رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٨

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي

رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٨

المؤلف:

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي


المحقق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الأسدي للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٨٨

[لا](١)؟ فقال أبو سفيان : ما أصبت من شيء فيما مضى وفيما غبر فهو لك حلال. قال : فضحك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعرفها ، وقال : وإنك لهند بنت عتبة؟ قالت : نعم ، فاعف عما سلف يا رسول الله عفا الله عنك ، فقال : ولا تزنين ، فقالت هند : أو تزني الحرّة؟ فقال : ولا تقتلن أولادكن ، فقالت هند : ربيناهم صغارا وقتلتموهم كبارا ، فأنتم وهم أعلم ، وكان ابنها حنظلة قتل يوم بدر ، فضحك عمر رضي الله عنه حتى استلقى ، وتبسّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : ولا تأتين ببهتان تفتريته بين أيديكنّ وأرجلكنّ ، وهو [أن](٢) تقرف ولدا على زوجها وليس منه ، فقالت هند : والله إن البهتان لقبيح ، وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق ، فقال : ولا يعصينك في معروف ، فقالت : ما جلسنا في مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء (٣) ، فأقرّ النسوة بما شرط عليهن (٤).

والمراد بقوله : (وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ) : وأد البنات ، وبقوله : (وَلا يَأْتِينَ

__________________

(١) زيادة من ب.

(٢) زيادة من ب.

(٣) في هامش ب : وفي المسند ومسند البزار : لما جاءت أختها فاطمة تبايع ، فذكر الزنا ، وضعت يدها على رأسها حياء ، فأعجب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما رأى منها ، فقالت عائشة : أقرّي أيتها المرأة ، فو الله ما بايعنا إلا على هذا ، فقالت : فنعم إذا (مسند أحمد ٦ / ١٥١ ح ٢٥٢١٦).

وفيه : في حديث أراه في الأنصار : " ولا يغششن أزواجهن" فقالت امرأة : وما غشّ أزواجنا؟ قال : بأخذ ماله تحابي به غيره (مسند أحمد ٦ / ٣٧٩ ح ٢٧١٧٧).

(٤) أخرجه الطبري (٢٨ / ٧٨) من حديث ابن عباس. وذكره الواحدي في الوسيط (٤ / ٢٨٦ ـ ٢٨٧) ، والسيوطي في الدر (٨ / ١٤٠) وعزاه لابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس. قال ابن كثير (٤ / ٣٥٥) بعد سياقه : وهذا أثر غريب ، وفي بعضه نكارة ، والله أعلم.

١٠١

بِبُهْتانٍ) : ما ذكرناه : لا يلحقن بأزواجهن أولادا من غيرهم (١) ، بأن تلتقط ولدا فتقول لزوجها : هذا ولدي منك. في قول ابن عباس وجمهور المفسرين.

وإنما قال : (بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ) ؛ لأن الولد إذا وضعته الأم يسقط بين يديها ورجليها.

فإن قيل : ما منعك من تفسيره بولد الزنا ، على ما قاله بعض المفسرين؟

قلت : لأن الزنا قد تقدم في قوله : (وَلا يَزْنِينَ).

وحكى الماوردي فيه قولين آخرين (٢) :

أحدهما : أنه السحر.

والثاني : المشي بالنميمة والسعي في الفساد.

قوله : (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) قال ابن عباس : هو النّوح (٣). ويروى مرفوعا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٤).

أخبرنا الشيخان أبو القاسم وأبو الحسن قالا : أخبرنا عبد الأول ، أخبرنا عبد الرحمن ، أخبرنا عبد الله ، أخبرنا محمد ، حدثنا البخاري ، حدثنا أبو معمر ، حدثنا

__________________

(١) أخرجه الطبري (٢٨ / ٧٧) ، وابن أبي حاتم (١٠ / ٣٣٥٢) ، كلاهما عن ابن عباس. وذكره السيوطي في الدر (٨ / ١٤١) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس.

(٢) تفسير الماوردي (٥ / ٥٢٥).

(٣) أخرجه الطبري (٢٨ / ٧٨).

