تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنّان

الشيخ أبي عبدالله عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر آل سعدي

تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنّان

المؤلف:

الشيخ أبي عبدالله عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر آل سعدي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ١١٣٥

وتفرقوا في مهامه القفار ، ولجج البحار ، فلا يفوته منهم أحد ، ويعلم ما تنقص الأرض منهم ، فسبحان القوي المتين.

[٥٩] أي : (فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) بتكذيبهم محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم من العذاب والنكال (ذَنُوباً) ، أي : نصيبا وقسطا ، مثل ما فعل بأصحابهم من أهل الظلم والتكذيب. (فَلا يَسْتَعْجِلُونِ) بالعذاب ، فإن سنة الله في الأمم واحدة. فكل مكذب يدوم على تكذيبه من غير توبه وإنابة ، فإنه لا بد أن يقع عليه العذاب ، ولو تأخر عنه مدة ، ولهذا توعدهم الله بيوم القيامة ، فقال :

[٦٠] (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) (٦٠) وهو يوم القيامة ، الذي قد وعدوا فيه بأنواع العذاب والنكال والأغلال ، فلا مغيث ، ولا منقذ لهم من عذاب الله. نعوذ بالله منه. تم تفسير سورة الذاريات.

سورة الطور

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] يقسم تعالى بهذه الأمور العظيمة ، المشتملة على الحكم الجليلة ، على البعث والجزاء للمتقين ، والمكذبين ، فأقسم بالطور ، وهو الجبل الذي كلم الله عليه موسى بن عمران ، عليه الصلاة والسّلام ، وأوحى إليه ما أوحى من الأحكام. وفي ذلك من المنة عليه وعلى أمته ، ما هو من آيات الله العظيمة ، ونعمه الّتي لا يقدر العباد لها على عدّ ولا ثمن.

[٢] (وَكِتابٍ مَسْطُورٍ) (٢) يحتمل أن المراد به اللوح المحفوظ ، الذي كتب الله به كلّ شيء ، ويحتمل أن المراد به القرآن الكريم ، الذي هو أفضل الكتب ، أنزله الله محتويا على نبأ الأولين والآخرين ، وعلوم السابقين واللاحقين.

[٣] وقوله : (فِي رَقٍ) ، أي : ورق (مَنْشُورٍ) ، أي : مكتوب مسطور ، ظاهر غير خفي ، لا تخفى حاله على كل عاقل بصير.

[٤] (وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ) (٤) وهو البيت الذي فوق السماء السابعة ، المعمور مدى الأوقات ، بالملائكة الكرام ، يدخله كلّ يوم سبعون ألف ملك ، يتعبدون فيه لربهم ، ثمّ لا يعودون إليه إلى يوم القيامة ، وقيل : إن البيت المعمور هو بيت الله الحرام ، والمعمور بالطائفين ، والمصلين ، والذاكرين كلّ وقت ، وبالوفود إليه بالحج والعمرة. كما أقسم الله به في قوله : (وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) (٣) ، وحقيق ببيت هو أفضل بيوت الأرض ، الذي يقصده الناس بالحج والعمرة ، أحد أركان الإسلام ، ومبانيه العظام ، الّتي لا يتم إلا بها ، وهو الذي بناه إبراهيم وإسماعيل ، وجعله الله مثابة للناس وأمنا ، أن يقسم الله به ، ويبين من عظمته ما هو اللائق به وبحرمته.

[٥] (وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ) (٥) ، أي : السماء ، الّتي جعلها الله سقفا للمخلوقات ، وبناء للأرض ، تستمد منه أنوارها ، ويقتدى بعلاماتها ومنارها ، وينزل الله منها المطر والرحمة ، وأنواع الرزق.

[٦] (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) (٦) ، أي : المملوء ماء ، قد سجره الله ، ومنعه من أن يفيض على وجه الأرض ، مع أن مقتضى الطبيعة ، أن يغمر وجه الأرض ، ولكن حكمته اقتضت أن يمنعه عن الجريان والفيضان ، ليعيش من على وجه الأرض ، من أنواع الحيوان.

٩٨١

وقيل : إن المراد بالمسجور : الموقد الذي يوقد نارا يوم القيامة ، نارا تلظى ، ممتلئا ـ على سعته ـ من أصناف العذاب.

[٧] هذه الأشياء الّتي أقسم الله بها ، مما يدل على أنها من آيات الله وأدلة توحيده ، وبراهين قدرته ، وبعثه الأموات ، ولهذا قال : (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ) (٧) ، أي : لا بد أن يقع ، ولا يخلف الله وعده وقيله.

[٨] (ما لَهُ مِنْ دافِعٍ) (٨) يدفعه ، ولا مانع يمنعه ، لأن قدرة الله ، لا يغالبها مغالب ، ولا يفوتها هارب.

[٩] ثمّ ذكر وصف ذلك اليوم ، الذي يقع فيه العذاب ، فقال : (يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً) (٩) ، أي : تدور السماء وتضطرب ، وتدوم حركتها بانزعاج ، وعدم سكون.

[١٠] (وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً) (١٠) ، أي : تزول عن أماكنها ، وتسير كسير السحاب ، وتتلون كالعهن المنفوش ، وتبث بعد ذلك حتى تصير مثل الهباء ، وذلك كله لعظم هول يوم القيامة ، فكيف بالآدمي الضعيف؟

[١١] (فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (١١) ، والويل : كلمة جامعة لكل عقوبة وحزن وعذاب وخوف.

[١٢] ثمّ ذكر وصف المكذبين الّذين استحقوا به الويل ، فقال : (الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ) (١٢) ، أي : خوض بالباطل ولعب به. فعلومهم وبحوثهم بالعلوم الضارة المتضمنة للتكذيب بالحق ، والتصديق بالباطل. وأعمالهم أعمال أهل الجهل والسفه واللعب ، بخلاف ما عليه أهل التصديق والإيمان من العلوم النافعة ، والأعمال الصالحة.

[١٣] (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا) (١٣) ، أي : يدفعون إليها دفعا ، ويساقون إليها سوقا عنيفا ، يجرون على وجوههم ، ويقال لهم توبيخا ولوما :

[١٤] (هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) (١٤) ، فاليوم ذوقوا عذاب الخلد الذي لا يبلغ قدره ، ولا يوصف أمره.

[١٥] (أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ) (١٥) يحتمل أن الإشارة إلى النار والعذاب ، كما يدل عليه سياق الآيات ، أي : لما رأوا النار والعذاب قيل لهم من باب التقريع : «أهذا سحر لا حقيقة له ، فقد رأيتموه ، أم أنتم في الدنيا لا تبصرون» ، أي : لا بصيرة لكم ولا علم عندكم ، بل كنتم جاهلين بهذا الأمر لم تقم عليكم الحجة؟ والجواب انتفاء الأمرين. أما كونه سحرا ، فقد ظهر لهم أنه أحق الحقّ ، وأصدق الصدق ، المنافي للسحر من جميع الوجوه. وأما كونهم لا يبصرون ، فإن الأمر بخلاف ذلك ، بل حجة الله قد قامت عليهم ، ودعتهم الرسل إلى الإيمان بذلك ، وأقامت من الأدلة والبراهين على ذلك ، ما يجعله من أعظم الأمور المبرهنة الواضحة الجلية. ويحتمل أن الإشارة بقوله : (أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ) (١٥) إلى ما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الحقّ المبين ، والصراط المستقيم ، أي : أفيتصور من له عقل ، أن يقول عنه : إنه سحر ، وهو أعظم الحقّ وأجله؟ ولكن لعدم بصيرتهم ، قالوا فيه ما قالوا.

[١٦] (اصْلَوْها) ، أي : ادخلوا على وجه تحيط بكم ، وتشمل أبدانكم ، وتطلع على أفئدتكم. (فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ) ، أي : لا يفيدكم الصبر على النار شيئا ، ولا يتأسى بعضكم ببعض ، ولا يخفف عنكم العذاب ، وليست من الأمور ، الّتي إذا صبر العبد عليها ، هانت مشقتها وزالت شدتها. وإنما فعل بهم ذلك ، بسبب أعمالهم الخبيثة ، وكسبهم ، ولهذا قال : (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).

[١٧] لما ذكر تعالى عقوبة المكذبين ، ذكر نعيم المتقين ليجمع بين الترغيب والترهيب ، فتكون القلوب بين الخوف والرجاء ، فقال : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ) لربهم ، الّذين اتقوا سخطه وعذابه ، بفعل أسبابه من امتثال الأوامر ، واجتناب النواهي. (فِي جَنَّاتٍ) ، أي : بساتين ، قد اكتست رياضها من الأشجار الملتفة ، والأنهار المتدفقة ، والصور المحدقة ، والمنازل المزخرفة. (وَنَعِيمٍ) ، وهذا شامل لنعيم القلب والروح والبدن.

[١٨] (فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ) ، أي : معجبين به ، متمتعين على وجه الفرح والسرور ، بما أعطاهم الله من النعيم الذي لا يمكن وصفه ، ولا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين. (وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) فرزقهم المحبوب ، ونجاهم من المرهوب لما فعلوا ما أحبه ، وجانبوا ما يسخطه.

[١٩] (كُلُوا وَاشْرَبُوا) ، أي : مما تشتهيه أنفسكم ، من أصناف المآكل والمشارب اللذيذة. (هَنِيئاً) ، أي : متهنئين بذلك على وجه البهجة والفرح ، والسرور والحبور. (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ، أي : نلتم ما نلتم

٩٨٢

بسبب أعمالكم الحسنة ، وأقوالكم المستحسنة.

[٢٠] (مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ) الاتكاء هو : الجلوس على وجه التمكن والراحة والاستقرار ، والسرر هي : الأرائك المزينة بأنواع الزينة من اللباس الفاخر والفرش الزاهية. ووصف الله السرر بأنها مصفوفة ليدل ذلك على كثرتها ، وحسن تنظيمها ، واجتماع أهلها وسرورهم ، بحسن معاشرتهم ، وملاطفة بعضهم بعضا. فلما اجتمع لهم من نعيم القلب والروح والبدن ما لا يخطر بالبال ، ولا يدور في الخيال من المآكل والمشارب اللذيذة ، والمجالس الحسنة الأنيقة ، لم يبق إلا التمتع بالنساء اللاتي لم يتم سرور إلا بهن. فذكر تعالى أن لهم من الأزواج ، أكمل النساء أوصافا وخلقا وأخلاقا ، ولهذا قال : (وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) وهن النساء اللواتي قد جمعن جمال الصور الظاهرة وبهاءها ، ومن الأخلاق الفاضلة ، ما يوجب أن يحيرن بحسنهن الناظرين ، ويسلبن عقول العالمين ، وتكاد الأفئدة أن تطير شوقا إليهن ، ورغبة في وصالهن ، والعين : حسان الأعين مليحاتها ، الّتي صفا بياضها وسوادها.

