تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنّان

الشيخ أبي عبدالله عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر آل سعدي

تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنّان

المؤلف:

الشيخ أبي عبدالله عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر آل سعدي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ١١٣٥

لعباده نعمة منه عليهم ، وسوطا يسوقهم به إلى أعلى المطالب ، وأشرف المواهب ، ذكر منته بذلك ، فقال : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٣٦).

[٣٧] (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ) ، أي : يوم القيامة من الأهوال ، وكثرة البلبال ، وترادف الأوجال ، فانخسفت شمسها وقمرها ، وانتثرت نجومها. (فَكانَتْ) من شدة الخوف والانزعاج (وَرْدَةً كَالدِّهانِ) ، أي : كانت كالمهل والرصاص المذاب ونحوه

[٣٨ ـ ٣٩] (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٨) فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) (٣٩) ، أي : سؤال استعلام بما وقع ، لأنه تعالى عالم الغيب والشهادة ، والماضي والمستقبل ، ويريد أن يجازي العباد بما علمه من أحوالهم. وقد جعل لأهل الخير والشر يوم القيامة علامات يعرفون بها ، كما قال تعالى : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ).

[٤١ ـ ٤٢] وقال هنا : (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (٤١) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٤٢) ، أي : فيؤخذ بنواصي المجرمين وأقدامهم ، فيلقون في النار ، ويسحبون إليها ، وإنّما يسألهم تعالى سؤال توبيخ ، وتقرير بما وقع منهم ، وهو أعلم به منهم ، ولكنه تعالى يريد أن تظهر للخلق حجته البالغة ، وحكمته الجليلة.

[٤٣] أي : يقال للمكذبين بالوعد والوعيد ، حيتن تسعر الجحيم : (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ) (٤٣) ، فليهنهم تكذيبهم بها ، وليذوقوا من عذابها ، ونكالها وسعيرها ، وأغلالها ، ما هو جزاء لهم على تكذيبهم.

[٤٤] (يَطُوفُونَ بَيْنَها) ، أي : بين أطباق الجحيم ولهبها (وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) ، أي : ماء حار جدا ، قد انتهى حره ، وزمهرير ، قد اشتد برده وقره [٤٥] (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٤٥).

[٤٦] ولما ذكر ما يفعل بالمجرمين ، ذكر جزاء المتقين الخائفين ، فقال : (وَلِمَنْ خافَ) ، إلى : (وَالْإِكْرامِ). أي : والذي خاف ربه ، وقيامه عليه ، فترك ما نهى عنه ، وفعل ما أمر به ، له جنتان ، من ذهب آنيتهما ، وحليتهما ، وبنيانهما ، وما فيهما ، إحدى الجنتين ، جزاء على ترك المنهيات ، والأخرى على فعل الطاعات.

[٤٨] ومن أوصاف تلك الجنتين ، أنهما (ذَواتا أَفْنانٍ) (٤٨) ، أي : فيهما من ألوان النعيم المتنوعة ، نعيم الظاهر والباطن ، ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر. أن فيهما الأشجار الكثيرة الزاهرة ، ذوات الغصون الناعمة ، الّتي فيها الثمار اليانعة الكثيرة اللذيذة.

[٥٠] وفي تلك الجنتين (عَيْنانِ تَجْرِيانِ) يفجرونهما على ما يريدون ويشتهون.

[٥٢] (فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ) من جميع أصناف الفواكه (زَوْجانِ) ، أي : صنفان ، كل صنف له لذة ولون ، ليس للنوع الآخر.

[٥٤] (مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ) ، هذه صفة فرش أهل الجنة وجلوسهم عليها ، وأنهم متكئون عليها ، أي : جلوس تمكن واستقرار وراحة ، كجلوس الملوك على الأسرة. وتلك الفرش ، لا يعلم وصفها وحسنها إلا الله تعالى ، حتى إن بطائنها الّتي تلي الأرض منها من إستبرق ، وهو أحسن الحرير وأفخره ، فكيف بظواهرها الّتي يباشرون؟ (وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ) ، الجنى هو الثمر المستوي ، أي : وثمر هاتين الجنتين قريب التناول ، يناله القائم والقاعد ، والمضطجع.

١٠٠١

[٥٦] (فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ) ، أي : قد قصرن طرفهن على أزواجهن ، من حسنهم وجمالهم ، وكمال محبتهن لهم ، وقصرن أيضا طرف أزواجهن عليهن ، من حسنهن وجمالهن ، ولذة وصالهن ، وشدة محبتهن. (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ) ، أي : لم ينلهن أحد قبلهم ، من الإنس والجن ، بل هن أبكار عرب ، متحببات إلى أزواجهن ، بحسن التبعل والتغنج والملاحة والدلال ، ولهذا قال : (كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ) (٥٨) ، وذلك لصفائهن وجمال منظرهن ، وبهائهن.

[٦٠] (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) (٦٠) ، أي : هل جزاء من أحسن في عبادة الخالق ، ونفع عبيده ، إلا أن يحسن إليه بالثواب الجزيل ، والفوز الكبير ، والنعيم ، والعيش السليم ، فهاتان الجنتان العاليتان للمقربين.

[٦٢] (وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ) (٦٢) من فضة بنيانهما وحليتهما ، وما فيهما لأصحاب اليمين.

[٦٤] وتلك الجنتان (مُدْهامَّتانِ) (٦٤) ، أي : سوداوان من شدة الخضرة والري.

[٦٦] (فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ) (٦٦) ، أي : فوارتان

[٦٨] (فِيهِما فاكِهَةٌ) من جميع أصناف الفواكه ، وأخصها : النخل ، والرمان ، اللذان فيهما من المنافع ، ما فيهما.

[٧٠] (فِيهِنَ) ، أي : في الجنات كلها (خَيْراتٌ حِسانٌ) ، أي : خيرات الأخلاق حسان الأوجه ، فجمعن بين جمال الظاهر والباطن ، وحسن الخلق والخلق.

[٧٢] (حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ) (٧٢) ، أي : محبوسات في خيام اللؤلؤ ، قد تهيأن وأعددن أنفسهن لأزواجهن. ولا ينفي ذلك خروجهن في البساتين ، ورياض الجنة ، كما جرت العادة لبنات الملوك المخدرات الخفرات.

[٧٤ ـ ٧٦] (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٧٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٥) مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ) ، أي : أصحاب هاتين الجنتين ، متكأهم على الرفرف الأخضر ، وهي : الفرش الّتي تحت المجالس العالية ، الّتي قد زادت على مجالسهم ، فصار لها رفرفة من وراء مجالسهم ، لزيادة البهاء ، وحسن المنظر. (وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ) العبقري : نسبة لكل منسوج نسجا حسنا فاخرا ، ولهذا وصفها بالحسن الشامل ، لحسن الصفة والمنظر ، ونعومة الملمس. وهاتان الجنتان ، دون الجنتين الأوليين ، كما نص الله على ذلك بقوله : (وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ) (٦٢) ، وكما وصف الأوليين بعدة أوصاف ، لم يصف بها الأخريين ، فقال في الأوليين : (فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ) (٥٠) ، وفي الأخريين : (عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ). ومن المعلوم الفرق بين الجارية والنضاخة. وقال في الأوليين : (ذَواتا أَفْنانٍ) (٤٨) ولم يقل ذلك في الأخريين. وقال في الأوليين : (فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ) (٥٢) ، وفي الأخريين : (فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) (٦٨) ، وقد علم ما بين الوصفين من التفاوت. وقال في الأوليين : (مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ) (٥٤) ، ولم يقل ذلك في الأخريين ، بل قال : (مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ) (٧٦). وقال في الأوليين ، في وصف نسائهم وأزواجهم : (فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ) ، وفي الأخريين : (مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ) ، وقد علم التفاوت بين ذلك. وقال في الأوليين : (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) (٦٠) ، فدلّ ذلك أن الأوليين جزاء المحسنين ، ولم يقل ذلك في الأخيرتين. ومجرد تقديم الأوليين على الأخريين ، يدل على فضلهما. فبهذه الأوجه يعرف فضل الأوليين على الأخريين ، وأنهما معدّتان

١٠٠٢

للمقربين من الأنبياء ، والصديقين ، وخواص عباد الله الصالحين ، وأن الأخريين معدتان لعموم المؤمنين. وفي كل من الجنات المذكورات ، ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، وفيهن ما تشتهيه الأنفس ، وتلذ الأعين ، وأهلهن في غاية الراحة والرضا والطمأنينة وحسن المأوى ، حتى إن كلّ واحد منهم ، لا يرى أحدا أحسن حالا منه ، ولا أعلى من نعيمه الذي هو فيه.

[٧٨] ولما ذكر سعة فضله وإحسانه ، قال : (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) (٧٨) ، أي : تعاظم وكثر خيره ، الذي له الجلال الباهر ، والمجد الكامل ، والإكرام لأوليائه. تم تفسير سورة الرحمن ـ ولله الحمد والشكر والثناء الجميل.

سورة الواقعة

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٢] يخبر تعالى بحال الواقعة ، الّتي لا بد من وقوعها ، وهي : القيامة الّتي (لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ) (٢) ، أي : لا شك فيها ، لأنها قد تظاهرت عليها الأدلة العقلية والسمعية ، ودلت عليها حكمته تعالى.

[٣] (خافِضَةٌ رافِعَةٌ) (٣) ، أي : خافضة لأناس في أسفل سافلين ، رافعة لأناس في أعلى عليين ، أو خفضت بصوتها فأسمعت القريب ، ورفعت ، فأسمعت البعيد.

[٤] (إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا) (٤) ، أي : حركت واضطربت.

[٥ ـ ٦] (وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا) (٥) ، أي : فتتت ، (فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا) (٦) ، فأصبحت ليس عليها جبل ولا معلم ، قاعا صفصفا ، لا ترى فيها عوجا ولا أمتا.

[٧] (وَكُنْتُمْ) أيها الخلق (أَزْواجاً ثَلاثَةً) ، أي : انقسمتم ثلاث فرق بحسب أعمالكم الحسنة والسيئة.

