رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٨

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي

رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٨

المؤلف:

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي


المحقق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الأسدي للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٨٨

١
٢

سورة المجادلة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وهي إحدى وعشرون آية في المدني ، واثنتان في الكوفي (١).

وهي مدنية في قول ابن عباس وعامة المفسرين.

واستثنى ابن السائب قوله تعالى : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ)(٢).

وقال عطاء : من أولها إلى رأس عشر آيات مدني ، وباقيها مكي (٣).

(قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) (١)

قوله تعالى : (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها) أخرج البخاري في صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت : الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات. لقد جاءت المجادلة خولة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكلمته في جانب البيت وما أسمع ما تقول ، فأنزل الله عزوجل : (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ ...) إلى آخر الآية (٤).

و "قد" هاهنا على أصلها للتوقّع ؛ لأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمجادلة توقعا أن يسمع الله مجادلتهما وشكواهما ، وينزل فيهما ما عساه يكون راحة لها.

__________________

(١) انظر : البيان في عدّ آي القرآن (ص : ٢٤٢).

(٢) انظر : الإتقان في علوم القرآن (١ / ٥٤).

(٣) انظر : الماوردي (٥ / ٤٨٧) ، وزاد المسير (٨ / ١٨٠).

(٤) أخرجه البخاري تعليقا (٦ / ٢٦٨٩).

٣

واسم المجادلة : خولة في قول عامة المفسرين ؛ لكن اختلفوا في أبيها (١) ؛

فقال عكرمة وقتادة : خولة بنت ثعلبة (٢).

وبعضهم يقول : خولة بنت مالك بن ثعلبة (٣).

وقيل : بنت خويلد (٤).

قال الماوردي (٥) : وليس هذا بمختلف ؛ لأن أحدهما أبوها والآخر جدها.

وروى خليد بن دعلج ، عن قتادة : أنها خولة بنت حكيم (٦).

وقيل : بنت دليج (٧).

__________________

(١) قال ابن الجوزي (زاد المسير : ٨ / ١٨١) : وفي اسم هذه المجادلة ونسبتها أربعة أقوال :

أحدها : خولة بنت ثعلبة. رواه مجاهد عن ابن عباس وبه قال عكرمة وقتادة والقرظي.

والثاني : خولة بنت خويلد. رواه عكرمة عن ابن عباس.

والثالث : خولة بنت الصامت. رواه العوفي عن ابن عباس.

والرابع : خولة بنت الدليج. قاله أبو العالية.

(٢) أخرجه الطبري (٢٨ / ٢) ، عن قتادة. وفيه : خويلة. وذكره السيوطي في الدر (٨ / ٧٤) وعزاه لعبد بن حميد عن عكرمة.

(٣) أخرجه ابن شبة في تاريخ المدينة (٢ / ٣٩٩) ، عن يوسف بن عبد الله ابن سلام.

(٤) أخرجه الطبري (٢٨ / ٣). والطبراني في الكبير (١١ / ٢٦٥ ح ١١٦٨٩). كلاهما عن ابن عباس ، وفيهما : خويلة بنت خويلد. وذكره السيوطي في الدر (٨ / ٧٧) ، وعزاه للطبراني.

(٥) تفسير الماوردي (٥ / ٤٨٧).

(٦) أخرجه ابن شبة في تاريخ المدينة (٢ / ٣٩٨) ، عن عائشة رضي الله عنها.

(٧) أخرجه الطبري (٢٨ / ١). وفيه : خويلة. والبيهقي في السنن (٧ / ٣٨٤ ح ١٥٠٣٣). كلاهما عن أبي العالية. وذكره السيوطي في الدر (٨ / ٧٨) ، وعزاه لعبد بن حميد وابن مردويه والبيهقي في السنن.

٤

وقيل : هي جميلة ، امرأة أوس بن الصامت (١).

والصحيح : أنها خولة بنت ثعلبة.