[٢١] وهذا من تمام نعيم الجنة ، أن ألحق الله بهم ذريتهم ، الّذين اتبعوهم بإيمان ، أي : لحقوهم بالإيمان الصادر من آبائهم ، فصارت الذرية تبعا لهم بالإيمان ، ومن باب أولى إذا تبعتهم ذريتهم بإيمانهم الصادر منهم أنفسهم. فهؤلاء المذكورون ، يلحقهم الله بمنازل آبائهم في الجنة ، وإن لم يبلغوها ، جزاء لآبائهم ، وزيادة في ثوابهم. ومع ذلك ، لا ينقص الله الآباء من أعمالهم شيئا. ولما كان ربما توهم متوهم أن أهل النار كذلك ، يلحق الله بهم ذريتهم ، أخبر أنه ليس حكم الدارين حكما واحدا ، فإن النار دار العدل ، ومن عدله تعالى أن لا يعذب أحدا إلا بذنب ، ولهذا قال : (كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) ، أي : مرتهن بعمله ، فلا تزر وازرة وزر أخرى ، ولا يحمل على أحد ذنب أحد. فهذا اعتراض من فوائده إزالة هذا الوهم المذكور.

[٢٢] وقوله : (وَأَمْدَدْناهُمْ) ، أي : أمددنا أهل الجنة من فضلنا الواسع ، ورزقنا العميم (بِفاكِهَةٍ) من العنب والرمان والتفاح ، وأصناف الفواكه اللذيذة الزائدة على ما به يتقوتون. (وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) من كلّ ما طلبوه واشتهته أنفسهم ، من لحوم الطير وغيرها.

[٢٣] (يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً) ، أي : تدور كاسات الرحيق والخمر عليهم ، ويتعاطونها فيما بينهم ، وتطوف عليهم الولدان المخلدون بأكواب وأباريق. (لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ) ، أي : ليس في الجنة كلام لغو ، وهو الذي لا فائدة فيه ، ولا تأثيم وهو : الذي ليس فيه إثم ومعصية ، وإذا انتفى الأمران ، ثبت الأمر الثالث ، وهو أن كلامهم فيها ، سلام طيب طاهر ، مسر للنفوس ، مفرح للقلوب ، يتعاشرون أحسن عشرة ، ويتنادمون أطيب المنادمة ، ولا يسمعون من ربهم ، إلا ما يقر أعينهم ، ويدل على رضاه عنهم ومحبته لهم.

[٢٤] (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ) ، أي : خدم شباب (كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ) من حسنهم وبهائهم ، يدورون عليهم بالخدمة ، وقضاء أشغالهم ، وهذا يدل على كثرة نعيمهم وسعته ، وكمال راحتهم.

[٢٥] (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) (٢٥) عن أمور الدنيا وأحوالها.

[٢٦] (قالُوا) في ذكر بيان الذي

٩٨٣

أوصلهم إلى ما هم فيه من الحبرة والسرور. (إِنَّا كُنَّا قَبْلُ) ، أي : في دار الدنيا (فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ) ، أي : خائفين وجلين ، فتركنا من خوفه الذنوب ، وأصلحنا لذلك العيوب.

[٢٧] (فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا) بالهداية والتوفيق ، (وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ) ، أي : العذاب الحار الشديد حره.

[٢٨] (إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ) أن يقينا عذاب السموم ، ويوصلنا إلى النعيم ، وهذا شامل لدعاء العبادة ، ودعاء المسألة ، أي : لم نزل نتقرب إليه بأنواع العبادات ، وندعوه في سائر الأوقات. (إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) ، فمن برّه ورحمته إيانا أن أنالنا رضاه والجنة ، ووقانا سخطه والنار.

[٢٩] يأمر الله تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يذكر الناس ، مسلمهم وكافرهم ، لتقوم حجة الله على الظالمين ، ويهتدي بتذكيره الموفقون ، وأن لا يبالي بقول المشركين المكذبين ، وأذيتهم وأقوالهم التي يصدون بها الناس عن اتباعه ، مع علمهم أنه أبعد الناس عنها ، ولهذا نفى عنه كل نقص رموه به ، فقال : (فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ) ، أي : منّه ولطفه (بِكاهِنٍ) ، أي : له رئيّ من الجن ، يأتيه بخبر بعض الغيوب ، الّتي يضم إليها مائة كذبة. (وَلا مَجْنُونٍ) فاقد للعقل ، بل أنت أكمل الناس عقلا ، وأبعدهم عن الشياطين ، وأعظمهم صدقا ، وأجلهم وأكملهم.

[٣٠] وتارة (يَقُولُونَ) فيه : إنه (شاعِرٌ) يقول الشعر ، والذي جاء به شعر ، والله يقول : (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ). (نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) ، أي : ننتظر به الموت ، فيبطل أمره ، ونستريح منه.

[٣١] (قُلْ) لهم جوابا لهذا الكلام السخيف : (تَرَبَّصُوا) أي : انتظروا بي الموت ، (فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ) نتربص بكم ، أن يصيبكم الله بعذاب من عنده ، أو بأيدينا.

[٣٢] (أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) (٣٢) ، أي : أهذا التكذيب لك ، والأقوال الّتي قالوها؟ هل صدرت عن عقولهم وأحلامهم؟ فبئس العقول والأحلام ، الّتي هذه نتائجها ، وهذه ثمراتها. فإن عقولا جعلت أكمل الخلق عقلا مجنونا ، وجعلت أصدق الصدق ، وأحق الحقّ ، كذبا وباطلا ، لهي العقول الّتي ينزه المجانين عنها. أم الذي حملهم على ذلك ظلمهم وطغيانهم؟ وهو الواقع ، فالطغيان ليس له حد يقف عليه ، فلا يستغرب من الطاغي المتجاوز الحد ، كل قول وفعل صدر منه.

[٣٣] (أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ) ، أي : تقول محمد القرآن ، وقاله من تلقاء نفسه؟ (بَلْ لا يُؤْمِنُونَ) فلو آمنوا ، لم يقولوا ما قالوا.

[٣٤] (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ) (٣٤) أنه تقوله ، فإنكم العرب الفصحاء ، والفحول البلغاء ، وقد تحداكم أن تأتوا بمثله ، فتصدق معارضتكم أو تقروا بصدقه ، وأنكم لو اجتمعتم ، أنتم والإنس والجن ، لم تقدروا على معارضته والإتيان بمثله ، فحينئذ أنتم بين أمرين : إما مؤمنون به ، مقتدون بهديه ، وإما معاندون متبعون ، لما علمتم من الباطل.

[٣٥] (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ) (٣٥) وهذا استدلال عليهم ، بأمر لا يمكنهم فيه إلا التسليم للحق ، أو الخروج عن موجب العقل والدين ، وبيان ذلك : أنهم منكرون لتوحيد الله ، مكذبون لرسوله ، وذلك مستلزم لإنكار أن الله خلقهم. وقد تقرر في العقل مع الشرع ، أن ذلك لا يخلو من أحد ثلاثة أمور : إما أنهم خلقوا من غير شيء ، أي : لا خالق خلقهم ، بل وجدوا من غير إيجاد ولا موجد ، وهذا عين المحال. أم هم الخالقون لأنفسهم ،

٩٨٤

وهذا أيضا محال ، فإنه لا يتصور ، أن يوجد أحد نفسه. فإذا بطل هذان الأمران ، وبان استحالتهما ، تعين القسم الثالث وهو : أن الله هو الذي خلقهم. وإذا تعين ذلك ، علم أن الله تعالى هو المعبود وحده ، الذي لا تنبغي العبادة ولا تصلح ، إلا له تعالى.

[٣٦] وقوله : (أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) وهذا استفهام يدل على تقرير النفي ، أي : ما خلقوا السماوات والأرض ، فيكونوا شركاء لله ، وهذا أمر واضح جدا. (بَلْ) المكذبون (لا يُوقِنُونَ) ، أي : ليس عندهم يقين ، يوجب لهم الانتفاع بالأدلة الشرعية والعقلية.

[٣٧] (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ) (٣٧) ، أي : أعند هؤلاء المكذبين خزائن رحمة ربك ، فيعطوا من يشاءون ، ويمنعوا من يشاؤون؟ أي : فلذلك حجروا على الله ، أن يعطي النبوة عبده ورسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكأنهم الوكلاء المفوضون على خزائن رحمة الله ، وهم أحقر ، وأذل من ذلك ، فليس في أيديهم لأنفسهم ، نفع ولا ضر ، ولا موت ولا حياة ، ولا نشور. (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا). (أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ) ، أي : المتسلطون على خلق الله وملكه ، بالقهر والغلبة؟ ليس الأمر كذلك ، بل هم العاجزون الفقراء.

[٣٨] (أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ) ، أي : ألهم اطلاع على الغيب ، واستماع له بين الملأ ، فيخبرون عن أمور لا يعلمها غيرهم؟ (فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ) المدعي لذلك (بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) ، وأنّى له ذلك؟ والله تعالى عالم الغيب والشهادة ، فلا يظهر على غيبه أحدا ، إلا من ارتضى من رسول يخبره بما أراد من علمه. وإذا كان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو أفضل الرسل ، وأعلمهم وإمامهم ، وهو المخبر بما أخبر به ، من توحيد الله ، ووعيده ، وغير ذلك من أخباره الصادقة لا يعلم إلا ما علمه الله ، والمكذبون هم أهل الجهل والضلال ، والغي والعناد. فأيّ المخبرين أحق بقبول خبره؟ خصوصا والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أقام من الأدلة والبراهين ، على ما أخبر به ، ما يوجب أن يكون ذلك عين اليقين ، وأكمل الصدق ، وهم لم يقيموا على ما ادعوه شبهة ، فضلا عن إقامة حجة.

[٣٩] وقوله : (أَمْ لَهُ الْبَناتُ) كما زعمتم (وَلَكُمُ الْبَنُونَ) فتجمعون بين المحذورين؟ جعلكم له الولد ، واختياركم له أنقص الصنفين؟ فهل بعد هذا التنقص لرب العالمين ، غاية أو دونه نهاية؟

[٤٠] (أَمْ تَسْئَلُهُمْ) يا أيها الرسول (أَجْراً) على تبليغ الرسالة. (فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ). ليس الأمر كذلك ، بل أنت الحريص على تعليمهم ، تبرعا من غير شيء ، بل تبذل لهم الأموال الجزيلة ، على قبول رسالتك ، والاستجابة لأمرك ودعوتك ، وتعطي المؤلفة قلوبهم ، ليتمكن العلم والإيمان من قلوبهم.

[٤١] (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ) (٤١) ما كانوا يعلمونه من الغيوب ، فيكونون قد اطلعوا على ما لم يطلع عليه رسول الله ، فعارضوه ، وعاندوه بما عندهم من الغيب؟ وقد علم أنهم هم الأمة الأمية ، الجهال الضالون. ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الذي عنده من العلم أعظم من غيره ، وأنبأه الله من علم الغيب على ما لم يطلع عليه أحد من الخلق ، وهذا كله إلزام لهم ، بالطرق العقلية والنقلية ، على فساد قولهم ، وتصوير بطلانه بأحسن الطرق وأوضحها ، وأسلمها من الاعتراض.