(٤) أخرجه ابن ماجه (١ / ٥٠٣ ح ١٥٧٩) ، وأحمد (٦ / ٣٢٠ ح ٢٦٧٦٣).

١٠٢

عبد الوارث ، حدثنا أيوب ، عن حفصة بنت سيرين (١) ، عن أم عطية (٢) قالت : «بايعنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقرأ علينا : (أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً) ، ونهانا عن النياحة ، فقبضت امرأة يدها فقالت : أسعدتني فلانة فأريد أن أجزيها ، فما قال لها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا ، فانطلقت ورجعت فبايعها» (٣).

وقال مصعب بن نوح (٤) : أدركت عجوزا بايعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فحدثتني عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) قال : النّوح (٥).

وفي حديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا [يتركونهن](٦) : الفخر في الأحساب ، والطعن في الأنساب ، والاستسقاء بالنجوم ، والنياحة. وقال : النائحة إذا لم تتب قبل موتها ، تقام يوم القيامة عليها سربال من قطران ، ودرع من جرب» (٧).

__________________

(١) حفصة بنت سيرين ، أم الهذيل الأنصارية البصرية ، تابعية ثقة ، ماتت سنة إحدى ومائة (تهذيب التهذيب ١٢ / ٤٣٨ ، والتقريب ص : ٧٤٥).

(٢) نسيبة بنت كعب ، ويقال : بنت الحارث ، أم عطية الأنصارية ، صحابية مشهورة ، كانت تغزو مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، تمرض المرضى وتداوي الجرحى ، وكان جماعة من الصحابة وعلماء التابعين بالبصرة يأخذون عنها غسل الميت (تهذيب التهذيب ١٢ / ٤٨٢ ، والتقريب ص : ٧٥٤).

(٣) أخرجه البخاري (٤ / ١٨٥٦ ح ٤٦١٠). وأسعدتني فلانة : قامت معي في نياحة لي.

(٤) مصعب بن نوح الأنصاري ، مجهول ، روى عن سقط ، روى عنه عمرو بن فروخ (الجرح والتعديل ٨ / ٣٠٧).

(٥) أخرجه أحمد (٤ / ٥٥) ، وابن سعد في طبقاته (٨ / ٨) ، والطبري (٢٨ / ٧٩). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ١٤١) وعزاه لأحمد وعبد بن حميد وابن سعد وابن مردويه بسند جيد.

(٦) في الأصل : يتركوهن. والمثبت من صحيح مسلم ، وب.

(٧) أخرجه مسلم (٢ / ٦٤٤ ح ٩٣٤).

١٠٣

وقال زيد بن أسلم وأسيد بن أبي أسيد : من المعروف أن لا تخمّش وجها ، ولا تنشر شعرا ، ولا تشق جيبا ، ولا تدعو ويلا (١).

وقال ابن السائب وأبو سليمان الدمشقي وغيرهما : هو عامّ في كل معروف أمر الله ورسوله به (٢).

قوله تعالى : (فَبايِعْهُنَ) جواب قوله : (إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ) أي : إذا بايعنك على هذه الشرائط فبايعهن.

وقد ذكرنا كيفية مبايعته صلى‌الله‌عليه‌وسلم النساء في حديث عائشة.

وروي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إني لا أصافح النساء ، إنما قولي لامرأة [قولي](٣) لمائة امرأة» (٤).

وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده : «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا بايع النساء دعا بقدح من ماء ، فغمس يده فيه ، ثم غمسن أيديهن فيه» (٥).

__________________

(١) أخرجه الطبري (٢٨ / ٧٨) ، وابن أبي شيبة (٣ / ٦١ ح ١٢١٠٨) كلاهما عن زيد بن أسلم. وأخرجه ابن أبي حاتم (١٠ / ٣٣٥٢) عن أسيد بن أبي أسيد. وذكره السيوطي في الدر (٨ / ١٤٣) وعزاه لابن أبي شيبة عن زيد بن أسلم.

(٢) ذكره الماوردي (٥ / ٥٢٦) عن ابن السائب الكلبي ، وابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ٢٤٧) عن أبي سليمان الدمشقي.

(٣) في الأصل : قول. والتصويب من ب.