[٨] ثمّ فصل أحوال الأزواج الثلاثة ، فقال : (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) (٨) ، تعظيم لشأنهم ، وتفخيم لأحوالهم.

[٩] (وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) ، أي : الشمال ، (ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) ، تهويل لحالهم.

[١٠ ـ ١١] (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) (١١) ، أي : السابقون في الدنيا إلى الخيرات ، هم السابقون في الآخرة لدخول الجنات. أولئك الّذين هذا وصفهم ، المقربون عند الله ، في جنات النعيم ، في أعلى عليين ، في المنازل العاليات ، الّتي لا منزلة فوقها.

[١٣] وهؤلاء المذكورون (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ) (١٣) ، أي : جماعة كثيرون من المتقدمين من هذه الأمة وغيرهم.

[١٤] (وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) (١٤) وهذا يدل على فضل صدر هذه الأمة في الجملة ، على متأخريها لكون المقربين من الأولين ، أكثر من المتأخرين.

[١٥] والمقربون هم : خواص الخلق (عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ) (١٥) ، أي : مرمولة بالذهب والفضة ، واللؤلؤ والجوهر ، وغير ذلك ، من الحليّ ، والزينة ، الّتي لا يعلمها إلا الله تعالى.

[١٦] (مُتَّكِئِينَ عَلَيْها) ، أي : على تلك السرر ، جلوس تمكن وطمأنينة ، وراحة واستقرار. (مُتَقابِلِينَ) وجه كلّ منهم إلى وجه صاحبه ، من صفاء قلوبهم ، وتقابلها بالمحبة وحسن أدبهم.

[١٧] (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) (١٧) ، أي : يدور على

١٠٠٣

أهل الجنة لخدمتهم ، وقضاء حوائجهم ، ولدان صغار الأسنان ، في غاية الحسن والبهاء. (كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ) ، أي : مستور ، لا يناله ما يغيره. مخلوقون للبقاء والخلد ، لا يهرمون ولا يتغيرون ، ولا يزيدون على أسنانهم ، ويدورون عليهم بآنية شرابهم (بِأَكْوابٍ) ، وهي الّتي لا عرى لها (وَأَبارِيقَ) الأواني الّتي لها عرى. (وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) ، أي : من خمر لذيذ المشرب ، لا آفة فيه.

[١٩] (لا يُصَدَّعُونَ عَنْها) ، أي : لا تصدع رؤوسهم ، كما تصدع خمرة الدنيا رأس شاربها. (وَلا يُنْزِفُونَ) ، أي : لا تنزف عقولهم ، ولا تذهب أحلامهم منها ، كما يكون لخمر الدنيا. والحاصل : أن كلّ ما في الجنة من النعيم الموجود جنسه في الدنيا ، لا يوجد في الجنة فيه آفة كما قال تعالى : (فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى). وذكر هنا خمر الجنة ، ونفى عنها كلّ آفة توجد في الدنيا.

[٢٠] (وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ) (٢٠) ، أي : مهما تخيروا ، وراق في أعينهم ، واشتهته نفوسهم ، من أنواع الفواكه الشهية ، والجنى اللذيذ ، حصل لهم على أكمل وجه وأحسنه.

[٢١] (وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) (٢١) ، أي : من كل صنف من الطيور يشتهونه ، ومن أي جنس من لحمه أرادوا ، إن شاءوا مشويا ، أو طبيخا ، أو غير ذلك.

[٢٢] (وَحُورٌ عِينٌ) (٢٢) ، أي : ولهم حور عين ، والحوراء : الّتي في عينها كحل وملاحة ، وحسن وبهاء ، والعين : واسعات الأعين حسانها ، وحسن عين الأنثى ، من أعظم الأدلة على حسنها وجمالها.

[٢٣] (كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ) (٢٣) ، أي : كأنهن اللؤلؤ الرطب الصافي البهي ، المستور عن الأعين والريح والشمس ، الذي يكون لونه من أحسن الألوان ، الذي لا عيب فيه بوجه من الوجوه ، فكذلك الحور العين ، لا عيب فيهن بوجه من الوجوه ، بل هن كاملات الأوصاف ، جميلات النعوت. فكل ما تأملته منها ، لم تجد فيه إلا ما يسر القلب ويروق الناظر ،

[٢٤] وذلك النعيم المعد لهم (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٢٤) ، فكما حسنت منهم الأعمال ، أحسن الله لهم الجزاء ، ووفر لهم الفوز والنعيم.

[٢٥] (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً) (٢٥) ، أي : لا يسمعون في جنات النعيم ، كلاما يلغى ، ولا يكون فيه فائدة ، ولا كلاما يؤثمّ صاحبه.

[٢٦] (إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً) (٢٦) أي : إلا كلاما طيبا ، وذلك لأنها دار الطيبين ، ولا يكون فيها إلا كلّ طيب. وهذا دليل على حسن أدب أهل الجنة في خطابهم فيما بينهم ، وأنه أطيب كلام ، وأسره للقلوب ، وأسلمه من كلّ لغو وإثم ، نسأل الله من فضله : «أن يجعلنا من أهل الجنة».

[٢٧] ثمّ ذكر ما أعد لأصحاب اليمين ، فقال : (وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ) (٢٧) ، أي : شأنهم عظيم ، وحالهم جسيم.

[٢٨] (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ) (٢٨) ، أي : مقطوع ما فيه من الشوك والأغصان الرديئة المضرة ، مجعول مكان ذلك الثمر الطيب. وللسدر من الخواص ، الظل الظليل ، وراحة الجسم فيه.

[٢٩] (وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) (٢٩) ، والطلح معروف ، وهو شجر كبار ، يكون بالبادية ، تنضد أغصانه من الثمر اللذيذ الشهي.

[٣١] (وَماءٍ مَسْكُوبٍ) (٣١) ، أي : كثير من العيون والأنهار السارحة ، والمياه المتدفقة.

[٣٢ ـ ٣٣] (وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (٣٢) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ) (٣٣) ، أي : ليست بمنزلة فاكهة الدنيا تنقطع في وقت من الأوقات ، وتكون ممتنعة ، أي : متعسرة على

١٠٠٤

مبتغيها ، بل هي على الدوام موجودة ، وجناها قريب يتناوله العبد على أي حال يكون.

[٣٤] (وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) (٣٤) ، أي : مرفوعة فوق الأسرة ، ارتفاعا عظيما ، وتلك الفرش من الحرير والذهب واللؤلؤ ، وما لا يعلمه إلا الله.

[٣٥] (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً) (٣٥) ، أي : إنا أنشأنا نساء أهل الجنة ، نشأة غير النشأة التي كانت في الدنيا ، نشأة كاملة لا تقبل الفناء.

[٣٦] (فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً) (٣٦) صغارهن وكبارهن.

[٣٧] وعموم ذلك يشمل الحور العين ، ونساء أهل الدنيا ، وأن هذا الوصف ـ وهو البكارة ـ ملازم لهن في جميع الأحوال ، كما أن كونهن (عُرُباً أَتْراباً) (٣٧) ملازم لهن في كل حال. والعروب : هي المرأة المتحببة إلى بعلها ، وحسن هيئتها ودلالها ، وجمالها ومحبتها ، فهي الّتي إن تكلمت سبت العقول ، وود السامع أن كلامها لا ينقضي ، خصوصا عند غنائهن بتلك الأصوات الرخيمة ، والنغمات المطربة ، وإن نظر إلى أدبها وسمتها ودلها ملأت قلب بعلها فرحا وسرورا ، وإن انتقلت من محل إلى آخر ، امتلأ ذلك الموضع منها ريحا طيبا ونورا. ويدخل في ذلك ، الغنجة عند الجماع. والأتراب اللاتي على سن واحدة ، ثلاث وثلاثين سنة ، الّتي هي غاية ما يتمنى أكمل سن الشباب. فنساؤهم عرب أتراب ، متفقات مؤتلفات ، راضيات مرضيات ، لا يحزنّ ولا يحزنّ ، بل هن أفراح النفوس ، وقرة العيون ، وجلاء الأبصار. [٣٨] (لِأَصْحابِ الْيَمِينِ) (٣٨) ، أي : معدات لهم مهيئات.

[٣٩ ـ ٤٠] (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (٣٩) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) (٤٠) ، أي : هذا القسم ، وهم أصحاب اليمين ، عدد كثير من الأولين ، وعدد كثير من الآخرين.

[٤١] المراد بأصحاب الشمال ، هم أصحاب النار ، والأعمال المشئومة.

[٤٢] فذكر الله لهم من العقاب ، ما هم حقيقون به ، فأخبر أنهم (فِي سَمُومٍ) ، أي : ريح حارة من حر نار جهنم ، تأخذ بأنفاسهم ، وتقلقهم أشد القلق. (وَحَمِيمٍ) ، أي : ماء حار يقطع أمعاءهم.

[٤٣] (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ) (٤٣) ، أي : لهب نار ، يختلط بدخان.

[٤٤] (لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ) (٤٤) ، أي : لا برد فيه ولا كرم. والمقصود : أن هناك الهم والغم ، والحزن والشر الذي لا خير فيه ، لأن نفي الضد إثبات لضده.

[٤٥] ثمّ ذكر أعمالهم الّتي أوصلتهم إلى هذا الجزاء ، فقال : (إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ) (٤٥) ، أي : قد ألهتهم دنياهم ، وعملوا لها ، وتنعموا ، وتمتعوا بها ، فألهاهم الأمل عن إحسان العمل ، فهذا هو الترف الذي ذمهم الله عليه.

[٤٦] (وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ) (٤٦) ، أي : وكانوا يفعلون الذنوب الكبار ، ولا يتوبون منها ، ولا يندمون عليها ، بل يصرون على ما يسخط مولاهم ، فقدموا عليه بأوزار كثيرة ، غير مغفورة.

[٤٧ ـ ٤٨] وكانوا ينكرون البعث ، فيقولون استبعادا لوقوعه : (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ) (٤٨) ، أي : كيف نبعث بعد موتنا وقد بلينا ، فكنا ترابا وعظاما؟ هذا من المحال.

