رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٨

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي

رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٨

المؤلف:

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي


المحقق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الأسدي للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٨٨

واختلف القرّاء في إثبات الياء وحذفها في" أكرمني" و" أهانني" (١) ، على نحو ما تقدم في الموضعين السابقين في هذه السورة.

قوله تعالى : (كَلَّا) ردع للإنسان عن قوله. ثم قال : بل لا يكرمون اليتيم أي : بل [هناك](٢) شر من هذا القول ، وهو أن الله يكرمهم بكثرة المال فلا يؤدون ما يجب عليهم من إكرام اليتيم والحضّ على طعام المسكين.

قرأ أبو عمرو : " يكرمون" و" يحضون" و" يأكلون" و" يحبون" بالياء فيهن ، على لفظ الغيبة ؛ لتقدم ذكر الإنسان الذي هو اسم للجنس. وقرأ الباقون : بالتاء فيهن (٣) ، على الخطاب من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمن أرسل إليه. على معنى : قل لهم يا محمد كذا وكذا.

وقرأ الكوفيون : "(تَحَاضُّونَ)" بألف قبل الضاد (٤) ، ويمدّون الألف لسكونها وسكون أول المشدد ، أصله : يتحاضضون ، أي : يحضّ بعضكم بعضا ويحرّضه على إطعام المسكين ، فحذفوا إحدى التائين طلبا للخفة ، وأدغموا الضاد في الضاد.

قوله تعالى : (وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ) أي : تراث اليتيم ، وهو ميراثه.

__________________

(١) الحجة للفارسي (٤ / ١١٨) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٧٦٤) ، والكشف (٢ / ٣٧٤) ، والنشر (٢ / ٤٠٠) ، والإتحاف (ص : ٤٣٨) ، والسبعة (ص : ٦٨٤).

(٢) في الأصل : هذاك. والتصويب من ب.

(٣) الحجة للفارسي (٤ / ١٢١) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٧٦٢) ، والكشف (٢ / ٣٧٢) ، والنشر (٢ / ٤٠٠) ، والإتحاف (ص : ٤٣٨) ، والسبعة (ص : ٦٨٥).

(٤) الحجة للفارسي (٤ / ١٢٢) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٧٦٣) ، والكشف (٢ / ٣٧٢) ، والنشر (٢ / ٤٠٠) ، والإتحاف (ص : ٤٣٨) ، والسبعة (ص : ٦٨٥).

٦٢١

قال ابن قتيبة (١) : التراث : الميراث ، والتاء فيه منقلبة عن واو ، كما قالوا : تجاه ، والأصل : وجاه.

(أَكْلاً لَمًّا) شديدا.

قال الزمخشري (٢) : أكلا ذا لمّ ، وهو الجمع من الحلال والحرام. يعني : أنهم يجمعون في أكلهم بين نصيبهم من الميراث ونصيب غيرهم.

وقيل : كانوا لا يورّثون النساء والصبيان ، ويأكلون تراثهم مع تراثهم.

ويحبون المال حبا جما أي : يحبون جمعه حبا كثيرا مع الشّره والحرص ومنع الحقوق.

(كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (٢١) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (٢٢) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (٢٣) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (٢٤) فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (٢٥) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (٢٦) يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (٢٧) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (٢٨) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (٢٩) وَادْخُلِي جَنَّتِي)(٣٠)

قوله تعالى : (كَلَّا) ردع لهم عن ذلك.

ثم توعدهم وأخبرهم بما تؤول إليه حالهم من الحسرة ، وتمني ما لا سبيل لهم إلى تداركه ، من تقديم الإنفاق في سبل الخير والعمل الصالح فقال : (إِذا دُكَّتِ

__________________

(١) تفسير غريب القرآن (ص : ٥٢٧).

(٢) الكشاف (٤ / ٧٥٤).

٦٢٢

الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا) أي : مرّة بعد أخرى (١) بالزلازل ، حتى يتحطّم ما عليها من شيء.

وقال ابن قتيبة (٢) : دقّت جبالها وأنشازها حتى استوت.

(وَجاءَ رَبُّكَ)(٣) مذكور في البقرة عند قوله : (إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ) [البقرة : ٢١٠].

(وَالْمَلَكُ) يريد : الملائكة (صَفًّا صَفًّا) أي : يأتي [أهل كل](٤) سماء صفّا على حدة.

[قال](٥) الضحاك : [يكونون](٦) سبعة صفوف (٧).

(وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ) قال مقاتل (٨) : يجاء بها فتقام عن يسار العرش.

