق ، كقوله : (إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى) [الليل : ١٢] والمراد : جنس السبيل ، فلذلك قال : (وَمِنْها جائِرٌ) أي : عادل عن الحق.

قال ابن المبارك : يعني : الأهواء والبدع (٢).

وفي قراءة ابن مسعود : «ومنكم جائر» (٣).

(وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) قهرا وقسرا ، ولكنه يضل من يشاء ويهدي من يشاء على ما تقتضيه الحكمة الإلهية.

__________________

(١) انظر : (اللسان ، مادة : قصد).

(٢) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٥٨) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٤ / ٤٣٣).

(٣) البحر المحيط (٥ / ٤٦٣) ، والدر المصون (٤ / ٣١٥).

١١

قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) يعني : المطر (لَكُمْ) متعلق ب «أنزل» وب «شراب» فيكون خبرا له (١) ، والشراب : ما يشرب ، (وَمِنْهُ شَجَرٌ) على حذف المضاف ، أي : ومنه شرب شجر ، أو يكون المعنى : ومنه ينشأ الشجر ويتكوّن.

فعلى المعنى الأول : «من» للتبعيض ، وعلى الثاني : لابتداء الغاية. والمراد به : الشجر الذي ترعاه المواشي ، لقوله : (فِيهِ تُسِيمُونَ) أي : ترعون. يقال : أسمت الماشية وسامت هي فهي سائمة (٢) ، واشتقاقه من السّمة ، وهي العلامة ، فكأنها تؤثر برعيها في الأرض علامات وآثارا.

قوله تعالى : (يُنْبِتُ لَكُمْ) وقرأ أبو بكر عن عاصم : «ننبت» بالنون (٣) ، (لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ) يعني : الحبوب (وَالزَّيْتُونَ) جمع ، واحدته : زيتونة (وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) «من» للتبعيض ؛ لأن كل الثمرات لا تكون إلا في الجنة.

قوله تعالى : (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) ذلّلهما لمصالحكم ومنافعكم ، (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ) قال الأخفش (٤) : المعنى : وجعل لكم النجوم مسخرات. وجاز إضمار فعل غير الأول ؛ لأن هذا المضمر في المعنى مثل المظهر ، وقد تفعل العرب أشدّ من هذا. قال الراجز :

__________________

(١) الدر المصون (٤ / ٣١٥ ـ ٣١٦).

(٢) انظر : اللسان (مادة : سوم).

(٣) الحجة للفارسي (٣ / ٣١) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٣٨٦) ، والكشف (٢ / ٣٤) ، والنشر (٢ / ٣٠٢) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٧٧) ، والسبعة في القراءات (ص : ٣٧٠).

(٤) معاني الأخفش (ص : ٢٣٦).

١٢

تسمع في أجوافهنّ صردا

وفي اليدين جسأة وبددا (١)

المعنى : وترى في اليدين. الجسأة : اليبس ، والبدد : السّعة.

وقال غيره : «مسخرات» حال مؤكدة (٢) ؛ لأن تسخيرها قد عرف بقوله : (وَسَخَّرَ).

وقرأ ابن عامر : «والشمس» بالرفع على الابتداء «والقمر والنجوم» (٣) عطفا على الشمس ، «مسخرات» خبر الابتداء (٤).

قال الواحدي (٥) : قرأ حفص : «مسخرات» بالرفع وحدها ، وجعلها خبر ابتداء محذوف ، كأنه قال : هي مسخرات.

وهذا سهو ، فإن حفصا قرأ : «والنجوم» بالرفع على الابتداء ، «مسخرات» خبره (٦).

(إِنَّ فِي ذلِكَ) التسخير (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) قال الزمخشري (٧) : جمع الآية

__________________

(١) يروى الرجز بلفظ :

تسمع للأحشاء منه لغطا

ولليدين جسأة وبددا

وهو في أمالي المرتضى (٢ / ٢٥٩) ، وشرح عمدة الحافظ (ص : ٦٣٦).

(٢) التبيان (٢ / ٧٩) ، والدر المصون (٣ / ٢٨١ ـ ٢٨٢).

