رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٨

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي

رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٨

المؤلف:

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي


المحقق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الأسدي للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٨٨

وقال ابن عباس : صالحهم على أن يحمل أهل كل ثلاثة أبيات على بعير ما شاؤوا من متاعهم ، ولنبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما بقي ، فخرجوا من المدينة إلى الشام إلى أذرعات وأريحا ، ولحقت طائفة منهم بالحيرة ، إلا أهل بيتين منهم : آل أبي الحقيق وآل حيي بن أخطب ، فإنهم لحقوا بخيبر (١).

فوجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خمسين درعا وخمسين بيضة وثلاثمائة وأربعين سيفا (٢) ، فذلك قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) يعني : يهود بني النضير.

[(مِنْ دِيارِهِمْ) قال ابن إسحاق : كان إجلاء بني النضير](٣) مرجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أحد ، وكان فتح قريظة مرجعه من الأحزاب ، وبينهما سنتان (٤).

(لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) قال ابن عباس : هم أول من حشر وأخرج من دياره (٥).

قال ابن السائب : هم أول من نفي من أهل الكتاب (٦).

وقال الحسن : هذا أول حشرهم ، والحشر الثاني إلى أرض المحشر يوم

__________________

ـ وانظر قصة إجلاء بني النضير في : الطبقات الكبرى (٢ / ٥٧ ـ ٥٨) ، والبداية والنهاية (٤ / ٧٤ ـ ٧٥) ، وتاريخ الطبري (٢ / ٨٣ ـ ٨٥).

(١) أخرجه الطبري (٢٨ / ٣١ ـ ٣٢). وعزاه السيوطي في الدر المنثور (٨ / ٩١) لابن جرير وابن مردويه والبيهقي في الدلائل.

(٢) أخرجه الواقدي (١ / ٣٧٧).

(٣) زيادة من ب.

(٤) ذكره الثعلبي في تفسيره (٩ / ٢٦٨).

(٥) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ٢٠٤).

(٦) ذكره الواحدي في الوسيط (٤ / ٢٧٠) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ٢٠٤).

٤١

القيامة (١).

قال ابن عباس وعكرمة : من شك أن المحشر إلى الشام ، فليقرأ هذه الآية ، وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لهم يومئذ : اخرجوا ، قالوا : إلى أين؟ قال : إلى أرض المحشر (٢).

وقال مرة الهمداني : كان هذا أول الحشر لأنهم من المدينة ، والحشر الثاني من خيبر وجميع جزيرة العرب إلى أذرعات وأريحا من الشام في أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعلى يديه (٣).

وقال قتادة : كان هذا أول الحشر ، والثاني نار تحشرهم من المشرق إلى المغرب ، تبيت معهم إذا باتوا ، وتقيل معهم إذا [قالوا](٤) ، وتأكل منهم من تخلّف (٥).

قوله تعالى : (ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا) أي : ما حسبتم ذلك لشدة بأسهم وكثرة عددهم وعددهم (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ) أي : توهموا أن حصونهم مانعتهم ، أي : عاصمتهم من بأس الله وسلطان رسوله ، (فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) من حيث لم يظنوا ، ولم يخطر ببالهم ، من قتل رئيسهم كعب بن الأشرف بيد أخيه من الرضاعة ، فإنه كان سبب فشلهم وفلّ شوكتهم.

(وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) الخوف الذي ملأ قلوبهم.

قرأ أبو عمرو : " يخرّبون" بضم الياء وفتح الخاء وتشديد الراء. وقرأ الباقون :

__________________

(١) ذكره الماوردي (٥ / ٤٩٩) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ٢٠٤).

(٢) أخرجه ابن أبي حاتم (١٠ / ٣٣٤٥). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ٨٩) وعزاه للبزار وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في البعث عن ابن عباس.

(٣) ذكره الثعلبي في تفسيره (٩ / ٢٦٨ ـ ٢٦٩).

(٤) في الأصل : أقبلوا. والتصويب من ب.

(٥) أخرجه الطبري (٢٨ / ٢٩). وذكره الماوردي (٥ / ٤٩٩).

٤٢

بضم الياء وسكون الخاء وتخفيف الراء (١).

قال أبو عمرو : إنما اخترت التشديد ؛ لأن الإخراب ترك الشيء خرابا بغير ساكن ، وأن بني النضير نقضوا منازلهم ولم يرتحلوا عنها وهي معمورة (٢).

قال ابن جرير (٣) : المشددة معناها : النقض والهدم ، والمخففة معناها : ما [يخرجون](٤) منها ويتركونها خرابا معطلة.