[٤٩] قال تعالى في جوابهم : (قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ) ، إلى : (يَوْمٍ مَعْلُومٍ). أي : قل إن متقدم الخلق ومتأخرهم ، الجميع سيبعثهم الله ويجمعهم لميقات يوم معلوم ، قدّره الله لعباده ، حين تنقضي الخليقة ، ويريد الله جزاءهم على

١٠٠٥

أعمالهم الّتي عملوها في دار التكليف.

[٥١] (ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ) عن طريق الهدى ، التابعون لطريق الردى. (الْمُكَذِّبُونَ) بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما جاء به من الحقّ والوعد والوعيد ، (لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ) (٥٢) وهو أقبح الأشجار ، وأخسها ، وأنتنها ريحا ، وأبشعها منظرا ، (فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ) (٥٣). والذي أوجب لهم أكلها ـ مع ما هي عليه من الشناعة ـ الجوع المفرط ، الذي يلتهب في أكبادهم وتكاد تتقطع منه أفئدتهم. هذا الطعام ، هو الذي يدفعون به الجوع ، وهو لا يسمن ولا يغني من جوع.

[٥٥] وأما شرابهم ، فهو بئس الشراب ، وهو أنهم يشربون على هذا الطعام من الماء الحميم الذي يغلي في البطون (شُرْبَ الْهِيمِ) ، وهي الإبل العطاش ، الّتي قد اشتد عطشها ، أو أن الهيم : داء يصيب الإبل ، لا تروى معه من شراب الماء.

[٥٦] (هذا) الطعام والشراب (نُزُلُهُمْ) ، أي : ضيافتهم (يَوْمَ الدِّينِ) وهي الضيافة الّتي قدموها لأنفسهم ، وآثروها على ضيافة الله لأوليائه. قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (١٠٧) خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً) (١٠٨).

[٥٧] ثمّ ذكر الدليل العقلي على البعث ، فقال : (نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ) (٥٧) ، أي : نحن الّذين أوجدناكم ، بعد أن لم تكونوا شيئا مذكورا ، من غير عجز ولا تعب ، أفليس القادر على ذلك ، بقادر على أن يحيي الموتى؟ بلى إنه على كلّ شيء قدير ، ولهذا وبّخهم على عدم تصديقهم بالبعث ، وهم يشاهدون ما هو أعظم منه وأبلغ.

[٥٨] أي : أفرأيتم ابتداء خلقكم من المني الذي تمنون ، فهل أنتم خالقون ذلك المني وما ينشأ منه؟ أم الله تعالى الخالق الذي خلق فيكم الشهوة في الذكر والأنثى ، وهدى كلا منهما لما هنالك ، وحبب بين الزوجين ، وجعل بينهما من المودة والرحمة ما هو سبب التناسل.

[٦٢] ولهذا أحالهم الله تعالى بالاستدلال بالنشأة الأولى ، على النشأة الأخرى ، فقال : (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ) (٦٢) أن القادر على ابتداء خلقكم ، قادر على إعادتكم. وهذا امتنان منه على عباده ، يدعوهم به ، إلى توحيده وعبادته ، والإنابة إليه ، حيث أنعم عليهم بما يسره لهم من الحرث للزروع والثمار ، فتخرج من ذلك ، من الأقوات والأرزاق ، والفواكه ، ما هو من ضروراتهم ، وحاجاتهم ومصالحهم الّتي لا يقدرون أن يحصوها ، فضلا عن شكرها ، وأداء حقها ، فقررهم بمنته ، فقال :

[٦٤] (أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) (٦٤) ، أي : أنتم أخرجتموه نباتا من الأرض؟ أم أنتم الّذين نميتموه؟ أم أنتم الّذين أخرجتم سنبله وثمره ، حتى صار حبا حصيدا وثمرا نضيجا؟ أم الله الذي انفرد بذلك وحده ، وأنعم به عليكم؟ وأنتم غاية ما تفعلون أن تحرثوا الأرض وتشقوها ، وتلقوا فيها البذر. ثمّ لا علم عندكم بما يكون بعد ذلك ، ولا قدرة لكم على أكثر من ذلك ، ومع ذلك ، فنبههم على أن ذلك الحرث معرض للأخطار ، لو لا حفظ الله وإبقاؤه بلغة لكم ، ومتاعا إلى حين.

[٦٥] (لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ) ، أي : الزرع المحروث ، وما فيه من الثمار (حُطاماً) ، أي : فتاتا متحطما ، لا نفع فيه ولا رزق. (فَظَلْتُمْ) ، أي : فصرتم بسبب جعله حطاما ، بعد أن تعبتم فيه ، وأنفقتم النفقات الكثيرة. (تَفَكَّهُونَ) ، أي : تندمون وتتحسرون على ما أصابكم ، ويزول بذلك فرحكم

١٠٠٦

وسروركم ، وتفكهكم فتقولون :

[٦٦] (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ) (٦٦) ، أي : إنا قد نقصنا وأصابتنا مصيبة اجتاحتنا.

[٦٧] ثمّ تعرفون بعد ذلك ، من أين أتيتم ، وبأي سبب دهيتم ، فتقولون : (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) (٦٧). فاحمدوا الله تعالى حيث زرعه لكم ، ثمّ أبقاه وكمله لكم ، ولم يرسل عليه من الآفات ما به تحرمون نفعه وخيره.

[٦٨ ـ ٧٠] لما ذكر تعالى نعمته على عباده بالطعام ، ذكر نعمته عليهم بالشراب العذب الذي منه يشربون ، وأنه لو لا أن الله يسره وسهله ، لما كان لكم إليه سبيل ، وأنه الذي أنزله من المزن ، وهو السحاب والمطر ، الذي ينزله الله تعالى ، فتكون منه الأنهار الجارية على وجه الأرض ، وفي بطنها ، وتكون منه الغدران المتدفقة. ومن نعمته تعالى أن جعله عذبا فراتا ، تسيغه النفوس ، ولو شاء لجعله ملحا أجاجا ، لا ينتفع به. (فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ) الله تعالى على ما أنعم به عليكم.

[٧١ ـ ٧٢] وهذه نعمة تدخل في الضروريات ، الّتي لا غنى للخلق عنها ، فإن الناس محتاجون إليها في كثير من أمورهم وحوائجهم ، فقررهم تعالى بالنار الّتي أوجدها في الأشجار ، وأن الخلق لا يقدرون أن ينشئوا شجرها ، وإنما الله تعالى قد أنشأها من الشجر الأخضر ، فإذا هي نار توقد ، بقدر حاجة العباد ، فإذا فرغوا من حاجتهم ، أطفأوها وأخمدوها.

[٧٣] (نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً) للعباد بنعمة ربهم ، وتذكرة بنار جهنم ، الّتي أعدها الله للعاصين ، وجعلها سوطا ، يسوق به عباده إلى دار النعيم. (وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ) ، أي : المنتفعين أو المسافرين ، وخص الله المسافرين لأن نفع المسافر أعظم من غيره ، ولعل السبب في ذلك ؛ لأن الدنيا كلها دار سفر ، والعبد من حين ولد ، فهو مسافر إلى ربه ، فهذه النار ، جعلها الله متاعا للمسافرين في هذه الدار ، وتذكرة لهم بدار القرار.

[٧٤] فلما بين من نعمه ما يوجب الثناء عليه من عباده ، وشكره ، وعبادته ، أمر بتسبيحه وتعظيمه ، فقال : (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) (٧٤) ، أي : نزه ربك العظيم ، كامل الأسماء والصفات ، كثير الإحسان والخيرات. واحمده بقلبك ، ولسانك ، وجوارحك ، لأنه أهل لذلك ، وهو المستحق لأن يشكر فلا يكفر ، ويذكر فلا ينسى ، ويطاع فلا يعصى.

[٧٥] أقسم تعالى بالنجوم ومواقعها ، أي : مساقطها في مغاربها ، وما يحدث الله في تلك الأوقات ، من الحوادث الدالة على عظمته وكبريائه وتوحيده.

[٧٦ ـ ٧٧] ثمّ عظم هذا المقسم به ، فقال : (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) (٧٦). وإنما كان القسم عظيما ، لأن في النجوم وجريانها ، وسقوطها عند مغاربها ، آيات وعبرا ، لا يمكن حصرها. وأما المقسم عليه ، فهو إثبات القرآن ، وأنه حق لا ريب فيه ، ولا شك يعتريه. وأنه كريم ، أي : كثير الخير ، غزير العلم ، وكلّ خير وعلم ، فإنما يستفاد من كتاب الله ويستنبط منه.

[٧٨] (فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ) (٧٨) ، أي : مستور عن أعين الخلق ، وهذا الكتاب المكنون هو اللوح المحفوظ ، أي : إن هذا القرآن ، مكتوب في اللوح المحفوظ ، ومعظم عند الله ، وعند ملائكته في الملأ الأعلى. ويحتمل أن المراد بالكتاب المكنون هو الكتاب الذي بأيدي الملائكة الّذين ينزلهم الله لوحيه ورسالته ، وأن المراد بذلك أنه مستور عن الشياطين ، لا قدرة لهم على تغييره ، ولا الزيادة والنقص منه واستراقه.

[٧٩] (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) (٧٩) ، أي : لا يمس القرآن إلا الملائكة الكرام ،

١٠٠٧

الّذين طهرهم الله تعالى من الآفات ، والذنوب ، والعيوب. وإذا كان لا يمسه إلا المطهرون ، وأن أهل الخبث والشياطين ، لا استطاعة لهم ، ولا يدان إلى مسه ، دلت الآية ـ تنبيها ـ على أنه لا يجوز أن يمس القرآن إلا طاهر.

[٨٠] (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٨٠) ، أي : إن هذا القرآن الموصوف بتلك الصفات الجليلة ، هو تنزيل رب العالمين ، الذي يربي عباده ، بنعمه الدينية والدنيوية. وأجل تربية ربى بها عباده ، إنزاله هذا القرآن ، الذي قد اشتمل على مصالح الدارين ، ورحم الله به العباد رحمة ، لا يقدرون لها شكورا.

