تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنّان

الشيخ أبي عبدالله عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر آل سعدي

تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنّان

المؤلف:

الشيخ أبي عبدالله عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر آل سعدي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ١١٣٥

سورة الحاقة

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٣] (الْحَاقَّةُ) (١) من أسماء يوم القيامة ، لأنها تحق وتنزل بالخلق ، وتظهر فيها حقائق الأمور ، ومخبآت الصدور. فعظم تعالى شأنها وفخّمه ، بما كرّره من قوله : (الْحَاقَّةُ (١) مَا الْحَاقَّةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ) (٣) فإن لها شأنا عظيما ، وهولا جسيما. ثمّ ذكر نموذجا من أحوالها الموجودة في الدنيا المشاهدة فيها ، وهو ما أحله من العقوبات البليغة بالأمم العاتية ، فقال :

[٤] (كَذَّبَتْ ثَمُودُ) وهم : القبيلة المشهورة ، سكان الحجر ، الّذين أرسل الله إليهم رسوله صالحا عليه‌السلام ، ينهاهم عما هم عليه من الشرك ، ويأمرهم بالتوحيد ، فردوا دعوته ، وكذبوه ، وكذبوا ما أخبر به من يوم القيامة ، وهي : القارعة الّتي تقرع الخلق بأهوالها. وكذلك عاد الأولى ، سكان حضرموت ، حين بعث الله إليهم رسوله هودا عليه الصلاة والسّلام ، يدعوهم إلى عبادة الله وحده ، فكذبوه ، وأنكروا ما أخبر به من البعث ، فأهلك الله الطائفتين بالهلاك العاجل :

[٥] (فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ) (٥) وهي : الصيحة العظيمة الفظيعة ، الّتي قطعت قلوبهم ، وزهقت لها أرواحهم فأصبحوا موتى ، لا يرى إلا مساكنهم وجثثهم.

[٦] (وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ) ، أي : قوية شديدة الهبوب ، لها صوت أبلغ من صوت الرعد القاصف ، (عاتِيَةٍ) ، أي : عتت على خزانها ، على قول كثير من المفسرين ، أو عتت على عاد ، وزادت على الحد كما هو الصحيح.

[٧] (سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً) ، أي : نحسا وشرا فظيعا عليهم ، فدمرتهم وأهلكتهم. (فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى) ، أي : هلكى موتى ، (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ) ، أي : كأنهم جذوع النخل ، الّتي قطعت رؤوسها الخاوية ، الساقط بعضها على بعض.

[٨] (فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ) (٨) ، وهذا استفهام بمعنى النفي المتقرر.

[٩] أي : وكذلك غير هاتين الأمتين الطاغيتين ، عاد وثمود ، جاء غيرهم من الطغاة العتاة ، كفرعون مصر ، الذي أرسل الله إليه عبده ورسوله ، موسى بن عمران عليه الصلاة والسّلام ، وأراهم من الآيات البينات ، ما تيقنوا بها الحقّ ، ولكن جحدوا وكفروا ، ظلما وعلوا ، وجاء من قبله من المكذبين. (وَالْمُؤْتَفِكاتُ) ، أي : قرى قوم لوط ، الجميع جاءوا (بِالْخاطِئَةِ) ، أي : بالفعلة الطاغية ، وهو الكفر والتكذيب ، والظلم والمعاندة ، وما انضم إلى ذلك من أنواع المعاصي والفسوق.

[١٠] (فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ) وهذا اسم جنس ، أي : كل من هؤلاء كذبوا الرسول ، الذي أرسله الله إليهم. (فَأَخَذَهُمْ) الله جميعا (أَخْذَةً رابِيَةً) ، أي : زائدة على الحد والمقدار ، الذي يحصل به هلاكهم.

[١١] ومن جملة هؤلاء ، قوم نوح أغرقهم الله في الطوفان (لَمَّا طَغَى الْماءُ) على وجه الأرض ، علا على مواضعها الرفيعة. وامتنّ الله على الخلق الموجودين بعدهم أن حملهم (فِي الْجارِيَةِ) ، وهي السفينة : في أصلاب آبائهم وأمهاتهم ، الّذين نجاهم الله. فاحمدوا الله واشكروا الذي نجاكم حين أهلك الطاغين ، واعتبروا بآياته الدالة على

١٠٦١

توحيده ، ولهذا قال :

[١٢] (لِنَجْعَلَها) ، أي : الجارية ، والمراد جنسها (تَذْكِرَةً) تذكّركم أول سفينة صنعت ، وما قصتها ، وكيف نجى الله عليها من آمن به ، واتبع رسوله ، وأهلك أهل الأرض كلها ، فإن جنس الشيء مذكّر بأصله. وقوله : (وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ) أي : يعقلها أولو الألباب ، ويعرفون المقصود منها ووجه الآية بها. وهذا ، بخلاف أهل الإعراض والغفلة ، وأهل البلادة وعدم الفطنة ، فإنهم ليس لهم انتفاع بآيات الله ، لعدم وعيهم عن الله ، وتفكرهم بآياته.

[١٣] لما ذكر تعالى ما فعله بالمكذبين لرسله ، وكيف جازاهم ، وعجل لهم العقوبة في الدنيا ، وأن الله نجّى الرسل وأتباعهم ، كان هذا مقدمة للجزاء الأخروي ، وتوفية الأعمال كاملة يوم القيامة. فذكر الأمور الهائلة الّتي تقع أمام يوم القيامة ، وأن أول ذلك أنه ينفخ إسرافيل (فِي الصُّورِ) إذا تكاملت الأجساد نابتة. (نَفْخَةٌ واحِدَةٌ) فخرجت الأرواح ، فتدخل كلّ روح في جسدها ، فإذا الناس قيام لرب العالمين.

[١٤] (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً) (١٤) ، أي : فتتت الجبال ، واضمحلت ، وخلطت بالأرض ، ونسفت عليها ، فكان الجميع قاعا صفصفا ، لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ، هذا ما يصنع بالأرض وما عليها.

[١٦] وأما ما يصنع بالسماء ، فإنها تضطرب وتمور وتشقق ويتغير لونها ، وتهي بعد تلك الصلابة والقوة العظيمة ، وما ذاك إلا لأمر عظيم أزعجها ، وكرب جسيم هائل ، أوهاها وأضعفها.

[١٧] (وَالْمَلَكُ) ، أي : الملائكة الكرام (عَلى أَرْجائِها) ، أي : على جوانب السماء وأركانها ، خاضعين لربهم ، مستكينين لعظمته. (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) أملاك في غاية القوة ، إذا أتى للفصل بين العباد والقضاء بينهم ، بعدله وقسطه وفضله.

[١٨] ولهذا قال : (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ) على الله (لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ) لا من أجسادكم وذواتكم ، ولا من أعمالكم وصفاتكم ، فإن الله تعالى عالم الغيب والشهادة. ويحشر العباد حفاة ، عراة ، غرلا ، في أرض مستوية ، يسمعهم الداعي وينفذهم البصر ، فحينئذ يجازيهم بما عملوا.

[١٩] ولهذا ذكر كيفية الجزاء ، فقال : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ) إلى : (الْخالِيَةِ). وهؤلاء هم أهل السعادة ، يعطون كتبهم الّتي فيها أعمالهم الصالحة بأيمانهم ، تمييزا لهم ، وتنويها بشأنهم ، ورفعا لمقدارهم. ويقول أحدهم عند ذلك من الفرح والسرور ، ومحبة أن يطلع الخلق على ما منّ الله عليه به من الكرامة : (هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) ، أي : دونكم كتابي ، فاقرأوه ، فإنه يبشر بالجنات ، وأنواع الكرامات ، ومغفرة الذنوب ، وستر العيوب. والذي أوصلني إلى هذه الحال ، ما منّ الله به عليّ من الإيمان بالبعث والحساب ، والاستعداد له ، بالممكن من العلم ، ولهذا قال :

[٢٠] (إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ) (٢٠) ، أي : أيقنت ، فالظن ـ هنا ـ بمعنى اليقين.

[٢١] (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) (٢١) ، أي : جامعة لما تشتهيه الأنفس ، وتلذ الأعين ، وقد رضوها ، ولم يختاروا عليها غيرها.

[٢٢] (فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ) (٢٢) المنازل والقصور ، عالية المحل.

[٢٣] (قُطُوفُها دانِيَةٌ) (٢٣) ، أي : ثمرها وجناها ، من أنواع الفواكه ، قريبة ، سهلة التناول على أهلها ، ينالها أهلها ، قياما وقعودا ومتكئين.