[وأخرج](٩) مسلم في أفراده من حديث ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام ، مع كل زمام سبعون ألف ملك

__________________

(١) في ب : مرة.

(٢) تفسير غريب القرآن (ص : ٥٢٧).

(٣) في الأصل زيادة قوله : والملك. وستأتي بعد.

(٤) في الأصل : كل أهل. والمثبت من ب.

(٥) في الأصل : وقال. والمثبت من ب.

(٦) زيادة من ب.

(٧) ذكره الواحدي في الوسيط (٤ / ٤٨٥) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٩ / ١٢١).

(٨) تفسير مقاتل (٣ / ٤٦٥).

(٩) في الأصل : أخرج. والمثبت من ب.

٦٢٣

[يجرّونها](١)» (٢).

(يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ) أي : يتّعظ.

وقيل : يتذكّر ما فرّط فيه.

(وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى) لا بد فيه من إضمار ، تقديره : وأنّى له منفعة الذكرى. ولو لا هذا الإضمار لتنافى صدر الآية وعجزها.

(يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي) [أي : قدمت لحياتي](٣) هذه ، وهي حياة الآخرة.

(فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ) أي : لا يعذّب مثل عذاب الله أحد من الخلق ولا يستطيع ذلك.

(وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ) وقرأت على الشيخين أبي البقاء اللغوي وأبي عمرو عثمان بن مقبل الياسري للكسائي من جميع طرقه ، ولعاصم من رواية المفضل عنه ، وليعقوب الحضرمي : " يعذّب" و" يوثق" (٤) بفتح الذال [والثاء](٥) ، والضمير للإنسان ، على معنى : لا يعذب أحد مثل عذابه ، ولا يوثق أحد بالسلاسل والأغلال مثل وثاقه.

ويجوز أن يكون المعنى : لا يحمل عذاب الإنسان أحد سواه ، كما قال : (وَلا

__________________

(١) في الأصل : يجرنها. والتصويب من ب ، وصحيح مسلم (٤ / ٢١٨٤).

(٢) أخرجه مسلم (٤ / ٢١٨٤ ح ٢٨٤٢).

(٣) زيادة من ب.

(٤) الحجة للفارسي (٤ / ١٢٣) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٧٦٣) ، والكشف (٢ / ٣٧٣) ، والنشر (٢ / ٤٠٠) ، والإتحاف (ص : ٤٣٩) ، والسبعة (ص : ٦٨٥).

(٥) في الأصل وب : والتاء.

٦٢٤

تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [الأنعام : ١٦٤].

قوله تعالى : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) قال ابن عباس : المطمئنة بالإيمان (١).

وقال مجاهد : الراضية بقضاء الله ، التي علمت أن ما أصابها لم يكن ليخطئها ، وما أخطأها لم يكن ليصيبها (٢).

قال قتادة : الموقنة بما وعد الله (٣).

فإن قيل : متى يقال لها ذلك؟

قلت : عند خروجها من الدنيا (٤).

وفي الحديث (٥) : «أن هذه الآية قرئت عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال أبو بكر الصديق : إن

__________________

(١) ذكره الطبري (٣٠ / ١٩٢) ، والواحدي في الوسيط (٤ / ٤٨٦) كلاهما بلا نسبة.

وأخرج الضياء المقدسي في المختارة (١٠ / ١٢٤ ـ ١٢٥) عن ابن عباس في قوله : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) أي : المؤمنة. وذكر أيضا هذا المعنى : الماوردي (٦ / ٢٧٢) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٩ / ١٢٣) ، والسيوطي في الدر (٨ / ٥١٣) وعزاه لابن أبي حاتم وابن مردويه والضياء في المختارة.

(٢) ذكره الواحدي في الوسيط (٤ / ٤٨٧).

(٣) أخرجه الطبري (٣٠ / ١٩٠) ، وابن أبي حاتم (١٠ / ٣٤٣١). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ٥١٥) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم.

(٤) في هامش ب : قلت : وقيل : يقال لها ذلك عند البعث. وقيل : عند دخولها الجنة. والقائل لها إما الله أو ملك.

(٥) في هامش ب : هو من مراسيل ابن جبير. ذكره ابن جرير وابن أبي حاتم ، وهو عنده عن ابن عباس بلفظ آخر وهو : " نزلت وأبو بكر جالس فقال : ما أحسن هذا؟ فقال : أما إنه سيقال لك هذا" هذا لفظه.

٦٢٥

هذا لحسن ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبي بكر : أما إن الملك سيقولها لك عند الموت» (١).

