رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٨

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي

رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٨

المؤلف:

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي


المحقق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الأسدي للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٨٨

وعن الإمام أحمد رواية أخرى : أنه لا يأثم ، وهو قول الشافعي ، ويقع الطلاق من غير خلاف بينهم (١).

وفي هذه الآية مستدل لمن يقول : الأقراء : هي الأطهار.

وفيه عن الإمام أحمد روايتان ، أصحهما : أنها الحيض ، وهي قول أبي حنيفة.

والثانية : أنها الأطهار ، وهو قول الشافعي (٢) ؛ لقوله تعالى : (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) ، وإنما تطلق في الطّهر.

وطريق الانفصال من ذلك على الرواية الصحيحة : أن المرأة إذا طلقت في الطهر المتقدم للقرء (٣) الأول من أقرائها ، فقد طلقت لاستقبال عدتها.

قوله تعالى : (وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) أي : احفظوها واضبطوها ، لتعلموا ما يترتب عليها من أحكام النفقة والرجعة والسكنى ، وتوزيع الطلاق على الأقراء لمن أراد أن يطلق ثلاثا إلى غير ذلك.

(وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ) خافوه واحذروا مخالفة ما شرع لكم من الدين.

(لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَ) التي كنّ يسكنّها ، وهنّ في نكاحكم أيها الأزواج ، وأضيفت إليهنّ ؛ لمكان اختصاصهنّ بهنّ.

(وَلا يَخْرُجْنَ) هنّ بأنفسهن (إِلَّا) لضرورة ؛ لأنهن محبوسات لحقّ الأزواج ، (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) قال ابن عباس وابن عمر والحسن ومجاهد : هي

__________________

(١) انظر : المغني (٧ / ٢٨٠ ـ ٢٨١).

(٢) انظر : المغني (٧ / ٤٠٥ ـ ٤٠٦) ، والإنصاف (٩ / ٢٧٩) ، والأم (٥ / ٢٠٩).

(٣) في ب : للقروء.

١٦١

الزنا (١). فيكون المعنى : لا تخرجوهن إلا أن يزنين ، فأخرجوهن لإقامة الحد عليهنّ.

وقيل : الفاحشة : البذاء على المطلّق وأهله (٢) ، فيحل لهم إخراجها حينئذ. وهذا مروي عن ابن عباس (٣).

وقال السدي : المعنى : إلا أن يخرجن قبل انقضاء العدة ، فخروجهن فاحشة (٤).

وفي قوله تعالى : (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) تحقيق وتقرير ؛ لما سبق من شرعية الطلاق السني وإحصائه. فربما قلب الله قلبه إلى محبتها ، أو ندم على مفارقتها فيكون بسبيل من استرجاعها.

(فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (٢) وَيَرْزُقْهُ مِنْ

__________________

(١) أخرجه مجاهد (ص : ٦٨١) ، والطبري (٢٨ / ١٣٣). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ١٩٣) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس. ومن طريق آخر عن الحسن والشعبي ، وعزاه لعبد بن حميد. ومن طريق آخر عن مجاهد ، وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد.

(٢) هو أن يطول لسانها على أقارب زوجها.

(٣) أخرجه الطبري (٢٨ / ١٣٤) ، والشافعي في مسنده (ص : ٢٦٧) ، وابن أبي شيبة (٤ / ١٨٩) ، وعبد الرزاق (٦ / ٣٢٣ ح ١١٠٢٢). وذكره الماوردي (٦ / ٢٩) ، والسيوطي في الدر (٨ / ١٩٣) وعزاه لعبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن راهويه وعبد بن حميد وابن جرير وابن مردويه.

(٤) ذكره الماوردي (٦ / ٢٩) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ٢٨٩).

١٦٢

حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً)(٣)

قوله تعالى : (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) أي : شارفن انقضاء عدتهن.

وما لم أفسّره في هذه الآية مذكور في البقرة (١).

قوله تعالى : (وَأَشْهِدُوا) يعني : على الرجعة (ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) وهل الإشهاد عليها واجب أو مستحب؟ فيه عن الإمام أحمد روايتان ، وللشافعي قولان (٢).

وقال جماعة من المفسرين : أمروا أن يشهدوا عند الطلاق وعند الرجعة.