(٣) الحجة للفارسي (٣ / ٣٢) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٣٨٦) ، والكشف (٢ / ٣٥) ، والنشر (٢ / ٣٠٢) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٧٧) ، والسبعة في القراءات (ص : ٣٧٠).

(٤) الحجة لابن زنجلة (ص : ٣٨٦) ، والحجة للفارسي (٣ / ٣٢) ، والكشف (٢ / ٣٥) ، والنشر (٢ / ٣٠٢ ـ ٣٠٣) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٧٧) ، والسبعة في القراءات (ص : ٣٧٠).

(٥) الوسيط (٣ / ٥٨).

(٦) انظر : التخريج ما قبل السابق.

(٧) الكشاف (٢ / ٥٥٩).

١٣

هاهنا وذكر العقل ؛ لأن الآية العلوية أظهر دلالة على القدرة الباهرة ، وأبين شهادة للكبرياء والعظمة.

قوله تعالى : (وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ) أي : وسخر لكم ما خلق لأجلكم في الأرض من دابة وشجرة وثمرة وغيرها. ويجوز أن يكون في موضع الجر عطفا على موضع «ذلك» ، أي : إن في ذلك وفيما ذرأ لكم.

(مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ) نصب على الحال (١) ، والمعنى : مختلف المناظر والهيئات.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) دالّة على القدرة [والوحدانية](٢) والعظمة (لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ).

(وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٤) وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (١٦) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٧) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)(١٨)

قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ) ذلّله للركوب فيه والاصطياد منه والغوص فيه لإخراج لآلئه (لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا) يعني : السّمك ،

__________________

(١) التبيان (٢ / ٧٩) ، والدر المصون (٤ / ٣١٦).

(٢) في الأصل : والوحدنية.

١٤

(وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها) يريد : الدر واللؤلؤ والمرجان.

فإن قيل : لبس الحلية مخصوص بالنسوة ، فما وجه الامتنان على الرجال؟

قلت : أضيف إليهم في معرض الامتنان عليهم ؛ لأن التزيّن به من أجلهم ، أو نقول : الامتنان واقع على جنس بني آدم ، والنساء من جملتهم.

فإن قيل : قد سمّى الله تعالى السمك لحما ، فهل يحنث بأكله إذا حلف لا يأكل لحما؟

قلت : لأصحابنا رضي الله عنهم فيه وجهان :

أحدهما : يحنث ، وهو اختيار الخرقي ؛ نظرا في اللفظ.

والثاني : لا يحنث ، وهو اختيار الشريف ابن أبي موسى الهاشمي ؛ نظرا إلى العرف.

فصل

وفي قوله : «حلية» دليل واضح على أن من حلف لا يلبس حليا فلبس لؤلؤا ؛ يحنث ، وهو قول إمامنا وجمهور العلماء.

وقال أبو حنيفة : لا يحنث.

قوله تعالى : (وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ) قال ابن عباس : جواري (١). يقال : مخرت السفينة مخرا إذا شقّت الماء في جريانها (٢).

(وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) بالركوب فيه للتجارة.

__________________

(١) أخرجه ابن أبي حاتم (٧ / ٢٢٧٨). وذكره السيوطي في الدر (٥ / ١١٧) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم.

(٢) انظر : اللسان (مادة : مخر).

١٥

وقيل : باستخراج الحلية والاصطياد منه.

ودخول الواو في : «ولتبتغوا من فضله» للعطف على لام مضمرة ، لتنتفعوا بذلك ولتبتغوا ، أو بفعل مضمر تقديره : وفعل ذلك لتبتغوا من فضله (١).

(وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) من أسبغ عليكم هذه النعم الجسيمة ، فتوحّدوه وتمجّدوه.

قوله تعالى : (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ) وهي الجبال (أَنْ تَمِيدَ) أي : كراهة أن تميد ، أي : تميل وتضطرب (بِكُمْ) فكان نصب كراهة على مفعول له ، فلما حذف انتصب ما قام مقامه على أنه مفعول له.

وقال قوم : المعنى : لئلا تميد بكم ، وحذف المضاف أكثر من حذف لا.