وقال قوم : التخريب والإخراب واحد.

والذي دعاهم إلى التخريب : حاجتهم إلى الخشب والحجارة ، ليسدوا أفواه الأزقّة.

قال ابن عباس : كلما ظهر المسلمون على دار من دورهم هدموها ؛ ليتسع لهم المقاتل ، وجعل أعداء الله ينقبون دورهم من أدبارها فيخرجون إلى التي بعدها يتحصنون فيها (٥).

وقال الضحاك : جعل المسلمون كلما هدموا شيئا من حصونهم نقضوا من أبنيتهم ما يبنون به ما خرّبه المسلمون (٦).

وقال ابن زيد : كانوا يقلعون العمد وينقضون السقوف ، ويقلعون الخشب

__________________

(١) الحجة للفارسي (٤ / ٣٧) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٧٠٥) ، والكشف (٢ / ٣١٦) ، والنشر (٢ / ٣٨٦) ، والإتحاف (ص : ٤١٣) ، والسبعة (ص : ٦٣٢).

(٢) الطبري (٢٨ / ٣٠).

(٣) الطبري (٢٨ / ٣٠).

(٤) في الأصل : يخربون. والتصويب من ب. وانظر : زاد المسير (٨ / ٢٠٥).

(٥) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ٢٠٥ ـ ٢٠٦).

(٦) أخرجه الطبري (٢٨ / ٣٠). وذكره الماوردي (٥ / ٥٠٠).

٤٣

حتى الأوتاد ؛ لئلا يسكنها المسلمون ، حسدا (١) منهم وبغضا (٢).

ومعنى تخريبهم بيوتهم بأيدي المؤمنين : أنهم عرّضوهم لذلك ، وكانوا السبب فيه.

(فَاعْتَبِرُوا) أي : تدبّروا ناظرين في عواقب الأمور (يا أُولِي الْأَبْصارِ) يا أرباب العقول.

قوله تعالى : (وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ) أي : ولو لا أن قضى الله عليهم أن يخرجوا جميعهم من بيوتهم [بذراريهم](٣) ونسائهم ، (لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا) بالقتل والسبي ، كما فعل بقريظة (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ) مع ما أصابهم في الدنيا (عَذابُ النَّارِ).

(ذلِكَ) الذي أصابهم (بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ) وقد سبق بيان المشاقة في البقرة.

قال القاضي أبو يعلى رحمه‌الله : قد دلّت هذه الآية على جواز مصالحة أهل الحرب على الجلاء من ديارهم ، من غير سبي ، ولا استرقاق ، ولا جزية ، ولا دخول في ذمة ، وهذا حكم منسوخ إذا كان في المسلمين قوة على قتالهم ؛ لأن الله تعالى أمر بقتال الكفار حتى يسلموا ، أو يعطوا الجزية ، وإنما يجوز ذلك الحكم إذا عجز المسلمون عن مقاومتهم ولم يقدروا على إدخالهم في الإسلام أو [الذمة](٤) ،

__________________

(١) في الأصل زيادة قوله : لهم. وانظر النص في : تفسير البغوي (٤ / ٣١٥).

(٢) أخرجه الطبري (٢٨ / ٣٠). وذكره الماوردي (٥ / ٥٠٠).

(٣) في الأصل : بذرارهم. والتصويب من ب.

(٤) في الأصل : ذمة. والتصويب من ب.

٤٤

فيجوز لهم حينئذ مصالحتهم على [الجلاء من بلادهم. وفي هذه القصة دلالة على جواز مصالحتهم على](١) مجهول من المال ؛ لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صالحهم على أرضهم وعلى الحلقة (٢) ، وترك لهم ما أقلّت الإبل ، وذلك مجهول (٣).

قوله تعالى : (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ) وهي النخل كله ما خلا البرني والعجوة ، في قول ابن عباس ، وعامة المفسرين واللغويين (٤).

قال الزجاج (٥) : أهل المدينة يسمّون جميع النخل : الألوان ، ما خلا البرني والعجوة. [وأصل](٦) لينة : لونة ، فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها.

وقال مقاتل (٧) : هي ضرب من النخل يقال لثمرها : اللّون (٨) ، وهو شديد الصفرة ، يرى نواه من خارج ، يغيب فيه الضرس ، وكان من أجود تمرهم وأعجبها إليهم. وكانت النخلة الواحدة منها ثمن وصيف ، وأحبّ إليهم من وصيف ، فلما [رأوا](٩) ذلك الضرب يقطع ، شقّ عليهم مشقة شديدة ، وقالوا للمؤمنين : تزعمون أنكم تكرهون الفساد وأنتم تفسدون وتخربون وتقطعون الشجر ، دعوا

__________________

(١) زيادة من زاد المسير (٨ / ٢٠٧).