ثم خاطب الله الشهداء فقال : (وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ) أي : لوجه الله خالصا ، لا للمشهود له ، ولا للمشهود عليه ، ولا لغرض فاسد ، بل لإقامة الحق ، ودفع الظلم.

وما بعده مفسّر في البقرة (٣) إلى قوله : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) قال أكثر المفسرين : نزلت في عوف بن مالك الأشجعي ، أسر العدو ابنا له ، فذكر [ذلك](٤) للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشكا إليه الفاقة ، فقال له : اتّق الله واصبر ، وأكثر من قول : لا حول ولا قوة إلا بالله ، ففعل الرجل ذلك ، فبينما هو في بيته إذ أتاه ابنه وقد غفل عنه العدو ، فأصاب إبلا. وقيل : ساق أربعة آلاف شاة ، وجاء إلى أبيه ، فذلك قوله : (وَيَرْزُقْهُ

__________________

(١) عند الآية رقم : ٢٣١.

(٢) انظر : المغني (٧ / ٤٠٣) ، والماوردي (١٠ / ٣١٩).

(٣) آية رقم : ٢٣٢.

(٤) زيادة من ب.

١٦٣

مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ)(١).

وأخرج الإمام أحمد في كتاب الزهد بإسناده عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إني لأعلم آية لو أخذ بها الناس لكفتهم : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) ، فما زال يقولها ويعيدها» (٢).

وقال ابن عباس : ومن يتق الله ينجه من كل كرب في الدنيا والآخرة (٣).

وقال الربيع بن خثيم : يجعل له مخرجا من كل ما ضاق على الناس (٤).

وحدثني جماعة من أشياخي عن الوزير عون الدين أبي المظفر يحيى بن هبيرة رحمه‌الله قال : أنشدني المستنجد بالله أمير المؤمنين رحمه‌الله :

بتقوى الإله نجا من نجا

وفاز وأدرك ما قد رجا

ومن يتّق الله يجعل له

كما قال من أمره مخرجا

وقال بعض العلماء (٥) : هذه جملة اعتراضية مؤكدة لما سبق من إجراء أمر الطلاق على السنة ، وطريقه الأحسن ، والأبعد من الندم.

ويكون المعنى : ومن يتق الله فيطلّق للسّنّة ، ولم يضارّ المعتدّة ولم يخرجها من

__________________

(١) أخرجه الطبري (٢٨ / ١٣٨) ، وابن أبي حاتم (١٠ / ٣٣٥٩). وانظر : أسباب النزول للواحدي (ص : ٤٥٧).

(٢) أخرجه أحمد في الزهد (ص : ١٤٦).

(٣) أخرجه الطبري (٢٨ / ١٣٨). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ١٩٥ ـ ١٩٦) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٤) أخرجه الطبري (٢٨ / ١٣٨) ، وابن أبي شيبة (٧ / ٢٣٥ ح ٣٥٦٢٩). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ١٩٨) وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن بالمنذر.

(٥) هو قول الزمخشري في الكشاف (٤ / ٥٥٨).

١٦٤

مسكنها ، واحتاط [فأشهد](١) ، يجعل له مخرجا من الغموم ، والوقوع في المضايق ، ويكون بسبيل من الارتجاع.

ويروى أن رجلا سأل ابن عباس وقد طلّق أكثر من ثلاث فقال : لم تتق الله فلم يجعل لك مخرجا ، بانت منك بثلاث ، والزيادة إثم في عنقك (٢).

(وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) أي : كافيه في كل أمر يحذره ، أو كرب يقع فيه.

أخرج الإمام أحمد في كتاب الزهد من حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : أوحى الله تعالى إلى عيسى بن مريم : توكّل عليّ أكفك ، ولا تولّى غيري فأخذلك (٣).

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ) وقرأ حفص : " بالغ أمره" على الإضافة.

وقد سبق ذكر نظائره في مواضع آخرها في سورة الصف عند قوله : (وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ) [الصف : ٨].

فإن قيل : ما وجه قراءة من قرأ : " بالغا" بالنصب؟

قلت : نصبه على الحال ، وخبر" إنّ" : (قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) ، ومعناه : تقديرا وتوقيتا. فكل شيء من الرزق وغيره له قدر وأجل وحد ينتهي إليه.