[٤٢] وقوله : (أَمْ يُرِيدُونَ) بقدحهم فيك ، وفيما جئت به (كَيْداً) يبطلون به دينك ، ويفسدون به أمرك؟ (فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ) ، أي : كيدهم في نحورهم ، ومضرته عائدة إليهم ، وقد فعل الله ذلك ـ ولله الحمد ـ فلم يبق الكفار من مقدورهم من المكر شيئا ، إلا فعلوه ، فنصر الله نبيه عليهم ، وأظهر دينه ، وخذلهم ، وانتصر عليهم.

[٤٣] (أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ) ، أي : ألهم إله يدعى ويرجى نفعه ، ويخاف من ضره ، غير الله تعالى؟ (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) فليس له شريك في الملك ، ولا شريك في الوحدانية والعبادة. وهذا هو المقصود من الكلام الذي سيق لأجله ، وهو بطلان عبادة ما سوى الله ، وبيان فسادها ، بتلك الأدلة القاطعة. وأن ما عليه المشركون هو الباطل ، وأن الذي ينبغي أن يعبد ويصلى له ويسجد ، ويخلص له دعاء العبادة ، ودعاء المسألة ، هو الله المألوه المعبود ، كامل الأسماء والصفات ، كثير النعوت الحسنة ، والأفعال الجميلة ، ذو الجلال والإكرام ، والعز الذي لا يرام ، الواحد الأحد ، الفرد الصمد ، الكبير الحميد المجيد.

[٤٤] يقول تعالى في ذكر بيان أن المشركين المكذبين بالحق الواضح ، قد عتوا عن الحقّ ، وعسوا على الباطل ،

٩٨٥

وأنه لو قام على الحقّ كلّ دليل لما اتبعوه ، ولخالفوه وعاندوا. (وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً) ، أي : لو سقط عليهم من السماء من الآيات الباهرة ، كسف ، أي : قطع كبار من العذاب (يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ) ، أي : هذا سحاب متراكم على العادة. أي : فلا يبالون بما رأوا من الآيات ، ولا يعتبرون بها.

[٤٥] وهؤلاء لا دواء لهم ، إلا العذاب والنكال ، ولهذا قال : (فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ) (٤٥) وهو يوم القيامة الذي يصيبهم فيه من العذاب ، ما لا يقادر قدره ، ولا يوصف أمره.

[٤٦] (يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً) ، أي : لا قليلا ولا كثيرا. وإن كان في الدنيا ، قد يوجد منهم كيد يعيشون به زمنا قليلا ، فيوم القيامة يضمحل كيدهم ، وتبطل مساعيهم ، ولا ينتصرون من عذاب الله (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ).

[٤٧] لما ذكر الله عذاب الظالمين في الآخرة ، أخبر أن لهم عذابا قبل عذاب يوم القيامة ، وذلك شامل لعذاب الدنيا ، بالقتل والسبي والإخراج من الديار ، ولعذاب البرزخ والقبر. (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ، أي : فلذلك أقاموا على ما يوجب العذاب ، وشدة العقاب.

[٤٨] ولما بين تعالى الحجج والبراهين على بطلان أقوال المكذبين ، أمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن لا يعبأ بهم شيئا ، وأن يصبر لحكم ربه القدري ، والشرعي بلزومه ، والاستقامة عليه ، ووعده الله الكفاية بقوله : (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) ، أي : بمرأى منا ، وحفظ ، واعتناء بأمرك. وأمره أن يستعين على الصبر بالذكر والعبادة ، فقال : (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ) من الليل.

[٤٩] ففيه الأمر بقيام الليل ، أو حين تقوم إلى الصلوات الخمس ، بدليل قوله : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ) (٤٩) ، أي : آخر الليل ، ويدخل فيه صلاة الفجر ، والله أعلم. تم تفسير سورة الطور ـ والحمد لله.

تفسير سورة النجم

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] يقسم تعالى بالنجم عند هويّه ، أي : سقوطه في الأفق في آخر الليل عند إدبار الليل ، وإقبال النهار ، لأن في ذلك من الآيات العظيمة ، ما أوجب أن أقسم به ، والصحيح أن النجم ، اسم جنس شامل للنجوم كلها. وأقسم بالنجوم على صحة ما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الوحي الإلهي ، لأن في ذلك مناسبة عجيبة ، فإن الله تعالى جعل النجوم زينة للسماء ، فكذلك الوحي وآثاره ، زينة للأرض ، فلو لا العلم الموروث من الأنبياء ، لكان الناس في ظلمة أشد من ظلمة الليل البهيم. والمقسم عليه ، تنزيه الرسول عن الضلال في علمه ، والغيّ في قصده. ويلزم من ذلك أن يكون مهتديا في علمه ، هاديا ، حسن القصد ، ناصحا للخلق. وبعكس ما عليه أهل الضلال من فساد العلم ،

٩٨٦

وسوء القصد.

[٢] وقال : (صاحِبُكُمْ) لينبههم على ما يعرفونه منه ، من الصدق والهداية ، وأنه لا يخفى عليهم أمره.

[٣] (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) (٣) ، أي : ليس نطقه صادرا عن هوى نفسه.

[٤] (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) (٤) ، أي : لا يتبع إلا ما أوحي إليه ، من الهدى والتقوى ، في نفسه ، وفي غيره. ودل هذا على أن السنة وحي من الله لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما قال تعالى : (وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) ، وأنه معصوم فيما يخبر به عن الله تعالى وعن شرعه ، لأن كلامه لا يصدر عن هوى ، وإنما يصدر عن وحي يوحى.

[٥] ثمّ ذكر المعلم للرسول ، وهو جبريل عليه‌السلام ، أفضل الملائكة الكرام وأقواهم وأكملهم ، فقال : (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) (٥) ، أي : نزل بالوحي على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم جبريل عليه‌السلام ، شديد القوى الظاهرة والباطنة. قوي على تنفيذ ما أمره الله بتنفيذه ، قوي على إيصال الوحي إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومنعه من اختلاس الشياطين له ، أو إدخالهم فيه ما ليس منه. وهذا من حفظ الله لوحيه ، أن أرسله مع هذا الرسول القوي الأمين.

[٦] (ذُو مِرَّةٍ) ، أي : قوة ، وخلق حسن ، وجمال ظاهر وباطن. (فَاسْتَوى) جبريل عليه‌السلام.

[٧] (وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى) (٧) ، أي : أفق السماء الذي هو أعلى من الأرض ، فهو من الأرواح العلوية ، الّتي لا تنالها الشياطين ولا يتمكنون من الوصول إليها.

[٨] (ثُمَّ دَنا) جبريل من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لإيصال الوحي إليه. (فَتَدَلَّى) عليه من الأفق الأعلى.

[٩] (فَكانَ) في قربه منه (قابَ قَوْسَيْنِ) ، أي : قدر قوسين ، والقوس معروف ، (أَوْ أَدْنى) ، أي : أقرب من القوسين ، وهذا يدل على كمال مباشرته للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بالرسالة ، وأنه لا واسطة بينه وبين جبريل عليه‌السلام.

[١٠] (فَأَوْحى) الله بواسطة جبريل عليه‌السلام (إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) ، أي : الذي أوحاه إليه من الشرع العظيم ، والنبأ المستقيم.

[١١] (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) (١١) ، أي : اتفق فؤاد الرسل صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورؤيته على الوحي الذي أوحاه الله إليه ، وتواطأ عليه سمعه وبصره وقلبه ، وهذا دليل على كمال الوحي الذي أوحاه الله إليه ، وأنه تلقاه منه تلقيا لا شك فيه ولا شبهة ولا ريب ، فلم يكذب فؤاده ، ما رأى بصره ، ولم يشك في ذلك. ويحتمل أن المراد بذلك ما رأى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة أسري به ، من آيات الله العظيمة ، وأنه تيقنه حقا ، بقلبه ورؤيته ، وهذا هو الصحيح في تأويل الآية الكريمة. وقيل : إن المراد بذلك رؤية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لربه ليلة الإسراء ، وتكليمه إياه ، وهذا اختيار كثير من العلماء رحمهم‌الله ، فأثبتوا بهذا ، رؤية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لربه في الدنيا. ولكن الصحيح القول الأول ، وأن المراد به جبريل عليه‌السلام ، كما يدل عليه السياق ، وأن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى جبريل في صورته الأصلية ، الّتي هو عليها مرتين : مرة في الأفق الأعلى ، تحت السماء الدنيا كما تقدم ، والمرة الثانية فوق السماء السابعة ليلة أسري برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

[١٣] ولهذا قال : (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى) (١٣) ، أي : رأى محمد جبريل مرة أخرى ، نازلا إليه.

[١٤] (عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى) (١٤) وهي شجرة عظيمة جدا ، فوق السماء السابعة ، سميت سدرة المنتهى ، لأنه ينتهي إليها ما يعرج من الأرض ، وينزل إليها ما ينزل من الله ، من الوحي وغيره. أو لانتهاء علم المخلوقات إليها ، أي : لكونها فوق

٩٨٧

السماوات والأرض فهي المنتهى في علومها ، أو لغير ذلك ، والله أعلم. فرأى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم جبريل في ذلك المكان ، الذي هو محل الأرواح العلوية الزاكية الجميلة الّتي لا يقربها شيطان ولا غيره ، من الأرواح الخبيثة.

[١٥] (عِنْدَها) ، أي : عند تلك الشجرة (جَنَّةُ الْمَأْوى) ، أي : الجنة الجامعة لكل نعيم ، بحيث كانت محلّا تنتهي إليه الأماني ، وترغب فيه الإرادات ، وتأوي إليها الرغبات ، وهذا دليل على أن الجنة في أعلى الأماكن ، وفوق السماء السابعة.

[١٦] (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى) (١٦) ، أي : يغشاها من أمر الله ، شيء عظيم لا يعلم وصفه إلا الله عزوجل.

[١٧] (ما زاغَ الْبَصَرُ) ، أي : ما زاغ يمنة ولا يسرة ، عن مقصوده (وَما طَغى) ، أي : وما تجاوز البصر ، وهذا كمال الأدب منه صلوات الله وسلامه عليه ، أن قام مقاما ، أقامه الله فيه ، ولم يقصر عنه ، ولا تجاوزه ، ولا حاد عنه. وهذا أكمل ما يكون من الأدب العظيم ، الذي فاق فيه الأولين والآخرين ، فإن الإخلال يكون بأحد هذه الأمور : إما أن لا يقوم العبد بما أمر به ، أو يقوم به على وجه التفريط ، أو على وجه الإفراط ، أو على وجه الحيدة يمينا وشمالا ، وهذه الأمور كلها منتفية عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

[١٨] (لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) (١٨) من الجنة والنار ، وغير ذلك من الآيات الّتي رآها صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة أسري به.