قال ابن عباس وغيره : كان الرجل إذا قال لامرأته في الجاهلية : أنت عليّ كظهر أمي حرمت عليه ، وكان أول من ظاهر في الإسلام أوس بن الصامت ، ثم ندم وقال لامرأته : انطلقي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسليه ، فأتته صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسألته عن ذلك ، وقالت : يا رسول الله! أوس بن الصامت أبو ولدي وابن عمي وأحب الناس إليّ ، وقد ظاهر مني ، وقد نسخ الله سنن الجاهلية ، فقال : ما أراك إلا قد حرمت عليه ، فقالت : يا رسول الله! ما ذكر طلاقا ، فقال : ما أراك إلا قد حرمت عليه ، فهتفت وشكت إلى الله وبكت ، وجعلت تراجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتقول : إن لي صبية صغارا إن ضممتهم إليه ضاعوا ، وإن ضممتهم إليّ جاعوا ، فبينا هي في ذلك إذ تربّد (٢) وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأخذه ما كان يأخذه عند نزول الوحي عليه ، فلما قضي الوحي قال : ادعي لي زوجك ، فجاءا فتلا عليه : (قَدْ سَمِعَ اللهُ ...) وبيّن له حكم الظهار (٣).

وقد ذكرنا فيما مضى اشتقاق الجدل.

وزوجها أوس بن الصامت أخو عبادة ، في قول جمهور أهل النقل.

وروى خليد بن دعلج عن قتادة : أنها خولة بنت حكيم ، امرأة عبادة بن

__________________

(١) أخرجه الطبري (٢٨ / ٦) ، عن عائشة رضي الله عنهما.

(٢) تربّد : أي : تغيّر إلى الغبرة ، وقيل : الربدة : لون بين السواد والغبرة (انظر : النهاية ، مادة : ربد).

(٣) أخرجه الطبري (٢٨ / ٣) ، والطبراني في الكبير (١١ / ٢٦٥ ح ١١٦٨٩). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ٧٦) وعزاه للطبراني.

٥

الصامت (١).

قال الحافظ ابن عبد البر (٢) : هذا وهم ، وخليد ضعيف سيء الحفظ (٣) ، وإنما هي امرأة أوس بن الصامت ، على الاختلاف في اسم أبيها.

(وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ) يقال : اشتكى يشتكي ، بمعنى : شكا يشكو.

والمحاورة : مراجعة الكلام ، وأنشدوا قول عنترة في فرسه :

لو كان يدري ما المحاورة اشتكى

ولكان لو علم الكلام مكلّمي (٤)

وفي الحديث : أن عمر بن الخطاب خرج ومعه الناس ، فمرّ بعجوز فاستوقفته ، [فوقف](٥) فجعل يحدثها وتحدثه ، فقال له رجل : يا أمير المؤمنين! حبست الناس على هذه العجوز ، فقال : ويلك تدري من هذه ، [هذه](٦) امرأة سمع الله شكواها من فوق سبع سماوات ، فعمر والله أحق أن يسمع لها ، هذه خولة بنت ثعلبة التي أنزل الله في حقها : (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ) ، والله لو أنها وقفت إلى الليل ما فارقتها إلا للصلاة ثم أرجع إليها (٧).

__________________

(١) سبق تخريج حديث خليد ص : ٤.

(٢) الاستيعاب (٤ / ١٨٣١).

(٣) انظر أقوال العلماء في خليد هذا (الكامل لابن عدي ٣ / ٤٧ ، وميزان الاعتدال ١ / ٦٦٣).

(٤) البيت لعنترة ، وهو في : الخصائص (١ / ٢٤) ، وزاد المسير (٨ / ١٨٢).

(٥) في الأصل : فوف. والتصويب من ب.

(٦) زيادة من ب.

(٧) أخرجه ابن أبي حاتم (١٠ / ٣٣٤٢). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ٧٠) وعزاه لابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن زيد.

٦

(الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٢) وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٣) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ)(٤)

قوله تعالى : (الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ) قرأ عاصم : " يظاهرون" بضم الياء وتخفيف الظاء ، وبعدها ألف وكسر الهاء وتخفيفها ، من ظاهر يظاهر. وقرأ الحرميان وأبو عمرو : بفتح الياء وتشديد الظاء والهاء وفتحها من غير ألف ، من ظهّر ، مثل : ضعّف. وقرأ الباقون كذلك ، إلا أنهم أثبتوا ألفا بعد الظاء ، وخففوا الهاء ، وكذلك الموضع الثاني (١).