(٢) في الأصل زيادة قوله : وما أقلت. وانظر النص في : زاد المسير ، الموضع السابق.

(٣) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ٢٠٦ ـ ٢٠٧).

(٤) أخرجه الطبري (٢٨ / ٣٢ ـ ٣٣). وانظر : الدر المنثور (٨ / ٩٨).

(٥) معاني الزجاج (٥ / ١٤٤).

(٦) في الأصل : وأصله. والتصويب من ب ، ومعاني الزجاج (٥ / ١٤٤).

(٧) تفسير مقاتل (٣ / ٣٣٨).

(٨) في مقاتل : اللين.

(٩) في الأصل : أرادوا. والتصويب من ب ، وتفسير مقاتل (٣ / ٣٣٨).

٤٥

هذا النخل فإنما هو لمن غلب عليها.

وقال سفيان : اللّينة : كرائم النخل (١).

قال الضحاك : قطعوا وأحرقوا ست نخلات (٢).

وقال مقاتل (٣) : أربعة.

وقال ابن إسحاق : قطعوا نخلة ، وأحرقوا نخلة (٤).

وقال مجاهد : إن بعض المهاجرين وقعوا في قطع النخيل ونهاهم بعضهم وقالوا : إنما هي مغانم المسلمين ، وقال الذين قطعوا : بل هي غيظ للعدو ، ونزل القرآن بتصديق من نهى عن قطع [النخيل](٥) ، وتحليل من قطعه من الإثم ، فقال تعالى : (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ) أي : بأمره (٦).

(وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ) أي : ليذل اليهود ، أذن في ذلك.

أخرج البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث ابن عمر : «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حرّق نخل بني النضير وقطع ، فأنزل الله : (ما قَطَعْتُمْ ...) الآية» (٧).

وفي ذلك يقول حسان بن ثابت :

__________________

(١) أخرجه الطبري (٢٨ / ٣٣). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ٢٠٨).

(٢) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ٢٠٨).

(٣) تفسير مقاتل (٣ / ٣٣٨).

(٤) ذكره الماوردي (٥ / ٥٠١) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ٢٠٨).

(٥) في الأصل : النخل. والمثبت من ب.

(٦) أخرجه مجاهد (ص : ٦٦٣) ، والطبري (٢٨ / ٣٣). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ٩١ ـ ٩٢) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر والبيهقي في الدلائل.

(٧) أخرجه البخاري (٤ / ١٤٧٩ ح ٣٨٠٧) ، ومسلم (٣ / ١٣٦٥ ح ١٧٤٦).

٤٦

وهان على سراة بني لؤي

حريق بالبويرة مستطير (١)

والذي يظهر في نظري ويدل عليه ظاهر الآية والحديث والشعر ودلالة الحال : أن الذي قطع وحرّق أكثر مما نقله أهل السير.

(وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٧) لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ)(٨)

قوله تعالى : (وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ) أي : ما جعله فيئا له (مِنْهُمْ) أي : من بني النضير (فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ) قال أبو عبيدة (٢) : الإيجاف : الإيضاع ، والرّكاب : الإبل.

قال ابن قتيبة وغيره (٣) : يقال : وجف الفرس والبعير يجف وجيفا : إذا أسرع

__________________

(١) البيت لحسان. وهو في : القرطبي (١٨ / ٧ ، ٨) ، والطبري (٢٨ / ٣٤) ، واللسان (مادة : طير) ، والدر المنثور (٨ / ٩١ ، ٩٨) ، والماوردي (٥ / ٥٠١) ، وتاج العروس (مادة : بور ، طير).

(٢) مجاز القرآن (٢ / ٢٥٦).

(٣) تفسير غريب القرآن (ص : ٤٦٠).

٤٧

في السّير ، وأوجفه صاحبه (١) ، ومثله : الإيضاع.

قال الزجاج (٢) : معنى الآية : أنه لا شيء لكم في هذا ، إنما هو لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال المفسرون : [طلب](٣) المسلمون من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يخمّس أموال بني النضير كما فعل بغنائم بدر ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، يبين أنها فيء لم يوجفوا عليها خيلا ولا ركابا.

(وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) فهو الذي سلط محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم على بني النضير.