[١٩ ـ ٢٠] لما ذكر تعالى ما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الهدى ، ودين الحقّ ، والأمر بعبادة الله ، وتوحيده ، ذكر بطلان ما عليه المشركون من عبادة من ليس له من أوصاف الكمال شيء ، ولا تنفع ولا تضر ، وإنما هي أسماء فارغة من المعنى ، سماها المشركون ، هم وآباؤهم الجهال الضلال ، ابتدعوا لها من الأسماء الباطلة الّتي لا تستحقها ، فخدعوا بها أنفسهم وغيرهم من الضلال. فالآلهة الّتي بهذه الحال ، لا تستحق مثقال ذرة من العبادة ، وهذه الأنداد الّتي سموها بهذه الأسماء ، زعموا أنها مشتقة من أوصاف هي متصفة بها ، فسموا «اللات» من «الإله» المستحق للعبادة ، و «العزى» من «العزيز» ، و «مناة» من «المنان» إلحادا في أسماء الله وتجريا على الشرك به ، وهذه أسماء متجردة من المعاني. فكل من له أدنى مسكة من عقل ، يعلم بطلان هذه الأوصاف فيها.

[٢١] (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى) (٢١) أي : أتجعلون لله البنات بزعمكم ، ولكم البنون؟

[٢٢] (تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى) (٢٢) ، أي : ظالمة جائرة ، وأيّ ظلم أعظم من قسمة تقتضي تفضيل العبد المخلوق على الخالق؟ تعالى الله عن قولهم علوّا كبيرا.

[٢٣] وقوله : (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) ، أي : من حجة وبرهان ، على صحة مذهبكم ، وكلّ أمر ، ما أنزل الله فيه من سلطان ، فهو باطل فاسد ، لا يتخذ دينا ، وهم ـ في أنفسهم ـ ليسوا بمتبعين لبرهان ، يتيقنون به ما ذهبوا إليه. وإنما دلهم على قولهم ، الظن الفاسد ، والجهل الكاسد ، وما تهواه أنفسهم من الشرك والبدع الموافقة لأهويتهم ، والحال أنه لا موجب لهم يقتضي ذلك ، إلا اتباعهم للظن ، من فقد العلم والهدى ، ولهذا قال تعالى : (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى) ، أي : الذي يرشدهم في باب التوحيد والنبوة ، وجميع المطالب الّتي يحتاج إليها العباد. فكلها قد بينها الله أكمل بيان ، وأوضحه ، وأدله على المقصود ، وأقام عليه من الأدلة والبراهين ، ما يوجب لهم ولغيرهم اتباعه ، فلم يبق لأحد حجة ، ولا عذر من بعد البيان والبرهان. وإذا كان ما هم عليه ، غايته اتباع الظن ، ونهايته الشقاء الأبدي والعذاب السرمدي ، فالبقاء على هذه الحال ، من أسفه السفه ، وأظلم الظلم ، ومع ذلك يتمنون الأماني ، ويغترون بأنفسهم.

[٢٤ ـ ٢٥] ولهذا أنكر تعالى على من زعم ، أنه يحصل له ما تمنى ، وهو كاذب في ذلك ، فقال : (أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (٢٤) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى) (٢٥) فيعطي من يشاء ، ويمنع من يشاء ، فليس الأمر تابعا لأمانيهم ، ولا موافقا لأهوائهم.

[٢٦] يقول تعالى منكرا على من عبد غيره من الملائكة وغيرهم ، وزعم أنها تنفعه وتشفع له عند الله يوم القيامة : (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ) من الملائكة المقربين ، وكرام الملائكة. (لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً) ، أي : لا تفيد من ادعاها وتعلق بها ورجاها. (إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى) ، أي : لا بد من اجتماع الشرطين : إذنه تعالى في

٩٨٨

الشفاعة ، ورضاه عن المشفوع له. ومن المعلوم المتقرر ، أنه لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا لوجه الله ، موافقا من صاحبه الشريعة. فالمشركون إذا لا نصيب لهم من شفاعة الشافعين ، لأنهم سدوا على أنفسهم ، رحمة أرحم الراحمين.

[٢٧] يعني أن المشركين بالله المكذبين لرسله ، الّذين لا يؤمنون بالآخرة ، بسبب عدم إيمانهم بالله تعالى ، تجرأوا على ما تجرأوا عليه ، من الأقوال ، والأفعال المحادة لله ولرسوله ، من قولهم : «الملائكة بنات الله» ، فلم ينزهوا ربهم عن الولادة ، ولم يكرموا الملائكة ، ويجلوهم عن تسميتهم إياهم إناثا.

[٢٨] والحال أنه ليس لهم بذلك علم ، لا عن الله ، ولا عن رسوله ، ولا دلت على ذلك الفطر والعقول ، بل العلم كله ، دال على نقيض قولهم ، وأن الله منزه عن الأولاد ، والصاحبة ، لأنه الواحد الأحد ، الفرد الصمد ، الذي لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد ، وأن الملائكة كرام مقربون إلى الله ، قائمون بخدمته : (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ). والمشركون إنما يتبعون في ذلك القول القبيح ، وهو : الظن الذي لا يغني من الحقّ شيئا ، فإن الحقّ لا بد فيه من اليقين المستفاد من الأدلة والبراهين الساطعة.

[٢٩] ولما كان هذا دأب هؤلاء المذكورين أنهم لا غرض لهم في اتباع الحقّ ، وإنما غرضهم ومقصودهم ، ما تهواه نفوسهم ، أمر الله رسوله بالإعراض عمن تولى عن ذكره ، الذي هو الذكر الحكيم ، والقرآن العظيم ، فأعرض عن العلوم النافعة ، ولم يرد إلا الحياة الدنيا ، فهذا منتهى إرادته. ومن المعلوم أن العبد لا يعمل إلا للشيء الذي يريده ، فسعي هؤلاء مقصور على الدنيا ولذاتها وشهواتها ، كيف حصلت حصّلوها ، وبأي طريق سنحت ابتدروها.

[٣٠] (ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) ، أي : هذا منتهى علمهم وغايته. وأما المؤمنون بالآخرة ، المصدقون بها ، أولو الألباب والعقول ، فهمهم وإرادتهم للدار الآخرة ، وعلومهم أفضل العلوم وأجلها ، وهو المأخوذ من كتاب الله ، وسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والله تعالى أعلم بمن يستحق الهداية فيهديه ، ممن لا يستحق ذلك ، فيكله إلى نفسه ، ويخذله ، فيضل عن سبيل الله ، ولهذا قال تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى) فيضع فضله حيث يعلم المحل اللائق به.

[٣١] يخبر تعالى أنه مالك الملك ، المنفرد بملك الدنيا والآخرة ، وأن جميع ما فيهما ملك لله ، يتصرف فيهم تصرف الملك العظيم ، في عبيده ومماليكه ، ينفذ فيهم قدره ، ويجري عليهم شرعه ، ويأمرهم وينهاهم ، ويجزيهم على ما أمرهم به ، ونهاهم عنه ، فيثيب المطيع ، ويعاقب العاصي. (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا) من سيئات الكفر فما دونه من المعاصي ، وبما عملوه من أعمال الشر بالعقوبة الفظيعة. (وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا) في عبادة الله تعالى ، وأحسنوا إلى خلق الله ، بأنواع المنافع (بِالْحُسْنَى) ، أي : بالحالة الحسنة في الدنيا والآخرة. وأكبر ذلك وأجلّه رضا ربهم ، والفوز بالجنة ، وما فيها من النعيم.

[٣٢] ثمّ ذكر وصفهم فقال : (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ) ، أي : يفعلون ما أمرهم الله به ، من الواجبات ، الّتي يكون تركها من كبائر الذنوب ، ويتركون المحرمات الكبار ، من الزنا ، وشرب الخمر ، وأكل الربا ، والقتل ، ونحو ذلك من الذنوب العظيمة. (إِلَّا اللَّمَمَ) وهي الذنوب الصغار ، الّتي لا يصر

٩٨٩

صاحبها عليها ، أو الّتي يلم العبد بها ، المرة بعد المرة ، على وجه الندرة والقلة ، فهذه ، ليس مجرد الإقدام عليها مخرجا للعبد من أن يكون من المحسنين ، فإن هذه ، مع الإتيان بالواجبات ، وترك المحرمات ، تدخل تحت مغفرة الله ، الّتي وسعت كلّ شيء ، ولهذا قال : (إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ) ، فلو لا مغفرته لهلكت البلاد والعباد ، ولو لا عفوه وحلمه ، لسقطت السماء على الأرض ، ولما ترك على ظهرها من دابة. ولهذا قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الصلوات الخمس ، والجمعة إلى الجمعة ، ورمضان إلى رمضان ، مكفرات لما بينهن ، ما اجتنبت الكبائر». وقوله : (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) ، أي : هو تعالى أعلم بأحوالكم كلها ، وما جبلكم عليه ، من الضعف والخور ، عن كثير مما أمركم الله به ، ومن كثرة الدواعي إلى فعل المحرمات ، وكثرة الجواذب إليها ، وعدم الموانع القوية. والضعف موجود مشاهد منكم ، حين أخرجكم الله من الأرض ، وإذ كنتم في بطون أمهاتكم ، ولم يزل موجودا فيكم. وإن كان الله تعالى قد أوجد فيكم قوة على ما أمركم به ، ولكن الضعف لم يزل ، فلعلمه تعالى بأحوالكم هذه ، ناسبت الحكمة الإلهية ، والجود الرباني ، أن يتغمدكم برحمته ومغفرته وعفوه ، ويغمركم بإحسانه ، ويزيل عنكم الجرائم والمآثم. خصوصا إذا كان العبد مقصوده مرضاة ربه في جميع الأوقات ، وسعيه فيما يقرب إليه في أكثر الآنات ، وفراره من الذنوب ، الّتي يمقت بها عند مولاه ، ثمّ تقع منه الفلتة بعد الفلتة ، فإن الله تعالى أكرم الأكرمين وأجود الأجودين ، أرحم بعباده من الوالدة بولدها. فلا بد لمثل هذا أن يكون من مغفرة ربه قريبا ، وأن يكون الله له في جميع أحواله مجيبا ، ولهذا قال تعالى : (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ) ، أي : تخبرون الناس بطهارتها ، على وجه التمدح عندهم. (هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى) فإن التقوى ، محلها القلب ، والله هو المطلع عليه ، المجازي على ما فيه من برّ وتقوى ، وأما الناس ، فلا يغنون عنكم من الله شيئا.

[٣٣ ـ ٣٧] يقول تعالى : (أَفَرَأَيْتَ) قبح حالة من أمر بعبادة ربه وتوحيده ، فتولى عن ذلك ، وأعرض عنه؟ فإن سمحت نفسه ببعض الشيء القليل ، فإنه لا يستمر عليه ، بل يبخل ويكدى ويمنع. فإن الإحسان ليس سجية له وطبعا ، بل طبعه التولّي عن الطاعة ، وعدم الثبوت على فعل المعروف ، ومع هذا ، فهو يزكّي نفسه ، وينزلها غير منزلتها ، الّتي أنزلها الله بها. (أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى) (٣٥) الغيب ، فيخبر به ، أم هو متقول على الله ، متجرىء عليه ، جامع بين المحذورين ، الإساءة والتزكية ، كما هو الواقع ، لأنه قد علم أنه ليس عنده علم من الغيب ، وأنه لو قدر أنه ادعى ذلك ، فالإخبارات القاطعة عن علم الغيب ، الّتي على يد النبي المعصوم تدل على نقيض قوله ، وذلك دليل على بطلانه. (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ) هذا المدعي (بِما فِي صُحُفِ مُوسى (٣٦) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) (٣٧). أي : قام بجميع ما ابتلاه الله به ، وأمره به ، من الشرائع ، وأصول الدين وفروعه.