قال أبو علي (٢) : هو مضارع تظهّر يتظهّر ، مثل : تكرّم يتكرّم ، والجميع : يتظهّرون ، مثل : يتكرّمون ، ثم أدغمت التاء في الظاء فصار : يظهّرون ، وقراءة الباقين مضارع تظاهر يتظاهر ، مثل : تضارب يتضارب ، وللجميع : يتظاهرون ، ثم أدغمت التاء في الظاء لمقاربتها لها.

__________________

(١) الحجة للفارسي (٤ / ٣٣) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٧٠٣) ، والكشف (٢ / ٣١٣) ، والنشر (٢ / ٣٨٥) ، والإتحاف (ص : ٤١١) ، والسبعة (ص : ٦٢٨).

(٢) الحجة للفارسي (٣ / ٢٨٠).

٧

وقرأ ابن مسعود : " يتظاهرون" (١).

وقرأ أبي بن كعب : " يتظهّرون" بتاء بعد الياء على الأصل (٢).

ومعنى ذلك : أن يقول الرجل لزوجته : أنت عليّ كظهر أمي.

وسمّي ظهارا ؛ لأنه قصد به تحريم ظهرها عليه ، وقد كان في الجاهلية طلاقا بائنا لا رجعة فيه ولا إباحة بعده ، فرجع إلى ما أقرّه الله عليه وذكره هاهنا.

قوله تعالى : (ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ) وروى المفضل عن عاصم : برفع التاء وضم الهاء (٣) ، والقراءتان على اللغتين الحجازية والتميمية.

قال الفراء في قراءة المفضل (٤) : هي لغة نجد ، وأنشد :

ويزعم حسل أنه فرع قومه

وما أنت فرع يا حسيل ولا أصل (٥)

والمعنى : لسن [بأمهاتهم](٦).

(إِنْ أُمَّهاتُهُمْ) أي : ما أمهاتهم على الحقيقة (إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ) يعني : المظاهرين (لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ)(٧) لا يعرف في شريعة (وَزُوراً) كذبا وباطلا (وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) فلذلك تجاوز عنهم ، وشرع لهم الكفارة.

__________________

(١) انظر هذه القراءة في : زاد المسير (٨ / ١٨٢) ، والبحر (٨ / ٢٣١).

(٢) انظر : المصدرين السابقين.

(٣) الحجة للفارسي (٤ / ٣٣) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٧٠٣) ، والسبعة (ص : ٦٢٨).

(٤) معاني الفراء (٣ / ١٣٩).

(٥) البيت لعمرو بن خويلد ، وهو في : الإنصاف (٢ / ٦٩٤) ، وزاد المسير (٨ / ١٨٣).

والحسل : ولد الضب (اللسان ، مادة : حسل).

(٦) في الأصل : بأمهاتهن. والتصويب من ب.

(٧) في الأصل زيادة قوله : وزورا وستأتي بعد قليل.

٨

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا) قال صاحب الكشاف (١) : يعني : والذين كانت عادتهم أن يقولوا هذا القول المنكر فقطعوه بالإسلام ، ثم يعودون لمثله ، فكفارة من عاد أن يحرر رقبة ثم يماسّ المظاهر منها.

ووجه آخر : " ثم يعودون لما قالوا" : ثم يتداركون ما قالوا ؛ لأن المتدارك للأمر عائد إليه. والمعنى : أنّ تدارك هذا القول بأن (٢) يكفّر حتى يرجع حالهما كما كانت قبل الظهار.

ووجه ثالث : وهو أن يراد بما قالوا : ما حرموه على أنفسهم بلفظ الظهار ، تنزيلا للقول منزلة المقول فيه ، ويكون المعنى : ثم يريدون العود للتّماس. هذا تمام كلامه. وهذا الوجه الثالث هو قول سعيد بن جبير (٣).