[٢٤] ويقول لهم إكراما : (كُلُوا وَاشْرَبُوا) ، أي : من كل

١٠٦٢

طعام لذيذ ، وشراب شهيّ. (هَنِيئاً) ، أي : تاما كاملا ، من غير مكدر ، ولا منغص. وذلك الجزاء حاصل لكم (بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ) من الأعمال الصالحة ، من صلاة ، وصيام ، وصدقة ، وحج ، وإحسان إلى الخلق ، وذكر الله ، وإنابة إليه ، وترك الأعمال السيئة. فالأعمال جعلها الله سببا لدخول الجنة ، ومادة لنعيمها ، وأصلا لسعادتها.

[٢٥] هؤلاء هم أهل الشقاء ، يعطون كتبهم المشتملة على أعمالهم السيئة بشمالهم ، تمييزا لهم ، وخزيا ، وعارا ، وفضيحة. فيقول أحدهم من الهم ، والغم ، والحزن : (يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ) لأنه يبشر بدخول النار ، والخسارة الأبدية.

[٢٦] (وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ) (٢٦) ، أي : ليتني كنت نسيا منسيا ، ولم أبعث وأحاسب ، ولهذا قال :

[٢٧] (يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ) (٢٧) ، أي : يا ليت موتتي هي الموتة ، الّتي لا بعث بعدها.

[٢٨] ثمّ التفت إلى ماله وسلطانه ، فإذا هو وبال عليه ، لم يقدم منه لآخرته ، ولا ينفعه لو افتدى به من العذاب شيئا ، فيقول : (ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ) (٢٨) ، أي : ما نفعني في الدنيا ، لأني لم أقدم منه شيئا ، ولا في الآخرة ، قد ذهب وقت نفعه.

[٢٩] (هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ) (٢٩) ، أي : ذهب واضمحل ، فلم تنفع الجنود ولا الكثرة ، ولا العدد ولا العدد ، ولا الجاه العريض ، بل ذهب كله أدراج الرياح ، وفاتت بسببه المتاجر والأرباح ، وحضرت بدله الهموم والغموم والأتراح.

[٣٠] فحينئذ يؤمر بعذابه فيقال للزبانية الغلاظ الشداد : (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ) (٣٠) ، أي : اجعلوا في عنقه غلا يخنقه.

[٣١] (ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ) (٣١) ، أي : قلبوه على جمرها ولهبها.

[٣٢] (ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً) من سلاسل الجحيم في غاية الحرارة ، (فَاسْلُكُوهُ) ، أي : انظموه فيها بأن تدخل في دبره ، وتخرج من فمه ، ويعلق فيها. فلا يزال يعذب هذا العذاب الفظيع ، فبئس العذاب والعقاب ، ووا حسرة له من التوبيخ والعتاب ، فإن السبب الذي أوصله إلى هذا المحل :

[٣٣] (إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ) (٣٣) ، بأن كان كافرا بربه ، معاندا لرسله ، رادّا ما جاءوا به من الحقّ.

[٣٤] (وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) (٣٤) ، أي : ليس في قلبه رحمة ، يرحم بها الفقراء والمساكين ، فلا يطعمهم من ماله ، ولا يحض غيره على إطعامهم ، لعدم الوازع في قلبه. وذلك لأن مدار السعادة ومادتها أمران : الإخلاص لله ، الذي أصله الإيمان بالله ، والإحسان إلى الخلق ، بجميع وجوه الإحسان ، الّتي من أعظمها ، دفع ضرورة المحتاجين ، بإطعامهم ما يتقوتون به ، وهؤلاء لا إخلاص ولا إحسان ، فلذلك استحقوا ما استحقوا.

[٣٥] (فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا) ، أي : يوم القيامة (حَمِيمٌ) ، أي : قريب أو صديق ، يشفع له ، لينجو من عذاب الله ، أو يفوز بثوابه : (وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) ، (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ).

[٣٦] (وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ) (٣٦) وهو صديد أهل النار ، الذي هو في غاية الحرارة والمرارة ، ونتن الريح ، وقبح الطعم.

[٣٧] لا يأكل هذا الطعام الذميم (إِلَّا الْخاطِؤُنَ) الّذين أخطأوا الصراط المستقيم ، وسلكوا كلّ طريق يوصلهم إلى الجحيم ، فلذلك استحقوا العذاب الأليم.

[٣٨] أقسم تعالى ، بما يبصر الخلق من جميع الأشياء ، وما لا يبصرونه.

[٣٩ ـ ٤٢] فدخل في ذلك كلّ الخلق ،

١٠٦٣

بل دخل في ذلك نفسه المقدسة ، على صدق الرسول بما جاء به من هذا القرآن الكريم ، وأن الرسول الكريم ، بلغه عن الله تعالى. ونزه الله رسوله ، عما رماه به أعداؤه ، من أنه شاعر أو ساحر ، وأن الذي حملهم على ذلك ، عدم إيمانهم وتذكرهم ، فلو آمنوا وتذكروا ، علموا ما ينفعهم ويضرهم.

[٤٣] ومن ذلك ، أن ينظروا في حال محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويرمقوا أوصافه وأخلاقه ، ليروا أمرا مثل الشمس ، يدلهم على أنه رسول الله حقا ، وأن ما جاء به (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٤٣) ، لا يليق أن يكون قولا للبشر ، بل هو كلام دال على عظمة من تكلم به ، وجلالة أوصافه ، وكمال تربيته للخلق ، وعلوه فوق عباده. وأيضا ، فإن هذا ظن منهم بما لا يليق بالله وحكمته.

[٤٤ ـ ٤٦] (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا) ، وافترى (بَعْضَ الْأَقاوِيلِ) الكاذبة ، (لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) (٤٦) ، وهو عرق متصل بالقلب ، إذا انقطع هلك منه الإنسان. فلو قدر أن الرسول ـ حاشا وكلا ـ تقوّل على الله ، لعاجله بالعقوبة ، وأخذه أخذ عزيز مقتدر ، لأنه حكيم ، قدير على كلّ شيء. فحكمته تقتضي أن لا يمهل الكاذب عليه ، الذي يزعم أن الله أباح له دماء من خالفه وأموالهم ، وأنه هو وأتباعه لهم النجاة ، ومن خالفه فله الهلاك. فإذا كان الله قد أيد رسوله بالمعجزات ، وبرهن على صدق ما جاء به بالآيات البينات ، ونصره على أعدائه ، ومكنه من نواصيهم ، فهو أكبر شهادة منه على رسالته.

[٤٧] وقوله : (فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) (٤٧) ، أي : لو أهلكه ، ما امتنع هو بنفسه ، ولا قدر أحد أن يمنعه من عذاب الله.

[٤٨] (وَإِنَّهُ) ، أي : القرآن الكريم (لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) يتذكرون به مصالح دينهم ودنياهم ، فيعرفونها ويعملون عليها ، يذكرهم العقائد الدينية ، والأخلاق المرضية ، والأحكام الشرعية ، فيكونون من العلماء الربانيين ، والعباد العارفين ، والأئمة المهديين.

[٤٩] (وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ) (٤٩) به ، وهذا فيه تهديد ، ووعيد للمكذبين ، وأنه سيعاقبهم على تكذيبهم ، بالعقوبة البليغة.

[٥٠] (وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ) (٥٠) فإنهم لما كفروا به ، ورأوا ما وعدهم به ، تحسروا إذ لم يهتدوا به ، ولم ينقادوا لأمره ، ففاتهم الثواب ، وحصلوا على أشد العذاب ، وتقطعت بهم الأسباب.

[٥١] (وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ) (٥١) ، أي : أعلى مراتب العلم ، فإن أعلى مراتب العلم : اليقين ، وهو : العلم الثابت ، الذي لا يتزلزل ، ولا يزول. واليقين مراتبه ثلاث ، كل واحدة أعلى مما قبلها : أولها : علم اليقين ، وهو : العلم المستفاد من الخبر. ثمّ عين اليقين ، وهو : العلم المدرك بحاسة البصر. ثمّ حق اليقين ، وهو العلم المدرك بحاسة الذوق والمباشرة. وهذا القرآن بهذا الوصف ، فإن ما فيه من العلوم المؤيدة بالبراهين القطعية ، وما فيه من الحقائق والمعارف الإيمانية ، يحصل به لمن ذاقه حق اليقين.

[٥٢] (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) (٥٢) ، أي : نزهه عما لا يليق بجلاله ، وقدّسه بذكر أوصاف جلاله ، وجماله ، وكماله. تم تفسير سورة الحاقة ـ والحمد لله رب العالمين.