[٣٨] وفي تلك الصحف ، أحكام كثيرة ، من أهمها ما ذكره الله بقوله : (أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (٣٨) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) (٣٩) ، أي : كل عامل ، له عمله الحسن والسيّء ، فليس له من عمل غيره وسعيه شيء ، ولا يتحمل أحد

٩٩٠

عن أحد ذنبا. (وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى) (٤٠) في الآخرة فيميز حسنه من سيئه. (ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى) (٤١) ، أي : المستكمل لجميع العمل : الحسن الخالص بالحسنى ، والسيّء الخالص بالسّوأى ، والمشوب بحسبه. جزاء تقرّ بعد له وإحسانه الخليقة كلها ، وتحمد الله عليه ، حتى إن أهل النار ليدخلون النار ، وإن قلوبهم مملوءة من حمد ربهم ، والإقرار له بكمال الحكمة ومقت أنفسهم ، وأنهم الذين أوصلوا أنفسهم ، وأوردوها شر الموارد.

[٣٩] وقد استدل بقوله : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) (٣٩) ، فوصول سعي غيره إليه ، مناف لذلك ، وفي هذا الاستدلال نظر ، فإن الآية إنما تدل على أنه ليس للإنسان إلا ما سعى بنفسه ، وهذا حق لا خلاف فيه ، وليس فيها ما يدل على أنه لا ينتفع بسعي غيره ، إذا أهداه ذلك الغير إليه ، كما أنه ليس للإنسان من المال ، إلا ما هو في ملكه وتحت يده ، ولا يلزم من ذلك ، أن لا يملك ما وهبه الغير له ، من ماله الذي يملكه.

[٤٢] وقوله : (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) (٤٢) ، أي : إليه تنتهي الأمور ، وإليه تصير الأشياء والخلائق ، بالبعث والنشور ، وإلى الله المنتهى في كلّ حال ، فإليه ينتهي العلم ، والحكمة ، والرحمة ، وسائر الكمالات.

[٤٣] (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى) (٤٣) ، أي : هو الذي أوجد أسباب الضحك والبكاء ، وهو الخير والشر ، والفرح والسرور ، والهم والحزن ، وهو سبحانه له الحكمة البالغة في ذلك.

[٤٤] (وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا) (٤٤) ، أي : هو المنفرد بالإيجاد والإعدام ، والذي أوجد الخلق ، وأمرهم ونهاهم ، سيعيدهم بعد موتهم ، ويجازيهم بتلك الأعمال الّتي عملوها في دار الدنيا.

[٤٥] (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ) فسرهما بقوله : (الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) ، وهذا اسم جنس شامل لجميع الحيوانات ، ناطقها وبهيمها ، فهو المنفرد بخلقها.

[٤٦] (مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى) (٤٦) وهذا من أعظم الأدلة على كمال قدرته وانفراده بالعزة العظيمة ، حيث أوجد تلك الحيوانات ، صغيرها وكبيرها من نطفة ضعيفة من ماء مهين ، ثمّ نماها وكملها ، حتى بلغت ما بلغت ، ثمّ صار الآدمي منها ، إما إلى أرفع المقامات في أعلى عليين ، وإما إلى أدنى الحالات في أسفل سافلين.

[٤٧] ولهذا استدل بالبداءة على الإعادة ، فقال : (وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى) (٤٧) فيعيد العباد من الأجداث ، ويجمعهم ليوم الميقات ، ويجازيهم على الحسنات والسيئات.

[٤٨] (وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى) (٤٨) ، أي : أغنى العباد بتيسير أمر معاشهم من التجارات ، وأنواع المكاسب ، من الحرف وغيرها ، وأقنى ، أي : أفاد عباده من الأموال ، بجميع أنواعها ، ما يصيرون به مقتنين لها ، ومالكين لكثير من الأعيان ، وهذا من نعمه تعالى أن أخبرهم أن جميع النعم منه ، وهذا يوجب على العباد أن يشكروه ، ويعبدوه وحده لا شريك له.

[٤٩] (وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى) (٤٩) وهو النجم المعروف بالشعرى العبور ، المسماة بالمرزم ، وخصها الله بالذكر ، وإن كان هو رب كلّ شيء ، لأن هذا النجم مما عبد في الجاهلية ، فأخبر تعالى أن جنس ما يعبد المشركون ، مربوب مدبر مخلوق ، فكيف يتخذ مع الله آلهة.

[٥٠] (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى) (٥٠) وهم قوم هود عليه‌السلام ، حين كذبوا هودا ، فأهلكهم الله بريح صرصر عاتية.

[٥١] (وَثَمُودَ) قوم صالح عليه‌السلام ، أرسله الله إلى ثمود فكذبوه ، فبعث الله إليهم الناقة آية ، فعقروها وكذبوه ، فأهلكهم الله. (فَما أَبْقى) منهم أحدا ، بل أبادهم عن آخرهم.

[٥٢] (وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى) (٥٢) من هؤلاء الأمم ، فأهلكهم الله وأغرقهم.

[٥٣] (وَالْمُؤْتَفِكَةَ) وهم قوم لوط عليه‌السلام (أَهْوى) ، أي : أصابهم الله بعذاب ، ما عذب به أحدا من العالمين ، قلب أسفل ديارهم أعلاها ، وأمطر عليهم حجارة من سجيل ، ولهذا قال :

[٥٤] (فَغَشَّاها ما غَشَّى) (٥٤) ، أي : غشيها من العذاب الأليم الوخيم ، ما غشى ، أي : شيء عظيم ، لا يمكن وصفه.

[٥٥] (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى) (٥٥) ، أي : فبأي نعم الله وفضله تشك أيها الإنسان؟ فإن نعم الله ظاهرة لا تقبل الشك بوجه من الوجوه ، فما بالعباد من نعمة ، إلا منه تعالى ، ولا يدفع النقم إلا هو.

[٥٦] (هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى) (٥٦) أي : هذا الرسول

٩٩١

القرشي الهاشمي محمد بن عبد الله ، ليس ببدع من الرسل ، بل قد تقدمه من الرسل السابقين ، ودعوا إلى ما دعا إليه ، فلأي شيء تنكر رسالته؟ وبأي حجة تبطل دعوته؟ أليست أخلاقه أعلى أخلاق الرسل الكرام؟ أليس يدعو إلى كلّ خير ، وينهى عن كلّ شر؟ ألم يأت بالقرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، تنزيل من حكيم حميد؟ ألم يهلك الله من كذب من قبله من الرسل الكرام؟ فما الذي يمنع العذاب عن المكذبين لمحمد سيد المرسلين ، وإمام المتقين ، وقائد الغرّ المحجّلين؟

[٥٧] (أَزِفَتِ الْآزِفَةُ) (٥٧) ، أي : قربت القيامة ، ودنا وقتها ، وبانت علاماتها.

[٥٨] (لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ) (٥٨) ، أي : إذا أتت القيامة ، وجاءهم العذاب الموعود به.

[٥٩] ثمّ توعد المنكرين لرسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، المكذبين لما جاء به من القرآن الكريم ، فقال : (أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ) (٥٩)؟ أي : أفمن هذا الحديث الذي هو خير الكلام وأفضله وأشرفه تتعجبون ، وتجعلونه من الأمور المخالفة للعادة ، الخارقة للأمور والحقائق المعروفة؟ هذا من جهلهم وضلالهم وعنادهم ، وإلا فهو الحديث الذي إذا حدث صدق ، وإذا قال قولا ، فهو القول الفصل ، ليس بالهزل ، وهو القرآن العظيم ، الذي لو أنزل على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله ، الذي يزيد ذوي الإصلاح رأيا وعقلا ، وتسديدا وثباتا ، وإيقانا وإيمانا ، بل الذي ينبغي العجب من عقل من تعجّب منه ، وسفهه وضلاله.

[٦٠] (وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ) (٦٠) ، أي : تستعجلون الضحك والاستهزاء به ، مع أنه الذي ينبغي أن تتأثر منه النفوس ، وتلين له القلوب ، وتبكي له العيون ، سماعا لأمره ونهيه ، وإصغاء لوعده ووعيده ، والتفاتا لأخباره الصادقة الحسنة.

[٦١] (وَأَنْتُمْ سامِدُونَ) (٦١) ، أي : غافلون ، لاهون عنه ، وعن تدبره ، وهذا من قلة عقولكم ، وزيف أديانكم.

[٦٢] فلو عبدتم الله وطلبتم رضاه في جميع الأحوال لما كنتم بهذه المثابة ، الّتي يأنف منها أولو الألباب ، ولهذا قال تعالى : (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) (٦٢) ، الأمر بالسجود لله خصوصا ، يدل على فضله ، وأنه سر العبادة ولبها ، فإن روحها الخشوع لله ، والخضوع له ، والسجود أعظم حالة يخضع بها العبد ، فإنه يخضع قلبه وبدنه ، ويجعل أشرف أعضائه على الأرض المهينة ، موضع وطء الأقدام. ثمّ أمر بالعبادة عموما ، الشاملة لجميع ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال ، والأقوال الظاهرة والباطنة. تم تفسير سورة النجم ـ والحمد لله.

٩٩٢

سورة القمر

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) (١) يخبر تعالى أن الساعة وهي : القيامة ، اقتربت وآن أوانها ، وحان وقت مجيئها ، ومع هذا ، فهؤلاء المكذبون لم يزالوا مكذبين بها ، غير مستعدين لنزولها ، ويريهم الله من الآيات العظيمة الدالة على وقوعها ما يؤمن على مثله ، البشر. فمن أعظم الآيات الدالة على صحة ما جاء به محمد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه لما طلب منه المكذبون أن يريهم من خوارق العادات ما يدل على صحة ما جاء به وصدقه ، أشار صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى القمر ، فانشق بإذن الله ، فلقتين ، فلقة على جبل أبي قبيس ، وفلقة على جبل قعيقعان. والمشركون وغيرهم يشاهدون هذه الآية العظيمة الكائنة في العالم العلوي ، الّتي لا يقدر الخلق على التمويه بها والتخييل.