وقال عبد الله بن عمر : إذا توفي العبد المؤمن أرسل الله عزوجل ملكين وأرسل إليه بتحفة من الجنة فيقال : أخرجي أيتها النفس المطمئنة ، أخرجي إلى روح وريحان ، ورب عنك راض ، فتخرج كأطيب ريح مسك وجده في أنفه (٢). وهذا قول جمهور المفسرين.

وقال عطاء وعكرمة والضحاك : يقال لها ذلك عند البعث ، حين يأمر الله الأرواح أن تعود إلى الأجساد (٣).

ويؤيده قراءة ابن مسعود : " في جسد عبدي" (٤) ، وقراءة ابن عباس : " فادخلي في عبيدي" (٥).

وقيل : يقال لها عند الموت : (ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ) ، فإذا كان يوم القيامة قيل لها : (فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي).

وقال الحسن : المعنى : ارجعي إلى ثواب ربك راضية بما أوتيت ، مرضية عند

__________________

(١) أخرجه الطبري (٣٠ / ١٩١) ، وابن أبي حاتم (١٠ / ٣٤٣٠) ، وأبو نعيم في الحلية (٤ / ٢٨٣ ـ ٢٨٤). وذكره السيوطي في الدر المنثور (٨ / ٥١٣) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبي نعيم في الحلية عن سعيد بن جبير.

قال ابن كثير (٤ / ٥١٢) : وهذا مرسل حسن.

(٢) ذكره الواحدي في الوسيط (٤ / ٤٨٧).

(٣) أخرجه الطبري (٣٠ / ١٩١). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٩ / ١٢٣).

(٤) انظر هذه القراءة في : القرطبي (٢٠ / ٥٨).

(٥) انظر هذه القراءة في : الطبري (٣٠ / ١٩٢) ، وزاد المسير (٩ / ١٢٤) وفيهما : " عبدي". ولم أجد ما ذكر المصنف من قراءة ابن عباس.

٦٢٦

ربك (١).

(فَادْخُلِي فِي عِبادِي) أي : في جملة عبادي الصالحين ، منتظمة في سلكهم ، (وَادْخُلِي جَنَّتِي) معهم. والله تعالى أعلم.

__________________

(١) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٩ / ١٢٤).

٦٢٧

سورة البلد

بسم الله الرّحمن الرّحيم

وهي عشرون آية (١). وهي مكية بإجماعهم.

(لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (١) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (٢) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (٤) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (٥) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (٦) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (٧) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (٨) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (٩) وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ)(١٠)

قال الله تعالى : (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ) وقرأ عكرمة ومجاهد وأبو عمران وأبو العالية : " لأقسم" (٢). وقد ذكرنا توجيه القراءتين في أول القيامة.

أقسم الله تعالى بالبلد الحرام ، وهو مكة شرفها الله تعالى ، وبما بعده ، على أن الإنسان خلق مغمورا في مكابدة المشاقّ والشدائد ، واعترض بين القسم والمقسم عليه بقوله : (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ).

واختلفوا في معنى : "(وَأَنْتَ حِلٌ)" ؛ فقال ابن عباس ومجاهد وجمهور المفسرين : المعنى : وأنت يا محمد في المستقبل من الزمان ، ونظيره : (إِنَّكَ مَيِّتٌ

__________________

(١) انظر : البيان في عدّ آي القرآن (ص : ٢٧٤).

(٢) انظر هذه القراءة في : زاد المسير (٩ / ١٢٦).

٦٢٨

وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) [الزمر : ٣٠] حلال بهذا البلد ، تصنع فيه ما تشاء ، من قتل وأسر ، فيكون خارجا مخرج البشارة له ، بأنه سيفتح عليه ، فيكون [فيه](١) حلّا ، فظهر أثر ذلك يوم الفتح ، وأحله له ساعة من النهار ، فقتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة ، ومقيس بن صبابة ، وغيرهما (٢). ثم قال : «إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض ، فهي حرام إلى أن تقوم الساعة ، لم تحل لأحد قبلي ، ولن تحل لأحد بعدي ، ولم تحل لي إلا ساعة من نهار» (٣).