المعنى : يريدون أن يعودوا للجماع.

قال الحسن وطاووس والزهري : العود : الوطء (٤).

وقال الشافعي : العود : هو أن يمسكها بعد الظهار مدة يمكنه [طلاقها](٥) فيها فلا يطلقها ، فإذا وجد هذا استقرت عليه الكفارة (٦).

__________________

(١) الكشاف (٤ / ٤٨٥ ـ ٤٨٦).

(٢) قوله : " بأن" مكرر في الأصل.

(٣) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ١٨٣).

(٤) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (٦ / ٤٢٢ ح ١١٤٧٨). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ٧٥) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن طاووس. وانظر : المغني (٨ / ١٣).

(٥) في الأصل : طلاقه. والتصويب من ب.

(٦) انظر : الأم (٥ / ٤٠٠) ، والمغني (٨ / ١٤).

٩

وقال شيخنا الإمام أبو محمد عبد الله بن أحمد المقدسي (١) : العود : هو الوطء ، في ظاهر كلام أحمد والخرقي.

قلت (٢) : وهذا مذهب الحسن وطاووس والزهري.

قال أحمد : العود : الغشيان ؛ لأن العود في القول [فعل](٣) ضدّ ما قال ، كما أن العود في الهبة : استرجاع ما وهب ، فالمظاهر منع نفسه غشيانها ، فعوده في قوله غشيانها.

وقال القاضي أبو يعلى وأصحابه : العود : العزم على الوطء (٤).

وهو مذهب أهل العراق (٥).

قال البغوي : وهو مذهب أحمد ومالك رحمهما‌الله ؛ لأن الله تعالى أمر بالتكفير عقيب العود [وقبل](٦) التماس بقوله : (ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) ، وعلى كلا القولين لا يحل له الوطء قبل التكفير ؛ لقوله سبحانه : (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) ، فإن وطئ أثم واستقرت الكفارة عليه.

وقال الزهري : عليه كفارتان.

وقال أبو حنيفة : تسقط الكفارة والظهار ، ثم لا يحل له وطؤها ثانية حتى يكفّر.

__________________

(١) في الكافي (٣ / ٢٦٠).

(٢) أي المصنف.

(٣) زيادة من الكافي (٣ / ٢٦٠).

(٤) إلى هنا انتهى النقل من الكافي.

(٥) تحفة الفقهاء (٢ / ٢١٤).

(٦) في الأصل : وقيل. والتصويب من ب.

١٠

فإن فات الوطء بموت أحدهما [أو فرقتهما](١) فلا كفارة عليه. وإن عاد فتزوجها لم تحل له حتى يكفّر (٢).

وقال أبو الخطاب : إن كانت الفرقة بعد العزم فعليه الكفارة. وهذا مقتضى قول من وافقه. وقد صرح أحمد بإنكاره ، وكذلك قال القاضي : لا كفارة عليه.

فصل

وفي التلذّذ بالمظاهر منها قبل التكفير بما دون الجماع ؛ كالقبلة واللمس ، عن الإمام أحمد روايتان :

[إحداهما](٣) : يحرم ؛ لأن ما حرّم الوطء من القول حرّم دواعيه ، كالطلاق.

والثانية : لا يحرم ؛ لأن المسيس هاهنا كناية عن الوطء ، فيقتصر عليه (٤).

فصل

وشذّ داود بن علي الأصبهاني فقال : العود : هو إعادة اللفظ ثانيا (٥).

قال الزجاج (٦) : هذا قول من لا يدري اللغة.

وقال أبو علي (٧) : قد يكون العود إلى شيء لم يكن الإنسان عليه قبل ، وسميت

__________________

(١) في الأصل : وفرقتهما. والتصويب من ب.

(٢) انظر : المغني (٨ / ١٢).

(٣) في الأصل : أحدهما. والتصويب من ب.

(٤) انظر : المغني (٨ / ١٠).

(٥) انظر : المغني (٨ / ١٤).

(٦) معاني الزجاج (٥ / ١٣٥).