(٤) أخرجه النسائي (٧ / ١٤٩ ح ٤١٨١) ، وأحمد (٦ / ٣٥٧ ح ٢٧٠٥١).

(٥) ذكره السيوطي في الدر (٨ / ١٤٣) وعزاه لابن سعد وابن مردويه.

١٠٤

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ)(١٣)

قوله تعالى : (لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) قال المقاتلان (١) : يريد : اليهود ، وذلك أن ناسا من فقراء المسلمين كانوا يخبرون اليهود أخبار المسلمين ، يتوصّلون بذلك إليهم ، ليصيبوا من ثمارهم ، فنزلت هذه الآية (٢).

(قَدْ يَئِسُوا) يعني : القوم الذين غضب الله عليهم (مِنَ الْآخِرَةِ) أي : من ثواب الآخرة بسبب كفرهم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهم يعرفونه كما يعرفون أبنائهم. هذا قول جمهور العلماء.

(كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ) يعني : عبدة الأوثان ، يئسوا (مِنَ) الموتى (أَصْحابِ الْقُبُورِ) أن يرجعوا أحياء ، فيكون على حذف المضاف ، تقديره : من بعث أصحاب القبور.

قال ابن عباس : كما يئس الكفار من بعث من في القبور (٣).

فيكون" من" على هذا القول ؛ مفعول" يئس الكفار".

وقال مجاهد : كما يئس الكفار الذين ماتوا من ثواب الآخرة ؛ لأنهم أيقنوا بالعذاب (٤).

فيكون" من" على هذا القول ؛ بيانا للكفار الذين قبروا.

__________________

(١) تفسير مقاتل بن سليمان (٣ / ٣٥٤).

(٢) انظر : أسباب النزول للواحدي (ص : ٤٤٥).

(٣) ذكره الماوردي (٥ / ٥٢٦) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ٢٤٨).

(٤) أخرجه مجاهد (ص : ٦٧٠) ، والطبري (٢٨ / ٨٢). وذكره الماوردي (٥ / ٥٢٦).

١٠٥

فإن قيل : ما تقول في قول الثعلبي (١) : كما يئس الكفار من أصحاب القبور أن يرجعوا إليهم؟

قلت : ليس بمستقيم ؛ لأن المؤمنين والكفار مشتركون في اليأس من رجوع أصحاب القبور إليهم ، فيكون الاقتصار على ذكر الكفار عديم التأثير. [والله أعلم](٢).

__________________

(١) تفسير الثعلبي (٩ / ٢٩٩).

(٢) زيادة من ب.

١٠٦

سورة الصف

بسم الله الرّحمن الرّحيم

وهي أربع عشرة آية (١).

وهي مدنية في قول ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة وجمهور المفسرين ، ومكية في قول ابن يسار (٢).

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (٢) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (٣) إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ)(٤)

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) قال ابن عباس في رواية ابن أبي طلحة : كان ناس من المؤمنين يقولون قبل أن يفرض الجهاد : وددنا أن الله تعالى دلّنا على أحب الأعمال إليه ، فلما نزل فرض الجهاد كرهه بعض القائلين ، فنزلت هذه الآية (٣).

__________________

(١) انظر : البيان في عدّ آي القرآن (ص : ٢٤٥).

(٢) انظر : زاد المسير (٨ / ٢٤٩).

(٣) أخرجه الطبري (٢٨ / ٨٣ ـ ٨٤). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ١٤٦) وعزاه لعبد بن حميد وابن مردويه.

١٠٧

وقال مجاهد : نزلت في قوم كانوا يقولون : لو علمنا أحبّ الأعمال إلى الله لسارعنا إليه ، فلما نزلت فريضة الجهاد تثاقلوا عنه (١).

وقال عكرمة : كان الرجل منهم يقول : قاتلت ولم يقاتل ، وطعنت ولم يطعن ، وضربت ولم يضرب ، وصبرت ولم يصبر (٢). وهذه الأقوال مروية عن ابن عباس.