ويحتمل عندي على هذا القول : أن تكون الواو في" وأنت" حاليّة ، فيكون مقسما بالبلد الحرام على أكمل أوصافه ، وأحسن أحواله ، مطهّرا من الأصنام وعابديها ، محلّى بزينة أهل الإيمان ، فإنه لما ظهر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على مكة وجد حول الكعبة ثلاثمائة وستين صنما ، فجعل يطعن فيها ويقول : «جاء الحق وزهق الباطل ، جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد» (٤) ، وأذّن بلال على الكعبة رافعا صوته بقوله : " أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن محمدا رسول الله" ، فنال منهم ذلك كل منال ، وأعزّ الله دين الإسلام في ذلك اليوم ، وأذلّ سلطان الشرك.

وقيل : المعنى : وأنت حلّ عند المشركين ، يستحلون أذاك وقتلك وإخراجك ، ويحرّمون قتل الصيد.

__________________

(١) زيادة من ب.

(٢) أخرجه الطبري (٣٠ / ١٩٤) ، وابن أبي حاتم (١٠ / ٣٤٣٢). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ٥١٦) وعزاه لابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس.

(٣) أخرجه البخاري (٤ / ١٥٦٧ ح ٤٠٥٩).

(٤) أخرجه البخاري (٢ / ٨٧٦ ح ٢٣٤٦) من حديث عبد الله بن مسعود.

٦٢٩

فإن قيل : ما فائدة الاعتراض بقوله : (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ) على ما قاله المفسرون؟

قلت : فائدته على القول الأول : ما أشرت إليه من البشارة بأنه سيفتح عليه هذا البلد العظيم ، الذي وقع القسم به ، ويحكم فيه وعلى أهله بما يشاء.

وفائدته على القول الآخر : ذمّ المشركين حيث استحلوا مثل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بلد من شأنه أن الله أقسم به ، والإعلام بأن مثله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مثل هذا البلد الحرام ما خلا من مكابدة الشدائد ، فيكون ذلك خارجا مخرج التقرير والتحقيق لما أقسم الله عليه من خلق الإنسان في كبد.

فإن قيل : هلّا اكتفى بالكناية عن البلد فقال : " وأنت حلّ به"؟

قلت : كرره تفخيما لشأنه (١) ، كقول الشاعر :

لا أرى الموت يسبق الموت شيء

نغّض الموت ذا الغنى والفقيرا (٢)

قوله تعالى : (وَوالِدٍ وَما وَلَدَ) قال الحسن ومجاهد وقتادة : آدم وذريته (٣).

وقال أبو عمران الجوني : إبراهيم ومحمد صلّى الله عليهما (٤).

__________________

(١) قوله : " لشأنه" ساقط من ب.

(٢) تقدم.

(٣) أخرجه مجاهد (ص : ٧٥٨) ، والطبري (٣٠ / ١٩٥ ـ ١٩٦) ، وابن أبي حاتم (١٠ / ٣٤٣٣). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ٥١٩) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن قتادة. ومن طريق آخر عن مجاهد ، وعزاه للفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٤) أخرجه الطبراني (٣٠ / ١٩٦) ، وابن أبي حاتم (١٠ / ٣٤٣٣) ولفظهما : إبراهيم وما ولد. وذكره السيوطي في الدر (٨ / ٥١٩) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم. ولفظه كلفظ ابن أبي حاتم.

٦٣٠

قال بعض العلماء (١) : فيكون قد أقسم ببلده الذي هو مسقط رأسه وحرم أبيه إبراهيم ، ومنشأ أبيه إسماعيل ، وبمن ولده وبه.

وقيل : هو عام في كل والد وما ولد (٢).

وقوله : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) جواب القسم ، وهو اسم جنس ، عند ابن عباس وعامة المفسرين (٣).

وقال مقاتل (٤) : نزلت في الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف ، وذلك أنه أذنب ذنبا ، فاستفتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأمره أن يكفّر فقال : لقد ذهب مالي في النفقات والكفارات منذ دخلت في دين محمد.

وقال ابن زيد : آدم عليه‌السلام (٥).

وقال الحسن : يعني : أبا الأشدين (٦) ، وهو رجل من بني جمح ، كان كثير المال ، شديد القوة ، عظيم الخلق ، يظن لذلك أن لن يقدر عليه الله ولا يعاقبه.

وقيل : الوليد بن المغيرة (٧).

__________________

(١) هو قول الزمخشري في الكشاف (٤ / ٧٥٨).

(٢) وهو اختيار الطبري (٣٠ / ١٩٦) قال : لأن الله عمّ كل والد وما ولد ، وغير جائز أن يخص ذلك إلا بحجة يجب التسليم لها من خبر أو عقل ، ولا خبر بخصوص ذلك ولا برهان يجب التسليم له بخصوصه ، فهو على عمومه كما عمّه.

(٣) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٩ / ١٢٨).