[٨١] ومما يجب عليهم أن يقوموا به ويعلنوه ، ويدعوا إليه ويصدعوا به ، ولهذا قال : (أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ) (٨١) ، أي : أفبهذا الكتاب العظيم والذكر الحكيم (أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ) ، أي : تختفون ، وتدلون خوفا من الخلق وعارهم وألسنتهم؟ هذا لا ينبغي ولا يليق ، إنما يليق أن يداهن بالحديث الذي لا يثق صاحبه منه. وأما القرآن الكريم فهو الحقّ الذي لا يغالب به مغالب ، إلا غلب ، ولا يصول به صائل إلا كان العالي على غيره ، وهو الذي لا يداهن به ويختفى ، بل يصدع به ويعلن.

[٨٢] وقوله : (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) (٨٢) ، أي : تجعلون مقابلة منة الله عليكم بالرزق بالتكذيب والكفر لنعمة الله ، فتقولون : مطرنا بنوء كذا وكذا ، وتضيفون النعمة لغير مسديها وموليها. فهلا شكرتم الله على إحسانه ، إذ أنزله إليكم ، ليزيدكم من فضله ، فإن التكذيب والكفر ، داع لرفع النعم ، وحلول النقم.

[٨٣ ـ ٨٥] (فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (٨٣) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (٨٤) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ) (٨٥) ، أي : فهلا إذا بلغت الروح الحلقوم ، وأنتم تنظرون المحتضر في هذه الحالة. والحال أنا نحن أقرب إليه منكم ، بعلمنا وملائكتنا ، ولكن لا تبصرون.

[٨٦] (فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ) (٨٦) ، أي : فهلا إذ كنتم تزعمون ، أنكم غير مبعوثين ولا محاسبين ومجزيين (تَرْجِعُونَها) ، أي : إلى بدنها (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) وأنتم تقرون أنكم عاجزون عن ردها إلى موضعها. فحينئذ إما أن تقروا بالحق الذي جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإما أن تعاندوا فتعلم حالكم وسوء مآلكم.

[٨٨] ذكر الله تعالى أحوال الطوائف الثلاث : المقربين ، وأصحاب اليمين ، والمكذبين الضالين في أول السورة في دار القرار. ثمّ ذكر أحوالهم في آخرها ، عند الاحتضار والموت ، فقال : (فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ) (٨٨) ، أي : إن كان الميت من المقربين إلى الله ، المتقربين إليه بأداء الواجبات والمستحبات ، وترك المحرمات والمكروهات ، وفضول المباحات.

[٨٩] فلهم روح ، أي : راحة وطمأنينة ، وسرور وبهجة ، ونعيم القلب والروح. (وَرَيْحانٌ) وهو أسم جامع لكل لذة بدنية ، من أنواع المآكل والمشارب وغيرها ، وقيل : الريحان هو : الطيب المعروف ، فيكون من باب التعبير بنوع الشيء عن جنسه العام. (وَجَنَّةُ نَعِيمٍ) جامعة للأمرين كليهما ، فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، فيبشر المقربون عند الاحتضار بهذه البشارة ، الّتي تكاد تطير منها الأرواح ، فرحا وسرورا. كما قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٣٠) نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما

١٠٠٨

تَدَّعُونَ (٣١) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) (٣٢). وقد فسر قوله تعالى : (لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) أن هذه البشارة المذكورة ، هي البشرى في الحياة الدنيا.

[٩٠] وقوله : (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) (٩٠) ، وهم الّذين أدوا الواجبات وتركوا المحرمات ، وإن حصل منهم بعض التقصير في بعض الحقوق ، الّتي لا تخل بإيمانهم وتوحيدهم ، فيقال لأحدهم : سلام (لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) (٩١) ، أي : سلام حاصل لك من إخوانك أصحاب اليمين ، أي : يسلمون عليه ويحيونه عند وصوله إليهم ، ولقائهم له ، أو يقال له : سلام لك من الآفات والبليات والعذاب ، لأنك من أصحاب اليمين ، الّذين سلموا من الموبقات.

[٩٢] (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ) (٩٢) ، أي : الّذين كذبوا بالحق ، وضلوا عن الهدى.

[٩٣ ـ ٩٤] (فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (٩٣) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ) (٩٤) ، أي : ضيافتهم يوم قدومهم على ربهم تصلية الجحيم ، الّتي تحيط بهم ، وتصل إلى أفئدتهم. وإذا استغاثوا من شدة العطش والظمأ (يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً).

[٩٥] (إِنَّ هذا) الذي ذكره الله تعالى ، من جزاء العباد بأعمالهم ، خيرها وشرها ، وتفاصيل ذلك (لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) ، أي : الذي لا شك فيه ولا مرية. بل هو الحقّ الثابت ، الذي لا بد من وقوعه. وقد أشهد الله عباده ، الأدلة القواطع على ذلك ، حتى صار عند أولي الألباب كأنهم ذائقون له ، مشاهدون لحقيقته ، فحمدوا الله تعالى على ما خصهم من هذه النعمة العظيمة ، والمنحة الجسيمة. ولهذا قال تعالى :

[٩٦] (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) (٩٦) فسبحان ربنا العظيم ، وتعالى وتنزه عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا. والحمد لله رب العالمين ، حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه. تم تفسير سورة الواقعة.

تفسير سورة الحديد

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] يخبر تعالى عن عظمته وجلاله ، وسعة سلطانه أن جميع ما في السماوات والأرض ، من الحيوانات الناطقة وغيرها ، والجوامد ، تسبّح بحمد ربها ، وتنزهه عما لا يليق بجلاله. وأنها قانتة لربها ، منقادة لعزته ، قد ظهرت فيها آثار حكمته ، ولهذا قال : (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ، فهذا فيه بيان عموم افتقار المخلوقات العلوية والسفلية لربها ، في جميع أحوالها ، وعموم عزته وقهره للأشياء كلها ، وعموم حكمته في خلقه وأمره.

[٢] ثمّ أخبر عن عموم ملكه ، فقال : (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ). أي : هو الخالق للمخلوقات ، الرازق المدبر لها ، بقدرته (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

[٣] (هُوَ الْأَوَّلُ) الذي ليس قبله شيء ، (وَالْآخِرُ) الذي ليس بعده شيء. (وَالظَّاهِرُ) الذي ليس فوقه شيء ، (وَالْباطِنُ) الذي ليس دونه شيء. (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) قد أحاط علمه بالظواهر والبواطن ، والسرائر والخفايا ، والأمور المتقدمة والمتأخرة.

[٤] (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) أولها يوم الأحد ، وآخرها يوم الجمعة. (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) استواء يليق بجلاله ، فوق جميع خلقه. (يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ) من حب وحيوان ، ومطر ، وغير ذلك. (وَما يَخْرُجُ مِنْها) من نبت وشجر ، وحيوان ، وغير ذلك. (وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ) من الملائكة والأقدار والأرزاق. (وَما يَعْرُجُ فِيها) من الملائكة والأرواح ، والأدعية والأعمال ، وغير ذلك. (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) ، كقوله : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا). وهذه المعية ، معية العلم والاطلاع ، ولهذا توعد ووعد بالمجازاة بالأعمال بقوله : (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي : هو تعالى بصير بما يصدر منكم من الأعمال ، وما صدرت عنه تلك الأعمال ، من بر وفجور ،

١٠٠٩

فمجازيكم عليها ، وحافظها عليكم.

[٥] (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ملكا ، وخلقا ، وعبيدا ، يتصرف فيهم بما شاءه من أوامره القدرية والشرعية ، الجارية على الحكمة الربانية. (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) من الأعمال والعمال ، فيعرض عليه العباد ، فيميز الخبيث من الطيب ، ويجازي المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته.

[٦] (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) ، أي : يدخل الليل على النهار ، فيغشيهم الليل بظلامه ، فيسكنون ويهدأون. ثمّ يدخل النهار على الليل ، فيزول ما على الأرض من الظلام ، ويضيء الكون ، فيتحرك العباد ويقومون إلى مصالحهم ومعايشهم. ولا يزال الله يكور الليل على النهار ، والنهار على الليل ، ويداول بينهما ، في الزيادة والنقص ، والطول والقصر ، حتى تقوم بذلك الفصول ، وتستقيم الأزمنة ، ويحصل من المصالح بذلك ما يحصل. فتبارك الله رب العالمين ، وتعالى الكريم الجواد ، الذي أنعم على عباده بالنعم الظاهرة والباطنة. (وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) ، أي : بما يكون في صدور العالمين. فيوفق من يعلم أنه أهل لذلك ، ويخذل من يعلم أنه لا يصلح لهدايته.

[٧] يأمر تعالى عباده بالإيمان به وبرسوله ، وبما جاء به ، وبالنفقة في سبيله ، من الأموال الّتي جعلها الله في أيديهم ، واستخلفهم عليها ، لينظر كيف يعملون. ثمّ لما أمرهم بذلك ، رغّبهم وحثّهم عليه بذكر ما رتب عليه من الثواب ، فقال : (فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) ، أي : الّذين جمعوا بين الإيمان بالله ورسوله ، والنفقة في سبيله ، لهم أجر كبير ، وأعظمه وأجلّه رضا ربهم ، والفوز بدار كرامته ، وما فيها من النعيم المقيم ، الذي أعده الله للمؤمنين والمجاهدين.

[٨] ثمّ ذكر السبب الداعي لهم إلى الإيمان ، وعدم المانع منه ، فقال : (وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٨) ، أي : وما الذي يمنعكم من الإيمان ، والحال أن الرسول محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفضل الرسل وأكرم داع دعا إلى الله يدعوكم. فهذا مما يوجب المبادرة إلى إجابة دعوته ، والتلبية والإجابة للحق الذي جاء به ، وقد أخذ عليكم العهد والميثاق بالإيمان ، إن كنتم مؤمنين.

[٩] ومع ذلك ، من لطفه وعنايته بكم ، أنه لم يكتف بمجرد دعوة الرسول الذي هو أشرف العالم ، بل أيده بالمعجزات ، ودلّكم على صدق ما جاء به بالآيات البينات. فلهذا قال : (هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ) ، أي : ظاهرات تدل أهل العقول على صحة جميع ما جاء به ، وأنه هو الحقّ اليقين. (لِيُخْرِجَكُمْ) بإرسال الرسول إليكم ، وما أنزله الله على يده من الكتاب والحكمة. (مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) ، أي : من ظلمات الجهل والكفر ، إلى نور العلم والإيمان. وهذا من رحمته بكم ورأفته ، حيث كان أرحم بعباده من الوالدة بولدها (وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ).