فلما خصّ الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأموال بني النضير وجعل الأمر له قسمها في المهاجرين لموضع حاجتهم ، ولم يعط أحدا من الأنصار شيئا سوى ثلاثة كانت بهم حاجة ، وهم : أبو دجانة سماك بن خرشة ، وسهل بن حنيف ، والحارث بن الصمّة.

أخبرنا الشيخان أبو القاسم السلمي وأبو الحسن (٤) علي بن أبي بكر ، قالا : أخبرنا عبد الأول بن عيسى ، أخبرنا عبد الرحمن بن محمد ، أخبرنا عبد الله بن أحمد ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا سفيان ـ غير مرة ـ ، عن عمرو ، عن الزهري ، عن مالك بن أوس بن الحدثان (٥) ، عن عمر رضي الله عنه قال : كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مما

__________________

(١) انظر : اللسان (مادة : وجف).

(٢) معاني الزجاج (٥ / ١٤٥).

(٣) في الأصل : خاطب. والتصويب من ب.

(٤) في الأصل زيادة قوله : بن. وهو خطأ.

(٥) مالك بن أوس بن الحدثان بن سعد بن يربوع البصري ، أبو سعيد المدني ، مختلف في صحبته ، مات سنة اثنتين وتسعين (تهذيب التهذيب ١٠ / ٩ ، والتقريب ص : ٥١٦).

٤٨

لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب ، فكانت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة ، ينفق على أهله منها نفقة [سنته](١) ، ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع (٢).

قال المفسرون : ثم ذكر الله تعالى حكم الفيء ، فذلك قوله تعالى : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ) يحكم فيه بما يريد ، ولرسوله بتمليك الله (٣) [إياه ، فأربعة أخماس الفيء للرسول ، والخمس الآخر للمذكورين في الآية.

واختلفوا فيما يصنع به بعد موته ؛ وقد ذكرناه في الأنفال (٤). وهذا قول جماعة من الفقهاء والمفسرين.

قال الزمخشري (٥) : لم يدخل العاطف على هذه الجملة ؛ لأنها بيان للأولى ، فهي منها غير أجنبية عنها. بيّن لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يصنع بما أفاء الله عليه ، وأمره أن يضعه حيث يضع الخمس من الغنائم مقسوما على الأقسام الخمسة.

فصل

اعلم أن الفيء : ما أخذ من أموال المشركين بغير قتال ؛ كالجزية والخراج والعشور المأخوذة من تجارهم ، وما بذلوه في الهدنة أو صالحوا عليه ونحو ذلك ؛ فذكر الخرقي رحمه‌الله : أنه يخمّس ، فيصرف خمسه إلى من يصرف إليه خمس الغنيمة

__________________

(١) في الأصل : سنة. والتصويب من ب ، والبخاري (٣ / ١٠٦٣).

(٢) أخرجه البخاري (٣ / ١٠٦٣ ح ٢٧٤٨).

(٣) في الأصل زيادة قوله : له. وقد سقط قدر لوحة من الأصل. واستدركت من النسخة ب.

(٤) عند الآية رقم : ٤١.

(٥) الكشاف (٤ / ٥٠٢).

٤٩

لهذه الآية ، وهذا مذهب الشافعي (١) ، وإحدى الروايتين عن أحمد.

والرواية الأخرى عنه ـ وهي المشهورة من مذهبه ، وبها يفتي عامة أصحابه ـ : أنه لا يخمّس (٢).

قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما قرأ هؤلاء الآيات إلى قوله : (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ ، وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) : استوعبت جميع المسلمين ، ولئن عشت ليأتينّ الراعي بسر وحمير نصيبه منها لم يعرق فيه جبينه (٣). وهذا قول أكثر أهل العلم.

وعلى المذهبين جميعا : يبدأ فيه بالأهم فالأهم من كفاية أجناد المسلمين وأرزاقهم ، وسدّ الثغور ، وحفر الخنادق ، وعمل القناطر ، وعمارة المساجد ، وأرزاق القضاة ، والعلماء ، والأئمة ، والمؤذنين ، إلى غير ذلك من المصالح العامة ، وما فضل بعد ذلك قسمه في المسلمين.

وذكر القاضي أبو يعلى رحمه‌الله : أن الفيء لأهل الجهاد خاصة دون غيرهم ؛ لأن ذلك كان للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحصول النصرة به ، فلما مات أعطي لمن يقوم مقامه في

__________________

(١) انظر : الحاوي (٨ / ٣٨٨).

(٢) انظر : المغني (٦ / ٣١٣).