[٢] فشاهدوا أمرا ما رأوا مثله ، بل ولم يسمعوا أنه جرى لأحد من المرسلين قبله نظيره ، فانبهروا لذلك ، ولم يدخل الإيمان في قلوبهم ، ولم يرد الله بهم خيرا ، ففزعوا إلى بهتهم وطغيانهم ، وقالوا : سحرنا محمد. ولكن علامة ذلك أنكم تسألون من ورد عليكم من السفر ، فإنه إن قدر على سحركم ، لم يقدر أن يسحر من ليس مشاهدا مثلكم ، فسألوا كلّ من قدم ، فأخبروهم بوقوع ذلك ، فقالوا : (سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) ، سحرنا محمد ، وسحر غيرنا. وهذا من البهت الذي لا يروج إلا على أسفه الخلق وأضلهم عن الهدى والعقل ، وهذا ليس إنكارا منهم لهذه الآية وحدها ، بل كلّ آية تأتيهم ، فإنهم مستعدون لمقابلتها بالتكذيب والرد لها ، ولهذا قال : (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا) فليس قصدهم اتباع الحقّ والهدى ، وإنما مقصودهم اتباع الهوى ، ولهذا قال :

[٣] (وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) ، كقوله تعالى : (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ). فإنه لو كان قصدهم اتباع الهدى ، لآمنوا قطعا ، واتبعوا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأن الله أراهم على يديه من البينات والبراهين ، والحجج القواطع ، ما دل على جميع المطالب الإلهية ، والمقاصد الشرعية. (وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) ، أي : إلى الآن ، لم يبلغ الأمر غايته ومنتهاه ، وسيصير الأمر إلى آخره ، فالمصدق يتقلب في جنات النعيم ، ومغفرة الله ورضوانه ، والمكذب يتقلب في سخط الله وعذابه ، خالدا مخلدا أبدا.

[٤] وقال تعالى ـ مبينا أنهم ليس لهم قصد صحيح ، واتباع للهدى ـ : (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ) (٤) ، أي : زاجر يزجرهم عن غيهم وضلالهم ،

[٥] وذلك (حِكْمَةٌ) منه تعالى (بالِغَةٌ) ، أي : لتقوم حجته على العالمين ، ولا يبقى لأحد على الله حجة بعد الرسل. (فَما تُغْنِ النُّذُرُ) لقوله تعالى : (وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) (٩٧).

[٦] يقول تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قد بان أن المكذبين لا حيلة في هداهم ، فلم يبق إلا الإعراض عنهم ، فقال (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) وانتظر بهم يوما عظيما وهولا جسيما. وذلك (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ) وهو إسرافيل عليه‌السلام (إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ) ، أي : إلى أمر فظيع ، تنكره الخليقة ، فلم تر منظرا أفظع ولا أوجع منه ، فينفخ إسرافيل نفخة ، يخرج بها

٩٩٣

الأموات من قبورهم لموقف القيامة.

[٧] (خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ) ، أي : من الهول والفزع ، الذي وصل إلى قلوبهم ، فخضعت وذلت ، وخشعت لذلك أبصارهم. (يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ) ، وهي القبور ، (كَأَنَّهُمْ) من كثرتهم ، وروجان بعضهم ببعض (جَرادٌ مُنْتَشِرٌ) ، أي : مبثوث في الأرض ، متكاثر جدا.

[٨] (مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ) ، أي : مسرعين لإجابة نداء الداعي ، وهذا يدل على أن الداعي يدعوهم ويأمرهم بالحضور لموقف القيامة فيلبون دعوته ويسرعون إلى إجابته. (يَقُولُ الْكافِرُونَ) الّذين قد حضر عذابهم : (هذا يَوْمٌ عَسِرٌ).

[٩] لما ذكر تبارك وتعالى حال المكذبين لرسوله ، وأن الآيات لا تنفع فيهم ، ولا تجدي عليهم شيئا ، أنذرهم وخوّفهم بعقوبات الأمم الماضية المكذبة للرسل ، وكيف أهلكهم الله ، وأحلّ بهم عقابه. فذكر قوم نوح ، أول رسول بعثه الله إلى قوم يعبدون الأصنام ، فدعاهم إلى توحيد الله ، وعبادته وحده لا شريك له ، فامتنعوا من ترك الشرك وقالوا : (لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً). ولم يزل نوح يدعوهم إلى الله ليلا ونهارا ، سرا وجهارا ، فلم يزدهم ذلك إلا عنادا وطغيانا وقدحا في نبيهم ، ولهذا قال هنا : (فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ) لزعمهم أن ما هم عليه وآباؤهم من الشرك والضلال هو الذي يدل عليه العقل ، وأن ما جاء به نوح عليه‌السلام جهل وضلال ، لا يصدر إلا من المجانين. وكذبوا في ذلك ، وقلبوا الحقائق الثابتة شرعا وعقلا ، فإن ما جاء به هو الحقّ الثابت ، الذي يرشد العقول النيرة المستقيمة ، إلى الهدى والنور ، والرشد ، وما هم عليه جهل وضلال. وقوله : (وَازْدُجِرَ) ، أي : زجره قومه وعنفوه لما دعاهم إلى الله تعالى. فلم يكفهم ـ قبحهم الله ـ عدم الإيمان به ، ولا تكذيبهم إياه حتى أوصلوا إليه من أذيتهم ما قدروا عليه ، وهكذا جميع أعداء الرسل ، هذه حالهم مع أنبيائهم.

[١٠] فعند ذلك دعا نوح ربه ، (أَنِّي مَغْلُوبٌ) لا قدرة لي على الانتصار منهم ، لأنه لم يؤمن من قومه إلا القليل النادر ، ولا قدرة لهم على مقاومة قومهم. (فَانْتَصِرْ) اللهم لي منهم ، وقال في الآية الأخرى : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) الآيات.

[١١] فأجاب الله سؤاله ، فانتصر له من قومه ، قال تعالى : (فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ) (١١) ، أي : كثير جدا متتابع ، ينزل.

[١٢] (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً) فجعلت السماء ينزل منها من الماء شيء خارق للعادة ، وتفجرت الأرض كلها ، حتى التنور الذي لم تجر العادة بوجود الماء فيه ، فضلا عن كونه منبعا للماء ، لأنه موضع النار. (فَالْتَقَى الْماءُ) ، أي : ماء السماء والأرض (عَلى أَمْرٍ) من الله له بذلك ، (قَدْ قُدِرَ) ، أي : قد كتبه الله في الأزل وقضاه ، عقوبة لهؤلاء الظالمين الطاغين.

[١٣] (وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ) (١٣) ، أي : ونجينا عبدنا نوحا على السفينة ذات الألواح والدسر ، أي : المسامير الّتي قد سمرت بها ألواحها وشد بها أسرها.

[١٤] (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) ، أي : تجري بنوح ومن آمن معه ، ومن حمله من أصناف المخلوقات برعاية من الله ، وحفظ منه لها عن الغرق ، ونظر وكلاءة منه تعالى ، وهو نعم الحافظ والوكيل. (جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ) ، أي : فعلنا بنوح ما فعلنا من النجاة من الغرق العام ، جزاء له حيث كذبه قومه وكفروا ، فصبر على دعوتهم ، واستمر على أمر الله ، فلم يرده عنه راد ، ولا صدّه عن ذلك صاد ، كما قال تعالى في الآية الأخرى : (قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ) الآية. ويحتمل أن المراد : إنا أهلكنا قوم نوح ، وفعلنا بهم ما فعلنا من العذاب والخزي ، جزاء لهم على كفرهم وعنادهم ، وهذا متوجه على قراءة من قرأها بفتح الكاف.

[١٥] (وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (١٥) أي : ولقد تركنا قصة نوح مع قومه ، آية يتذكر بها المتذكرون ، على أن من عصى الرسل وعاندهم أهلكه الله بعقاب عام شديد ، أو أن الضمير يعود إلى السفينة وجنسها ، وأن أصل صنعتها تعليم من الله لرسوله نوح عليه‌السلام ، ثمّ أبقى الله صنعتها وجنسها بين الناس ليدلك ذلك ، على رحمته بخلقه ، وعنايته ، وكمال قدرته ، وبديع صنعته. (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)؟ أي : فهل من متذكر للآيات ، ملق ذهنه وفكرته لما يأتيه منها ، فإنها في غاية البيان واليسر؟

٩٩٤

[١٦] (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) (١٦) ، أي : فكيف رأيت أيها المخاطب عذاب الله الأليم وإنذاره الذي لا يبقي لأحد عليه حجة.

[١٧] (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (١٧) ، أي : ولقد يسرنا وسهلنا هذا القرآن الكريم ، ألفاظه للحفظ والأداء ، ومعانيه للفهم والعلم ، لأنه أحسن الكلام لفظا ، وأصدقه معنى ، وأبينه تفسيرا ، فكل من أقبل عليه يسر الله عليه مطلوبه غاية التيسير ، وسهله عليه ، والذكر شامل لكل ما يتذكر به العاملون من الحلال والحرام ، وأحكام الأمر والنهي ، وأحكام الجزاء والمواعظ والعبر ، والعقائد النافعة والأخبار الصادقة. ولهذا كان علم القرآن حفظا وتفسيرا ، أسهل العلوم ، وأجلّها على الإطلاق ، وهو العلم النافع الذي إذا طلبه العبد ، أعين عليه ، وقال بعض السلف عند هذا الآية : هل من طالب علم فيعان عليه؟ ولهذا يدعو الله عباده إلى الإقبال عليه والتذكر بقوله : (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ).

[١٨] «وعاد» هي القبيلة المعروفة باليمن ، أرسل الله إليهم هودا عليه‌السلام يدعوهم إلى توحيد الله وعبادته ، فكذبوه ،

[١٩] فأرسل الله عليهم (رِيحاً صَرْصَراً) ، أي : شديدة جدا. (فِي يَوْمِ نَحْسٍ) ، أي : شديد العذاب والشقاء عليهم ، (مُسْتَمِرٍّ) عليهم سبع ليال ، وثمانية أيام حسوما.

[٢٠] (تَنْزِعُ النَّاسَ) من شدتها ، فترفعهم إلى جو السماء ، ثمّ تدفعهم بالأرض فتهلكهم ، فيصبحون (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) ، أي : كأن جثثهم بعد هلاكهم ، مثل جذوع النخل الخاوي الذي اقتلعته الريح فسقط على الأرض ، فما أهون الخلق على الله إذا عصوا أمره.

[٢١] (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) (٢١) ، كان والله العذاب الأليم ، والنذارة الّتي ما أبقت لأحد عليه حجة.

[٢٢] (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (٢٢) كرر تعالى ذلك ، رحمة بعباده ، وعناية بهم ، حيث دعاهم إلى ما يصلح دنياهم وأخراهم.

[٢٣] (كَذَّبَتْ ثَمُودُ) وهم القبيلة المعروفة المشهورة في أرض الحجر ، نبيهم صالحا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حين دعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، وأنذرهم العقاب ، إن هم خالفوه.

[٢٤] فكذبوه واستكبروا عليه ، وقالوا ـ كبرا وتيها ـ : (أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ) ، أي : كيف نتبع بشرا ، لا ملكا ، منا ، لا من غيرنا ، ممن هو أكبر عند الناس منا. ومع ذلك فهو شخص واحد (إِنَّا إِذاً) ، أي : إن اتبعناه وهو في هذه الحالة ، (لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) ، أي : لضالون أشقياء. وهذا الكلام من ضلالهم وشقائهم ، فإنهم أنفوا أن يتبعوا رسولا من البشر ، ولم يأنفوا أن يكونوا عابدين للشجر ، والحجر ، والصور.