(وَأَنْهاراً) أي : وجعل فيها أنهارا ، (وَسُبُلاً) طرقا (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) إلى مقاصدكم.

(وَعَلاماتٍ) يريد : معالم الطرق من جبل أو أكمة أو سهل أو واد وغير ذلك ، (وَبِالنَّجْمِ) قال الزجاج : يريد : الجنس.

وقال السدي (٢) : يريد : الثريا (٣) والفرقدين (٤) وبنات

__________________

(١) الدر المصون (٤ / ٣١٧).

(٢) زاد المسير (٤ / ٤٣٦).

(٣) الثريا : ويسمى النجم علما عليها ، وهي ستة أنجم صغار يظنها الناظر سبعة أنجم ، وهي في شكل مثلث متساوي الساقين ، وبين نجومها نجوم صغار جدا كالرشاش ، ومطلعها إلى الشمال على مطلع الشّرطين والبطين ، وأول ما يطلع منها ويغيب هو الجانب العريض دون الأفخاذ منها (صبح الأعشى ٢ / ١٧٤).

(٤) الفرقدان : هما كوكبان متقاربان معدودان في بنات نعش (صبح الأعشى ٢ / ١٨١).

١٦

نعش (١) والجدي (٢).

وقرأ الحسن : «وبالنجم» بضم النون وسكون الجيم (٣) ، وقرأ الجحدري بضمتين (٤) ، وهو جمع نجم ، كرهن ورهن.

(هُمْ يَهْتَدُونَ) في ظلمات البر والبحر وإلى القبلة.

(أَفَمَنْ يَخْلُقُ) هذه العجائب السمائية والأرضية ، وهو الله تعالى ، (كَمَنْ لا يَخْلُقُ) وهو الصّنم ، وجاء بصيغة «من» مع اختصاصه بمن يفعل للمشاكلة ، أو لما نحلوها من العقل والتمييز (أَفَلا تَذَكَّرُونَ).

ولما عدّد لهم هذه النعم العظيمة نبههم على أن وراءها نعما لا تحصر فقال : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ) أراد : الجنس (لا تُحْصُوها) مفسر فيما مضى.

(إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ) يغفر ما كان منكم من التقصير عن شكر نعمه (رَحِيمٌ) بكم حيث لم يكلفكم القيام بواجبها ، فإن القوى البشرية تعجز وتضعف عن ذلك.

(وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (١٩) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (٢٠) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ

__________________

(١) بنات نعش : هي سبعة أنجم على القرب من القطب الشمالي ، منها أربعة في صورة نعش وثلاثة أمامه مستطيلة ، وهي المعبّر عنها بالبنات ، وتعرف هذه ببنات نعش الكبرى ، وبالقرب منها سبعة أنجم على شكلها (صبح الأعشى ٢ / ١٨١).

(٢) الجدي : وهو الذي تعرف به القبلة ، وهو نجم صغير على القرب من القطب الشمالي يستدل به على موضع القطب ، ويقال له : جدي بنات نعش الصغرى (صبح الأعشى ٢ / ١٨١).

(٣) إتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٧٧).

(٤) البحر المحيط (٥ / ٤٦٦) ، والدر المصون (٤ / ٣١٨).

١٧

أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٢١) إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ (٢٢) لاَ جَرَمَ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (٢٣) وَإِذَا قِيلَ لَهُم مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ (٢٤) لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ) (٢٥)

قوله تعالى : (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ) تهديد وتخويف وإشعار بالمجازاة.

(وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) يعني الأصنام (لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً) أي : لا يقدرون على خلق شيء من الأشياء (وَهُمْ يُخْلَقُونَ) «هم» : مبتدأ ، «يخلقون» : خبره (١).

(أَمْواتٌ) : خبر ثان ، أو يقال : «أموات» خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : هم أموات لا أرواح فيها ، (غَيْرُ أَحْياءٍ) توكيد (٢) ، أو يكون المعنى : غير قابلي الحياة ، فإن بعض الجمادات تقبل الحياة ؛ [كالنطف](٣) والبيض.