١٠٦٤

سورة المعارج

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٣] يقول تعالى ـ مبينا جهل المعاندين ، واستعجالهم لعذاب الله ، استهزاء وتعنتا وتعجيزا : (سَأَلَ سائِلٌ) ، أي : دعا داع ، واستفتح مستفتح (بِعَذابٍ واقِعٍ (١) لِلْكافِرينَ) لاستحقاقهم له بكفرهم وعنادهم (لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (٢) مِنَ اللهِ) ، أي : ليس لهذا العذاب ، الذي استعجل به من استعجل ، من متمردي المشركين ، أحد يدفعه قبل نزوله ، أو يرفعه بعد نزوله. وهذا حين دعا النضر بن الحارث القرشي أو غيره من المكذبين ، فقال : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك ، فأمطر علينا حجارة من السماء ، أو ائتنا بعذاب أليم. فالعذاب لا بد أن يقع عليهم من الله ، فإما أن يعجل لهم في الدنيا ، وإما أن يدخر لهم في الآخرة. فلو عرفوا الله ، وعرفوا عظمته ، وسعة سلطانه ، وكمال أسمائه وصفاته ، لما استعجلوا ولا ستسلموا وتأدبوا ، ولهذا ذكر تعالى من عظمته ، ما يضاد أقوالهم القبيحة ، فقال : (ذِي الْمَعارِجِ).

[٤] (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ) ، أي : ذو العلو والجلال ، والعظمة ، والتدبير لسائر الخلق ، الذي تعرج إليه الملائكة ، بما جعلها على تدبيره ، وتعرج إليه الروح. وهذا اسم جنس ، يشمل الأرواح كلها ، برّها وفاجرها ، وهذا عند الوفاة. فأما الأبرار ، فتعرج أرواحهم إلى الله ، فيؤذن لها من سماء إلى سماء ، حتى تنتهي إلى السماء التي فيها الله عزوجل ربها ، فتحيّي وتسلم عليه ، وتحظى بقربه ، وتبتهج بالدنو منه ، ويحصل لها منه الثناء والإكرام ، والبر والإعظام. وأما أرواح الفجار ، فتعرج ، فإذا وصلت إلى السماء ، استأذنت فلا يؤذن لها ، وأعيدت إلى الأرض. ثمّ ذكر المسافة الّتي تعرج فيها الملائكة والروح إلى الله ، وأنها تعرج في يوم بما يسر لها من الأسباب ، وأعانها عليه من اللطافة والخفة ، وسرعة السير. مع أن تلك المسافة على السير المعتاد ، مقدار خمسين ألف سنة ، من ابتداء العروج إلى بلوغها ، ما حدّ لها ، وما تنتهي إليه من الملأ الأعلى. فهذا الملك العظيم ، والعالم الكبير ، علويه وسفليه ، جميعه قد تولى خلقه وتدبيره ، العلي الأعلى. فعلم أحوالهم الظاهرة والباطنة ، ومستقرهم ومستودعهم ، وأوصلهم من رحمته وبره وإحسانه ، ما عمهم وشملهم ، وأجرى عليهم حكمه القدري وحكمه الشرعي ، وحكمه الجزائي. فبؤسا لأقوام جهلوا عظمته ، ولم يقدروه حق قدره ، فاستعجلوا بالعذاب على وجه التعجيز والامتحان. وسبحان الحليم الذي أمهلهم وما أهملهم ، وآذوه فصبر عليهم ، وعافاهم ورزقهم. هذا أحد الاحتمالات في تفسير هذه الآية الكريمة ، فيكون هذا العروج والصعود في الدنيا ، لأن السياق الأول يدل عليه. ويحتمل أن هذا في يوم القيامة ، وأن الله تعالى يظهر لعباده في يوم القيامة ، من عظمته وجلاله وكبريائه ، ما هو أكبر دليل على معرفته ، مما يشاهدونه من عروج الأملاك والأرواح ، صاعدة ونازلة ، بالتدابير الإلهية ، والشؤون الربانية. (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) من طوله وشدته ، لكن الله تعالى ، يخففه على المؤمن.

[٥] وقوله : (فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً) (٥) ، أي : اصبر على

١٠٦٥

دعوتك لقومك ، صبرا جميلا ، لا تضجر فيه ولا ملل ، بل استمر على أمر الله ، وادع عباده إلى توحيده ، ولا يمنعك عنهم ما ترى من عدم انقيادهم ، وعدم رغبتهم ، فإن في الصبر على ذلك خيرا كثيرا.

[٦ ـ ٧] (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (٦) وَنَراهُ قَرِيباً) (٧) الضمير يعود إلى البعث ، الذي فيه عذاب السائلين بالعذاب ، أي : إن حالهم ، حال المنكر له ، والذي غلبت عليه الشقوة والسكرة ، حتى تباعد جميع ما أمامه ، من البعث والنشور. والله يراه قريبا ، لأنه رفيق حليم لا يعجل ، ويعلم أنه لا بد أن يكون ، وما هو آت ، فهو قريب.

[٨] ثمّ ذكر أهوال ذلك اليوم وما فيه ، فقال : (يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ) إلى : (فَأَوْعى). أي : (يَوْمَ) القيامة ، الذي تقع فيه هذه الأمور العظيمة (تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ) وهو الرصاص المذاب ، من تشققها ، وبلوغ الهول منها كلّ مبلغ.

[٩] (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ) (٩) وهو الصوف المنفوش ، ثمّ تكون بعد ذلك هباء منثورا ، فتضمحل. فإذا كان هذا الانزعاج والقلق لهذه الأجرام الكبيرة الشديدة ، فما ظنك بالعبد الضعيف ، الذي قد أثقل ظهره بالذنوب والأوزار؟ أليس حقيقا أن ينخلع قلبه ولبه ، ويذهل عن كلّ أحد؟ ولهذا قال :

[١٠] (وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (١٠) يُبَصَّرُونَهُمْ) ، أي : يشاهد الحميم ، وهو : القريب حميمه ، فلا يبقى في قلبه متسع لسؤاله عن حاله ، ولا فيما يتعلق بعشرتهم ومحبتهم ، ولا يهمه إلّا نفسه. (يَوَدُّ الْمُجْرِمُ) الذي حق عليه العذاب (لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ).

[١٢] (وَصاحِبَتِهِ) ، أي : زوجته (وَأَخِيهِ).

[١٣] (وَفَصِيلَتِهِ) أي : قرابته (الَّتِي تُؤْوِيهِ) ، أي : الّتي جرت عادتها في الدنيا أن تتناصر ، ويعين بعضها بعضا. ففي القيامة لا ينفع أحد أحدا ، ولا يشفع أحد إلّا بإذن الله.

[١٤] بل لو يفتدي المجرم المستحق للعذاب بكل من يعرفه (وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ) (١٤) ذلك ، لم ينفعه.

[١٥] (كَلَّا) ، أي : لا حيلة ولا مناصر لهم ، قد حقت عليهم كلمة ربك ، وذهب نفع الأقارب والأصدقاء. (إِنَّها لَظى).

[١٦] (نَزَّاعَةً لِلشَّوى) (١٦) ، أي : النار الّتي تتلظى ، تنزع من شدتها للأعضاء الظاهرة والباطنة.

[١٧] (تَدْعُوا) إلى نفسها (مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى).

[١٨] (وَجَمَعَ فَأَوْعى) (١٨) ، أي : أدبر عن اتباع الحقّ ، وأعرض عنه ، فلا غرض له فيه ، وجمع الأموال بعضها فوق بعض ، وأوعاها فلم ينفق منها ما ينفعه ، ويدفع عنه النار ، فالنار تدعو هؤلاء إلى نفسها ، وتستعد للالتهاب بهم.

[١٩] وهذا الوصف للإنسان من حيث هو ، وصف طبيعته ، أنه هلوع.

[٢٠] وفسر الهلوع بقوله : (إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً) (٢٠) فيجزع إن أصابه فقر أو مرض ، أو ذهاب محبوب له ، من مال أو أهل أو أولد ، ولا يستعمل في ذلك الصبر والرضا بما قضى الله.

[٢١] (وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) (٢١) ، فلا ينفق مما آتاه الله ، ولا يشكر الله على نعمه وبره ، فيجزع في الضراء ، ويمنع في السراء.

[٢٢] (إِلَّا الْمُصَلِّينَ) (٢٢) الموصوفين بتلك الأوصاف ، فإنهم إذا مسهم الخير ، شكروا الله وأنفقوا مما خولهم ، وإذا مسهم الشر صبروا واحتسبوا.

[٢٣] وقوله في وصفهم : (الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ) (٢٣) ، أي : مداومون عليها في أوقاتها بشروطها ومكملاتها. وليسوا كمن لا يفعلها ، أو

١٠٦٦

يفعلها وقتا دون وقت ، أو يفعلها على وجه ناقص.

[٢٤] (وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ) (٢٤) من زكاة وصدقة (لِلسَّائِلِ) الذي يتعرض للسؤال ، (وَالْمَحْرُومِ) وهو : المسكين الذي لا يسأل الناس فيعطوه ، ولا يفطن له فيتصدق عليه.