(٣) أخرجه عبد الرزاق (١١ / ١٠١ ح ٢٠٠٤٠) وأبو عبيد ، بنحوه ، في الأموال (ح ٤١ ص : ٢٠) ، والطبري (٢٨ / ٣٧) ، والبيهقي في الكبرى (٦ / ٣٥١ ح ١٢٧٨٢). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ١٠٢) وعزاه لعبد الرزاق وأبي عبيدة وابن زنجويه معا في الأموال وعبد بن حميد وأبي داود في ناسخه وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في سننه.

وسرو حمير : منازل حمير بأرض اليمن. والسرو من الجبل : ما ارتفع عن مجرى السيل وانحدر عن غلظ الجبل.

٥٠

ذلك ، وهم المقاتلة دون غيرهم (١).

وقال الثعلبي في تفسيره (٢) : كان الفيء يقسم على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على خمسة وعشرين سهما ؛ أربعة أخماسها ، وهي عشرون سهما لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يفعل فيها ما يشاء ، والخمس الباقي يقسم على ما يقسم عليه خمس الغنيمة.

وأما بعد وفاته فقد اختلف الفقهاء في الأنفقة التي كانت له صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الفيء ، فقال قوم : يصرف إلى المجاهدين ، وهو أحد قولي الشافعي.

وقال آخرون : يصرف إلى مصالح المسلمين من سدّ الثغور وحفر الأنهار ونحوها ، وهو القول الآخر للشافعي (٣).

وأما السهم الذي كان له من خمس الفيء وخمس الغنيمة ، فإنه يصرف بعده إلى مصالح المسلمين بلا خلاف (٤) ، كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والخمس مردود فيكم» (٥).

قوله تعالى : (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ) قرأ أبو جعفر والصيدلاني عن ابن ذكوان : " تكون" بالتاء ، " دولة" : بالرفع (٦) ، على معنى : كيلا يقع ويحدث دولة.

وقرأ الباقون من العشرة : " يكون" بالياء ، " دولة" بالنصب ، على معنى : كيلا

__________________

(١) انظر : المغني (٦ / ٣١٩).

(٢) تفسير الثعلبي (٩ / ٢٧٥ ـ ٢٧٦).

(٣) انظر : الحاوي (٨ / ٤٢٩).

(٤) انظر : الحاوي (٨ / ٤٤١).

(٥) أخرجه أبو داود (٣ / ٦٣ ح ٢٦٩٤) ، ومالك في الموطأ (٢ / ٤٥٧ ح ٩٧٧) من حديث عمرو بن شعيب.

(٦) النشر (٢ / ٣٨٦) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٤١٣).

٥١

يكون الفيء دولة.

قال الماوردي (١) : يقال : دولة بضم الدال ، ودولة بفتحها. وقد قرئ بهما ، وفيهما قولان :

أحدهما : أنها سواء ، وهو قول يونس والأصمعي.

والثاني : أن بينهما فرقا. واختلف في الفرق على [أربعة](٢) أوجه :

أحدها : أن الدّولة ـ بالفتح ـ : الظّفر في الحرب ، والدّولة ـ بالضم ـ : الغنى عن فقر. هذا قول أبي عمرو ابن العلاء.

والثاني : أن الدّولة ـ بالفتح ـ : في الأيام ، والدّولة ـ بالضم ـ : في الأموال. وهذا قول أبي عبيدة.

والثالث : أن الدّولة ـ بالفتح ـ : ما كان كالمستقرّ ، والدّولة ـ بالضم ـ : [ما كان كالمستعار. حكاه ابن كامل.

والرابع : أنه بالفتح : الطعن في الحرب ، وبالضم](٣) : أيام الملك وأيام السنين التي تتغير. وهذا قول الفراء (٤).

قال حسان بن ثابت :

ولقد نلتم ونلنا منكم

وكذاك الحرب أحيانا دول (٥)

__________________

(١) تفسير الماوردي (٥ / ٥٠٣).

(٢) في ب : ثلاثة. والتصويب من الماوردي ، الموضع السابق.

(٣) زيادة من تفسير الماوردي (٥ / ٥٠٣).

(٤) معاني الفراء (٣ / ١٤٥).

(٥) البيت لحسان بن ثابت. انظر : ديوانه (ص : ١٨١) ، وسيرة ابن هشام (٤ / ٩٣) ، والماوردي (٥ / ٥٠٣).

٥٢

وقال الزجاج (١) : الدّولة : اسم الشيء الذي يتداول ، والدّولة : الفعل والانتقال من حال إلى حال.