(٤) تفسير مقاتل (٣ / ٤٨٥).

(٥) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٩ / ١٢٩).

(٦) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٩ / ١٢٨).

(٧) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٩ / ١٢٩) حكاية عن الثعلبي.

٦٣١

والصحيح : الأول ، وأنه اسم جنس.

ولا منافاة بين ذلك وبين [النزول على](١) ما نقل من السبب.

وقوله : (فِي كَبَدٍ) من قولهم : كبد الرجل كبدا فهو أكبد ؛ إذا وجعت كبده وانتفخت (٢) ، فاتّسع فيه حتى استعمل في كل تعب ومشقة ، ومنه اشتقّت : المكابدة ، وأنشدوا قول لبيد :

يا عين هلّا بكيت أربد إذ

[قمنا](٣) وقام الخصوم في كبد (٤)

أي : في شدة الأمر وصعوبة الخطب.

قال عمر رضي الله عنه : يكابد الشكر على السراء ، والصبر على الضراء ؛ لأنه لا يخلو من أحدهما (٥).

وقال الحسن : لا أعلم خليقة تكابد من الأمر ما يكابد هذا الإنسان (٦) ، لا يزال يكابد أمرا حتى يفارق الدنيا (٧) ، وهو مع ذلك أضعف الخلق.

__________________

(١) زيادة من ب.

(٢) انظر : اللسان (مادة : كبد).

(٣) في الأصل : قنا. والتصويب من ب. وانظر : مصادر البيت.

(٤) البيت للبيد بن ربيعة ، من قصيدة يرثي بها أخاه أربد. وهو في : اللسان (مادة : كبد ، عدل) ، والخصائص (٢ / ٢٠٥ ، ٣ / ٣١٨) ، والأغاني (١٧ / ٦٠ ، ٦٨) ، والعين (٥ / ٣٣٣) ، والطبري (٣٠ / ١٩٨) ، والقرطبي (٩ / ٢٩٧ ، ٢٠ / ٦٢) ، والماوردي (٦ / ٢٧٦) ، والبحر (٨ / ٤٦٨) ، والدر المصون (٦ / ٥٢٥).

(٥) ذكره الماوردي (٦ / ٢٧٦) عن ابن عمر ، وابن الجوزي في زاد المسير (٩ / ١٢٩) عن الحسن.

(٦) أخرجه الطبري (٣٠ / ١٩٧) ، وابن المبارك في الزهد (ص : ٧٨). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ٥٢٠) وعزاه لابن المبارك.

(٧) ذكره الواحدي في الوسيط (٤ / ٤٨٩).

٦٣٢

وقال في رواية أخرى : يكابد مضايق الدنيا ، وشدائد الآخرة (١).

قوله : (أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ) أي : أيظن الذي نزل ما نزل بسببه ـ وهو الحارث ـ ، أن لن يقدر عليه أحد.

قال قتادة : أيظن أني لا أسأله عن هذا المال من أين اكتسبه ، وأين أنفقه؟ (٢).

أو هو أبو الأشدين ، على معنى : أيظن هذا الصنديد الشديد لاستحكام خلقه ، واشتداد قوته ، أني لا أقدر على الانتقام منه (٣).

[وكان](٤) يقوم على الأديم العكاظي ويقول : من أزالني عنه فله كذا ، فلا ينزع إلا قطعا ، ويبقى موضع قدميه (٥).

(يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً) يريد : كثرة ما أنفقه.

قال ابن قتيبة (٦) : هو المال المتلبد ، كأن بعضه على بعض.

وقرأ أبو بكر الصديق وعائشة وأبو عبد الرحمن وقتادة : " لبّدا" بتشديد الباء. وبها قرأت لأبي جعفر (٧).

__________________

(١) أخرجه ابن أبي حاتم (١٠ / ٣٤٣٣). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ٥٢٠) وعزاه لابن المبارك في الزهد وعبد بن حميد وابن أبي حاتم.

(٢) ذكره الماوردي (٦ / ٢٧٦) ، والواحدي في الوسيط (٤ / ٤٩٠).

(٣) انظر : الطبري (٣٠ / ١٩٨).

(٤) في الأصل : وكا. والتصويب من ب.

(٥) ذكره الزمخشري في الكشاف (٤ / ٧٥٩).

(٦) تفسير غريب القرآن (ص : ٥٢٨).

(٧) النشر (٢ / ٤٠١) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٤٣٩). وانظر : زاد المسير (٩ / ١٣١).