[٢٦] (وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) (٢٦) ، أي : يؤمنون بما أخبر به الله ، وأخبرت به الرسل ، من الجزاء والبعث ، ويتيقنون ذلك ، فيستعدون للآخرة ، ويسعون لها سعيها. والتصديق بيوم الدين ، يلزم منه التصديق بالرسل ، وبما جاءوا به من الكتب.

[٢٧] (وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) (٢٧) ، أي : خائفون وجلون ، فيتركون لذلك كلّ ما يقربهم من عذاب الله.

[٢٨] (إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ) (٢٨) ، أي : هو العذاب الذي يخشى ويحذر.

[٢٩] (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ) (٢٩) فلا يطأون بها وطئا محرما ، من زنا ، أو لواط ، أو وطء في دبر ، أو حيض ، ونحو ذلك. ويحفظونها أيضا من النظر إليها ومسها ، ممن لا يجوز له ذلك ، ويتركون أيضا وسائل المحرمات الداعية لفعل الفاحشة.

[٣٠] (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) ، أي : سرياتهم (فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) في وطئهن ، في المحل الذي هو محل الحرث.

[٣١] (فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ) ، أي : غير الزوجة ، وملك اليمين ، (فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) ، أي : المتجاوزون ما أحل الله إلى ما حرم الله. ودلت هذه الآية على تحريم نكاح المتعة ، لكونها غير زوجة مقصودة ، ولا ملك يمين.

[٣٢] (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ) (٣٢) ، أي : مراعون لها ، حافظون مجتهدون على أدائها ، والوفاء بها. وهذا شامل لجميع الأمانات الّتي بين العبد وبين ربه ، كالتكاليف السرية الّتي لا يطلع عليها إلّا الله ، والأمانات الّتي بين العبد وبين الخلق ، في الأموال والأسرار. وكذلك العهد ، شامل للعهد الذي عاهد عليه الله ، والعهد الذي عاهد الخلق عليه ، فإن العهد يسأل عنه العبد ، هل قام به ووفاه ، أم رفضه وخانه ، فلم يقم به؟

[٣٣] (وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ) (٣٣) ، أي : لا يشهدون إلّا بما يعلمونه ، من غير زيادة ولا نقص ، ولا كتمان ، ولا يحابي فيها قريبا ولا صديقا ونحوه ، ويكون القصد بإقامتها ، وجه الله. قال تعالى : (وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ) ، (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ).

[٣٤] (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) (٣٤) بالمداومة عليها على أكمل الوجوه.

[٣٥] (أُولئِكَ) ، أي : الموصوفون بتلك الصفات (فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ) ، أي : قد أوصل الله لهم من الكرامة والنعيم المقيم ، ما تشتهيه الأنفس ، وتلذ الأعين ، وهم فيها خالدون. وحاصل هذا ، أن الله وصف أهل السعادة والخير بهذه الأوصاف الكاملة ، والأخلاق المرضية الفاضلة ، من العبادات البدنية ، كالصلاة ، والمداومة عليها ، والأعمال القلبية كخشية الله الداعية لكل خير ، والعبادات المالية ، والعقائد النافعة ، والأخلاق الفاضلة ، ومعاملة الله ، ومعاملة خلقه ، أحسن معاملة : من إنصافهم ، وحفظ حقوقهم وأماناتهم ، والعفة التامة بحفظ الفروج ، عما يكرهه الله تعالى.

[٣٦] يقول تعالى ، مبينا اغترار الكافرين : (فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ) (٣٦) ، أي : مسرعين.

[٣٧] (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ) (٣٧) أي : قطعا متفرقة وجماعات متنوعة ، كل منهم بما لديه فرح.

[٣٨] (أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ

١٠٦٧

يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ) (٣٨) أيّ سبب أطمعهم ، وهم لم يقدموا سوى الكفر والجحود لرب العالمين ، ولهذا قال :

[٣٩] (كَلَّا) ، أي : ليس الأمر بأمانيهم ، ولا إدراك ما يشتهون بقوتهم. (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ) ، أي : من ماء دافق ، يخرج من بين الصلب والترائب ، فهم ضعفاء ، لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ، ولا موتا ولا حياة ، ولا نشورا.

[٤٠] هذا إقسام منه تعالى بالمشارق والمغارب ، للشمس والقمر والكواكب ، لما فيها من الآيات الباهرات على البعث ، وقدرته على تبديل أمثالهم ، وهم بأعيانهم ، كما قال تعالى : (وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ). (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) ، أي : ما أحد يسبقنا ويفوتنا ويعجزنا إذا أردنا أن نعيده ، فإذا تقرر البعث والجزاء ، واستمروا على تكذيبهم ، وعدم انقيادهم لآيات الله.

[٤٢] (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا) ، أي : يخوضوا بالأقوال الباطلة ، والعقائد الفاسدة ، ويلعبوا بدينهم ، ويأكلوا ويشربوا ، ويتمتعوا (حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) ، فإن الله قد أعد لهم فيه من النكال والوبال ، ما هو عاقبة خوضهم ولعبهم. ثمّ ذكر حال الخلق حين يلاقون اليوم الذي يوعدون ، فقال :

[٤٣] (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ) ، أي : القبور (سِراعاً) مجيبين لدعوة الداعي ، مهطعين إليها. (كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ) ، أي : كأنهم إلى علم يؤمون ويقصدون ، فلا يتمكنون من الاستعصاء على الداعي ، ولا الالتواء عن نداء المنادي ، بل يأتون أذلاء مقهورين ، بين يدي رب العالمين.

[٤٤] (خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) وذلك أن الذلة والقلق ، قد ملك قلوبهم ، واستولى على أفئدتهم ، فخشعت منهم الأبصار ، وسكنت الحركات ، وانقطعت الأصوات. (ذلِكَ) الحال والمآل ، هو (الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) ولا بد من الوفاء بوعد الله. تم تفسير سورة المعارج ـ الحمد.

سورة نوح

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] لم يذكر الله في هذه السورة ، إلا قصة نوح وحدها لطول لبثه في قومه ، وتكرار دعوته إلى التوحيد ، ونهيه عن الشرك. فأخبر تعالى أنه أرسل نوحا إلى قومه ، رحمة بهم وإنذارا من عذاب أليم ، خوفا من استمرارهم على كفرهم ، فيهلكهم هلاكا أبديا ، ويعذبهم عذابا سرمديا.

[٢] فامتثل نوح عليه‌السلام لذلك ، وابتدر لأمر الله ، فقال : (يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) ، أي : واضح النذارة بيّنها ، وذلك لتوضيحه ما أنذر به ، وما أنذر عنه ، وبأي شيء تحصل النجاة ، بيّن ذلك بيانا شافيا.

[٣ ـ ٤] فأخبرهم وأمرهم بأصل ذلك ، فقال : (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ) وذلك بإفراده تعالى بالعبادة والتوحيد ،

١٠٦٨

والبعد عن الشرك وطرقه ، ووسائله ، فإنهم إذا اتقوا الله ، غفر ذنوبهم ، وإذا غفر ذنوبهم حصل لهم النجاة من العذاب ، والفوز بالثواب. (وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) ، أي : يمتعكم في هذه الدار ، ويدفع عنكم الهلاك إلى أجل مسمى ، أي : مقدر البقاء في الدنيا ، بقضاء الله وقدره ، إلى وقت محدود ، وليس المتاع أبدا ، فإن الموت لا بد منه ، ولهذا قال : (إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) كما كفرتم بالله ، وعاندتم الحقّ ، فلم يجيبوا لدعوته ، ولا انقادوا لأمره ، فقال شاكيا لربه :

[٥ ـ ٦] (رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً) (٦) ، أي : نفورا عن الحقّ وإعراضا ، فلم يبق لذلك فائدة ، لأن فائدة الدعوة أن يحصل جميع المقصود أو بعضه.

[٧] (وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ) ، أي : لأجل أن يستجيبوا ، فإذا استجابوا ، غفرت لهم ، وهذا محض مصلحتهم ، ولكن أبوا ، إلا تماديا على باطلهم ، ونفورا عن الحقّ. (جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) حذر سماع ما يقول لهم نبيهم نوح عليه‌السلام. (وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ) ، أي : تغطوا بها غطاء يغشاهم ، بعدا عن الحقّ ، وبغضا له. (وَأَصَرُّوا) على كفرهم وشرهم (وَاسْتَكْبَرُوا) على الحقّ (اسْتِكْباراً) ، فشرّهم ازداد ، وخيرهم بعد.

[٨] (ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً) (٨) ، أي : بمسمع منهم كلهم.

[٩] (ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً) (٩) ، كل هذا حرص ونصح ، وإتيانهم بكل طريق يظن به حصول المقصود.