[٢٥] (أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا) ، أي : كيف يخصه الله من بيننا وينزل عليه الذكر؟ فأي مزية خصه من بيننا؟ وهذا اعتراض من المكذبين على الله ، لم يزالوا يدلون به ، ويصولون ويردون به دعوة الرسل ، وقد أجاب الله عن هذه الشبهة بقول الرسل لأممهم : (قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ). فالرسل منّ الله عليهم بصفات وأخلاق وكمالات ، بها صلحوا لرسالات ربهم ، والاختصاص بوحيه. ومن رحمته وحكمته أن كانوا من البشر ، فلو كانوا من الملائكة ، لم يمكن البشر ، أن يتلقوا عنهم ، ولو جعلهم من الملائكة لعاجل المكذبين لهم بالعقاب العاجل. والمقصود من هذا الكلام الصادر من ثمود لنبيهم صالح ،

٩٩٥

تكذيبه ، ولهذا حكموا عليه بهذا الحكم الجائر ، فقالوا : (بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ) ، أي : كثير الكذب والشر. فقبحهم الله ما أسفه أحلامهم وأظلمهم ، وأشدهم مقابلة للصادقين الناصحين بالخطاب الشنيع ، لا جرم عاقبهم الله حين اشتد طغيانهم.

[٢٧] فأرسل الله الناقة الّتي هي من أكبر النعم عليهم ، آية من آيات الله ، ونعمة يحلبون من درّها ، ما يكفيهم أجمعين. (فِتْنَةً لَهُمْ) ، أي : اختبارا منه لهم وامتحانا. (فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ) ، أي : اصبر على دعوتك إياهم ، وارتقب ما يحل بهم ، أو ارتقب هل يؤمنون أو يكفرون؟

[٢٨] (وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ) ، أي : وأخبرهم أن الماء ، أي : موردهم الذي يستعذبونه ، قسمة بينهم وبين الناقة ، لها شرب يوم ، ولهم شرب يوم آخر معلوم. (كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ) ، أي : يحضره من كان قسمته ، ويحظر على من ليس بقسمة له.

[٢٩] (فَنادَوْا صاحِبَهُمْ) الذي باشر عقرها ، الذي هو أشقى القبيلة (فَتَعاطى) ، أي : انقاد لما أمروه به من عقرها (فَعَقَرَ).

[٣٠] (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) كان أشد عذاب ، أرسل الله عليهم صيحة ورجفة ، أهلكتهم عن آخرهم ، ونجى الله صالحا ومن آمن معه.

[٣١] (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ) في اليوم الرابع من عقرها (صَيْحَةً واحِدَةً) صاح بها جبريل عليه‌السلام (فَكانُوا) ، أي : فصاروا (كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) ، والهشيم : الشجر اليابس المتهشم المتكسر ، أو كالحشيش اليابس الذي يجمعه صاحب الحظيرة لماشيته في الشتاء ، أي : كهشيم الحظيرة أو الشجر المتخذ لها. والمعنى الإجمالي : «إنا سلطنا عليهم صيحة واحدة ، فصاروا بها كشجر يابس يجمعه من يريد اتخاذ حظيرة لبهائمه».

[٣٢] (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (٣٢).

[٣٣ ـ ٤٠] أي : (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ) لوطا عليه‌السلام ، حين دعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، ونهاهم عن الشرك والفاحشة الّتي ما سبقهم بها أحد من العالمين. فكذبوه واستمروا على شركهم وقبائحهم ، حتى إن الملائكة الّذين جاءوه بصورة أضياف حين سمع بهم قومه ، جاءوا مسرعين ، يريدون إيقاع الفاحشة فيهم ، لعنهم الله وقبحهم ، وراودوه عنهم. فأمر الله جبريل عليه‌السلام ، فطمس عيونهم ، وأنذرهم نبيهم بطشة الله وعقوبته (بِالنُّذُرِ). (وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ) (٣٨) قلب الله عليهم ديارهم ، وجعل أسفلها أعلاها ، وتتبعهم بحجارة من سجيل منضود ، مسومة عند ربك للمسرفين. ونجى الله لوطا وأهله من الكرب العظيم ، جزاء لهم على شكرهم لربهم ، وعبادته وحده لا شريك له ، قال تعالى : (عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ) (١٠) ، مفهوم ذلك أنه يسير سهل على المؤمنين.

[٤١] أي : (وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ) أي : فرعون وقومه (النُّذُرُ) فأرسل الله إليهم موسى الكليم ، وأيده بالآيات البينات ، والمعجزات الباهرات ، وأشهدهم من العبر ما لم يشهد غيرهم ، فكذبوا بآيات الله كلها ، فأخذهم أخذ عزيز مقتدر ، فأغرقه وجنوده في اليم.

[٤٣] والمراد من ذكر هذه القصص تحذير الناس والمكذبين لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولهذا قال : (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ) ، أي : هؤلاء الذي كذبوا أفضل الرسل ، خير من أولئك المكذبين ، الّذين ذكر الله

٩٩٦

هلاكهم ، وما جرى عليهم؟ فإن كانوا خيرا منهم ، أمكن أن ينجوا من العذاب ، ولم يصبهم ما أصاب أولئك الأشرار ، وليس الأمر كذلك ، فإنهم إن لم يكونوا شرا منهم ، فليسوا بخير منهم. (أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ) ، أي : أم أعطاكم الله عهدا وميثاقا في الكتب الّتي أنزلها على الأنبياء ، فتعتقدون حينئذ أنكم الناجون بإخبار الله ووعده؟

[٤٤] وهذا غير واقع ، بل غير ممكن ، عقلا وشرعا ، أن تكتب براءتهم في الكتب الإلهية المتضمنة للعدل والحكمة ، فليس من الحكمة نجاة أمثال هؤلاء المعاندين المكذبين ، لأفضل الرسل وأكرمهم على الله ، فلم يبق إلا أن يكون بهم قوة ينتصرون بها ، فأخبر تعالى أنهم يقولون : (نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ).

[٤٥] قال تعالى مبينا لضعفهم ، وأنهم مهزومون : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) (٤٥) فوقع كما أخبر ، هزم الله جمعهم الأكبر يوم «بدر» ، وقتل صناديدهم وكبراؤهم ، فأذلوا ونصر الله دينه ونبيه ، وحزبه المؤمنين.

[٤٦] ومع ذلك ، فلهم موعد يجمع به أولهم وآخرهم ، ومن أصيب في الدنيا منهم ، ومن متع بلذاته ، ولهذا قال : (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ) الذي يجازون به ، ويؤخذ منهم الحقّ بالقسط. (وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ) ، أي : أعظم وأشق ، وأكبر من كلّ ما يتوهم ، أو يدور في الخيال.

[٤٧] (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ) ، أي : الّذين أكثروا من فعل الجرائم ، وهي الذنوب العظيمة من الشرك وغيره ، من المعاصي (لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) ، أي : هم ضالون في الدنيا ، ضلال عن العلم ، وضلال عن العمل ، الذي ينجيهم من العذاب ، ويوم القيامة من العذاب الأليم ، والنار الّتي تستعر بهم ، وتشتعل في أجسامهم ، حتى تبلغ أفئدتهم.

[٤٨] (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ) الّتي هي أشرف ما بهم من الأعضاء ، وألمها أشد من غيرها ، فيهانون بذلك ، ويخزون ، ويقال لهم : (ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) ، أي : ذوقوا ألم النار وأسفها ، وغيظها ولهبها.

[٤٩] (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) (٤٩) وهذا شامل للمخلوقات ، والعوالم العلوية والسفلية ، إن الله تعالى وحده خلقها لا خالق لها سواه ، ولا مشاركة في خلقه.

[٥٠] وخلقها بقضاء سبق به علمه ، وجرى به قلمه ، بوقتها ومقدارها ، وجميع ما اشتملت عليه من الأوصاف ، وذلك على الله يسير ، فلهذا قال : (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) (٥٠) فإذا أراد شيئا قال له كن فيكون كما أراد ، كلمح البصر ، من غير ممانعة ولا صعوبة.

[٥١] (وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ) من الأمم السابقين الّذين عملوا كما عملتم ، وكذبوا كما كذبتم (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) ، أي : متذكر يعلم أن سنة الله في الأولين والآخرين واحدة ، وأن حكمته كما اقتضت إهلاك أولئك الأشرار فإن هؤلاء مثلهم ، ولا فرق بين الفريقين.

[٥٢] (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ) (٥٢) ، أي : كل ما فعلوه من خير وشر مكتوب عليهم في الكتب القدرية

[٥٣] (وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ) (٥٣) ، أي : مسطر مكتوب. وهذه حقيقة القضاء والقدر ، وأن جميع الأشياء كلها ، قد علمها الله تعالى ، وسطرها عنده في اللوح المحفوظ ، فما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن. فما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.

[٥٤] (إِنَّ الْمُتَّقِينَ) لله ، بفعل أوامره ، وترك نواهيه ، الّذين اتقوا الشرك والكبائر والصغائر. (فِي جَنَّاتٍ

٩٩٧

وَنَهَرٍ) ، أي : في جنات النعيم ، التي فيها ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، من الأشجار اليانعة ، والأنهار الجارية ، والقصور الرفيعة ، والمنازل الأنيقة ، والمآكل والمشارب اللذيذة ، والحور الحسان ، والروضات البهيات في الجنان ، ورضا الملك الديان ، والفوز بقربه ، ولهذا قال :

[٥٥] (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) (٥٥) فلا تسأل بعد هذا عما يعطيهم ربهم من كرامته وجوده ، ويمدهم به من إحسانه ومنته. جعلنا الله منهم ، ولا حرمنا خير ما عنده ، بشرّ ما عندنا. تم تفسير سورة القمر ـ والحمد لله.

سورة الرحمن

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] هذه السورة الكريمة الجليلة ، افتتحها باسمه «الرحمن» الدال على سعة رحمته ، وعموم إحسانه ، وجزيل بره ، وواسع فضله. ثمّ ذكر ما يدل على رحمته وأثرها ، الذي أوصله الله إلى عباده من النعم الدينية والدنيوية والأخروية. وبعد كلّ جنس ونوع من نعمه ، ينبه الثقلين لشكره ، ويقول : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

[٢] فذكر أنه (عَلَّمَ الْقُرْآنَ) (٢) ، أي : علم عباده ألفاظه ومعانيه ، ويسرها على عباده ، وهذا أعظم منة ورحمة ، رحم بها العباد ، حيث أنزل عليهم قرآنا عربيا بأحسن الألفاظ ، وأوضح المعاني ، مشتمل على كلّ خير ، زاجر عن كلّ شر.

[٣] (خَلَقَ الْإِنْسانَ) (٣) في أحسن تقويم كامل الأعضاء ، مستوفي الأجزاء ، محكم البناء ، قد أتقن البارئ تعالى البديع خلقه أيّ إتقان ، وميّزه على سائر الحيوانات.

[٤] بأن (عَلَّمَهُ الْبَيانَ) (٤) ، أي : التبين عما في ضميره ، وهذا شامل للتعليم النطقي والتعليم الخطي ، فالبيان الذي ميز الله به الآدمي على غيره من أجلّ نعمه ، وأكبرها عليه.