وفي هذا تقرير لمعنى التوكل على الله والتفويض إليه.

(وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ

__________________

(١) في الأصل : وأشهد. والمثبت من ب ، والكشاف (٤ / ٥٥٨).

(٢) ذكره الزمخشري في : الكشاف (٤ / ٥٥٨).

(٣) أخرجه أحمد في الزهد (ص : ١١٦).

١٦٥

وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (٤) ذلِكَ أَمْرُ اللهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً)(٥)

قوله تعالى : (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ) السبب في نزولها : أن أبيّ بن كعب قال : يا رسول الله! إن نساء من أهل المدينة يقلن : قد بقي من النساء ما لم يذكر فيه شيء ، قال : وما هو؟ قال : الصّغار والكبار وذوات الحمل ، فأنزل الله (١) هذه الآية (٢).

ومعنى : (إِنِ ارْتَبْتُمْ) أشكل عليكم أمرهنّ ، وجهلتم عدتهنّ.

(وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) يعني : الصغار. وهذا وقف التمام. وفيه إضمار ، تقديره : فعدتهن أيضا ثلاثة أشهر.

ثم استأنف الإخبار عن عدة الحوامل فقال : (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) ، مطلقات كنّ أو متوفّى عنهنّ (٣). وهذا قول عمر وابنه وابن

__________________

(١) في ب : فنزلت.

(٢) أخرجه الطبري (٢٨ / ١٤١) ، وابن أبي حاتم (١٠ / ٣٣٦٠) ، والحاكم (٢ / ٥٣٤ ح ٣٨٢١) ، والبيهقي في الكبرى (٧ / ٤١٤ ح ١٥١٥٦). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ٢٠١) وعزاه لإسحاق بن راهويه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في سننه.

(٣) أخرج الطبري (٢٨ / ١٤٣) عن ابن مسعود أنه قال : من شاء لاعنته ، ما نزلت (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) إلا بعد آية المتوفي عنها زوجها وإذا وضعت المتوفي عنها فقد حلت. وانظر : الدر المنثور (٨ / ٢٠٣ ـ ٢٠٤).

١٦٦

مسعود وعامة الصحابة والتابعين فمن بعدهم ، والأئمة الأعلام (١).

ويحكى عن علي وابن عباس : أن الحامل المتوفى عنها زوجها تعتد بأطول الأجلين (٢).

والصحيح : مذهب الجمهور ؛ لما أخبرنا به الشيخان الإمام أبو محمد عبد الله بن أحمد المقدسي ، وأبو بكر محمد بن سعيد بن الموفق الخازن النيسابوري قالا : أخبرنا أبو زرعة طاهر بن محمد المقدسي ، أخبرنا أبو الحسن مكي بن منصور [الكرجي](٣) ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم ، أخبرنا الربيع ، أخبرنا الشافعي ، أخبرنا سفيان ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن أبيه : «أن سبيعة بنت الحارث وضعت بعد وفاة زوجها بليال ، فمرّ بها أبو السنابل بن بعكك فقال : قد تصنّعت للأزواج ، إنها أربعة أشهر وعشر ، فذكرت ذلك سبيعة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : كذب أبو السنابل ، [أو ليس](٤)

__________________

(١) في ب : والأعلام.

(٢) أخرجه البخاري (٤ / ١٨٦٤ ح ٤٦٢٦) ، والنسائي في الكبرى (٣ / ٣٨٧ ح ٥٧٠٥) ، كلاهما عن ابن عباس.

وذكره السيوطي في الدر (٨ / ٢٠٣) من طرق عن ابن مسعود أنه بلغه عن علي رضي الله ، وعزاه لعبد الرزاق وابن أبي شيبة وسعيد بن منصور وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه.

وذكره السيوطي أيضا (٨ / ٢٠٤) عن ابن عباس ، وعزاه لعبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد والبخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه.

(٣) في الأصل : الكرخي. والتصويب من ب.

(٤) في الأصل : وليس. والمثبت من ب ، ومسند الشافعي (ص : ٢٤٤).