قوله : (وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) «يبعثون» اختلف العلماء في تأويلها ؛ فقال قوم : الضميران للأصنام متى تبعث ، فكيف تكون آلهة ومجازية.

قال ابن عباس : تبعث الأصنام يوم القيامة لها أرواح ومعها شياطينها

__________________

(١) التبيان (٢ / ٧٩) ، والدر المصون (٤ / ٣١٩).

(٢) مثل السابق.

(٣) في الأصل : كالنظف.

١٨

فيتبرؤون من عابديهم ، ثم يؤمر بالشياطين والذين كانوا يعبدونها إلى النار (١).

وقال قوم : الضميران للكفار ، فيكون ذلك خارجا مخرج التهديد لهم.

وقال قوم : الضمير الأول للأصنام ، والثاني : للكفار.

المعنى : وما تشعر الأصنام متى يبعث عابدوها ، كأنه تهكم بهم حيث عبدوا من لا يعلم وقت بعثهم ومجازاتهم على عبادتهم.

و «أيان» نصب ب «يبعثون» (٢) ، وهو مبني لتضمّنه معنى همزة الاستفهام ، وبني على الفتح ؛ لالتقاء الساكنين.

ولما أوضح بطلان إلهية غيره قال : (إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ) جاحدة للوحدانية ، (وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) عن الإيمان بها.

(لا جَرَمَ) سبق القول عليها في هود (٣) ، والمعنى : حقا.

(أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ) عن التوحيد. ويجوز أن يراد عموم المستكبرين بالكفر وغيره.

قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ) أي : لهؤلاء المتكبرين (ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ) على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا قول بعضهم لبعض على طريقتهم في التهكم والسخرية بالقرآن والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين ، كما قالوا : (يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) [الحجر : ٦] ، وقولهم : (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) [الشعراء : ٢٧]. ويجوز أن يكون من قول المسلمين لهم ، فيكون خارجا مخرج التعجب من بركته وحسنه ،

__________________

(١) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٥٩) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٤ / ٤٣٨).

(٢) التبيان (٢ / ٧٩) ، والدر المصون (٤ / ٣١٩).

(٣) آية رقم : ٢٢.

١٩

والتنبيه لهم على ما حرموا من الانتفاع به.

وقيل : نزلت في الذين اقتسموا مداخل مكة لتنفير السائلين لهم عن أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، على ما تقدم ذكره.

(ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ) «ماذا» في موضع نصب ب «أنزل» ، تقديره : أي : شيء أنزل ربكم ، أو في موضع رفع على الابتداء ، على معنى : أيّ شيء أنزله ربكم (١).

(قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) مفسر في الأنعام. وهذه الجملة إما في موضع نصب ، أو رفع حملا على «ماذا أنزل».

قوله تعالى : (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ) هذه لام العاقبة ، والمعنى : ليحملوا آثامهم (كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) لم يكفّر منها وزر بحسنة متقبّلة ، ولا بمصيبة في نفس أو ولد أو مال كما تكفّر آثام المؤمنين بذلك.

(وَمِنْ أَوْزارِ) أي : ويحملوا بعض أوزار (الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ) لأنهم لا يحملون وزرا لم يزيّنوه لهم ولم يكونوا السبب فيه.

وقيل : (بِغَيْرِ عِلْمٍ) في محل الحال من المفعول أو الفاعل (٢). وقد ذكرنا في سورة الأنعام معنى حمل الأوزار على الظهور (٣).

قوله تعالى : (أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ) أي : بئس ما يحملون على ظهورهم.

أخبرنا المؤيد بن محمد في كتابه ، أخبرنا الفراوي ، أخبرنا عبد الغافر ، أخبرنا

__________________

(١) قال أبو حيان في البحر (٥ / ٤٧٠) : أجاز الزمخشري أن يكون «ماذا» مرفوعا بالابتداء ، وهذا لا يجوز عند البصريين إلا في ضرورة الشعر.

(٢) الدر المصون (٤ / ٣٢١).

(٣) عند قوله تعالى : (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ) [٣١].

٢٠