[١٠] (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) ، أي : اتركوا ما أنتم عليه من الذنوب ، واستغفروا الله منها. (إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً) كثير المغفرة لمن تاب واستغفر ، فرغبهم بمغفرة الذنوب ، وما يترتب عليها من الثواب ، واندفاع العقاب.

[١١] ورغّبهم أيضا بخير الدنيا العاجل ، فقال : (يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً) (١١) ، أي : مطرا متتابعا ، يروي الشعاب والوهاد ، ويحيي البلاد والعباد.

[١٢] (وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ) ، أي : يكثر أموالكم ، الّتي تدركون بها ما تطلبون من الدنيا ، وأولادكم. (وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً) وهذا من أبلغ ما يكون من لذات الدنيا ومطالبها.

[١٣] (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً) (١٣) ، أي : لا تخافون لله عظمة ، وليس له عندكم قدر.

[١٤] (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً) (١٤) ، أي : خلقا من بعد خلق ، في بطن الأم ، ثمّ في الرضاع ، ثمّ في سن الطفولة ، ثمّ التمييز ، ثمّ الشباب. ثمّ إلى آخر ما يصل إليه الخلق ، فالذي انفرد بالخلق والتدبير البديع ، متعين أن يفرد بالعبادة والتوحيد. وفي ذكر ابتداء خلقهم تنبيه لهم على المعاد ، وأن الذي أنشأهم من العدم قادر على أن يعيدهم بعد موتهم.

[١٥] واستدل أيضا بخلق السماوات ، الّتي هي أكبر من خلق الناس ، فقال : (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً) (١٥) ، أي : كل سماء فوق الأخرى.

[١٦] (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً) لأهل الأرض (وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً). ففيه تنبيه على عظم خلق هذه الأشياء ، وكثرة المنافع في الشمس والقمر الدالة على رحمة الله وسعة إحسانه ، فالعظيم الرحيم ، يستحق أن يعظم ويحب ويخاف ويرجى.

[١٧] (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) (١٧) حين خلق أباكم آدم وأنتم في صلبه.

[١٨] (ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها) عند الموت (وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً) للبعث والنشور ، فهو الذي يملك الحياة والموت

١٠٦٩

والنشور.

[١٩] (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً) (١٩) ، أي :

مبسوصة مهيأة للانتفاع بها.

[٢٠] (لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً) (٢٠) فلو لا أنه بسطها ، لما أمكن ذلك ، بل ولا أمكنهم حرثها وغرسها ، وزرعها ، والبناء والسكون على ظهرها.

[٢١] (قالَ نُوحٌ) شاكيا لربه : إن هذا الكلام والوعظ والتذكير ، ما نجع فيهم ولا أفاد. (رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي) فيما أمرتهم به (وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً) ، أي : عصوا الرسول الناصح الدال على الخير ، واتبعوا الملأ والأشراف الّذين لم تزدهم أموالهم ولا أولادهم إلّا خسارا ، أي : هلاكا وتفويتا للأرباح ، فكيف بمن انقاد لهم وأطاعهم؟

[٢٢] (وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً) (٢٢) ، أي : مكرا كبيرا بليغا في معاندة الحقّ.

[٢٣] (وَقالُوا) لهم داعين إلى الشرك مزينين (لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ) فدعوهم إلى التعصب على ما هم عليه من الشرك ، وأن لا يدعوا ما عليه آباؤهم الأقدمون. ثمّ عينوا آلهتهم ، فقالوا : (وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً). وهذه أسماء رجال صالحين ، لما ماتوا ، زين الشيطان لقومهم أن يصوروا صورهم ، لينشطوا ـ بزعمهم ـ على الطاعة ، إذ رأوها. ثمّ طال الأمد ، وجاء غير أولئك فقال لهم الشيطان : إن أسلافكم كانوا يعبدونهم ، ويتوسلون بهم ، وبهم يسقون المطر ، فعبدوهم. ولهذا وصى رؤساؤهم للتابعين لهم ، أن لا يدعوا عبادة هذه الأصنام.

[٢٤] (وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً) ، أي : أضل الكبار والرؤساء بدعوتهم ، كثيرا من الخلق. (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالاً) ، أي : لو كان ضلالهم عند دعوتي إياهم للحق ، لكان مصلحة ، ولكن لا يزيدون بدعوة الرؤساء إلا ضلالا ، أي : فلم يبق محل لنجاحهم وصلاحهم ، ولهذا ذكر الله عذابهم وعقوبتهم الدنيوية والأخروية ، فقال :

[٢٥] (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا) في اليم الذي أحاط بهم (فَأُدْخِلُوا ناراً) ، فذهبت أجسادهم في الغرق ، وأرواحهم للنار والحرق. وهذا كله بسبب خطيئاتهم ، الّتي أتاهم نبيهم ينذرهم عنها ، ويخبرهم بشؤمها وسوء مغبتها ، فرفضوا ما قال ، حتى حل بهم النكال. (فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً) ينصرونهم حين نزل بهم الأمر ، ولا أحد يقدر على أن يعارض القضاء والقدر.

[٢٦] (وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) (٢٦) يدور على وجه الأرض.

[٢٧] وذكر السبب ، فقال : (إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) (٢٧) ، أي : بقاؤهم مفسدة محضة ، لهم ولغيرهم. وإنّما قال نوح ذلك ، لأنه مع كثرة مخالطته إياهم ، ومزاولته لأخلاقهم ، علم بذلك ، نتيجة أعمالهم ، فلهذا استجاب الله له دعوته ، فأغرقهم أجمعين ، ونجى نوحا ومن معه من المؤمنين.

[٢٨] (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً) خص المذكورين لتأكد حقهم وتقديم برهم ، ثمّ عمم الدعاء ، فقال : (وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً) ، أي : خسارا ، ودمارا وهلاكا. تم تفسير سورة نوح ـ والحمد.

١٠٧٠

سورة الجن

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] أي : (قُلْ) يا أيها الرسول للناس (أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ) صرفهم الله إلى رسوله ، لسماع آياته ، لتقوم عليهم الحجة ، وتتم عليهم النعمة ، ويكونوا منذرين لقومهم. وأمر رسوله ، أن يقص نبأهم على الناس ، وذلك : أنهم لما حضروه ، قالوا : أنصتوا ، فلما أنصتوا ، فهموا معانيه ، ووصلت حقائقه إلى قلوبهم. (فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً) ، أي : من العجائب الغالية ، والمطالب العالية.

[٢] (يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ) ، والرشد : اسم جامع لكل ما يرشد الناس إلى مصالح دينهم ودنياهم. (فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً) فجمعوا بين الإيمان ، الذي يدخل فيه جميع أعمال الخير ، وبين التقوى ، المتضمنة لترك الشر. ويجعلوا السبب الداعي لهم إلى الإيمان وتوابعه ، ما علموه من إرشادات القرآن ، وما اشتمل عليه من المصالح والفوائد ، واجتناب المضار ، فإن ذلك آية عظيمة ، وحجة قاطعة ، لمن استنار به ، واهتدى بهديه. وهذا هو الإيمان النافع ، المثمر لكل خير ، المبني على هداية القرآن ، بخلاف إيمان العوائد ، والمربى ، والإلف ونحو ذلك ، فإنه إيمان تقليد تحت خطر الشبهات والعوارض الكثيرة.

[٣] (وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا) ، أي : تعالت عظمته وتقدست أسماؤه. (مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً) فعلموا من جد الله وعظمته ، ما دلهم على بطلان من يزعم أن له صاحبة أو ولدا ، لأن له العظمة والجلال في كلّ صفة كمال. واتخاذ الصاحبة والولد ينافي ذلك ، لأنه يضاد كمال الغنى.

[٤] (وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللهِ شَطَطاً) (٤) ، أي : قولا جائرا عن الصواب ، متعديا للحد ، وما حمله على ذلك ، إلا سفهه ، وضعف عقله ، وإلّا فلو كان رزينا مطمئنا ، لعرف كيف يقول :

[٥] (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً) (٥) ، أي : كنا مغترين قبل ذلك ، غرتنا السادة والرؤساء من الجن والإنس ، فأحسنا بهم الظن ، وحسبناهم لا يتجرأون على الكذب على الله ، فلذلك كنا قبل ذلك على طريقهم. فاليوم إذ بان لنا الحقّ ، سلكنا طريقه ، وانقدنا له ، ولم نبال بقول أحد من الخلق ، يعارض الهدى.