وروى سعيد بن المسيب عن صهيب رضي الله عنه قال : كان رجل يوم [بدر](٣) قد آذى المسلمين ونكأهم ، فقتله صهيب في القتال ، فقال رجل : يا رسول الله! قتلت فلانا ، ففرح بذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال عمر وعبد الرحمن لصهيب : أخبر رسول الله أنك قتلته ، فإن فلانا ينتحله ، فقال [صهيب](٤) : إنما قتلته لله ولرسوله ، فقال عمر وعبد الرحمن لرسول الله : يا رسول الله ، قتله صهيب ، قال : كذلك يا أبا يحيى؟ قال : نعم يا رسول الله ، فأنزل الله تعالى هذه الآية والآية الأخرى (٥).

وقال ابن زيد : نزلت في المنافقين ، كانوا يعدون المؤمنين النصر وهم كاذبون (٦).

فيكون نداؤهم بالإيمان ؛ تهكما بهم وبإيمانهم.

وقال ميمون بن مهران : نزلت في الرجل يقرّظ نفسه بما لا يفعله نظيره ،

__________________

(١) ذكره الماوردي (٥ / ٥٢٧).

(٢) مثل السابق.

(٣) زيادة من ب ، وتفسير الثعلبي (٩ / ٣٠٢).

(٤) مثل السابق.

(٥) أخرجه الثعلبي في تفسيره (٩ / ٣٠٢).

(٦) ذكره الثعلبي في تفسيره (٩ / ٣٠٢).

١٠٨

ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا (١).

قال الزمخشري (٢) في قوله : (لِمَ تَقُولُونَ) : هذه لام الإضافة داخلة على ما الاستفهامية كما دخل عليها غيرها من [حروف الجر](٣) في قولك : [بم](٤) ، وفيمه ، وممّ ، وعمّ ، وإلام ، وعلام. وإنما حذفت الألف ؛ لأن" ما" والحرف كشيء واحد ، ووقع استعماله كثيرا في كلام المستفهم ؛ وقد جاء استعمال الأصل قليلا ، والوقف على زيادة هاء السكت أو [الإسكان](٥). ومن أسكن في الوصل فلإجرائه مجرى الوقف ، كما سمع : ثلاثه ، أربعه ، بالهاء ، وإلقاء حركة الهمزة عليها محذوفة.

قوله تعالى : (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) قال الزجاج (٦) : " مقتا" نصب على التمييز. والمعنى : كبر قولكم ما لا تفعلون مقتا عند الله.

وقال غيره (٧) : اختير لفظ المقت ؛ لأنه أشد البغض وأبلغه ، ولم يقتصر على أن جعل المقت كبيرا حتى جعله أشدّه وأفحشه ، وعند الله أبلغ من ذاك ؛ لأنه إذا ثبت كبر مقته عند الله ، فقد تم كبره وشدّته.

__________________

(١) ذكره الثعلبي في تفسيره (٩ / ٣٠٣) ، والسيوطي في الدر (٨ / ١٤٧) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر.

(٢) الكشاف (٤ / ٥٢٢).

(٣) في الأصل : جر. والتصويب والزيادة من ب ، والكشاف ، الموضع السابق.

(٤) في الأصل : ثم. والتصويب من ب ، والكشاف ، الموضع السابق.

(٥) في الأصل : الإنسكان. والتصويب من ب ، والكشاف ، الموضع السابق.

(٦) معاني الزجاج (٥ / ١٦٣).

(٧) هذا قول الزمخشري في الكشاف (٤ / ٥٢٣).

١٠٩

ثم ذكر الله ما يحبه فقال : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا) أي : صافّين أنفسهم أو مصفوفين ، (كَأَنَّهُمْ) في [تراصّهم](١) من غير خلل (بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) قد [رصف ورصّ](٢) بعضه ببعض.

وقال الفراء (٣) : المرصوص : المبنيّ بالرّصاص.

وقوله : (صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ) حالان متداخلتان (٤).

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٥) وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ)(٦)

قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي) وبّخهم عليه‌السلام على إفراطهم في أذاه ، على ما ذكرناه في أواخر الأحزاب عند قوله : (لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى) [الأحزاب : ٦٩].