[١٠] (وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، أي : وما الذي يمنعكم من النفقة في سبيل الله ، وهي طرق الخير كلها ، ويوجب لكم أن تبخلوا. (وَ) الحال أنه ليس لكم شيء ، بل (لِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، فجميع الأموال ، ستنقل من أيديكم ، أو تنقلون عنها ، ثمّ يعود الملك إلى مالكه ، تبارك وتعالى. فاغتنموا الإنفاق ، ما دامت الأموال في أيديكم ، وانتهزوا الفرصة. ثمّ ذكر تعالى ، تفاضل الأعمال بحسب الأحوال والحكمة الإلهية ،

١٠١٠

فقال : (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا) ، المراد بالفتح هنا هو : فتح الحديبية حين جرى من الصلح بين الرسول وبين قريش مما هو أعظم الفتوحات الّتي حصل فيها نشر الإسلام ، واختلاط المسلمين بالكافرين ، والدعوة إلى الدين من غير معارض ، فدخل الناس من ذلك الوقت في دين الله أفواجا واعتز الإسلام عزا عظيما. وكان المسلمون قبل هذا الفتح لا يقدرون على الدعوة إلى الدين في غير البقعة الّتي أسلم أهلها ، كالمدينة وتوابعها. وكان من أسلم من أهل مكة وغيرها ، من ديار المشركين ، يؤذى ويخاف ، فلذلك كان من أسلم قبل الفتح وقاتل ، أعظم درجة وأجرا وثوابا ممن لم يسلم ويقاتل وينفق إلا بعد ذلك ، كما هو مقتضى الحكمة ، ولهذا كان السابقون وفضلاء الصحابة ، غالبهم أسلم قبل الفتح. ولما كان التفضيل بين الأمور قد يتوهم منه نقص وقدح في المفضول ، احترز تعالى من هذا بقوله : (وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) ، أي : الّذين أسلموا وقاتلوا وأنفقوا من قبل الفتح وبعده ، كلهم وعده الله الجنة ، وهذا يدل على فضل الصحابة كلهم ، رضي الله عنهم ، حيث شهد الله لهم بالإيمان ، ووعدهم الجنة. (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) فيجازي كلا منكم ، على ما يعمله من عمله.

[١١] ثمّ حث على النفقة في سبيله ، لأن الجهاد متوقف على النفقة فيه ، وبذل الأموال في التجهز له ، فقال : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) وهي : النفقة الطيبة الّتي تكون خالصة لوجه الله ، موافقة لمرضاة الله ، من مال حلال طيب ، طيبة به نفسه ، وهذا من كرم الله تعالى حيث سماه قرضا ، والمال ماله ، والعبيد عبيده ، ووعد بالمضاعفة عليه أضعافا كثيرة ، وهو الكريم الوهاب. وتلك المضاعفة ، محلها ومواضعها ، يوم القيامة يوم يتبين كلّ إنسان فقره ، ويحتاج إلى أقل شيء من الجزاء الحسن ، ولهذا قال : (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ) ، إلى : (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ).

[١٢] يقول تعالى ـ مبينا لفضل الإيمان واغتباط أهله به يوم القيامة ـ : (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) ، أي : إذا كان يوم القيامة ، وكورت الشمس ، وخسف القمر ، وصار الناس في الظلمة ، ونصب الصراط على متن جهنم ، فحينئذ ترى المؤمنين والمؤمنات ، يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم ، فيمشون بإيمانهم ونورهم ، في ذلك الموقف الهائل الصعب ، كل على قدر إيمانه ، ويبشرون عند ذلك ، بأعظم بشارة ، فيقال : (بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ). فلله ما أحلى هذه البشارة بقلوبهم ، وألذها لنفوسهم ، حيث حصل لهم كل مطلوب محبوب ، ونجوا من كلّ شر ومرهوب.

[١٣] فإذا رأى المنافقون المؤمنين يمشون بنورهم ، وهم قد طفىء نورهم ، وبقوا في الظلمات حائرين ، قالوا للمؤمنين : (انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) ، أي : أمهلونا ، لننال من نوركم ما نمشي به ، لننجو من العذاب. (قِيلَ) لهم : (ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً) ، أي : إن كان ذلك ممكنا ، والحال أن ذلك غير ممكن ، بل هو من المحالات. (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ) ، أي : بين المؤمنين والمنافقين (بِسُورٍ) ، أي : حائط منيع ، وحصن حصين. (لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ) ، وهو الذي يلي المؤمنين ، (وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ) وهو الذي يلي المنافقين.

[١٤] فينادي المنافقون

١٠١١

المؤمنين ، فيقولون تضرعا وترحما : (أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ) في الدنيا بقول «لا إله إلا الله» ، ونصلي ونصوم ، ونجاهد ، ونعمل مثل عملكم؟ (قالُوا بَلى) كنتم معنا في الدنيا ، وعملتم في الظاهر ، مثل عملنا ، ولكن أعمالكم أعمال المنافقين ، من غير إيمان ، ولا نية صادقة صالحة. (وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ) ، أي : شككتم في خبر الله الذي لا يقبل شكا. (وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُ) الباطلة ، حيث تمنيتم أن تنالوا منال المؤمنين ، وأنتم غير موقنين. (حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ) ، أي : حتى جاءكم الموت ، وأنتم بتلك الحالة الذميمة. (وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) وهو الشيطان ، الذي زين لكم الكفر والريب ، فاطمأننتم به ، ووثقتم بوعده ، وصدقتم خبره.

[١٥] (فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) ، ولو افتديتم بملء الأرض ذهبا ، ومثله معه ، لما تقبل منكم. (مَأْواكُمُ النَّارُ) ، أي : مستقركم (هِيَ مَوْلاكُمْ) التي تتولاكم ، وتضمكم إليها (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) النار. قال تعالى : (وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (٨) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (٩) وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (١٠) نارٌ حامِيَةٌ) (١١).

[١٦] لما ذكر حال المؤمنين والمؤمنات ، والمنافقين والمنافقات في الدار الآخرة ، كان ذلك مما يدعو القلوب إلى الخشوع لربها ، والاستكانة لعظمته ، فعاتب الله المؤمنين على عدم ذلك ، فقال : (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِ). أي : ألم يأت الوقت الذي به تلين قلوبهم ، وتخشع لذكر الله ، الذي هو القرآن ، وتنقاد لأوامره وزواجره ، وما نزل من الحق الذي جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ وهذا فيه الحث على الاجتهاد ، على خشوع القلب لله تعالى ، ولما أنزله من الكتاب والحكمة ، وأن يتذكر المؤمنون المواعظ الإلهية ، والأحكام الشرعية ، كل وقت ، ويحاسبوا أنفسهم على ذلك. (وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ) ، أي : ولا يكونوا كالذين أنزل الله عليهم الكتاب الموجب لخشوع القلب ، والانقياد التام ، ثم لم يدوموا عليه ، ولم يثبتوا ، بل طال عليهم الزمان ، واستمرت بهم الغفلة ، فاضمحل إيمانهم ، وزال إيقانهم. (فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) فالقلوب تحتاج في كل وقت إلى أن تذكر بما أنزل الله ، وتناطق بالحكمة ، ولا ينبغي الغفلة عن ذلك ، فإنه سبب لقسوة القلب ، وجمود العين.

[١٧] (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (١٧) فإن الآيات تدل العقول على المطالب الإلهية ، والذي أحيا الأرض بعد موتها ، قادر على أن يحيي الأموات بعد موتهم ، فيجازيهم بأعمالهم ، والذي أحيا الأرض بعد موتها بماء المطر ، قادر على أن يحيي القلوب الميتة بما أنزله من الحقّ على رسوله. وهذه الآية تدل على أنه لا عقل لمن لم يهتد بآيات الله ، ولم ينقد لشرائع الله.

[١٨] (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ) بالتشديد ، أي : الّذين أكثروا من الصدقات والنفقات المرضية. (وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً) بأن قدموا من أموالهم في طرق الخيرات ، ما يكون ذخرا لهم عند ربهم (يُضاعَفُ لَهُمْ) الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، إلى أضعاف كثيرة. (وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ) وهو ما أعده الله لهم في الجنة ، مما لا تعلمه النفوس.

[١٩] (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) ، والإيمان عند أهل السنة ما دل عليه الكتاب والسنة ، وهو قول

١٠١٢

القلب واللسان ، وعمل القلب واللسان والجوارح. فيشمل ذلك جميع شرائع الدين الظاهرة والباطنة. فالذين جمعوا هذه الأمور (هُمُ الصِّدِّيقُونَ) ، أي : الّذين مرتبتهم فوق مرتبة عموم المؤمنين ، ودون مرتبة الأنبياء. وقوله : (وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ) كما ورد في الحديث الصحيح : «إن في الجنة مائة درجة ، ما بين كلّ درجتين كما بين السماء والأرض ، أعدها الله للمجاهدين في سبيله». وهذا يقتضي شدة علوها ورفعتهم ، وقربهم من الله تعالى. (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) فهذه الآيات جمعت أصناف الخلق : المتصدقين ، والصديقين والشهداء ، وأصحاب الجحيم. فالمتصدقون هم الّذين جلّ عملهم الإحسان إلى الخلق ، وبذل النفع لهم بغاية ما يمكنهم خصوصا بالنفع بالمال في سبيل الله. والصديقون هم الّذين كملوا مراتب الإيمان والعمل الصالح ، والعلم النافع ، واليقين الصادق. والشهداء هم الّذين قاتلوا في سبيل الله ، لإعلاء كلمة الله ، وبذلوا أنفسهم وأموالهم فقتلوا. وأصحاب الجحيم هم الكفار الّذين كذبوا بآيات الله. وبقي قسم ذكرهم الله في سورة فاطر ، وهم المقتصدون الّذين أدوا الواجبات ، وتركوا المحرمات ، إلا أنهم حصل منهم بعض التقصير بحقوق الله وحقوق عباده ، فهؤلاء مآلهم الجنة ، وإن حصل لبعضهم عقوبة ببعض ما فعل.