فعلى هذا القول : يكون المعنى على قراءة من ضمّ الدال : كيلا يكون الفيء شيئا يتداوله الأغنياء بينهم ويتعاورونه ، فلا يصيب الفقراء.

ويكون المعنى على قراءة من فتح الدال : كيلا يكون ذا تداول بينكم ، أو كيلا يكون إمساكه تداولا بينكم لا تخرجونه إلى الفقراء.

قوله : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ) أي : ما أعطاكم من قسمة غنيمة أو فيء فخذوه ، (وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) وهذا وإن كان سبب نزوله ما ذكرناه ، إلا أنه عامّ في كل ما أمر به ونهى عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بدليل ما أخبرنا به الشيخان أبو القاسم وأبو الحسن البغداديان قالا : أخبرنا عبد الأول ، أخبرنا عبد الرحمن ، أخبرنا عبد الله ، أخبرنا محمد ، حدثنا البخاري ، حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله [قال](٢) : «لعن الله الواشمات والمتوشّمات والمتنمّصات والمتفلّجات للحسن ، المغيّرات خلق الله ، فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها : أم يعقوب ، فجاءت فقالت : إنه بلغني عنك أنك لعنت كيت وكيت ، فقال : وما لي لا ألعن ما لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن هو في كتاب الله؟ فقالت : لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول ، قال : لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه ، أما قرأت : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)؟ قالت : بلى ، قال :

__________________

(١) معاني الزجاج (٥ / ١٤٦).

(٢) زيادة من البخاري (٤ / ١٨٥٣).

٥٣

فإنه قد نهى عنه» (١).

قال الزجاج (٢) : ثم بيّن من المساكين فقال : (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ).

قال المفسرون : يريد : المهاجرين.

(يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ) رزقا يأتيهم (وَرِضْواناً) رضاه عنهم.

قال قتادة : ذكر لنا أن الرجل منهم كان يعصب الحجر على](٣) بطنه ليقيم به صلبه من الجوع ، وكان الرجل يتخذ الحفرة في الشتاء ما له دثار غيرها (٤).

(وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٩) وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ)(١٠)

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ) وهم الأنصار. وهذه الجملة معطوفة على" المهاجرين".

__________________

(١) أخرجه البخاري (٤ / ١٨٥٣ ح ٤٦٠٤).

(٢) معاني الزجاج (٥ / ١٤٥).

(٣) إلى هنا ينتهي السقط من الأصل ، والمثبت من نسخة ب.

(٤) أخرجه الطبري (٢٨ / ٤٠). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ١٠٥) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر.

٥٤

قال أبو علي (١) : المعنى : تبوؤوا الدار ودار الإيمان من قبلهم.

وقال غيره : تبوؤوا الدار وآثروا الإيمان ، أو وقبلوا الإيمان من قبلهم.

قال الزمخشري (٢) : المعنى : تبوؤا الدار وأخلصوا الإيمان ؛ كقوله :

وعلفتها تبنا وماء باردا

 ...........(٣)

أو جعلوا الإيمان مستقرّا ومتوطّنا لهم ؛ لتمكنهم منه ، واستقامتهم عليه ، كما جعلوا المدينة كذلك. أو أراد دار الهجرة ودار الإيمان ، فأقام لام التعريف في" الدار" مقام المضاف إليه ، وحذف المضاف من دار الإيمان ووضع المضاف إليه مقامه. أو سمى المدينة دارا ؛ لأنها دار الهجرة ، ومكان ظهور الإيمان بالإيمان ، " من قبلهم" أي : من قبل المهاجرين ؛ لأنهم سبقوهم في تبوء دار الهجرة والإيمان.

وقيل : من قبل هجرتهم.

(يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ) وهذا من أحسن ما وصفهم به ؛ لأنه أخبر أنهم يفعلون ذلك مع المهاجرين ، مع محبتهم لهم وميلهم إليهم ، وفيه تحقيق لمعنى كرم طباعهم بأبلغ الطرق.

(وَلا يَجِدُونَ) يعني : الأنصار (فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا). قال المفسرون : لا يجدون في صدورهم غيظا وحسدا مما أوتي [المهاجرون](٤) من الفيء والغنيمة ، وخصّوا به دونهم.

__________________

(١) الحجة للفارسي (٢ / ٣٨٣).

(٢) الكشاف (٤ / ٥٠٤).

(٣) تقدم.

(٤) في الأصل : المهاجرين. والتصويب من ب.

٥٥

وقال أبو علي : التقدير : لا يجدون في صدورهم مسّ (١) حاجة من فقد ما أوتوا ، فحذف المضافين.