(وَقَدْ تَعْلَمُونَ) في محل الحال (٥) ، أي : تؤذونني عالمين علما لا تردّد عندكم فيه

__________________

(١) في الأصل : تزاحمهم. والتصويب من ب.

(٢) في الأصل : رص وقد رص. والتصويب من ب.

(٣) معاني الفراء (٣ / ١٥٣).

(٤) انظر : التبيان (٢ / ٢٦٠) ، والدر المصون (٦ / ٣١٠).

(٥) انظر : الدر المصون (٦ / ٣١٠).

١١٠

(أَنِّي رَسُولُ اللهِ) ، فهيّج دواعي شفقتهم بقوله : " يا قوم" ؛ ليكفوا عن أذاه بسبب النّسب ، وعاب عليهم أذاهم (١) إياه مع كونهم عالمين برسالته ، مصدّقين بنبوّته.

وفي ضمن ذلك : تخويفهم من إقدامهم واجترائهم على الله وعلى أذى [رسوله](٢) عمدا ، بعد ما شاهدوا معجزاته وعاينوا آياته.

(فَلَمَّا زاغُوا) مالوا عن الحق (أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) عن الهدى الواضح ؛ جزاء لهم على سوء ما اختاروه لأنفسهم من الزيغ.

ومعنى الآية : اذكر يا محمد لقومك وقت قول موسى لقومه هذا القول ، لعلهم يرتدعون عن أذاك ، خوفا مما جوزي به قوم موسى من إزاغة قلوبهم ومنعهم الهداية.

فإن قيل : لم قال عيسى : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ) ولم يقل (٣) : " يا قوم" ، كما قال موسى؟

قلت : عنه أجوبة :

أحدها : أن الله أوجده من غير أب ، فلم يكونوا قومه ؛ لأن قوم الإنسان عصبته الذين يقومون بأمره.

الثاني : أن إيجاده من غير أب كان أعظم آياته وأوضح معجزاته ، فكره أن يأتي بلفظ يوهم نفي معجزاته وآيته ولو على بعد.

الثالث : أن موسى قصد استدفاع أذاهم ، فأتى بلفظ يستعطف به قلوبهم ،

__________________

(١) في ب : أذاه.

(٢) في الأصل : رسله. والتصويب من ب.

(٣) قوله : " ولم يقل" مكرر في الأصل.

١١١

وذكّرهم بالقرابة التي بينه وبينهم ، بخلاف عيسى ، فإنه قصد إخبارهم برسالته إليهم وبشارتهم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسولا من بعده.

فإن قيل : بماذا انتصب قوله : " مصدّقا" و" مبشّرا"؟

قلت : بما في" رسول" من معنى الإرسال.

فإن قيل : ما منعك أن تجعل الظرف هو العامل؟

قلت : لأن" إليكم" صلة ل" رسول" ، وحروف الجر لا تعمل إلا بما فيها من معنى الفعل. فإذا وقعت صلات لم تتضمّن معنى الفعل ، فلا تعمل.

قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وأبو بكر : " من بعدي اسمه أحمد" بفتح الياء ، وأسكنها الباقون (١). والعلة في ذلك : التقاء الساكنين.

والخليل وسيبويه يختاران الفتح.

فإن قيل : ما معنى" أحمد"؟

قلت : هو أفعل من الحمد ، بمعنى : أنه أكثر حمدا لله من غيره ، أو يحمد أكثر من غيره ، بما فيه من محاسن الشيم ومكارم الأخلاق. فتكون المبالغة على المعنى الأول من الفاعل ، وعلى الثاني من المفعول.

أخبرنا الشيخان أبو القاسم العطار وأبو الحسن بن العطار قالا : أخبرنا أبو الوقت ، أخبرنا الداودي ، أخبرنا السرخسي ، أخبرنا الفربري ، حدثنا البخاري ، حدثنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيب ، عن الزهري قال : أخبرني محمد بن جبير بن مطعم ، عن أبيه ، سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن لي أسماء ؛ أنا محمد ، وأنا أحمد ،

__________________

(١) الحجة للفارسي (٤ / ٤٠) ، والكشف (٢ / ٣٢١) ، والنشر (٢ / ٣٨٧) ، والإتحاف (ص : ٤١٥) ، والسبعة (ص : ٦٣٥).