[٢٠] يخبر تعالى عن حقيقة الدنيا ، وما هي عليه ، ويبين غايتها ، وغاية أهلها ، بأنها (لَعِبٌ وَلَهْوٌ) تلعب بها الأبدان ، وتلهو بها القلوب ، وهذا مصداقه ما هو موجود وواقع من أبناء الدنيا ، فإنك تجدهم قد قطعوا أوقات عمرهم بلهو قلوبهم ، وغفلتهم عن ذكر الله ، وعما أمامهم من الوعد والوعيد ، تراهم قد اتخذوا دينهم لعبا ولهوا. بخلاف أهل اليقظة وعمّال الآخرة ، فإن قلوبهم معمورة بذكر الله ، ومعرفته ومحبته ، وقد شغلوا أوقاتهم بالأعمال الّتي تقربهم إلى الله ، من النفع القاصر والمتعدي. وقوله : (وَزِينَةٌ) ، أي : تزيّن في اللباس والطعام ، والشراب والمراكب ، والدور والقصور ، والجاه وغير ذلك. (وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ) ، أي : كل واحد من أهلها ، يريد مفاخرة الآخر ، وأن يكون هو الغالب في أمورها ، والذي له الشهرة في أحوالها. (وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ) ، أي : كلّ يريد أن يكون هو الكاثر لغيره ، في المال والولد ، وهذا مصداقه ، وقوعه من محبّي الدنيا ، والمطمئنين إليها. بخلاف من عرف الدنيا وحقيقتها ، فجعلها معبرا ، ولم يجعلها مستقرا ، فنافس فيما يقربه إلى الله ، واتخذ الوسائل الّتي توصله إلى دار كرامته ، وإذا رأى من يكاثره ، وينافسه في الأموال والأولاد ، نافسه بالأعمال الصالحة. ثمّ ضرب للدنيا مثلا ، بغيث نزل على الأرض ، فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام ، حتى إذا أخذت الأرض زخرفها ، وأعجب نباته الكفار ، الّذين قصروا نظرهم وهممهم على الدنيا ، جاءها من أمر الله ، ما أتلفها ، فهاجت ويبست ، وعادت إلى حالها الأولى ، كأنه لم ينبت فيها خضراء ، ولا رؤي لها مرأى أنيق. كذلك الدنيا ، بينما هي زاهية لصاحبها ، زاهرة ، مهما أراد من مطالبها حصل ، ومهما توجه لأمر من أمورها وجد أبوابه مفتحة ، إذا أصابها القدر فأذهبها من يده ، وأزال تسلطه عليها ، أو ذهب به عنها ، فرحل منها صفر اليدين ، ولم يتزود منها سوى الكفن ، فتبّا

١٠١٣

لمن أضحت هي غاية أمنيته ولها عمله وسعيه. وأما العمل للآخرة فهو الذي ينفع ، ويدخر لصاحبه ، ويصحب العبد على الأبد ، ولهذا قال تعالى : (وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ) ، أي : حال الآخرة ، لا يخلو من هذين الأمرين. إما العذاب الشديد في نار جهنم ، وأغلالها وسلاسلها وأهوالها لمن كانت الدنيا هي غايته ، ومنتهى مطلبه ، فتجرأ على معاصي الله ، وكذب بآيات الله ، وكفر بأنعم الله. وإما مغفرة من الله للسيئات ، وإزالة العقوبات ، ورضوان من الله ، يحل من أحله عليه دار الرضوان لمن عرف الدنيا ، وسعى للآخرة سعيها. فهذا كله ، مما يدعو إلى الزهد في الدنيا ، والرغبة في الآخرة ولهذا قال : (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) ، أي : إلا متاع يتمتع به ، وينتفع به ، ويستدفع به الحاجات ، لا يغتر به ، ويطمئن إليه ، إلا أهل العقول الضعيفة الّذين يغرهم بالله الغرور.

[٢١] ثمّ أمر بالمسابقة إلى مغفرة الله ورضوانه وجنته ، وذلك يكون بالسعي بأسباب المغفرة ، من التوبة النصوح ، والاستغفار النافع ، والبعد عن الذنوب ومظانها ، والمسابقة إلى رضوان الله بالعمل الصالح ، والحرص على ما يرضي الله على الدوام ، من الإحسان في عبادة الخالق ، والإحسان إلى الخلق بجميع وجوه النفع ، ولهذا ذكر الله الأعمال الموجبة لذلك ، فقال : (وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) ، والإيمان بالله ورسله ، يدخل فيه أصول الدين وفروعه ، (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) ، أي : هذا الذي بيناه لكم ، وذكرنا الطرق الموصلة إلى الجنة ، والطرق الموصلة إلى النار ، وأن ثواب الله بالأجر الجزيل ، والثواب الجميل ، من أعظم منته على عباده وفضله. (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) ، الذي لا يحصي أحد ثناء عليه ، بل هو كما أثنى على نفسه ، وفوق ما يثني عليه أحد من خلقه.

[٢٢] ويقول تعالى مخبرا عن عموم قضائه وقدره : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ) ، وهذا شامل لعموم المصائب الّتي تصيب الخلق ، من خير وشر ، فكلها قد كتب في اللوح المحفوظ صغيرها وكبيرها. وهذا أمر عظيم لا تحيط به العقول ، بل تذهل عنه أفئدة أولي الألباب ، ولكنه على الله يسير.

[٢٣] وأخبر الله عباده بذلك لأجل أن تتقرر هذه القاعدة عندهم ، ويبنوا عليها ما أصابهم من الخير والشر. فلا يأسوا ويحزنوا على ما فاتهم ، مما طمحت له أنفسهم ، وتشوفوا إليه لعلمهم أن ذلك مكتوب في اللوح المحفوظ ، لا بد من نفوذه ووقوعه ، فلا سبيل إلى دفعه ، ولا يفرحوا بما آتاهم الله ، فرح بطر وأشر ، لعلمهم أنهم ما أدركوه بحولهم وقوتهم ، وإنّما أدركوه بفضل الله ومنّه ، فيشتغلوا بشكر من أولى النعم ، ودفع النقم ، ولهذا قال : (وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) ، أي : متكبر فظ ، معجب بنفسه ، فخور بنعم الله ، ينسبها إلى نفسه ، وتطغيه وتلهيه كما قال تعالى : و (إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ).

[٢٤] (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) ، أي : يجمعون بين الأمرين الذميمين ، اللذين كلّ منهما كاف في الشر : البخل وهو منع الحقوق الواجبة ، ويأمرون الناس بذلك ، فلم يكفهم بخلهم ، حتى أمروا الناس بذلك ، وحثّوهم على هذا الخلق الذميم بقولهم وفعلهم ، وهذا من إعراضهم عن طاعة ربهم وتوليهم عنها. (وَمَنْ يَتَوَلَ) عن طاعة الله ، فلا يضر إلا نفسه ، ولن يضر الله شيئا. (فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) الذي غناه من لوازم ذاته ، الذي له ملك السماوات والأرض ، وهو الذي أغنى عباده وأقناهم. الحميد الذي له كلّ اسم حسن ، ووصف كامل ، وفعل جميل ، يستحق أن يحمد عليه ، ويثنى ويعظم عليه.

[٢٥] يقول تعالى : (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ) وهي الأدلة والشواهد والعلامات الدالة على صدق ما جاءوا به وحقيته. (وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ) وهو اسم جنس يشمل سائر الكتب ، الّتي أنزلها الله لهداية الخلق وإرشادهم ، إلى ما ينفعهم في دينهم ودنياهم. (وَالْمِيزانَ) وهو العدل في الأقوال والأفعال. والدين الذي جاءت به الرسل ، كله عدل وقسط في الأوامر والنواهي وفي معاملات الخلق ، وفي الجنايات والقصاص والحدود والمواريث ، وغير

١٠١٤

ذلك. وذلك (لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) قياما بدين الله ، وتحصيلا لمصالحهم الّتي لا يمكن حصرها وعدها. وهذا دليل على أن الرسل متفقون في قاعدة الشرع ، وهو القيام بالقسط ، وإن اختلفت صور العدل ، بحسب الأزمنة والأحوال. (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) من آلات الحرب ، كالسلاح والدروع وغير ذلك. (وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) وهو : ما يشاهد من نفعه في أنواع الصناعات والحرف ، والأواني ، وآلات الحرث ، حتى إنه قلّ أن يوجد شيء إلا وهو يحتاج إلى الحديد. (وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ) ، أي : ليقيم تعالى سوق الامتحان بما أنزله من الكتاب والحديد ، فيتبين من ينصره ، وينصر رسله في حالة الغيب ، الّتي ينفع فيها الإيمان قبل الشهادة ، الّتي لا فائدة بوجود الإيمان فيها ، لأنه حينئذ يكون ضروريا واضطراريا. (إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) ، أي : لا يعجزه شيء ، ولا يفوته هارب. ومن قوته وعزته أن أنزل الحديد ، الذي منه الآلات القوية ، ومن قوته وعزته أنه قادر على الانتصار من أعدائه ، ولكنه يبتلي أولياءه بأعدائه ، ليعلم من ينصره بالغيب. وقرن تعالى بهذا الموضع بين الكتاب والحديد ، لأن بهذين الأمرين ينصر الله دينه ، ويعلي كلمته : بالكتاب ، الذي فيه الحجة والبرهان ، والسيف الناصر بإذن الله ، وكلاهما قيامه بالعدل والقسط ، الذي يستدل به على حكمة الباري وكماله ، وكمال شريعته الّتي شرعها على ألسنة رسله.