(٧) الحجة للفارسي (١ / ٣٣١ ـ ٣٣٢).

١١

الآخرة معادا ، [ولم يكن](١) فيها أحد ثم عاد إليها. قال الهذلي :

وعاد الفتى كالطفل (٢) ليس بقائل

سوى الحقّ شيئا واستراح العواذل (٣)

وقال ابن قتيبة (٤) : من توهّم أن الظهار لا يقع حتى يلفظ به ثانية فليس بشيء ؛ لأن الناس قد أجمعوا أن الظهار يقع بلفظ واحد. وإنما تأويل الآية : أن أهل الجاهلية كانوا يطلّقون بالظهار ، فجعل الله حكم الظّهار في الإسلام خلاف حكمه عندهم في الجاهلية ، وأنزل : (وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ) يعني : في الجاهلية (ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا) يعني : في الإسلام ، أي : يعودون لما كانوا يقولونه من هذا الكلام (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) أي : فعليهم أو فكفّارتهم تحرير رقبة ، أي : عتقها.

وفي اشتراط كونها مؤمنة ؛ عن الإمام أحمد ؛ روايتان (٥).

ولا تجزئ إلا رقبة سليمة من العيوب المضرة بالعمل ضررا بيّنا ؛ لأن المقصود تمليك العبد منفعة نفسه وتمكّنه من التصرف ، فلا يجزئ الأعمى ولا الزمن ولا مقطوع اليد أو الرجل ، ولا مقطوع الإبهام أو السبابة أو الوسطى ، ولا مقطوع الخنصر والبنصر من يد واحدة ، وقطع أنملتين من أصبع كقطعها ، ولا يمنع قطع أنملة واحدة إلا الإبهام لأنها أنملتان ، فذهاب إحداهما مضر بالعمل ؛ كقطعها (٦).

__________________

(١) في الأصل : ويكن. والتصويب من ب ، والحجة للفارسي (١ / ٣٣٢).

(٢) في جميع مصادر تخريج البيت : كالكهل.

(٣) البيت لأبي خراش الهذلي ، وهو في : الأغاني (١٠ / ٢١٨ ، ٢١ / ٢١٨) ، والحجة للفارسي (١ / ٣٣٢) ، والطبري (١ / ٣٢٧) ، والقرطبي (٧ / ٣٠١ ، ١٥ / ٩) ، وزاد المسير (٨ / ١٨٤).

(٤) تفسير غريب القرآن (ص : ٤٥٧).

(٥) انظر : المغني (٨ / ١٨).

(٦) انظر : المغني (٨ / ١٨).

١٢

ولا يجزئ الأخرس ، إلا أن تفهم إشارته ، فيجزئ على قول القاضي وأبي الخطاب ، إلا أن يجتمع معه الصمم ، فلا يجزئ بغير خلاف عندنا (١).

ولا يجزئ المجنون ، إلا أن تكون إفاقته أكثر.

فصل

ويجزئ الأعور ، والأجدع ، والخصي ، والمجبوب ؛ لأنه كالسليم فيما ذكرناه ، ويجزئ المرهون ، والجاني ، والمدبّر ، وولد الزنى ، والمريض المرجو برؤه ، والهزيل القادر على الكسب ، والغائب ، إلا أن يشكّ في حياته (٢).

فصل

ولا يجزئ عتق الجنين ؛ لأنه لم تثبت له أحكام الرقاب (٣).

فإن أعتق صبيا فقال القاضي : يجزئ في جميع الكفارات إلا كفارة القتل ، فإنها على روايتين.

وقال أبو بكر عبد العزيز : يجزئ الطفل في جميع الكفارات ؛ لأنه ترجى منافعه وتصرّفه ، فهو كالمريض المرجوّ زوال علته.

قوله تعالى : (ذلِكُمْ) قال الزجاج (٤) : ذلكم التغليظ في الكفارة.

(تُوعَظُونَ بِهِ) لتتركوا الظهّار.

قوله تعالى : (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) أي : فمن لم يستطع عتق رقبة (فَصِيامُ) أي : فعليه

__________________

(١) انظر : المغني (٨ / ١٩).