١١٢

وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر ، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي ، وأنا العاقب» (١). أخرجه البخاري في تفسير هذه السورة.

ورواه في موضع آخر عن إبراهيم بن المنذر ، عن معن ، عن مالك ، عن الزهري (٢).

وأخرجه أيضا مسلم في صحيحه (٣).

وهذا الاسم من أسماء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الأعلام ، وفيه يقول حسان بن ثابت :

صلّى الإله ومن يحفّ بعرشه

والطّيّبون على المبارك أحمد (٤)

فإن قيل : ما الحكمة في بشارة عيسى بني إسرائيل بإرسال محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بعده؟

قلت : التنبيه على فخامة أمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتعظيم شأنه ، وتحقيق رسالته ، وتقرير نبوته في قلوب أهل الكتاب ، وتوكيد حجته ، مع ما في ذلك من المعجزة له ولعيسى صلى الله عليهما وسلم.

قوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) لم أر أحدا من المفسرين تعرّض للتصريح باسم الفاعل والمفعول في" جاءهم" ؛ اعتمادا منهم على وضوح معناه ، وتبادره إلى الأفهام ، كأن التقدير والله أعلم : فلما جاء عيسى بني إسرائيل بالبينات.

__________________

(١) أخرجه البخاري (٤ / ١٨٥٨ ح ٤٦١٤).

(٢) أخرجه البخاري (٣ / ١٢٩٩ ح ٣٣٣٩).

(٣) أخرجه مسلم (٤ / ١٨٢٨ ح ٢٣٥٤).

(٤) البيت لحسان. انظر : ديوانه (ص : ٦٦) ، والماوردي (٥ / ٥٢٩) ، والبحر المحيط (٨ / ٢٥٩) ، والدر المصون (٦ / ٣١٠) ، وروح المعاني (٢٨ / ٨٦).

١١٣

ويجوز أن يكون التقدير : فلما جاءهم أحمد الذي بشّر به عيسى وأوضح أمره بالبينات ، أي : بالدلالات الشاهدة برسالته ، منضمّة إلى بشارة عيسى به ، قالوا بهتانا وعنادا : هذا سحر مبين.

وقرئ : " ساحر" (١). وقد ذكرته في آخر المائدة (٢).

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٧) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٨) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)(٩)

قوله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) قال مقاتل (٣) : هم اليهود.

وقال أبو سليمان : النصارى حين قالوا : المسيح ابن الله (٤).

وقرأ ابن مسعود وعاصم الجحدري : " وهو يدّعي" بفتح الياء والدال وتشديدها ، وكسر العين (٥).

__________________

(١) الحجة للفارسي (٢ / ١٤٢) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٢٣٩ ـ ٢٤٠) ، والكشف (١ / ٤٢١) ، والنشر (٢ / ٢٥٦) ، والإتحاف (ص : ٢٠٣ ، ٤١٥) ، والسبعة (ص : ٢٤٩).

(٢) عند الآية رقم : ١١٠.

(٣) تفسير مقاتل (٣ / ٣٥٦).

(٤) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ٢٥٣).

(٥) انظر هذه القراءة في زاد المسير (٨ / ٢٥٣) ، والدر المصون (٦ / ٣١١).

١١٤

قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي وخلف [وحفص](١) : " متمّ" بغير تنوين" نوره" بالجر على الإضافة ، وقرأ الباقون من العشرة : " متمّ" بالتنوين ، " نوره" بالنصب (٢) ، وهو الأصل في اسم الفاعل إذا كان للحال أو للاستقبال.

وهذه الآية مفسرة في براءة (٣).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (١٠) تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢) وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ)(١٤)

قوله تعالى : (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ) سمّى الإيمان وما في [حيّزه](٤) تجارة ؛ لما

__________________

(١) زيادة من ب.

(٢) الحجة للفارسي (٤ / ٤٠ ـ ٤١) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٧٠٧ ـ ٧٠٨) ، والكشف (٢ / ٣٢٠) ، والنشر (٢ / ٣٨٧) ، والإتحاف (ص : ٤١٥ ـ ٤١٦) ، والسبعة (ص : ٦٣٥).