١٦٧

كما قال أبو السنابل ، قد حللت فتزوجي» (١). هذا حديث متفق على صحته ، أخرجاه من طرق عن الزهري. وأبو السنابل اسمه : حبة.

قوله تعالى : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً) أي : يسهل عليه أمر الدنيا والآخرة.

(ذلِكَ) إشارة إلى ما شرع من الأحكام (أَمْرُ اللهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ).

(أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (٦) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً)(٧)

قوله تعالى : (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ)" من" الأولى زائدة ، أو للتبعيض ، [ومبعّضها](٢) محذوف ، تقديره : أسكنوهن مكانا من حيث سكنتم ، أي : بعض مساكنكم.

والثانية عطف بيان لقوله : "(مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ)" ، كأنه قيل : أسكنوهن مكانا من مسكنكم مما تطيقونه.

قرأ يعقوب في رواية روح : "(مِنْ وُجْدِكُمْ)" بكسر الواو ، وضمّها الباقون من

__________________

(١) أخرجه البخاري (٤ / ١٤٦٦ ح ٣٧٧٠) ، ومسلم (٢ / ١١٢٢ ح ١٤٨٤) ، والشافعي في مسنده (ص : ٢٤٤).

(٢) في الأصل : وبعضها. والتصويب من ب.

١٦٨

العشرة (١) ، وهي قراءة أبي هريرة وأبي رزين وأبي عبد الرحمن السلمي وقتادة. وفتحها ابن يعمر وابن أبي عبلة وأبو حيوة (٢).

والوجد : الوسع والطاقة.

قال الفراء (٣) : على ما يجد إن [كان](٤) موسعا وسّع عليها في المسكن والنفقة ، وإن كان فقيرا فعلى قدر ذلك.

(وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَ) يعني : وأنتم تجدون السعة.

قال القاضي أبو يعلى : المراد بها الرجعية دون المبتوتة ، بدليل قوله : (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) [الطلاق : ١] ، [وقوله](٥) تعالى : (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) [الطلاق : ٢] ، فدلّ ذلك على أنه أراد الرجعية (٦).

فصل

لا نعلم خلافا بين أهل العلم أن المطلقة الرجعية تستحق النفقة والسكنى ما دامت في العدة. واختلفوا في المبتوتة ، فقالت طائفة : لا نفقة لها ولا سكنى ، إلا أن تكون حاملا. روي ذلك عن ابن عباس ، وهو قول الحسن وعطاء والشعبي ،

__________________

(١) النشر (٢ / ٣٨٨) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٤١٨).

(٢) انظر هذه القراءة في : زاد المسير (٨ / ٢٩٦) ، والدر المصون (٦ / ٣٣١).

(٣) معاني الفراء (٣ / ١٦٣).

(٤) زيادة من ب ، ومعاني الفراء ، الموضع السابق.

(٥) في الأصل : قوله. والتصويب من ب.

(٦) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ٢٩٦).

١٦٩

وأصح الروايتين عن الإمام أحمد ، أخذا بحديث فاطمة بنت قيس حين طلقها زوجها البتة ، فلم يجعل لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سكنى ولا نفقة (١).

وقالت طائفة : لها السكنى والنفقة. يروى ذلك عن عمر بن الخطاب وابن مسعود. وبه قال النخعي وسفيان الثوري وأبو حنيفة (٢).

وقالت طائفة : لها السكنى بكل حال ، ولا نفقة لها إلا أن تكون حاملا. يحكى ذلك عن ابن المسيب ، وبه قال الزهري ومالك والليث بن سعد والأوزاعي والشافعي ، والرواية [الثانية](٣) عن أحمد رضي الله عنه (٤) ، واعتذروا عن حديث فاطمة بقول سعيد بن المسيب : فتنت فاطمة الناس ، كانت للسانها [ذرابة](٥) ، فاستطالت على أحمائها ، فأمرها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم (٦).

قوله تعالى : (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ) يعني : المطلقات ولدا منهن أو من غيرهن بعد انقطاع عصمة النكاح (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) يعني : أجرة رضاعهن ، (وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ) أي : ليأمر بعضكم بعضا بالمعروف ، ولا يشتطّ أحد على صاحبه ، (وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ) في الأجرة ولم تتّفقوا على شيء (فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى) خبر في معنى الأمر.