٦٣٣

وقرأ عثمان بن عفان والحسن ومجاهد : بضم الباء واللام من غير تشديد (١).

وقرأ علي وأبو الجوزاء : بكسر اللام وفتح الباء مخففة (٢).

وقرأ أبو عمران وأبو المتوكل : " لبدا" بتخفيف الباء وتسكينها (٣).

فقراءة الجمهور جمع : لبدة ، بضم اللام ، وقراءة الصّدّيق ومن تابعه جمع : لا بد ، مثل : راكع وركّع ، وقراءة عثمان ومن وافقه جمع : لبود ، وقراءة علي رضي الله عنهم أجمعين جمع : لبدة ، بكسر اللام.

فإن قلنا : هو الحارث ، فالمعنى ظاهر على ما ذكرناه من قوله في سبب النزول.

وإن قلنا هو أبو الأشدين ، فالمعنى : يقول أهلكت مالا لبدا في عداوة محمد.

(أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ) حين أنفق ما أنفق حتى يكذّب ويتزيّد في قوله : لقد [ذهب](٤) مالي في النفقات ، وفي (٥) عداوة محمد ، كأنه كان يفتخر بذلك ، ويتّخذ به يدا عند المشركين.

وهذا [التقرير](٦) والتحرير وتهذيب المعاني على مساوقة الأقوال ، وكيفية ارتباط الاعتراض بقوله : " وأنت حلّ" بالقسم وجوابه ، وتحرير كون الواو في" وأنت حلّ" حاليّة ، فلا يكون حينئذ اعتراضا ، كل ذلك مما عقلته فقلته ، لا مما وجدته فنقلته.

__________________

(١) إتحاف فضلاء البشر (ص : ٤٣٩). وانظر : زاد المسير (٩ / ١٣١).

(٢) انظر هذه القراءة في : زاد المسير (٩ / ١٣١).

(٣) مثل السابق.

(٤) في الأصل : هب. والتصويب من ب.

(٥) في ب : أو في.

(٦) في الأصل : التقدير. والمثبت من ب.

٦٣٤

ثم ذكّره الله سبحانه وتعالى نعمه عليه ليعتبر ، فذلك قوله تعالى : (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ) يبصر بهما المرئيات.

(وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ) يترجم بهما عن ضميره ، ويستعين بهما على كثير من مصالحه.

(وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) سبيل الخير والشر (١).

وقيل : الثديين (٢). على معنى : ألهمناه الارتضاع منهما. والقولان عن ابن عباس.

والأول قول علي عليه‌السلام ، والحسن البصري ، وجمهور المفسرين. والثاني قول سعيد بن المسيب والضحاك وقتادة (٣).

(فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (١١) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (١٢) فَكُّ رَقَبَةٍ (١٣) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (١٤) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (١٥) أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (١٦) ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (١٧) أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (١٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (١٩) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ)(٢٠)

__________________

(١) أخرجه الطبري (٣٠ / ٢٠٠). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٩ / ١٣٢).

(٢) أخرجه الطبري (٣٠ / ٢٠١) ، وابن أبي حاتم (١٠ / ٣٤٣٤). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٩ / ١٣٢) ، والسيوطي في الدر (٨ / ٥٢٢) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس.

(٣) انظر : الطبري (٣٠ / ٢٠١) ، وابن أبي حاتم (١٠ / ٣٤٣٤).

٦٣٥

قوله تعالى : (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) الاقتحام : الدخول بشدة. وقد فسرناه في صاد (١).

والعقبة : مثل ضربه الله تعالى لمجاهدة النفس والهوى والشيطان.

وقال الحسن : عقبة والله شديدة ، مجاهدة الإنسان نفسه وهواه وعدوّه الشيطان (٢). وهذا معنى قول قتادة وابن زيد وكثير من المفسرين ، وإليه ميل أهل المعاني.

وللمفسرين في العقبة أقوال :

أحدها : [أنها](٣) جبل في جهنم. قاله ابن عمر (٤).

الثاني : سبعون [دركة](٥) في جهنم. قاله كعب الأحبار (٦).

الثالث : عقبة دون الجسر. يروى عن الحسن (٧).

فإن قيل : العرب لا تكاد تتكلم بصيغة" لا" الداخلة على الماضي إلا مكررة ، كقوله : (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى) [القيامة : ٣١] ، فما لها لم تتكرر هاهنا؟

__________________

(١) عند الآية رقم : ٥٩.

(٢) ذكره الماوردي (٦ / ٢٧٨).

(٣) في الأصل : أنه. والتصويب من ب.