(٢) مثل السابق.

(٣) انظر : المغني (٨ / ٢٠).

(٤) معاني الزجاج (٥ / ١٣٥).

١٣

صيام (شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) ، فإن شرع في أول شهر أجزأه صيام شهرين بالأهلة ، تامين كانا أو ناقصين. وإن دخل في أثناء شهر صام شهرا بالهلال وأتم الشهر الذي دخل فيه بالعدد (١).

فإن أفطر يوما لغير عذر لزمه استئناف الشهرين ؛ لأنه أمكنه التتابع وقد قطعه لغير عذر.

وإن أفطر لعذر من مرض مخوف أو جنون أو إغماء لم ينقطع.

وإن أفطر في السفر ؛ فظاهر كلام الإمام : أنه لا ينقطع التتابع ؛ لأنه عذر مبيح للفطر أشبه المرض (٢).

وخرّج بعض أصحابنا وجها : أنه ينقطع التتابع.

والحامل والمرضع إن خافتا على أنفسهما فهما كالمريض ، وإن خافتا على ولديهما فعلى وجهين.

والحيض عذر شرعي فلا ينقطع [به التتابع](٣).

ومن أكل يظن أن الشمس قد غابت ، أو أن الفجر لم يطلع فبان بخلافه أفطر ، وفي انقطاع التتابع وجهان.

[وإن](٤) نسي التتابع أو تركه جهلا بوجوبه انقطع.

والفطر لأجل العيد وأيام التشريق لا يقطع التتابع.

__________________

(١) انظر : المغني (٨ / ٣٠).

(٢) انظر : المغني (٨ / ٣١).

(٣) في الأصل : التتابع به. والمثبت من ب.

(٤) في الأصل : أو. والتصويب من ب.

١٤

وإن قطع الصوم بصوم رمضان لم ينقطع التتابع.

وإن كان عليه نذر صوم كلّ خميس قدّم صوم الكفارة وقضاه بعد ذلك وكفّر ؛ لأنه لو صامه لم يمكنه التكفير بحال.

فصل

فإن وطئ المظاهر منها في ليالي الصوم لزمه الاستئناف ؛ لقوله تعالى : (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا).

وقيل : لا ينقطع التتابع ؛ لأنه وطء لا يفطر به ، فلم يقطع التتابع ؛ كوطء غيرها.

قوله تعالى : (فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ) أي : لم يقدر على الصيام ؛ لكبر أو مرض غير مرجو الزوال ، أو شبق شديد أو نحوه (فَإِطْعامُ) أي : فعليه أن يطعم (سِتِّينَ مِسْكِيناً).

فصل

الواجب أن يدفع إلى كل مسكين مدّ بر ، أو نصف صاع من تمر أو شعير (١) ؛ لما روى الإمام أحمد في مسنده : «أن امرأة من بني بياضة جاءت إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنصف وسق شعير ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم [للمظاهر](٢) : أطعم هذا ، فإن مدّي شعير مكان مدّبرّ» (٣).

__________________

(١) انظر : المغني (٨ / ٢٤) ، والكافي في فقه ابن حنبل (٣ / ٢٧٢).

(٢) في الأصل : لمظاهر. والتصويب من ب.

(٣) أخرجه الحارث في مسنده عن أبي يزيد المدني (بغية الباحث ١ / ٥٥٧) ، وفيه : فإنه يجزئ مكان كل نصف صاع من حنطة صاع من شعير.

١٥

فصل

ويجزئه في الإطعام ما يجزئه في الفطرة ، سواء كان قوت بلده أو لم يكن. فإن أخرج غيرها من الحبوب التي هي قوت بلده أجزأه ؛ لقوله : (مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) [المائدة : ٨٩].

فإن أخرج غير قوت بلده خيرا منه جاز.

وقال القاضي : لا يجزئ إخراج غير ما يجزئ في الفطرة.

قال شيخنا (١) : والأول أجود ؛ لموافقته ظاهر النص.

ويجزئ إخراج الدقيق إذا بلغ قدر مدّ من الحنطة.