__________________

(١) انظر : المغني (٨ / ١٨٥) ، والإنصاف (٩ / ٣٦٠) ، والمبسوط للسرخسي (٥ / ٢٠١).

(٢) مثل السابق.

(٣) زيادة من ب.

(٤) انظر : المغني (٨ / ١٨٥).

(٥) في الأصل : ذراية. والمثبت من ب.

ولسان ذرب : أي : فيه حدّة. وامرأة ذربة : سليطة اللسان (اللسان ، مادة : ذرب).

(٦) أخرجه البيهقي في الكبرى (٧ / ٤٧٤) ، والشافعي (ص : ٣٠٢).

١٧٠

وقال بعض أهل المعاني (١) : فيه طرف من معاتبة الأم على المعاسرة.

وقوله : " له" أي : للأب ، أي : سيجد الأب غير معاسرة ترضع له ولده إن عاسرته أمه.

(لِيُنْفِقْ) وفتح القاف : ابن السميفع (٢) ، على معنى : شرعنا ذلك لينفق ، (ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ ، وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ) أي : ضيّق. وقد سبقت نظائره.

وقرأ أبيّ بن كعب : " قدّر" بالتشديد (٣).

أخبرنا أبو القاسم بن أبي الفرج بن أبي منصور بقراءتي عليه قال : أخبرنا أبو القاسم ابن بوش ، حدثنا أبو العز بن كادش ، أخبرنا أبو علي الجازري ، حدثنا المعافى بن زكريا ، حدثنا علي بن محمد بن عبيد الله البزاز ، حدثنا جعفر بن محمد البزاز ، حدثنا إبراهيم بن بشير أبو إسحاق المكي ، حدثنا معاوية بن عبد الكريم الضالّ (٤) ـ وإنما سمي الضالّ ؛ لأنه خرج يريد مكة فضلّ الطريق ، لقيناه بمكة في الطواف ـ قال : سمعت أبا جمرة الضبعي (٥) قال : سمعت ابن عمر يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن المؤمن أخذ عن ربه أدبا حسنا ، فإذا وسّع عليه وسّع على نفسه ،

__________________

(١) هو قول الزمخشري في الكشاف (٤ / ٥٦٣).

(٢) انظر هذه القراءة في : زاد المسير (٨ / ٢٩٧) ، والكشاف (٤ / ٥٦٣).

(٣) انظر هذه القراءة في : زاد المسير (٨ / ٢٩٧) ، والدر المصون (٦ / ٣٣١).

(٤) معاوية بن عبد الكريم الثقفي مولاهم ، أبو عبد الرحمن البصري المعروف بالضالّ ، صدوق ، مات سنة ثمانين (تهذيب التهذيب ١٠ / ١٩٢ ، والتقريب ص : ٥٣٨).

(٥) نصر بن عمران بن عصام ، وقيل : بن عاصم بن واسع ، أبو جمرة الضبعي البصري ، كان ثقة مأمونا ، مقيما بنيسابور ، ثم خرج إلى مرو ، ثم إلى سرخس فمات بها سنة ثمان وعشرين ومائة (تهذيب التهذيب ١٠ / ٣٨٥ ، والتقريب ص : ٥٦١).

١٧١

وإذا أمسك عليه أمسك» (١).

قال المفسرون : كان الغالب عليهم في ذلك الوقت الفقر ، فوعدهم الله أن يفتح عليهم أبواب الرزق ، فذلك قوله : (سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) ففتح الله عليهم البلاد ، وأعطاهم جباية الأموال.

(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (٨) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (٩) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (١٠) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً) (١١)

قوله تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ) أي : وكم من قرية (عَتَتْ) [أعرضت](٢) على وجه العتو والعناد (عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً) أي : جازيناها في الدنيا بموجب الحساب الشديد.

__________________

(١) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (٥ / ٢٥٩ ح ٦٥٩١) وقال : هذا حديث منكر ، وأبو نعيم في الحلية (٦ / ٣١٥).

(٢) في ب : عصت. والمثبت من ب.

١٧٢

وقال ابن عباس والفراء (١) : [فيه](٢) تقديم وتأخير ، تقديره : عذبناها عذابا نكرا في الدنيا بالجوع والسيف والبلايا ، وحاسبناها حسابا شديدا في الآخرة (٣).