[٥] (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ) (٥) ، أي : خلق الله الشمس والقمر ، وسخرهما يجريان بحساب مقنن ، وتقدير مقدر ، رحمة بالعباد ، وعناية بهم ، وليقوم بذلك من مصالحهم ما يقوم ، وليعرفوا عدد السنين والحساب.

[٦] (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ) (٦) ، أي : نجوم السماء ، وأشجار الأرض ، تعرف ربها وتسجد له ، وتطيع وتخضع ، تنقاد لما سخرها له من مصالح عباده ومنافعهم.

[٧] (وَالسَّماءَ رَفَعَها) سقفها للمخلوقات الأرضية. (وَوَضَعَ الْمِيزانَ) ، أي : العدل بين العباد ، في الأقوال والأفعال ، وليس المراد به الميزان المعروف وحده ، بل هو كما ذكرنا ، يدخل فيه الميزان المعروف ، والمكيال الذي به تكال الأشياء والمقادير ، والمساحات الّتي تضبط بها المجهولات ، والحقائق الّتي يفصل بها بين المخلوقات ، ويقام بها العدل بينهم ، ولهذا قال :

[٨] (أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ) (٨) ، أي : أنزل الله الميزان ، لئلا تتجاوزوا الحد في الحقوق والأمور ، فإن الأمر لو كان يرجع إلى عقولكم وآرائكم ، لحصل من الخلل ما الله به عليم ، ولفسدت السماوات والأرض ومن فيهن.

[٩] (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ) ، أي : اجعلوه قائما بالعدل ، الذي تصل إليه مقدرتكم وإمكانكم. (وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ) أي : لا

٩٩٨

تنقصوه وتعملوا بضده وهو الجور والظلم والطغيان.

[١٠] (وَالْأَرْضَ وَضَعَها) الله على ما كانت عليه من الكثافة والاستقرار واختلاف أوصافها وأحوالها (لِلْأَنامِ) ، أي : للخلق ، لكي يستقروا عليها ، وتكون لهم مهادا ، وفراشا يبنون بها ، ويحرثون ويغرسون ، ويحفرون ، ويسلكون سبلها فجاجا ، وينتفعون بمعادنها ، وجميع ما فيها ، مما تدعو إليه حاجتهم بل ضرورتهم.

[١١] ثمّ ذكر ما فيها من الأقوات الضرورية ، فقال : (فِيها فاكِهَةٌ) وهي جميع الأشجار الّتي تثمر الثمرات الّتي يتفكه بها العباد ، من العنب ، والتين ، والرمان ، والتفاح ، وغير ذلك. (وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ) ، أي : ذات الوعاء الذي ينفلق عن القنوان الّتي تخرج شيئا فشيئا حتى تتم ، فتكون قوتا يدخر ويؤكل ، ويتزود منه المقيم والمسافر ، وفاكهة لذيذة من أحسن الفواكه.

[١٢] (وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ) ، أي : ذو الساق الذي يداس ، فينتفع بتبنه للأنعام وغيرها ، ويدخل في ذلك حب البر ، والشعير ، والذرة ، والأرز ، والدخن وغير ذلك. (وَالرَّيْحانُ) يحتمل أن المراد به جميع الأرزاق الّتي يأكلها الآدميون ، فيكون هذا من باب عطف العام على الخاص ، ويكون الله قد امتنّ على عباده بالقوت والرزق ، عموما وخصوصا. ويحتمل أن المراد بالريحان ، المعروف ، وأن الله امتنّ على عباده بما يسره في الأرض من أنواع الروائح الطيبة ، والمشام الفاخرة ، الّتي تسر الأرواح ، وتنشرح لها النفوس.

[١٣] ولما ذكر جملة كثيرة من نعمه الّتي تشاهد بالأبصار والبصائر ، وكان الخطاب للثقلين ، الجن والإنس ، قررهم تعالى بنعمه فقال : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (١٣) ، أي : فبأي نعم الله الدينية والدنيوية تكذبان؟ وما أحسن جواب الجن حين تلا عليهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه السورة ، فكلما مر بقوله : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (١٣) ، قالوا : ولا بشيء من آلائك ربنا نكذب ، فلك الحمد ، فهكذا ينبغي للعبد إذا تليت عليه نعم الله وآلاؤه ، أن يقرّ بها ، ويشكر ، ويحمد الله عليها.

[١٤ ـ ١٦] ثمّ قال تعالى : (خَلَقَ الْإِنْسانَ) إلى (تُكَذِّبانِ). وهذا من نعمه تعالى على عباده ، حيث أراهم من آثار قدرته وبديع صنعته ، أن (خَلَقَ) أبا (الْإِنْسانَ) وهو آدم عليه‌السلام (مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ) ، أي : من طين مبلول ، قد أحكم بله ، وأتقن ، حتى جف ، فصار له صلصلة وصوت ، يشبه صوت الفخار ، وهو الطين المشوي. (وَخَلَقَ الْجَانَ) ، أي : أبا الجن ، وهو إبليس لعنه الله (مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ) ، أي : من لهب النار الصافي ، أو الذي قد خالطه الدخان. وهذا يدل على شرف عنصر الآدمي المخلوق من الطين والتراب ، الذي هو محل الرزانة والثقل والمنافع ، بخلاف عنصر الجان وهو النار ، الّتي هي محل الخفة والطيش ، والشر والفساد. ولما بين خلق الثقلين ومادة ذلك ، وكان منة منه تعالى عليهم ، قال : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (١٦).

[١٩ ـ ٢٣] أي : هو تعالى رب كلّ ما أشرقت عليه الشمس والقمر ، والكواكب النيرة ، وكلّ ما غربت عنه ، وكلّ ما كانا فيه ، فالجميع تحت تدبيره وربوبيته ، وثنّاهما هنا ، باعتبار مشارقها ، شتاء وصيفا ، والله أعلم. المراد بالبحرين : البحر العذاب ، والبحر المالح ، فهما يلتقيان ، فيصب العذب في البحر المالح ، ويختلطان ويمتزجان ، ولكن الله تعالى جعل بينهما برزخا من الأرض ، حتى لا يبغي أحدهما على الآخر ، ويحصل النفع بكل منهما. فالعذب : منه يشربون وتشرب أشجارهم وزروعهم وحروثهم ، والملح : به يطيب الهواء ويتولد السمك والحوت ، واللؤلؤ والمرجان ، ويكون مستقرا مسخرا للسفن والمراكب ، ولهذا قال : (وَلَهُ الْجَوارِ) إلى : (تُكَذِّبانِ).

[٢٤ ـ ٢٥] أي : وسخر تعالى لعباده السفن والجواري ، الّتي تمخر البحر ، وتشقه بإذن الله ، ينشئها الآدميون ، فتكون من عظمها وكبرها ، كالأعلام ، وهي : الجبال العظيمة. فيركبها الناس ويحملون عليها أمتعتهم ، وأنواع تجاراتهم وغير ذلك مما تدعو إليه حاجتهم وضرورتهم ، وقد حفظها حافظ السماوات والأرض ، وهذه من نعم الله

٩٩٩

الجليلة ، ولهذا قال : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٢٥).

[٢٦ ـ ٢٧] أي : كل من على الأرض ، من إنس وجن ، ودواب ، وسائر المخلوقات ، يفنى ويبيد ، ويبقى الحي الذي لا يموت (ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) ، أي : ذو العظمة والكبرياء والمجد الذي يعظم ويبجل ، ويجل لأجله ، والإكرام الذي هو سعة الفضل والجود الذي يكرم أولياءه ، وخواص خلقه بأنواع الإكرام الذي يكرمه أولياؤه ويجلونه ، ويعظمونه ويحبونه ، وينيبون إليه ويعبدونه. [٢٨] (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٢٨).

[٢٩ ـ ٣٠] أي : هو الغني بذاته عن جميع مخلوقاته ، وهو واسع الجود والكرم ، فكل الخلق مفتقرون إليه ، يسألونه جميع حوائجهم ، مجالهم ومقالهم ، ولا يستغنون عنه طرفة عين ، ولا أقل من ذلك. وهو تعالى (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) يغني فقيرا ، ويجبر كسيرا ، ويعطي قوما ، ويمنع آخرين ، ويميت ويحيي ، ويخفض ويرفع ، لا يشغله شأن عن شأن ، ولا تغلطه المسائل ، ولا يبرمه إلحاح الملحين ، ولا طول مسألة السائلين. فسبحان الكريم الوهاب ، الذي عمت مواهبه أهل الأرض والسماوات ، وعمّ لطفه جميع الخلق في كلّ الآنات واللحظات ، وتعالى الذي لا يمنعه من الإعطاء معصية العاصين ، ولا استغناء الفقراء الجاهلين به وبكرمه. وهذه الشؤون الّتي أخبر أنه كلّ يوم هو في شأن ، هي تقاديره وتدابيره الّتي قدرها في الأزل وقضاها ، لا يزال تعالى يمضيها وينفذها في أوقاتها ، الّتي اقتضتها حكمته ، وهي أحكامه الدينية الّتي هي الأمر والنهي ، والقدرية الّتي يجريها على عباده مدة مقامهم في هذه الدار. حتى إذا تمت هذه الخليقة وأفناهم الله تعالى ، وأراد أن ينفذ فيهم أحكام الجزاء ، ويريهم من عدله وفضله ، وكثرة إحسانه ، ما به يعرفونه ، ويوحدونه ، نقل المكلفين من دار الابتلاء والامتحان ، إلى دار الحيوان.

[٣١ ـ ٣٢] وفرغ حينئذ لتنفيذ هذه الأحكام ، الّتي جاء وقتها ، وهو المراد بقوله : (سَنَفْرُغُ) ، إلى : (تُكَذِّبانِ). أي : سنفرغ لحسابكم ومجازاتكم بأعمالكم الّتي عملتموها في دار الدنيا.

[٣٣ ـ ٣٤] أي : إذا جمعهم الله في موقف القيامة ، أخبرهم بعجزهم وضعفهم ، وكمال سلطانه ، ونفوذ مشيئته وقدرته ، فقال معجزا لهم : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، أي : تجدون مسلكا ومنفذا ، تخرجون به عن ملك الله وسلطانه. (فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ) ، أي : لا تخرجون منه إلا بقوة ، وتسلط منكم ، وكمال قدرة ، وأنّى لهم ذلك ، وهم لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ، ولا موتا ولا حياة ، ولا نشورا؟ ففي ذلك الموقف لا يتكلم أحد إلا بإذنه ، ولا تسمع إلا همسا ، وفي ذلك الموقف يستوي الملوك والمماليك ، والرؤساء والمرءوسون ، والأغنياء والفقراء.

[٣٥ ـ ٣٦] ثمّ ذكر ما أعد لهم في ذلك اليوم ، فقال : (يُرْسَلُ عَلَيْكُما) إلى : (تُكَذِّبانِ). أي : يرسل عليكما لهب صاف من النار ، ونحاس ، وهو : اللهب الذي قد خالطه الدخان ، والمعنى أن هذين الأمرين الفظيعين يرسلان عليكما ، ويحيطان بكما ، فلا تنتصران ، لا بناصر ، من أنفسكم ، ولا بأحد ينصركم من دون الله. ولما كان تخويفه

١٠٠٠