وقال غيره من أهل المعاني (٢) : يعني : أنهم لم تتبع نفوسهم ما أعطوا ، ولم تطمح إلى شيء منه تحتاج إليه.

(وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) أي : يؤثرون المهاجرين على أنفسهم ولو كان بهم [حاجة](٣) شديدة ، وذلك أنهم قاسموهم ديارهم وأموالهم ، وآثروهم بما أفاء الله على رسوله.

وفي الحديث : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قسم للمهاجرين ما أفاء الله عليه من النضير [وقيل](٤) من قريظة ، على أن يردّ المهاجرون على الأنصار ما كانوا أعطوهم من أموالهم ، فقالت الأنصار : بل نقسم لهم من أموالنا ونؤثرهم بالفيء ، فأنزل الله هذه الآية (٥).

وبالإسناد السالف قال البخاري : حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن كثير ، حدثنا أبو أسامة ، حدثنا فضيل بن غزوان ، حدثنا أبو حازم الأشجعي ، عن أبي هريرة قال : «أتى رجل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله ، أصابني الجهد ، فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ألا رجل يضيفه هذه الليلة يرحمه

__________________

(١) في ب : من.

(٢) قاله الزمخشري في : الكشاف (٤ / ٥٠٤).

(٣) في الأصل : خصاصة. والتصويب من ب.

(٤) في الأصل وب : وحمل ، وفي الماوردي : ونفل. ولعل الصواب ما أثبتناه.

(٥) ذكره الماوردي (٥ / ٥٠٦).

٥٦

الله ، فقام رجل من الأنصار فقال : أنا يا رسول الله ، فذهب إلى أهله فقال لامرأته : ضيف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا تدخريه شيئا. قالت : والله! ما عندي إلا قوت الصبية. قال : فإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم وتعالي فأطفئي السراج ونطوي بطوننا الليلة ، ففعلت ، ثم غدا الرجل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : لقد عجب الله أو ضحك الله من فلان وفلانة ، فأنزل الله عزوجل : (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ)(١). وأخرجه مسلم أيضا.

والرجل هو : أبو طلحة الأنصاري.

وكان أنس بن مالك يحلف بالله ما في الأنصار بخيل ، ويقرأ هذه الآية : (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ ...) إلى آخر الآية (٢).

وقال أنس بن مالك : أهدي لبعض الصحابة رأس شاة مشوي ، وكان مجهودا ، فوجّه به إلى جار له ، فتداولته تسعة أنفس ثم عاد إلى الأول (٣) ، فأنزل الله هذه الآية (٤).

ويحكى عن أبي الحسين الأنطاكي : أنه اجتمع عنده نيف وثلاثون رجلا بقرية من قرى الريّ ، ولهم أرغفة معدودة لم تسع جميعهم ، [فكسّر](٥) الرّغفان وأطفأ

__________________

(١) أخرجه البخاري (٤ / ١٨٥٤ ح ٤٦٠٧) ، ومسلم (٣ / ١٦٢٤ ح ٢٠٥٤).

(٢) ذكره الواحدي في الوسيط (٤ / ٢٧٣).

(٣) في هامش ب : خرجه الحاكم في مستدركه.

(٤) أخرجه الحاكم (٢ / ٥٢٦ ح ٣٧٩٩) ، والبيهقي في الشعب (٣ / ٢٥٩ ح ٣٤٧٩) كلاهما من حديث ابن عمر بنحو هذه القصة. وذكره السيوطي في الدر (٨ / ١٠٧) وعزاه للحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر.

(٥) في الأصل : وكسر. والمثبت من ب.

٥٧

السراج وجلسوا للطعام ، فلما رفع فإذا الطعام بحاله لم يأكل واحد منهم إيثارا منه على نفسه (١).

قوله تعالى : (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) قرأ ابن السميفع : " يوقّ" بفتح الواو وتشديد القاف (٢).

وفيه إشعار أن الأنصار وقوا شحّ أنفسهم ، وأضيف الشح إلى النفس ؛ لأنه غريزة فيها.

قال المفسرون : وهو أن لا يأخذ شيئا مما نهاه الله عنه ، ولا يمنع شيئا أمره الله به.

وإذا أردت أن تعلم فضيلة السخاء وأنه جماع كل خير ، ورذيلة الشّح وأنه جماع كل شر ، فتلمح قوله عليه‌السلام : «أيّ داء أدوى من البخل» (٣).