قوله تعالى : (قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً* رَسُولاً) قال مقاتل (٤) والسدي : الرسول : محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٥). فيكون المعنى : أنزل الله إليكم ذكرا وهو القرآن ، وأرسل رسولا.

وقال ابن السائب : الرسول : جبريل عليه‌السلام (٦).

فعلى هذا : يكون" رسولا" بدلا من" ذكرا" (٧) ؛ لأن جبريل موصوف بتلاوة آيات الله ، فكان إنزاله في معنى إنزال الذكر ، فصحّ إبداله منه ، أو جعله لكثرة ذكره كأنه ذكر. أو يراد بالذّكر : الشّرف ، أو على معنى : ذا ذكر ، أي : ملكا ذا ذكر.

وما بعده ظاهر أو مفسّر إلى قوله : (قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً) يعني : الجنة التي لا ينقطع نعيمها.

(اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً)(١٢)

__________________

(١) معاني الفراء (٣ / ١٦٤).

(٢) زيادة من ب.

(٣) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ٢٩٨).

(٤) تفسير مقاتل (٣ / ٣٧٤).

(٥) أخرجه الطبري (٢٨ / ١٥٢).

(٦) ذكره الماوردي (٦ / ٣٦).

(٧) انظر : التبيان (٢ / ٢٦٣) ، والدر المصون (٦ / ٣٣٢).

١٧٣

قوله تعالى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) جاء في الحديث : أن كثافة كل سماء مسيرة خمسمائة عام ، وما بيها وبين الأخرى مسيرة خمسمائة عام ، وكذلك كثافة الأرض والمسافة ما بين كل أرضين (١).

وقد روى أبو الضحى عن ابن عباس قال : في [كل](٢) أرض آدم مثل آدمكم ، ونوح مثل نوحكم ، وإبراهيم مثل إبراهيمكم ، وعيسى كعيسى (٣).

قال أبو سليمان الدمشقي : [سمعنا في معناه : أن (٤) معناه](٥) : أن في كل أرض خلقا من خلق الله ، لهم سادة يقوم كبيرهم ومقدّمهم (٦) في الخلق مقام آدم فينا ، وتقوم ذريته في السنّ والقدم كمقام نوح. وعلى هذا المثال سائرهم (٧).

قال كعب : في الأرض السابعة إبليس (٨).

وسأل نافع بن الأزرق ابن عباس : هل تحت الأرض خلق؟ قال : نعم. قال : فما الخلق؟ قال : إما ملائكة وإما جنّ.

__________________

(١) أخرجه الحاكم (٢ / ٤١٠ ح ٣٤٢٨).

(٢) زيادة من ب.

(٣) أخرجه ابن أبي حاتم (١٠ / ٣٣٦١) ، والحاكم (٢ / ٥٣٥ ح ٣٨٢٢). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ٢١١) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب وفي الأسماء والصفات وقال : قال البيهقي : إسناده صحيح ولكنه شاذ ، لا أعلم لأبي الضحى عليه متابعا.

(٤) في ب زيادة قوله : في.

(٥) في الأصل : معناه في معناه. والمثبت من ب ، وزاد المسير (٨ / ٣٠٠).

(٦) في ب ، وزاد المسير : ومتقدمهم.

(٧) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ٣٠٠).

(٨) مثل السابق.

١٧٤

قوله تعالى : (يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَ) أي : يتنزل قضاء الله [وحكمه](١) في خلقه بينهن.

قال قتادة : في كل سماء أو في كل أرض خلق من خلقه ، وأمر من أمره ، وقضاء من قضائه (٢).

وقال مقاتل (٣) : يتنزل الوحي بينهن.

(لِتَعْلَمُوا) أي : أعلمكم بهذا لتعلموا (أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ) من مخلوقاته مما كان ويكون (عِلْماً). والله تعالى أعلم.

__________________

(١) في الأصل : وحكمته. والمثبت من ب.

(٢) أخرجه الطبري (٢٨ / ١٥٤). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ٢١٠) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر.

(٣) تفسير مقاتل (٣ / ٣٧٤).