[٦] (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً) (٦) أي : كان الإنس يعوذون بالجن ، عند المخاوف والأفزاع ويعبدونهم ، فزاد الإنس الجن رهقا ، أي : طغيانا وتكبرا ، لما رأوا الإنس يعبدونهم ، ويستعيذون بهم. ويحتمل أن الضمير وهو «الواو» يرجع إلى الجن ، أي : زاد الجن الإنس ذعرا وتخويفا لما رأوهم يستعيذون بهم ، ليلجئوهم إلى الاستعاذة بهم ، والتمسك بما هم عليه ، فكان الإنسي إذا نزل بواد مخوف ، قال : «أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه».

[٧] (وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً) (٧) ، أي : فلما أنكروا البعث ، أقدموا على الشرك والطغيان.

[٨] (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ) ، أي : أتيناها واختبرناها ، (فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً) عن الوصول إلى أرجائها ،

١٠٧١

والدنو منها. (وَشُهُباً) يرمى بها من استرق السمع ، وهذا مخالف لعادتنا الأولى ، فإنا كنا نتمكن من الوصول إلى خبر السماء.

[٩] (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ) فنتلقف من أخبار السماء ما شاء الله. (فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً) ، أي : مرصدا له ، معدا لإتلافه وإحراقه ، أي : وهذا له شأن عظيم ، ونبأ جسيم.

[١٠] وجزموا أن الله تعالى ، أراد أن يحدث في الأرض حادثا كبيرا ، من خير أو شر ، فلهذا قالوا : (وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً) (١٠) ، أي : لا بد من هذا أو هذا ، لأنهم رأوا الأمر تغير عليهم تغيرا أنكروه ، فعرفوا بفطنتهم ، أن هذا الأمر يريده الله ، ويحدثه في الأرض. وفي هذا بيان لأدبهم ، إذ أضافوا الخير إلى الله تعالى ، والشر حذفوا فاعله تأدبا.

[١١] (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ) ، أي : فساق وفجار وكفار. (كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً) ، أي : فرقا متنوعة ، وأهواء متفرقة ، كل حزب بما لديهم فرحون.

[١٢] (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً) (١٢) ، أي : وأنا في وقتنا الآن تبين لنا كمال قدرة الله ، وكمال عجزنا ، وأن نواصينا بيد الله ، فلن نعجزه في الأرض ، ولن نعجزه إن هربنا ، وسعينا بأسباب الفرار والخروج عن قدرته ، لا ملجأ منه ، إلا إليه.

[١٣] (وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى) وهو القرآن الكريم ، الهادي إلى الصراط المستقيم ، وعرفنا هدايته وإرشاده ، أثّر في قلوبنا و (آمَنَّا بِهِ). ثمّ ذكروا ما يرغب المؤمن فقالوا : (فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً) ، أي : من آمن به إيمانا صادقا ، فلا عليه نقص ، ولا أذى يلحقه ، وإذا سلم من الشر ، حصل له الخير ، فالإيمان سبب داع إلى كل خير ، وانتفاء كلّ شر.

[١٤] (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ) ، أي : الجائرون ، العادلون ، عن الصراط المستقيم. (فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً) ، أي : أصابوا طريق الرشد ، الموصل لهم إلى الجنة ونعيمها.

[١٥] (وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً) (١٥) وذلك جزاء على أعمالهم ، لا ظلم من الله لهم.

[١٦] (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ) المثلى (لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً) ، أي : هنيئا مريئا ، ولم يمنعهم من ذلك ، إلا ظلمهم وعدوانهم.

[١٧] (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) ، أي : لنختبرهم ونمتحنهم ليظهر الصادق من الكاذب. (وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً) ، أي : من أعرض عن ذكر الله ، الذي هو كتابه ، فلم يتبعه ، وينقد له ، بل لها عنه وغفل ، يسلكه عذابا صعدا ، أي : بليغا شديدا.

[١٨] (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) (١٨) ، أي : لا دعاء عبادة ، ولا دعاء مسألة ، فإن المساجد ، الّتي هي أعظم محالّ للعبادة ، مبنية على الإخلاص لله ، والخضوع لعظمته ، والاستكانة لعزته.

[١٩] (وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ) ، أي : يسأله ويتعبد له ، ويقرأ القرآن. (كادُوا) ، أي : الجن من تكاثرهم عليه (يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً) ، أي : متلبدين متراكمين ، حرصا على ما جاء به من الهدى.

[٢٠] (قُلْ) لهم يا أيها الرسول ، مبينا حقيقة ما تدعو إليه : (إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً) ، أي : أوحده ، وحده لا شريك له ، وأخلع ما دونه من الأنداد والأوثان ، وكلّ ما يتخذه المشركون من دونه.

[٢١] (قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً) (٢١) ، فإني

١٠٧٢

عبد ليس لي من الأمر والتصرف شيء.

[٢٢] (قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ) أي : لا أحد أستجير به ينقذني من عذاب الله. وإذا كان الرسول الذي هو أكمل الخلق ، لا يملك ضرا ولا رشدا ، ولا يمنع نفسه من الله شيئا ، إن أراده بسوء ، فغيره من الخلق ، من باب أولى وأحرى. (وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) ، أي : ملجأ ومنتصرا

[٢٣] (إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللهِ وَرِسالاتِهِ) ، أي : ليس لي مزية على الناس ، إلا أن الله خصني بإبلاغ رسالاته ودعوة خلقه إليه ، وبذلك تقوم الحجة على الناس. (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) ، وهذا المراد به المعصية الكفرية ، كما قيدتها النصوص الأخر المحكمة. وأما مجرد المعصية ، فإنه لا يوجب الخلود في النار ، كما دلت على ذلك آيات القرآن ، والأحاديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأجمع عليه سلف الأمة ، وأئمة هذه الآمة.

[٢٤] (حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ) ، أي : شاهدوه عيانا ، وجزموا أنه واقع بهم. (فَسَيَعْلَمُونَ) في ذلك الوقت حقيقة المعرفة (مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً) حين لا ينصرهم غيرهم ، ولا أنفسهم ينتصرون ، وإذ يحشرون فرادى كما خلقوا أول مرة.

[٢٥] (قُلْ) لهم إن سألوك فقالوا : (مَتى هذَا الْوَعْدُ)؟ (إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً) ، أي : غاية طويلة ، فعلم ذلك ، عند الله.

[٢٦] (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً) (٢٦) من الخلق ، بل انفرد بعلم الضمائر والأسرار ، والغيوب.

[٢٧] (إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) ، أي : فإنه يخبره بما اقتضت حكمته ، أن يخبره به. وذلك لأن الرسل ، ليسوا كغيرهم ، فإن الله أيدهم بتأييد ما أيده أحدا من الخلق ، وحفظ ما أوحاه إليهم حتى يبلغوه على حقيقته ، من غير أن تقربه الشياطين ، فيزيدوا فيه أو ينقصوا ، ولهذا قال : (فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً) ، أي : يحفظونه بأمر الله.

[٢٨] (لِيَعْلَمَ) بذلك (أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ) بما جعله لهم من الأسباب. (وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ) ، أي : بما عندهم ، وما أسروه وما أعلنوه. (وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً). وفي هذه السورة فوائد عديدة : منها : وجود الجن ، وأنهم مأمورون منهيون ، ومجازون بأعمالهم ، كما هو صريح في هذه السورة. ومنها : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مبعوث إلى الجن ، كما هو مبعوث إلى الإنس ، فإن الله صرف نفرا من الجن ، ليستمعوا ما يوحى إليه ، ويبلغوا قومهم. ومنها : ذكاء الجن ، ومعرفتهم بالحق ، وأن الذي ساقهم إلى الإيمان هو ما تحققوه من هداية القرآن ، وحسن أدبهم في خطابهم. ومنها : اعتناء الله برسوله ، وحفظه لما جاء به. فحين ابتدأت بشائر نبوته ، والسماء محروسة بالنجوم ، والشياطين قد هربت من أماكنها ، وأزعجت عن مراصدها ، وأن الله رحم به أهل الأرض رحمة ما يقدر لها قدر ، وأراد بهم ربهم رشدا ، فأراد أن يظهر من دينه وشرعه ، ومعرفته في الأرض ، ما تبتهج به القلوب ، وتفرح به أولو الألباب ، وتظهر به شعائر الإسلام ، وينقمع به أهل الأوثان والأصنام. ومنها : شدة حرص الجن على استماعهم للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتراكمهم عليه. ومنها : أن هذه السورة ، قد اشتملت على الأمر بالتوحيد والنهي عن

١٠٧٣

الشرك ، وبينت حالة الخلق ، وأن كلّ أحد منهم لا يستحق من العبادة مثقال ذرة ؛ لأن الرسول محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إذا كان لا يملك لأحد نفعا ولا ضرا ، بل ولا يملك لنفسه ، علم أن الخلق كلهم كذلك ، فمن الخطأ والظلم اتخاذ من هذا وصفه إلها آخر. ومنها : أن علوم الغيوب قد انفرد الله بعلمها ، فلا يعلمها أحد من الخلق ، إلا من ارتضاه واختصه بعلم شيء منها. تم تفسير سورة الجن ـ والحمد لله رب العالمين.