وتلمّح هذه الآية كيف حكم بفلاح من وقي شحّ نفسه وجزم به وأكّده فقال : (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

وقال في موضع آخر : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [آل عمران : ٢٠٠] ، فجاء بصيغة الترجّي ، ولم يأت بها هاهنا ؛ نظرا إلى ما ذكرناه من المعنى.

وفي مسند الإمام أحمد من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا

__________________

(١) ذكره الثعلبي (١٣ / ٢٠٠).

(٢) انظر هذه القراءة في : زاد المسير (٨ / ٢١٥) ، والدر المصون (٦ / ٢٩٦).

(٣) أخرجه الحاكم (٣ / ٢٤٢ ح ٤٩٦٥).

٥٨

يجتمعان في قلب [عبد : الإيمان](١) ، والشح» (٢).

فصل

ذهب قوم إلى أن الشح والبخل بمعنى واحد.

وقال أبو سليمان الخطابي : [الشح](٣) أبلغ في المنع من البخل ، وإنما الشح بمنزلة الجنس ، والبخل بمنزلة النوع.

قال بعضهم : البخل : أن يضنّ بماله ، والشحّ أن يبخل بماله ومعروفه (٤).

وقال طاووس : الشحّ : البخل بما في يد غيره ، والبخل : منع ما في يده (٥).

وقال سعيد بن جبير : الشحّ : هو أخذ الحرام ومنع الزكاة (٦).

وقال أبو الشعثاء : جاء رجل إلى ابن مسعود فقال : إني أخاف أن أكون قد هلكت. قال : وما ذاك؟ قال : أسمع الله يقول : (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ، وأنا رجل شحيح لا يكاد يخرج من يدي شيء ، قال : ليس ذلك بالشح الذي ذكره الله تعالى في القرآن ، إنما الشح أن تأكل مال أخيك ظلما ، إنما ذلك البخل ، وبئس الشيء البخل (٧).

__________________

(١) في الأصل : مؤمن. والتصويب من ب ، ومسند أحمد (٢ / ٣٤٠).

(٢) أخرجه أحمد (٢ / ٣٤٠ ح ٨٤٦٠).

(٣) زيادة من ب.

(٤) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ٢١٥).

(٥) ذكره الماوردي (٥ / ٥٠٧) ، والسيوطي في الدر (٨ / ١٠٨) وعزاه لابن المنذر.

(٦) ذكره السيوطي في الدر (٨ / ١٠٨) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر.

(٧) أخرجه الطبري (٢٨ / ٤٣) ، وابن أبي حاتم (١٠ / ٣٣٤٦ ـ ٣٣٤٧) ، والحاكم (٢ / ٥٣٢ ح ٣٨١٥) ، وابن أبي شيبة (٥ / ٣٣٢ ح ٢٦٦١١) ، والطبراني في الكبير (٩ / ٢١٨ ح ٩٠٦٠) ، ـ

٥٩

وفي حديث أنس بن مالك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «برئ من الشح من أدى الزكاة ، وقرى الضيف ، وأعطى في النائبة» (١).

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) عطف أيضا على" المهاجرين" (٢).

قال السدي والكلبي : هم الذين هاجروا من بعد ذلك (٣).

وقال مقاتل (٤) وغيره : هم الذين يجيؤون بعد المهاجرين والأنصار إلى يوم القيامة.

قال ابن أبي ليلى : الناس على ثلاثة منازل : الفقراء المهاجرون ، والذين تبوؤا الدار والإيمان ، والذين جاؤوا من بعدهم ، فاجهد أن لا تكون خارجا من هذه المنازل (٥).

قال الزجاج (٦) : المعنى : ما أفاء الله على رسوله فلله وللرسول ولهؤلاء المسلمين ، والذين يجيئون من بعدهم إلى يوم القيامة ، ما أقاموا على محبة أصحاب

__________________

ـ والبيهقي في الشعب (٧ / ٤٢٦ ح ١٠٨٤١). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ١٠٧) وعزاه للفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان.

(١) أخرجه الطبري (٢٨ / ٤٤) ، والطبراني في الكبير (٤ / ١٨٨ ح ٤٠٩٦) ، والبيهقي في الشعب (٧ / ٤٢٧ ح ١٠٨٤٢).

(٢) انظر : الدر المصون (٦ / ٢٩٧).

(٣) ذكره الماوردي (٥ / ٥٠٧).

(٤) تفسير مقاتل (٣ / ٣٤١).

(٥) أخرجه الطبري (٢٨ / ٤٥).

(٦) معاني الزجاج (٥ / ١٤٦ ـ ١٤٧).

٦٠