[٢٦] ولما ذكر نبوة الأنبياء عموما ، ذكر من خواصهم النبيين الكريمين نوحا وإبراهيم اللذين جعل الله النبوة والكتاب في ذريتهما ، فقال : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) ، أي : الأنبياء المتقدمين والمتأخرين كلهم من ذرية نوح وإبراهيم عليهما‌السلام. وكذلك الكتب كلها ، نزلت على ذرية هذين النبيين الكريمين. (فَمِنْهُمْ) ، أي : ممن أرسلنا إليهم الرسل (مُهْتَدٍ) بدعوتهم ، منقاد لأمرهم ، ومسترشد بهداهم. (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) ، أي : خارجون عن طاعة الله ، وطاعة رسله كما قال تعالى : (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) (١٠٣).

[٢٧] (ثُمَّ قَفَّيْنا) ، أي : أتبعنا (عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) ، خصّ الله عيسى عليه‌السلام ؛ لأن السياق مع النصارى ، الّذين يزعمون اتباع عيسى. (وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ) الذي هو من كتب الله الفاضلة (وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً) كما قال تعالى : (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) (٨٢). ولهذا كان النصارى ، ألين من غيرهم قلوبا ، حين كانوا على شريعة عيسى عليه‌السلام. (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها) ، والرهبانية : العبادة ، فهم ابتدعوا من عند أنفسهم عبادة ، ووظفوها على أنفسهم ، والتزموا لوازم ما كتبها الله عليهم ولا فرضها. بل هم الّذين التزموا بها من تلقاء أنفسهم ، قصدهم بذلك رضا الله ، ومع ذلك (فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها) ، أي : ما قاموا بها ، ولا أدوا حقوقها ، فقصروا من وجهين : من جهة ابتداعهم ، ومن جهة عدم قيامهم بما فرضوه على أنفسهم. فهذه الحال هي الغالب من أحوالهم. ومنهم من هو

١٠١٥

مستقيم على أمر الله ، ولهذا قال : (فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ) ، أي : الّذين آمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مع إيمانهم بعيسى ، كلّ أعطاه الله على حسب إيمانه (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) ، أي : مكذبون بمحمد ، وخارجون عن الطاعة والطريق المستقيم.

[٢٨] وهذا الخطاب ، يحتمل أنه خطاب لأهل الكتاب الّذين آمنوا بموسى وعيسى عليهما‌السلام ، يأمرهم أن يعملوا بمقتضى إيمانهم ، بأن يتقوا الله فيتركوا معاصيه ، ويؤمنوا برسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنهم إن فعلوا ذلك أعطاهم الله (كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) ، أي : نصيبين من الأجر. نصيب على إيمانهم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ويحتمل أن يكون الأمر عاما يدخل فيه أهل الكتاب وغيرهم وهذا هو الظاهر ، وأن الله أمرهم بالإيمان والتقوى الذي يدخل فيه جميع الدين ، ظاهره وباطنه ، وأصوله وفروعه ، وأنهم إن امتثلوا هذا الأمر العظيم ، أعطاهم (كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) لا يعلم قدرهما ولا وصفهما إلا الله تعالى. أجر على الإيمان ، وأجر على التقوى ، وأجر على امتثال الأوامر ، وأجر على اجتناب النواهي ، أو أن التثنية المراد بها تكرار الإيتاء مرة بعد أخرى. (وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ) ، أي : يعطيكم علما وهدى ، ونورا تمشون به في ظلمات الجهل ، ويغفر لكم السيئات. (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) فلا يستغرب كثرة هذا الثواب على فضل ذي الفضل العظيم ، الذي عم فضله أهل السماوات والأرض ، فلا يخلو مخلوق من فضله طرفة عين ، ولا أقل من ذلك.

[٢٩] وقوله : (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ) ، أي : بينا لكم فضلنا وإحساننا لمن آمن إيمانا عاما ، واتقى الله ، وآمن برسوله ، لأجل أن يكون عند أهل الكتاب علم ، بأنهم لا يقدرون على شيء من فضل الله ، أي : لا يحجرون على الله ، بحسب أهوائهم وعقولهم الفاسدة ، فيقولون : (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) ، ويتمنون على الله الأماني الفاسدة. فأخبر الله تعالى المؤمنين برسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، المتقين لله أن لهم كفلين من رحمته ، ونورا ، ومغفرة ، رغما عن أنوف أهل الكتاب. وليعلموا (وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) ممن اقتضت حكمته تعالى أن يؤتيه من فضله (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) الذي لا يقادر قدره. تم تفسير سورة الحديد ـ ولله الحمد والمنة.

تفسير سورة المجادلة

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] نزلت هذه الآيات الكريمات في رجل من الأنصار ، اشتكته زوجته إلى الله ، وجادلته إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما

١٠١٦

حرمها على نفسه ، بعد الصحبة الطويلة ، والأولاد ، وكان هو رجلا شيخا كبيرا. فشكت حالها وحاله إلى الله ، وإلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكررت ذلك ، وأبدت فيه وأعادت. فقال تعالى : (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما) ، أي : تخاطبكما فيما بينكما. (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لجميع الأصوات ، في جميع الأوقات ، على تفنن الحاجات. (بَصِيرٌ) يبصر دبيب النملة السوداء ، على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء. وهذا إخبار عن كمال سمعه وبصره ، وإحاطتهما بالأمور الدقيقة والجليلة ، وفي ضمن ذلك الإشارة بأن الله سيزيل شكواها وبلواها ، ولهذا ذكر حكمها ، وحكم غيرها على وجه العموم ، فقال : (الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ). المظاهرة من الزوجة : أن يقول الرجل لزوجته : «أنت عليّ كظهر أمي» ، أو غيرها من محارمه ، أو : «أنت عليّ حرام» ، وكان المعتاد عندهم في هذا اللفظ «الظهر» ولهذا سماه الله «ظهارا» فقال :

[٢] (الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ) ، أي : كيف يتكلمون بهذا الكلام ، الذي يعلمون أنه لا حقيقة له ، فيشبهون أزواجهم بأمهاتهم اللاتي ولدنهم؟ ولهذا عظم الله أمره ، وقبحه ، فقال : (وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً) ، أي : قولا شنيعا ، وكذبا. (وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) عمن صدر منه بعض المخالفات ، فتداركها بالتوبة النصوح.

[٣] (وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا) ، اختلف العلماء في معنى العود ، فقيل : معناه العزم على جماع من ظاهر منها ، وأنه بمجرد عزمه ، تجب عليه الكفارة المذكورة ، ويدل على هذا أن الله تعالى ذكر في الكفارة ، أنها تكون قبل المسيس ، وذلك إنّما يكون بمجرد العزم ، وقيل : معناه حقيقة الوطء ، ويدل عليه أن الله قال : (ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا) ، والذي قالوا إنّما هو الوطء. وعلى كلّ من القولين (ف) إذا وجد العود ، صار كفارة هذا التحريم تحرير (رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) كما قيدت في آية القتل ، ذكر أو أنثى ، بشرط أن تكون سالمة من العيوب الضارة بالعمل. (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) ، أي : يلزم الزوج أن يترك وطء زوجته الّتي ظاهر منها ، حتى يكفر برقبة. (ذلِكُمْ) الحكم الذي ذكرناه لكم ، (تُوعَظُونَ بِهِ) ، أي : يبين لكم حكمه مع الترهيب المقرون به ، لأن معنى الوعظ ذكر الحكم مع الترغيب والترهيب ، فالذي يريد أن يظاهر ، إذا ذكر أن عليه عتق رقبة ، كف نفسه عنه. (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) فيجازي كلّ عامل بعمله.

[٤] (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) رقبة يعتقها ، بأن لم يجدها ، أولم يجد ثمنها (ف) عليه صيام (شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ) الصيام (فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً). إما أن يطعمهم من قوت بلده ما يكفيهم ، كما هو قول كثير من المفسرين. وإما أن يطعم كلّ مسكين مدّ برّ أو نصف صاع من غيره مما يجزي في الفطر كما هو قول طائفة أخرى. (ذلِكَ) الحكم الذي بيناه لكم ، ووضحناه (لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) وذلك بالتزام هذا الحكم وغيره من الأحكام والعمل به. فإن التزام أحكام الله ، والعمل بها من الإيمان ، بل هي المقصودة ، ويزداد بها الإيمان ، ويكمل

١٠١٧

وينمو. (وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ) الّتي تمنع من الوقوع فيها ، فيجب أن لا تتعدى ولا يقصر عنها. (وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ) وفي هذه الآيات عدة أحكام : منها : لطف الله بعباده ، واعتناؤه بهم ، حيث ذكر شكوى هذه المرأة المصابة ، وأزالها ، ورفع عنها البلوى ، بل رفع البلوى بحكمه العام ، عن كلّ من ابتلي بمثل هذه القضية. ومنها : أن الظهار مختص بتحريم الزوجة ، لأن الله قال : (مِنْ نِسائِهِمْ). فلو حرم أمته ، لم يكن ظهارا بل هو من جنس تحريم الطيبات ، كالطعام والشراب ، تجب فيه كفارة اليمين فقط. ومنها : أن لا يصلح الظهار من امرأة قبل أن يتزوجها ، لأنها لا تدخل في نسائه وقت الظهار ، كما لا يصح طلاقها ، سواء نجّز ذلك ، أو علّقه. ومنها : أن الظهار محرم ، لأن الله سماه (مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً). ومنها : تنبيه الله على الحكم وحكمته ، لأن الله قال : (ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ). ومنها : أنه يكره للرجل أن ينادي زوجته ويدعوها باسم محارمه ، كقوله : «يا أمي» ، «يا أختي» ونحو ذلك ، لأن ذلك يشبه المحرم. ومنها : أن الكفارة إنّما تجب بالعود لما قال المظاهر ، على اختلاف القولين السابقين ، لا بمجرد الظهار. ومنها : أنه يجزىء في كفارة الرقبة ، الصغير والكبير ، والذكر والأنثى ، لإطلاق الآية في ذلك. ومنها : أنه يجب إخراجها إذا كانت عتقا أو صياما ، قبل المسيس ، كما قيده الله. بخلاف كفارة الإطعام ، فإنه يجوز المسيس والوطء في أثنائها. منها : أنه لعل الحكمة في وجوب الكفارة قبل المسيس ، أن ذلك أدعى لإخراجها ، فإنه إذا اشتاق إلى الجماع ، وعلم أنه لا يمكّن من ذلك إلا بعد الكفارة ، بادر إلى إخراجها. ومنها : أنه لا بد من إطعام ستين مسكينا ، فلو جمع طعام ستين مسكينا ، ودفعه لواحد أو أكثر من ذلك ، دون الستين لم يجز ، لأن الله قال : (فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً).