وفي الخبز روايتان :

إحداهما : يجزئ ؛ لقوله : (فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً) [المجادلة : ٤].

والثانية : لا يجزئ ؛ لأنه خرج عن صفة الكمال والادخار ، أشبه الهريسة. فإذا قلنا يجزئه اعتبر أن يكون من مدّبر ، أو من نصف صاع شعير (٢).

قال الخرقي : لكل مسكين رطلا خبز ؛ لأن الغالب أنهما لا يكونان إلا من مدّ فأكثر.

وفي السّويق وجهان ؛ بناء على الروايتين في الخبز.

ولا تجزئ الهريسة وأمثالها ؛ لأن ذلك خرج عن الاقتيات المعتاد ، ولا القيمة ؛ لأنه أحد ما يكفّر به ، فلم تجز القيمة فيه ؛ كالعتق (٣).

__________________

(١) في الكافي (٣ / ١٧٠).

(٢) انظر : الكافي في فقه ابن حنبل (٣ / ٢٧٣).

(٣) انظر : المصدر السابق.

١٦

ولا تجزئ كفارة إلا بالنية (١) ؛ لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنما لامرئ ما نوى» (٢).

فصل

ولا يجوز تقديم الكفارة على سببها. فإن كفّر بعد السبب وقبل الشرط ؛ جاز. وإن كفّر عن الظهار بعده وقبل العود وعن اليمين بعدها وقبل الحنث ؛ جاز (٣).

فصل

ولا فرق في الظهار بين الظّهر وغيره من الأعضاء. فلو قال : أنت عليّ كبطن أمي أو فخذها أو يدها أو رجلها أو غير ذلك من الأعضاء التي يقع الطلاق بإضافته إليه ، كان مظاهرا ، فيخرج من ذلك الشعر والسن والظفر. [هذا](٤) مذهب إمامنا ، وبه قال الشافعي في أصح قوليه (٥).

وقال أبو حنيفة : إن شبّهها ببطن أمه أو فرجها أو فخذها فهو [ظهار](٦) ؛ كالظّهر ، وإن شبهها بعضو آخر سواها فليس بظهار. فإن قال : أنت عليّ كأمي أو مثل أمي فهو مظاهر ، إلا أن يريد به الكرامة والمنزلة (٧).

وعن أحمد : لا يكون مظاهرا (٨) حتى ينوي به الظّهار.

__________________

(١) انظر : الكافي في فقه ابن حنبل (٣ / ٢٧٤).

(٢) أخرجه البخاري (٥ / ١٩٥١ ح ٤٧٨٣).

(٣) انظر : الكافي في فقه ابن حنبل (٣ / ٢٧٥).

(٤) في الأصل : وهذا. والتصويب من ب.

(٥) انظر : المغني (٨ / ٩).

(٦) في الأصل : ظاهر. والتصويب من ب.

(٧) انظر : بدائع الصنائع (٣ / ٢٣١).

(٨) في ب : ظهارا.

١٧

وإن قال : أنت كأمي أو مثلها فليس [بظهار](١) حتى ينوي به ؛ لأنه في غير التحريم أظهر.

وعند أبي الخطاب : هي كالتي قبلها.

قال شيخنا (٢) : وقياس المذهب : أنه إن وجدت قرينة صارفة إلى الظهار ، فهو ظهار ، وإلا فلا.

فصل

وغير الأم من ذوات المحارم كالأم ؛ فلو قال : أنت عليّ كظهر جدتي أو أختي أو عمتي أو خالتي ؛ فهو ظهار. وإن شبهها بمن تحرم عليه بالرضاع أو المصاهرة فكذلك (٣).

وللشافعي في الصورتين قولان (٤).

غير أن الصحيح في المشبّهة بمن تحرم بسبب الرضاع : أنه ظهار. والصحيح في المشبّهة بسبب المصاهرة : أنه ليس بظهار.

وإن قال : أنت عليّ كظهر البهيمة لم يكن مظاهرا (٥).