(٤) أخرجه الطبري (٣٠ / ٢٠١) ، وابن أبي حاتم (١٠ / ٣٤٣٤) ، وابن أبي شيبة (٧ / ١١٨ ح ٣٤٦٤٠). وذكره السيوطي (٨ / ٥٢٢) وعزاه لابن أبي شيبة والطبري وابن أبي حاتم.

(٥) في الأصل : درجة. والمثبت من ب.

(٦) أخرجه الطبري (٣٠ / ٢٠٢) ، وابن أبي حاتم (١٠ / ٣٤٣٥). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ٥٢٣) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٧) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٩ / ١٣٤).

٦٣٦

قلت : هي مكررة في المعنى ؛ لأن معنى : (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) : لا فكّ رقبة ، ولا أطعم مسكينا. فكأنه قال : لا فعل ذا ولا ذا ولا ذا. قاله الفراء والزمخشري (١) ، وأشار إليه الزجاج (٢).

قوله تعالى : (وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ) قال سفيان بن عيينة : كل ما فيه" وما أدراك" فقد أخبره به ، وكل ما فيه" وما يدريك" فإنه لم يخبره به (٣).

قوله تعالى : (فَكُّ رَقَبَةٍ) قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي : " فكّ" بفتح الكاف ، " رقبة" بالنصب ، " أو أطعم" على صيغة الفعل الماضي ، على الإبدال من قوله : " اقتحم العقبة". وقرأ الباقون : " فكّ" بضم الكاف ، " رقبة" بالجر على الإضافة ، " (أَوْ إِطْعامٌ)" (٤) ، على معنى : هي فك رقبة (أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ).

ومعنى فك الرقبة : تخليصها من أسر الرقّ.

وفي الحديث : «أن رجلا أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله! علمني عملا يدخلني الجنة. قال : إن كنت أقصرت الخطبة ، لقد أعرضت المسألة ، أعتق النسمة وفكّ الرقبة. فقال : أو ليسا واحدا؟ قال : لا ، عتق النسمة : أن تنفرد بعتقها. وفك الرقبة : أن تعين في ثمنها» (٥).

__________________

(١) معاني الفراء (٣ / ٢٦٥) ، والكشاف (٤ / ٧٥٩).

(٢) معاني الزجاج (٥ / ٣٢٩).

(٣) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٩ / ١٣٤).

(٤) الحجة للفارسي (٤ / ١٢٤) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٧٦٤) ، والكشف (٢ / ٣٧٥) ، والنشر (٢ / ٤٠١) ، والإتحاف (ص : ٤٣٩) ، والسبعة (ص : ٦٨٦).

(٥) أخرجه أحمد (٤ / ٢٩٩) ، والحاكم (٢ / ٢٣٦ ح ٢٨٦١) ، والدارقطني (٢ / ١٣٥ ح ١). قال الهيثمي في مجمع الزوائد (٤ / ٢٤٠) : رواه أحمد ، ورجاله ثقات.

٦٣٧

قوله تعالى : (ذِي مَسْغَبَةٍ) أي : مجاعة.

ووصف اليوم بالمجاعة نحو قولهم : همّ ناصب ، وليل نائم ، ونهار صائم.

وقرأ الحسن وأبو رجاء : " ذا مسغبة" (١) ، على معنى : أطعم في يوم من الأيام شخصا ذا مجاعة.

وفي الحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من موجبات المغفرة : إطعام السغبان» (٢).

قوله تعالى : (يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ) أي : ذا قرابة.

قال الزجاج (٣) : تقول : زيد ذو قرابتي ، وذو مقربتي. وزيد قرابتي قبيح ؛ لأن القرابة : المصدر. قال الشاعر :

يبكي الغريب عليه ليس يعرفه

وذوا قرابته في الحيّ مسرور (٤)

(أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ) يقال : ترب الرجل ؛ إذا افتقر ، وأترب ؛ إذا استغنى ، أي : صار ذا مال كالتراب في الكثرة (٥).

والمعنى هاهنا : قد لصق بالتراب من فقره وضرّه.

قال ابن عباس : هو المطروح في التراب لا يقيه شيء (٦).

__________________

(١) إتحاف فضلاء البشر (ص : ٤٣٩).

(٢) أخرجه الحاكم (٢ / ٥٧٠ ح ٣٩٣٥) ، والبيهقي في شعب الإيمان (٣ / ٢١٦ ح ٣٣٦٣).

(٣) معاني الزجاج (٥ / ٣٢٩ ـ ٣٣٠).