[٥] محادة الله ورسوله : مخالفتهما ومعصيتهما خصوصا في الأمور الفظيعة ، كمحادة الله ورسوله بالكفر ، معاداة أولياء الله. وقوله : (كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ، أي : أذلوا وأهينوا ، كما فعل بمن قبلهم ، جزاء وفاقا. ليس لهم حجة على الله ، فإن الله قد قامت حجته البالغة على الخلق ، وقد أنزل من الآيات البينات ، والبراهين ما عين الحقائق ، ويوضح المقاصد ، فمن اتبعها وعمل عليها ، فهو من المهتدين الفائزين. (وَلِلْكافِرِينَ) بها (عَذابٌ مُهِينٌ) أي : يهينهم ويذلهم. فكما تكبروا عن آيات الله ، أهانهم الله وأذلهم.

[٦] يقول الله تعالى : (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ) ، أي : يوم يبعث الله الخلق (جَمِيعاً) فيقومون من أجداثهم سريعا (فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا) من خير وشر ، لأنه علم ذلك ، و (أَحْصاهُ اللهُ) ، أي : كتبه في اللوح المحفوظ ، وأمر ملائكة الكرام الحفظة بكتابته. هذا (وَ) العاملون قد (نَسُوهُ) ، أي : نسوا ما عملوه والله أحصى ذلك. (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) على الظواهر والسرائر ، والخبايا والخفايا ، ولهذا أخبر عن سعة علمه وإحاطته بما في السماوات والأرض من دقيق وجليل.

[٧] وأنه (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا) ، والمراد بهذه المعية : معية العلم والإحاطة ، بما تناجوا به وأسروه فيما بينهم ، ولهذا قال : (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).

١٠١٨

[٨ ـ ٩] ثم قال تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ) ، إلى : (تُحْشَرُونَ). النجوى هي : التناجي بين اثنين فأكثر ، وقد تكون في الخير ، وتكون في الشر. فأمر الله المؤمنين أن يتناجوا بالبر ، وهو : اسم جامع لكل خير وطاعة ، وقيام بحق الله ، وحق عباده ، والتقوى ، وهي ـ هنا ـ : اسم جامع لترك جميع المحارم والمآثم. فالمؤمن يمتثل هذا الأمر الإلهي ، فلا تجده مناجيا ومتحدثا ، إلا بما يقربه إلى الله ، ويباعده من سخطه. والفاجر يتهاون بأمر الله ويناجي بالإثم والعدوان ، ومعصية الرسول ، كالمنافقين الّذين هذا دأبهم وحالهم مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال تعالى : (وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ) ، أي : يسيئون الأدب في تحيتهم لك. (وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ) ، أي : يسرون فيها ما ذكر عالم الغيب والشهادة عنهم ، وهو قولهم : (لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ). ومعنى ذلك أنهم يتهاونون بذلك ، ويستدلون بعدم تعجيل العقوبة عليهم ، أن ما يقولونه غير محذور. وقال تعالى في بيان أنه يمهل ولا يهمل : (حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ) ، أي : تكفيهم جهنم ، الّتي جمعت كلّ عذاب وشقاء عليهم ، تحيط بهم ، ويعذبون بها (فَبِئْسَ الْمَصِيرُ) ، أي : المرجع والمآل : جهنم. وهؤلاء المذكورون إما أناس من المنافقين ، يظهرون الإيمان ، ويخاطبون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذا الخطاب الذي يوهمون أنهم أرادوا به خيرا ، وهم كذبة في ذلك ، وإما أناس من أهل الكتاب ، الّذين سلموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقالوا : «السام عليك يا محمد» يعنون : الموت.

[١٠] يقول تعالى : (إِنَّمَا النَّجْوى) ، أي : تناجي أعداء المؤمنين بالمؤمنين ، بالمكر والخديعة وطلب السوء ، (مِنَ الشَّيْطانِ) ، الذي كيده ضعيف. (لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا) ، هذا غاية هذا المكر ومقصوده. (وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) فإن الله وعد المؤمنين بالكفاية ، والنصر على الأعداء ، وقال تعالى : (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ). فأعداء الله ورسوله والمؤمنين ، مهما تناجوا ومكروا فإن ضرر ذلك عائد إلى أنفسهم ، ولا يضر المؤمنين إلا شيء قدره الله وقضاه. (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) ، أي : ليعتمدوا عليه ، ويثقوا بوعده ، فإن من توكل على الله كفاه كيد الأعداء ، وكفاه أمر دينه ودنياه.

[١١] هذا أدب من الله لعباده ، إذا اجتمعوا في مجلس من مجالس مجتمعاتهم ، واحتاج بعضهم ، أو بعض القادمين للتفسح له في المجلس ، فإن من الأدب أن يفسحوا له تحصيلا لهذا المقصود. وليس ذلك بضار للفاسح شيئا ، فيحصل مقصود أخيه من غير ضرر يلحقه ، والجزاء من جنس العمل ، فإن من فسح لأخيه ، فسح الله له ، ومن وسع لأخيه ، وسع الله عليه. (وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا) ، أي : ارتفعوا وتنحوا عن مجالسكم ، لحاجة تعرض. (فَانْشُزُوا) أي : فبادورا للقيام لتحصيل تلك المصلحة. فإن القيام بمثل هذه الأمور من العلم والإيمان ، والله تعالى يرفع أهل العلم والإيمان ، درجات بحسب ما خصهم به من العلم والإيمان. (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) فيجازي كل عامل بعمله ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر. وفي هذه الآية فضيلة العلم وأن زينته وثمرته التأدب بآدابه ، والعمل بمقتضاه.

١٠١٩

[١٢] يأمر تعالى المؤمنين بالصدقة ، أمام مناجاة رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم تأديبا لهم ، وتعليما ، وتعظيما للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن هذا التعظيم خير للمؤمنين وأطهر. أي : بذلك يكثر خيركم وأجركم ، وتحصل لكم الطهارة من الأدناس ، الّتي من جملتها ترك احترام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والأدب معه بكثرة المناجاة الّتي لا ثمرة تحتها ، فإنه إذا أمر بالصدقة بين يدي مناجاته ، صار هذا ميزانا ، لمن كان حريصا على العلم والخير ، فلا يبالي بالصدقة. ومن لم يكن له حرص ولا رغبة في الخير ، وإنّما مقصوده مجرد كثرة الكلام ، فينكف بذلك عن الذي يشق على الرسول ، هذا في الواجد للصدقة. وأما الذي لا يجد الصدقة ، فإن الله لم يضيق عليه الأمر ، بل عفا عنه وسامحه ، وأباح له المناجاة بدون تقديم صدقة لا يقدر عليها.

[١٣] ثمّ لما رأى تعالى شفقة المؤمنين ، ومشقة الصدقات عليهم ، عند كلّ مناجاة ، سهل الأمر عليهم ، ولم يؤاخذهم بترك الصدقة بين يدي المناجاة وبقي التعظيم للرسول والاحترام بحاله ، لم ينسخ ؛ لأن هذا من باب المشروع لغيره ، ليس مقصودا لنفسه وإنّما المقصود هو الأدب مع الرسول والإكرام له. وأمرهم تعالى أن يقوموا بالمأمورات الكبار المقصودة بنفسها ، فقال : (فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا) ، أي : لم يهن عليكم تقديم الصدقة ، ولا يكفي هذا فإنه ليس من شرط الأمر ، أن يكون هينا على العبد ، ولهذا قيده بقوله : (وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ) ، أي : عفا لكم عن ذلك. (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) بأركانها وشروطها ، وجميع حدودها ، ولوازمها. (وَآتُوا الزَّكاةَ) المفروضة في أموالكم إلى مستحقيها. وهاتان العبادتان ، هما أم العبادات البدنية والمالية ، فمن قام بهما على الوجه الشرعي ، فقد قام بحقوق الله ، وحقوق عباده ، ولهذا قال بعده : (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) ، وهذا أشمل ما يكون من الأوامر. فيدخل في ذلك طاعة الله وطاعة رسوله بامتثال أوامرهما ، واجتناب نواهيهما ، وتصديق ما أخبرا به ، والوقوف عند حدود الشرع. والعبرة في ذلك على الإخلاص والإحسان ، فلهذا قال : (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) فيعلم تعالى أعمالهم ، وعلى أي وجه صدرت ، فيجازيهم على حسب علمه بما في صدورهم.

[١٤] يخبر تعالى عن شناعة حال المنافقين الّذين يتولون الكافرين ، من اليهود والنصارى وغيرهم ممن غضب الله عليهم ، ونالوا من لعنة الله أوفى نصيب ، وأنهم ليسوا من المؤمنين ولا من الكافرين ، (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ). فليسوا مؤمنين ظاهرا وباطنا لأن باطنهم مع الكفار ، ولا مع الكفار ظاهرا وباطنا لأن ظاهرهم مع المؤمنين ، وهذا وصفهم الذي نعتهم الله به ، والحال أنهم يحلفون على الذي هو الكذب ، فيحلفون أنهم مؤمنون ، والحال أنهم ليسوا مؤمنين. فجزاء هؤلاء الخونة الفجرة الكذبة ، أن الله أعد لهم عذابا شديدا ، لا يقادر قدره ، ولا يعلم وصفه ، وإنهم ساء ما كانوا يعملون ، حيث عملوا بما يسخط الله ، ويوجب لهم العقوبة واللعنة.

[١٦] (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً) ، أي : ترسا ووقاية ، يتقون بها من لوم الله ورسوله والمؤمنين ، فبسبب ذلك ، صدوا أنفسهم وغيرهم (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) عن سبيل الله ، وهو الصراط الذي من سلكه ، أفضى به إلى جنات النعيم ، ومن صدّ عنه ، فليس إلا الصراط الموصل إلى الجحيم. (فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) حيث إنهم لما استكبروا عن

١٠٢٠