وإن قال : أنت عليّ كظهر أبي ، ففيه عن الإمام أحمد روايتان :

إحداهما : أنه ظهار ؛ لأنه شبهها بمحل محرّم على التأبيد.

__________________

(١) في الأصل : بظاهر. والتصويب من ب.

(٢) في الكافي (٣ / ١٦٥).

(٣) انظر : المغني (٨ / ٥).

(٤) انظر : الحاوي للماوردي (١٠ / ٤٣١ ـ ٤٣٢).

(٥) انظر : المغني (٨ / ٥).

١٨

والأخرى : ليس بظهار ؛ لأنه ليس محلا [للاستمتاع](١).

فصل

فإن قال : أنت طالق كظهر أمي ؛ طلقت ولم يكن ظهارا ؛ إلا أن ينويهما ، فيكون طلاقا وظهارا.

وإن نوى الظهار وحده بلفظ الطلاق لم يكن ظهارا ؛ لأنه صريح في موجبه ، فلم ينصرف إلى غيره بالنية ، كما لو نوى بقوله : أنت عليّ كظهر أمي ؛ الطلاق (٢).

فصل

ويصح الظهار مؤقتا ؛ كقوله : أنت عليّ كظهر أمي شهرا ، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه (٣) ، والشافعي في أصح قوليه (٤).

وذهب مالك والليث وابن أبي ليلى إلى أنه لا يجب به شيء (٥).

والصحيح : الأول ؛ لما روى سلمة بن صخر قال : «[ظاهرت](٦) من امرأتى حتى ينسلخ شهر رمضان ، فبينا هي تخدمني ذات ليلة إذ [تكشّف](٧) لي منها شيء ، فلم ألبث أن نزوت عليها ، [فانطلقت](٨) إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبرته الخبر ،

__________________

(١) انظر : المغني (٨ / ٥). وما بين المعكوفين في الأصل : لاستمتاع. والتصويب من ب.

(٢) انظر : المغني (٨ / ٨).

(٣) انظر : بدائع الصنائع (٣ / ٢٣٥).

(٤) انظر : الحاوي للماوردي (١٠ / ٤٥٦).

(٥) فيبطل التّأقيت ويتأبّد الظّهار. انظر : المدونة (٦ / ٥٣).

(٦) في الأصل : ظهات. والتصويب من ب.

(٧) في الأصل : تكشفت. والتصويب من ب.

(٨) في الأصل : فانطلق. والتصويب من ب.

١٩

فقال : حرّر رقبة» (١). رواه أبو داود في سننه.

ولأنه يمين مكفرة ، فصح توقيته ؛ كاليمين بالله.

فإذا مضى الوقت مضى حكم الظهار.

ويجوز تعليقه بشرط ؛ كدخول الدار.

وإن قال : أنت عليّ كظهر أمي إن شاء الله ؛ لم يكن مظاهرا (٢).

فصل

إذا قالت المرأة لزوجها : أنت عليّ كظهر أبي ؛ لم تكن مظاهرة ؛ لظاهر الآية.

وفي وجوب الكفارة ثلاث روايات :

إحداهن : عليها كفارة الظهار ؛ لأن عائشة بنت طلحة قالت : إن تزوجت مصعب بن الزبير فهو عليّ كظهر أبي ، فسألت أهل المدينة ، فرأوا أن عليها الكفارة (٣).

ولأنها أتت بالمنكر من القول والزور ، فأشبهت الرجل.

والثانية : لا شيء عليها ؛ لكونه ليس بظهار ، فتجب عليها كفارته.

والثالثة : ليس عليها [إلا](٤) كفارة يمين ، كما لو حرّمت شيئا على نفسها (٥).

قوله تعالى : (ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) أي : ذلك البيان والتعليم لما شرع

__________________

(١) أخرجه أبو داود (٢ / ٢٦٥ ح ٢٢١٣).

(٢) انظر : المغني (٨ / ١١).

(٣) أخرجه الدارقطني (٣ / ٣١٩ ح ٢٧١).

(٤) زيادة من ب.

(٥) انظر : المغني (٨ / ٣٤ ـ ٣٥).

٢٠