تفسير سورة المزمل

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] المزمل : المتغطي بثيابه كالمدثر ، وهذا الوصف ، حصل من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حين أكرمه الله برسالته ، وابتدأه بإنزال وحيه بإرسال جبريل إليه ، فرأى أمرا لم ير مثله ، ولا يقدر على الثبات عليه إلا المرسلون ، فاعتراه عند ذلك انزعاج ، حين رأى جبريل عليه‌السلام ، فأتى إلى أهله فقال : «زملوني زملوني» وهو ترعد فرائصه. ثمّ جاءه جبريل ، فقال : «اقرأ» ، فقال : «ما أنا بقارئ» ، فغطه حتى بلغ منه الجهد ، وهو يعالجه على القراءة ، فقرأ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ثمّ ألقى الله عليه الثبات ، وتابع عليه الوحي ، حتى بلغ مبلغا ما بلغه أحد من المرسلين. فسبحان الله ، ما أعظم التفاوت بين ابتداء نبوته ونهايتها ، ولهذا خاطبه الله بهذا الوصف ، الذي وجد منه أول أمره. فأمره هنا بالعبادات المتعلقة به ، ثمّ أمره بالصبر على أذية قومه ، ثمّ أمره بالصدع بأمره ، وإعلان دعوتهم إلى الله.

[٢] فأمره هنا بأشرف العبادات ، وهي الصلاة ، وبآكد الأوقات وأفضلها ، وهو قيام الليل. ومن رحمته به ، أنه لم يأمره بقيام الليل كله ، بل قال : (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً) (٢).

[٣] ثمّ قدر ذلك ، فقال : (نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ) ، أي : من النصف (قَلِيلاً) بأن يكون الثلث ونحوه

[٤] (أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) ، أي : على النصف ، فيكون نحو الثلثين. (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) فإن ترتيل القرآن به يحصل التدبر والتفكر ، وتحريك القلوب به ، والتعبد بآياته ، والتهيؤ والاستعداد التام له.

[٥] فإنه قال : (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) (٥) ، أي : نوحي إليك هذا القرآن الثقيل ، أي : العظيمة معانيه ، الجليلة أوصافه ، وما كان بهذا الوصف ، حقيق أن يتهيأ له ، ويرتل ، ويتفكر فيما يشتمل عليه. ثمّ ذكر الحكمة في أمره بقيام الليل ، فقال :

[٦] (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ) ، أي : الصلاة فيه بعد النوم (هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً) ، أي : أقرب إلى حصول مقصود القرآن ، يتواطأ عليه القلب واللسان ، وتقل الشواغل ، ويفهم ما يقول ، ويستقيم له أمره. وهذا بخلاف النهار ، فإنه لا تحصل به هذه المقاصد ، ولهذا قال :

[٧] (إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً) (٧) ، أي : ترددا في حوائجك ومعاشك ، يوجب اشتغال القلب ، وعدم تفرغه التفرغ التام.

[٨] (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ) شامل لأنواع الذكر كلها (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) ، أي : انقطع إليه ، فإن الانقطاع إلى الله ، والإنابة إليه ، هو الانفصال بالقلب عن الخلائق ، والاتصاف بمحبة الله ، وما يقرب إليه ، ويدني من رضاه.

[٩] (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) وهذا اسم جنس ، يشمل المشارق والمغارب كلها ، فهو تعالى رب المشارق والمغارب ، وما يكون فيها من الأنوار ، وما هي مصلحة له من العالم العلوي والسفلي ، فهو رب كلّ شيء ، وخالقه ، ومدبره. (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) ، أي : لا معبود إلا وجهه الأعلى ، الذي يستحق أن يخص بالمحبة والتعظيم ، والإجلال والتكريم ، ولهذا قال : (فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً) ، أي : حافظا ومدبرا لأمورك كلها.

[١٠] فلما أمره الله بالصلاة خصوصا ، وبالذكر عموما ، وبذلك تحصل للعبد ملكة قوية ، في تحمل الأثقال ، وفعل الشاق من الأعمال ، أمره بالصبر ، على ما يقوله

١٠٧٤

المعاندون له ويسبونه ، ويسبون ما جاء به ، وأن يمضي على أمر الله ، لا يصده عنه صاد ، ولا يرده راد ، وأن يهجرهم هجرا جميلا ، وهو الهجر ، حيث اقتضت المصلحة الهجر ، الذي لا أذية فيه ، بل يعاملهم بالهجر والإعراض عن أقوالهم الّتي تؤذيه ، وأمره بجدالهم بالتي هي أحسن.

[١١] (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ) ، أي : اتركني وإياهم ، فسأنتقم منهم ، وإن أمهلتهم ، فلا أهملهم. وقوله : (أُولِي النَّعْمَةِ) ، أي : أصحاب النعمة والغنى ، الّذين طغوا حين وسع الله عليهم من رزقه ، وأمدهم من فضله كما قال تعالى : (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) (٧).

[١٢] ثمّ توعدهم بما عنده من العقاب ، فقال : (إِنَّ لَدَيْنا) إلى (فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ). أي : إن عندنا (أَنْكالاً) ، أي : عذابا شديدا ، جعلناه تنكيلا للذي لا يزال مستمرا على ما يغضب الله. (وَجَحِيماً) ، أي : نارا حامية

[١٣] (وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ) وذلك لمرارته وبشاعته ، وكراهة طعمه وريحه الخبيث المنتن. (وَعَذاباً أَلِيماً) ، أي : موجعا مفظعا ، وذلك

[١٤] (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ) من الهول العظيم. (وَكانَتِ الْجِبالُ) الراسيات الصم الصلاب (كَثِيباً مَهِيلاً) ، أي : بمنزله الرمل المنهال المنتثر ، ثمّ إنها تبس بعد ذلك ، فتكون كالهباء المنثور.

[١٥] يقول تعالى : احمدوا ربكم ، على إرساله هذا النبي الأمي العربي البشير النذير ، الشاهد على الأمة بأعمالهم ، واشكروه ، وقوموا بهذه النعمة الجليلة.

[١٦] وإياكم أن تكفروا ، فتعصوا رسولكم ، فتكونوا كفرعون ، حين أرسل الله إليه موسى بن عمران ، فدعاه إلى الله ، وأمره بالتوحيد ، فلم يصدقه ، بل عصاه ، فأخذه الله أخذا وبيلا ، أي : شديدا بليغا.

[١٧ ـ ١٨] أي : فكيف يحصل لكم الفكاك والنجاة يوم القيامة ، اليوم المهول أمره ، العظيم خطره ، الذي يشيب الولدان ، وتذوب له الجمادات العظام ، فتتفطر السماء وتنتثر نجومها (كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً) ، أي : لا بد من قوعه ، ولا حائل دونه.

[١٩] أي : إن هذه الموعظة الّتي نبأ الله بها من أحوال يوم القيامة وأهوالها تذكرة يتذكر بها المتقون ، وينزجر بها المؤمنون. (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) ، أي : طريقا موصلا إليه ، وذلك باتباع شرعه ، فإنه قد أبانه كلّ البيان ، وأوضحه غاية الإيضاح. وفي هذا دليل على أن الله تعالى أقدر العباد على أفعالهم ، ومكّنهم منها ، لا كما يقوله الجبرية : إن أفعالهم تقع بغير مشيئتهم ، فإن هذا خلاف النقل والعقل.