(٣) عند الآية رقم : ٣٢.

(٤) في الأصل : خبره. والتصويب من ب.

١١٥

يتضمن من ربح [النّجاة](١).

(تُنْجِيكُمْ) وقرأ ابن عامر : " تنجّيكم" بالتشديد (٢) ، (مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ).

ثم بيّن تلك التجارة فقال : (تُؤْمِنُونَ بِاللهِ) وهو خبر في معنى الأمر ، ولذلك أجيب بقوله : (يَغْفِرْ لَكُمْ) ، ويدل عليه قراءة ابن مسعود : " آمنوا بالله" (٣).

قوله تعالى : (وَأُخْرى تُحِبُّونَها) قال الفراء (٤) : أي : وخصلة أخرى تحبونها في العاجل مع ثواب الآخرة.

ثم فسّر الخصلة فقال : (نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ) عاجل ، وهو فتح مكة.

وقال الحسن وعطاء : فتح فارس والروم (٥).

قوله تعالى : (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) عطف على" تؤمنون" ؛ لأنه في معنى آمنوا.

والمعنى : وبشر يا محمد المؤمنين بالنصر والتمكين في الدنيا ، والجنة في الآخرة.

قوله تعالى : (كُونُوا أَنْصارَ اللهِ) قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو : " أنصارا" بالتنوين ، " لله". وقرأ الباقون : "(أَنْصارَ اللهِ)" على الإضافة (٦) ، وهو اختيار أبي عبيد ؛

__________________

(١) في الأصل : التجارة. والتصويب من ب.

(٢) الحجة للفارسي (٤ / ٤١) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٧٠٨) ، والكشف (٢ / ٣٢٠) ، والنشر (٢ / ٢٥٩) ، والإتحاف (ص : ٢١٠) ، والسبعة (ص : ٦٣٥).

(٣) انظر هذه القراءة في : البحر (٨ / ٢٦٠) ، والدر المصون (٦ / ٣١٢).

(٤) معاني الفراء (٣ / ١٥٤).

(٥) ذكره الواحدي في الوسيط (٤ / ٢٩٣) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ٢٥٥) كلاهما عن عطاء.

(٦) الحجة للفارسي (٤ / ٤١) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٧٠٨ ـ ٧٠٩) ، والكشف (٢ / ٣٢٠) ، والنشر (٢ / ٣٨٧) ، والإتحاف (ص : ٤١٦) ، والسبعة (ص : ٦٣٥).

١١٦

[لقوله](١) تعالى : (نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ).

والتشبيه في قوله : (كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ) محمول على المعنى ، تقديره : كونوا أنصار الله كما كان الحواريون أنصار عيسى ، حين قال : من أنصاري إلى الله.

وقد سبق ذكر الحواريين.

(فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ) قال ابن عباس : يعني : في زمن عيسى عليه‌السلام (٢).

(فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا) بعيسى (عَلى عَدُوِّهِمْ) مخالفي عيسى.

وقال مقاتل (٣) : تمّ الكلام عند قوله : (وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ).

والمعنى : فأيدنا الذين آمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على عدوهم.

(فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ) غالبين (٤) عالين بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الأديان.

قال إبراهيم النخعي : أصبحت حجة من آمن بعيسى ظاهرة بتصديق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ أن عيسى كلمة الله وروحه (٥). والله أعلم.

__________________

(١) في الأصل : قوله. والتصويب من ب.

(٢) أخرجه الطبري (٢٨ / ٩٢).

(٣) تفسير مقاتل (٣ / ٣٥٧).

(٤) قوله : " غالبين" سقط من ب.

(٥) أخرجه الطبري (٢٨ / ٩٣). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ١٥٠) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر.

١١٧

سورة الجمعة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وهي إحدى عشرة آية في العددين (١). وهي مدنية بإجماعهم.

قرأ أبو الدرداء وأبو عبد الرحمن السلمي وعكرمة والنخعي والوليد عن يعقوب : " الملك القدوس العزيز الحكيم" بالرفع (٢) ، على معنى : هو الملك.