١٧٥

سورة المتحرم

بسم الله الرّحمن الرّحيم

وهي [اثنتا](١) عشرة آية (٢) ، وهي مدنية بإجماعهم.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١) قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)(٢)

قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) أخرجا في الصحيحين من حديث عائشة قالت : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحب العسل والحلواء ، وكان إذا انصرف من العصر دخل على نسائه فيدنو من إحداهن ، فدخل على حفصة بنت عمر فاحتبس أكثر مما كان يحتبس ، فغرت ، فسألت عن ذلك ، قيل لي : أهدت لها امرأة من قومها عكّة (٣) عسل ، فسقت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم منه شربة ، فقلت : أما والله لنحتالنّ له» (٤).

__________________

(١) في الأصل : اثنا. والمثبت من ب.

(٢) انظر : البيان في عدّ آي القرآن (ص : ٢٥٠).

(٣) العكّة : هي وعاء من جلد مستدير يختص بالسمن أو العسل ، وهو بالسمن أخصّ (اللسان ، مادة : عكك).

(٤) أخرجه البخاري (٥ / ٢٠١٧ ح ٤٩٦٧) ، ومسلم (٢ / ١١٠١ ح ١٤٧٤).

١٧٦

وفي رواية أخرى : قالت : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يمكث عند زينب بنت جحش فيشرب عندها عسلا ، قالت : فتواصينا أنا وحفصة [أنّ](١) أيّتنا دخل عليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلتقل : إني أجد منك ريح مغافير ، أكلت مغافير (٢) ، فدخل على إحداهما فقالت له ذلك ، فقال : بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش ، ولن أعود له ، وقد حلفت لا تخبري بذلك أحدا ، فنزل : (لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ)(٣).

وهذا هو الأشبه ؛ لأن عائشة وحفصة كانتا متظاهرتين.

وقال ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وعطاء والشعبي وعامة المفسرين في سبب نزولها : أن حفصة ذهبت إلى أبيها تتحدث عنده ، فأرسل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى مارية فظلّت معه في بيت حفصة ، وكان اليوم الذي يأتي فيه عائشة ، فرجعت حفصة [فوجدتها](٤) في بيتها ، فغارت غيرة شديدة ، فلما خرجت دخلت حفصة فقالت : قد رأيت من كان عندك وقد سؤتني ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : والله لأرضينّك ، وإني مسر إليك سرّا فاحفظيه ، قالت : وما هو؟ قال : إني أشهدك أن سريتي هذه عليّ حرام رضى لك.

فانطلقت حفصة إلى عائشة فقالت لها : أبشري ، إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد حرّم عليه

__________________

(١) زيادة من ب.

(٢) المغافير : صمغ شبيه بالناطف ينضحه العفرط فيوضع في ثوب ثم ينضح بالماء فيشرب ، واحدها : مغفر (اللسان ، مادة : غفر).

(٣) أخرجه البخاري (٤ / ١٨٦٥ ح ٤٦٢٨) ، ومسلم (٢ / ١١٠٠ ح ١٤٧٤).

(٤) في الأصل : وجدتها. والتصويب من ب.

١٧٧

فتاته ، فنزلت هذه الآية (١).

وقال الضحاك : قال لحفصة : لا تذكري لعائشة ما رأيت ، فذكرته فغضبت عائشة ، ولم تزل بنبي الله حتى حلف أن لا يقربها ، فنزلت هذه الآية (٢).

قال المفسرون : وآلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد ذلك أن لا يدخل على نسائه شهرا ، وطلّق حفصة بنت عمر ، فقال عمر : لو كان في آل الخطاب خير لما طلقك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزل جبريل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : راجعها ، فإنها صوّامة قوّامة ، وإنها لمن نسائك في الجنة (٣).

والمعنى : لم تحرم ما أحل الله لك من ملك اليمين ، أو من العسل.

(تَبْتَغِي) إما تفسير ل" تحرّم" ، أو حال ، أو استئناف (٤).

(قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ) أي : شرع لكم (تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) تحليلها بالكفارة.

قال الحسن وقتادة والشعبي : حلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يمينا حرّمها بها ، فعوتب بالتحريم ، وأمر بكفارة اليمين (٥).