(٤) انظر البيت في : روح المعاني (٨ / ١٤٣ ، ٣٠ / ١٣٨) ، والإصابة (٥ / ١١٥).

(٥) انظر : اللسان (مادة : ترب).

(٦) أخرجه الحاكم (٢ / ٥٧٠) ، والطبري (٣٠ / ٢٠٤) ، وابن أبي حاتم (١٠ / ٣٤٣٥). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ٥٢٥) وعزاه للفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم.

٦٣٨

وقال مجاهد : المطروح في الطريق ليس له بيت (١).

وقال الضحاك : كثير العيال (٢).

أخبرنا القاضي أبو القاسم عبد الصمد بن محمد بن أبي الفضل الأنصاري قراءة عليه وأنا أسمع في ذي القعدة سنة تسع وستمائة بجامع دمشق قال : أخبرنا أبو محمد عبد الكريم بن حمزة بن الخضر السلمي الحداد ، أخبرنا أبو محمد عبد العزيز بن أحمد بن محمد الكتاني الحافظ ، أخبرنا أبو القاسم تمام بن محمد بن عبد الله بن جعفر بن الجنيد الرازي الحافظ ، حدثنا يوسف بن القاسم [بن](٣) سوار ، أخبرنا علي بن العباس بن الوليد المقانعي ، حدثنا [الحسين](٤) بن نصر بن مزاحم ، حدثنا خالد بن عيسى العكلي ، عن حصين بن أبي عبد الرحمن ، عن مسعر بن كدام ، عن أشعث بن أبي الشعثاء ، عن رجاء بن حيوة ، عن معاذ بن جبل قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لا تبخلن على إخوانكم بذات [أيديكم](٥) ، يمسك الله ما في يديه عنكم ، فإن ما عندكم ينفد وما عند الله باق ، فلا تمنعوهم المعونة بأنفسكم ، أو المشي في حوائجهم ، فيحجب الله دعاءكم ، فإن من القرابة القريبة غدا عند الله والزلفى لديه : إطعام الرجل منكم أخاه الجائع السغبان ، ومن الوسيلة إلى ربكم غدا : أن يكسو أحدكم أخاه ثوبا ، فيكسوه الله عزوجل من خضر الجنة غدا ،

__________________

(١) أخرجه الحاكم (٣٠ / ٢٠٥). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ٥٢٥) وعزاه للفريابي وعبد بن حميد.

وانظر : تفسير مجاهد (ص : ٧٦٠ ـ ٧٦١).

(٢) أخرجه الطبري (٣٠ / ٢٠٦).

(٣) زيادة من ب.

(٤) في الأصل وب : الحسن. والتصويب من الفوائد (٢ / ١٧٨).

(٥) في الأصل : أيدكم. والتصويب من ب.

٦٣٩

وإن من مقدمات الخير بكم إلى ربكم أن يسقي أحدكم أخاه ، ويرويه من الماء البارد ، يسقيه الله عزوجل من الرحيق المختوم ، ثم قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ)(١).

قوله تعالى : (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا)(٢) فيه إعلام أنّ فكّ الرقبة وإطعام الجائع ، إنما ينفع مع الإيمان والعمل الصالح ، وهو أداء الفرائض.

(وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) على طاعة الله وعن معصيته (وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) بالعطف والتراحم فيما بينهم.

وقيل : بما يؤدي إلى الرحمة ، وهو الثبات على الإيمان وشرائعه.

(أُولئِكَ) الذين هذه صفتهم (أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) مفسّر في الواقعة (٣) ، وكذلك (أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ).

قوله تعالى : (عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ) قرأ أبو عمرو وحمزة وحفص : "(مُؤْصَدَةٌ)" بالهمز.

وقرأ الباقون بغير همز (٤) ، ومثله في الهمزة (٥).

فمن جعله من قولهم : آصدت الباب ، أي : أطبقته ، فهو أفعلت ، وفاء الفعل

__________________

(١) أخرجه تمام الرازي في كتاب الفوائد (٢ / ١٧٨).

(٢) في الأصل وب زيادة قوله : وعملوا الصالحات وهو خطأ. وموضعها في سورة العصر.

(٣) عند الآية رقم : ٧ و ٨.

(٤) الحجة للفارسي (٤ / ١٢٥ ـ ١٢٦) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٧٦٦) ، والكشف (٢ / ٣٧٧) ، والنشر (١ / ٣٩٥) ، والإتحاف (ص : ٤٣٩) ، والسبعة (ص : ٦٨٦).

(٥) عند الآية رقم : ٨.

٦٤٠