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)(٤)

قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ) يعني : العرب (٣) (رَسُولاً مِنْهُمْ) أي : من الأمّيين لا يكتب ولا يقرأ.

__________________

(١) انظر : البيان في عدّ آي القرآن (ص : ٢٤٦).

(٢) انظر هذه القراءة في : زاد المسير (٨ / ٢٥٧) ، والدر المصون (٦ / ٣١٥).

(٣) أخرجه الطبري (٢٨ / ٩٤) ، عن مجاهد وقتادة. وذكره السيوطي في الدر (٨ / ١٥٢) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة ، ومن وجه آخر ، وعزاه لسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد.

١١٨

وقيل : رسولا من أنفسهم. وقد سبق هذا المعنى.

وما لم أذكره [ظاهر أو مفسر](١) إلى قوله : (وَآخَرِينَ) وهو مجرور عطف على"(الْأُمِّيِّينَ)" (٢) ، على معنى : بعثه في الأميين ، وفي آخرين منهم.

قال الزجاج (٣) : ويجوز أن يكون"(وَآخَرِينَ)" في موضع نصب ، على معنى : يعلّمهم الكتاب والحكمة ويعلّم آخرين منهم.

قال ابن عمر وسعيد بن جبير : هم العجم (٤).

فعلى هذا ؛ معنى قوله : " منهم" : أنهم مسلمون ، فإن المسلمين يد واحدة على من سواهم ، وإن اختلفت أنواعهم.

قال ابن زيد : "(وَآخَرِينَ مِنْهُمْ)" هم الذين يدخلون في الإسلام إلى يوم القيامة (٥). والقولان عن مجاهد (٦).

وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة قال : «كنا جلوسا عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزلت

__________________

(١) في الأصل : ظاهرا أو مفسرا ، والتصويب من ب.

(٢) انظر : التبيان (٢ / ٢٦١) ، والدر المصون (٦ / ٣١٥).

(٣) معاني الزجاج (٥ / ١٧٠).

(٤) أخرجه الطبري (٢٨ / ٩٥) ، وابن أبي حاتم (١٠ / ٣٣٥٥) كلاهما عن مجاهد. وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ٢٥٩) ، والسيوطي في الدر (٨ / ١٥٢) وعزاه لسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد.

(٥) أخرجه الطبري عن مجاهد (٢٨ / ٩٦). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ٢٥٩). والقول الثاني أخرجه مجاهد (ص : ٦٧٣) ولفظه : يعني من ردف الإسلام من الناس كلهم.

(٦) أخرجه الطبري (٢٨ / ٩٦) ، ومجاهد (ص : ٦٧٣). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ١٥٣) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر. ولفظه : " من ردف الإسلام من الناس كلهم" ، وهو لفظ الطبري ومجاهد أيضا.

١١٩

عليه سورة الجمعة : (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) قال قائل : من هم يا رسول الله؟ ـ وفينا سلمان الفارسي ـ ، فوضع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يده على سلمان فقال : لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال من هؤلاء» (١).

وفي الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رأيتني يتبعني غنم سود ، ثم تبعها غنم عفر ، أوّلها يا أبا بكر. قال : أما السود فالعرب ، وأما العفر فالعجم تتبعك بعد العرب ، قال : كذلك عبّرها الملك سحر» (٢).

قوله تعالى : (لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) أي : لم يلحقوا بهم بعد ، أو لم يلحقوا بهم في الفضيلة والسبق ؛ لأن التابعين إلى يوم القيامة لم يدركوا فضل الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.

قوله تعالى : (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ) إشارة إلى النبوة التي خص الله تعالى بها رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، في قول مقاتل (٣).

وقال ابن السائب : "(ذلِكَ)" إشارة إلى الإسلام (٤) ، (فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ).

(مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥)

__________________

(١) أخرجه البخاري (٤ / ١٨٥٨ ح ٤٦١٥) ، ومسلم (٤ / ١٩٧٢ ح ٢٥٤٦).

(٢) أخرجه الحاكم (٤ / ٤٣٧ ح ٨١٩٣).

(٣) انظر : تفسير مقاتل (٣ / ٢٥٩).

(٤) ذكره الماوردي (٦ / ٧).

١٢٠