وقال ابن عباس : حرّمها على نفسه بغير يمين ، فكان التحريم موجبا لكفارة

__________________

(١) أخرجه الطبري (٢٨ / ١٥٧) ، والبيهقي في الكبرى (٧ / ٣٥٢ ح ١٤٨٥٢) كلاهما عن ابن عباس ، وابن سعد في طبقاته (٨ / ١٨٧) عن عروة بن الزبير. وذكره السيوطي في الدر (٨ / ٢١٤ ـ ٢١٥) وعزاه لابن سعد وابن مردويه عن ابن عباس. وانظر : أسباب النزول للواحدي (ص : ٤٥٩).

(٢) أخرجه الطبري (٢٨ / ١٥٦).

(٣) أخرجه الطبري (٢٨ / ١٣٢) ، والحاكم (٤ / ١٦ ح ٦٧٥٣).

(٤) انظر : التبيان (٢ / ٢٦٤) ، والدر المصون (٦ / ٣٣٤).

(٥) أخرجه الطبري (٢٨ / ١٥٦ و ١٥٨). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ٢١٦) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد عن الشعبي وقتادة.

١٧٨

اليمين (١).

وفي الصحيحين عن ابن عباس قال : في الحرام يكفّر ، ثم قال : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)(٢) [الأحزاب : ٢١].

واختلفوا : هل كفّر يمينه؟

فقال الحسن : لم يكفّر ؛ لأنه كان مغفورا له (٣).

وقال المقاتلان (٤) : أعتق رقبة.

فصل

إذا قال لزوجته : أنت عليّ حرام ؛ ففيه عن الإمام أحمد ثلاث روايات :

إحداهن : أنه ظهار ، نوى الطلاق أو لم ينوه. ذكره الخرقي ، وهو مروي عن عثمان وابن عباس ؛ لأنه صريح في تحريمها ، فكان كقوله : أنت عليّ كظهر أمي.

الثانية : هو كناية ظاهرة في الطلاق ، وهو قول علي وزيد بن ثابت وابن مسعود.

الثالثة : هو يمين ، وهو قول أبي بكر الصديق وعمر وعائشة (٥).

وقال مسروق : هو لغو (٦).

__________________

(١) ذكره الماوردي (٦ / ٣٩) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ٣٠٧).

(٢) أخرجه البخاري (٤ / ١٨٦٥ ح ٤٦٢٧) ، ومسلم (٢ / ١١٠٠ ح ١٤٧٣).

(٣) ذكره القرطبي (١٨ / ١٨٥).

(٤) انظر : تفسير مقاتل بن سليمان (٣ / ٣٧٦).

(٥) انظر : المغني (٧ / ٣١٦ ، ٣١٧) ، والكافي في فقه ابن حنبل (٣ / ١٧٣).

(٦) انظر : المغني (٧ / ٣١٧).

١٧٩

فصل

فإن قال : أمته عليه حرام ، أو هذا الطعام عليّ حرام : كان يمينا عندنا. وهو قول أبي بكر [وعائشة](١) وابن عباس ؛ لهذه الآية (٢).

وقال الشافعي : ليس بيمين (٣).

(وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (٣) إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ)(٤)

قوله تعالى : (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً) يعني : حفصة ، والذي أسرّه إليها : تحريم مارية (٤) ، في قول عطاء والشعبي والضحاك وقتادة.

وقيل : الذي أسرّه إليها : أنه قال لها : أبوك وأبو عائشة واليا الناس من بعدي (٥). والقولان عن ابن عباس.

__________________

(١) في الأصل : عائشة. والتصويب من ب.

(٢) انظر : التحقيق في أحاديث الخلاف (٢ / ٣٧٩).

(٣) انظر : منهاج الطالبين (ص : ١٠٦).

(٤) أخرجه الطبري (٢٨ / ١٥٨). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ٢١٥) وعزاه لابن مردويه عن ابن عباس. ومن طريق آخر عن قتادة ، وعزاه لعبد بن حميد. ومن طريق آخر عن الشعبي وقتادة ، وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد.

(٥) ذكره السيوطي في الدر المنثور (٨ / ٢١٩) وعزاه لابن مردويه.

١٨٠