[٢٠] ذكر الله في أول هذه السورة أنه أمر رسوله بقيام نصف الليل ، وثلثيه ، أو ثلثه ، والأصل أن أمته أسوة له في الأحكام. وذكر في هذا الموضع ، أنه امتثل ذلك ، هو وطائفة معه من المؤمنين. ولما كان تحرير الوقت المأمور به ، مشقة على الناس ، أخبر أنه سهل عليهم في ذلك غاية التسهيل ، فقال : (وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) ، أي : يعلم مقاديرهما ، وما يمضي ، ويبقى منهما. (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) ، أي : لن تعرفوا مقداره من غير زيادة ولا نقص ، لكون ذلك يستدعي انتباها ، وعناء زائدا. (فَتابَ عَلَيْكُمْ) ، أي : فخفف عنكم ، وأمركم بما تيسر عليكم ، سواء زاد على

١٠٧٥

المقدر ، أو نقص. (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) ، أي : مما تعرفون ، ولا يشق عليكم ، ولهذا كان المصلي بالليل ، مأمورا بالصلاة ، ما دام نشيطا ، فإذا فتر ، أو كسل ، أو نعس ، فليسترح ، ليأتي الصلاة بطمأنينة وراحة. ثمّ ذكر بعض الأسباب المناسبة للتخفيف ، فقال : (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى) يشق عليهم صلاة نصف الليل ، أو ثلثيه ، أو ثلثه ، فليصل المريض ، ما يسهل عليه ، ولا يكون أيضا مأمورا بالصلاة قائما ، عند مشقة ذلك ، بل لو شقت عليه الصلاة النافلة ، فله تركها وله أجر ما كان يعمل صحيحا. (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ) ، أي : وعلم أن منكم مسافرين ، يسافرون للتجارة ، ليستغنوا عن الخلق ، ويتكففوا عنهم ، أي : فالمسافر ، حاله تناسب التخفيف ، ولهذا خفف عنه في صلاة الفرض ، فأبيح له جمع الصلاتين في وقت واحد ، وقصر الصلاة الرباعية. (وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ) ، فذكر تعالى تخفيفين ، تخفيفا للصحيح المقيم ، يراعي فيه نشاطه ، من غير أن يكلف عليه تحرير الوقت ، بل يتحرى الصلاة الفاضلة ، وهي ثلث الليل بعد نصفه الأول. وتخفيفا للمريض والمسافر ، سواء كان سفره للتجارة ، أو لعبادة ، من جهاد ، أو حج ، أو غيره ، فإنه يراعي ما لا يكلفه. فلله الحمد والثناء ، حيث لم يجعل علينا في الدين من حرج ، بل سهل شرعه ، وراعى أحوال عباده ، ومصالح دينهم ، وأبدانهم ودنياهم. ثمّ أمر العباد بعبادتين ، هما أم العبادات وعمادها : إقامة الصلاة ، الّتي لا يستقيم الدين إلا بها ، وإيتاء الزكاة الّتي هي برهان الإيمان ، وبها تحصل المواساة للفقراء والمساكين ، فقال : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) ، أي : بأركانها وحدودها ، وشروطها ، وجميع مكملاتها. (وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً) ، أي : خالصا لوجه الله ، بنية صادقة ، وتثبيت من النفس ، ومال طيب ، ويدخل في هذا ، الصدقة الواجبة والمستحبة. ثمّ حث على عموم الخير ، وأفعاله ، فقال : (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً) ، الحسنة بعشر أمثالها ، إلى سبعمائة ضعف ، إلى أضعاف كثيرة. وليعلم أن مثقال ذرة في هذه الدار من الخير ، يقابله أضعاف أضعاف الدنيا ، وما عليها في دار النعيم المقيم ، من اللذات والشهوات. وإن الخير والبر في هذه الدنيا ، مادة الخير والبر في دار القرار ، وبذره وأصله وأساسه ، فوا أسفاه على أوقات مضت في الغفلات ، ووا حسرتاه على أزمان انقضت في غير الأعمال الصالحات ، ووا غوثاه من قلوب لم يؤثر فيها وعظ بارئها ، ولم ينجع فيها تشويق من هو أرحم بها من نفسها. فلك اللهم الحمد ، وإليك المشتكى ، وبك المستغاث ، ولا حول ولا قوة إلا بك. (وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وفي الأمر بالاستغفار ، بعد الحث على أفعال الطاعة والخير ، فائدة كبيرة. وذلك أن العبد لا يخلو من التقصير فيما أمر به ، إما أن لا يفعله أصلا أو يفعله على وجه ناقص. فأمر بترقيع ذلك بالاستغفار ، فإن العبد يذنب آناء الليل ، والنهار ، فمتى لم يتغمده الله برحمته ، ومغفرته ، فإنه هالك. تم تفسير سورة المزمل ـ والحمد.

١٠٧٦

سورة المدثر

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] تقدم أن المزمل والمدثر بمعنى واحد ، وأن الله أمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بالاجتهاد في عبادات الله القاصرة والمتعدية ، فتقدم هناك ، الأمر له بالعبادات الفاضلة والقاصرة ، والصبر على أذى قومه. وأمره هنا بالإعلان بالدعوة ، والصدع بالإنذار ، فقال :

[٢] (قُمْ) ، أي : بجد ونشاط (فَأَنْذِرْ) الناس ، بالأقوال والأفعال الّتي يحصل بها المقصود ، وبيان حال المنذر عنه ، ليكون ذلك أدعى لتركه.

[٣] (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) (٣) ، أي : عظمه بالتوحيد ، واجعل قصدك في إنذارك وجه الله ، وأن يعظمه العباد ويقوموا بعبادته.

[٤] (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) (٤) يحتمل أن المراد بالثياب ، أعماله كلها ، وبتطهيرها تخليصها والنصح بها ، وإيقاعها على أكمل الوجوه ، وتنقيتها عن المبطلات والمفسدات ، والمنقصات من شر ورياء ، ونفاق ، وعجب وتكبر وغفلة ، وغير ذلك ، مما يؤمر العبد باجتنابه في عباداته. ويدخل في ذلك تطهير الثياب من النجاسة ، فإن ذلك من تمام التطهير للأعمال خصوصا في الصلاة ، الّتي قال كثير من العلماء : إن إزالة النجاسة عنها ، شرط من شروطها : ـ أي : من شروط صحتها ـ. ويحتمل أن المراد بثيابه ، الثياب المعروفة ، وأنه مأمور بتطهيرها عن جميع النجاسات ، في جميع الأوقات ، خصوصا عند الدخول في الصلوات ، وإذا كان مأمورا بطهارة الظاهر ، فإن طهارة الظاهر ، من تمام طهارة الباطن.

[٥] (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) (٥) يحتمل أن المراد بالرجز : الأصنام ، والأوثان ، الّتي عبدت مع الله ، فأمره بتركها والبراءة منها ، ومما نسب إليها ، من قول أو عمل. ويحتمل أن المراد بالرجز : أعمال الشر كلها ، وأقواله ، فيكون أمرا له بترك الذنوب ، صغارها وكبارها ، ظاهرها وباطنها ، فيدخل في هذا الشرك فما دونه.

[٦] (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) (٦) ، أي : لا تمنن على الناس ، بما أسديت إليهم من النعم الدينية والدنيوية ، فتستكثر بتلك المنة ، وترى الفضل عليهم. بل أحسن إلى الناس ، مهما أمكنك ، وانس عندهم إحسانك ، واطلب أجرك من الله تعالى ، واجعل من أحسنت إليه وغيره ، على حد سواء. وقد قيل : إن معنى هذا ، ألا تعطي أحدا شيئا ، وأنت تريد أن يكافئك عليه بأكثر منه ، فيكون هذا خاصا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

[٧] (وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) (٧) ، أي : احتسب بصبرك ، واقصد به وجه الله تعالى. فامتثل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأمر ربه ، وبادر فيه ، فأنذر الناس ، وأوضح لهم بالآيات البينات ، جميع المطالب الإلهية. وعظم الله تعالى ، ودعا الخلق إلى تعظيمه ، وطهر أعماله الظاهرة والباطنة من كلّ سوء. وهجر كلّ ما يعبد من دون الله ، وما يعبد معه من الأصنام وأهلها ، والشر وأهله. وله المنة على الناس ـ بعد منة الله ـ من غير أن يطلب عليهم بذلك جزاء ولا شكورا. وصبر لربه أكمل صبر ، فصبر على طاعة الله ، وعن معاصيه ، وصبر على أقداره المؤلمة ، حتى فاق أولي العزم من المرسلين ، صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين.

[٨] أي : فإذا نفخ في الصور للقيام من القبور ، وجمع الخلائق للبعث والنشور.

[٩] (فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ) (٩)

١٠٧٧

لكثرة أهواله وشدائده.

[١٠] (عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ) (١٠) لأنهم قد أيسوا من كلّ خير ، وأيقنوا بالهلاك والبوار. ومفهوم ذلك أنه على المؤمنين يسير ، كما قال تعالى : (يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ).

[١١] هذه الآيات ، نزلت في الوليد بن المغيرة ، المعاند للحق ، المبارز لله ولرسوله بالمحاربة والمشاقة ، فذمه الله ذما ، لم يذم به غيره ، وهذا جزاء كلّ من عاند الحقّ ، ونابذه ، أن له الخزي في الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى ، فقال : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) (١١) ، أي : خلقته منفردا ، بلا مال ، ولا أهل ، ولا عشيرة ، فلم أزل أربيه وأعطيه.

[١٢] (وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً) (١٢) أي : كثيرا (وَ) جعلت له (بَنِينَ) ، أي : ذكورا (شُهُوداً) ، أي : حاضرين عنده على الدوام ، يتمتع بهم ، ويقضي بهم حوائجه ، ويستنصر بهم.

[١٤] (وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً) (١٤) ، أي : مكنته من الدنيا وأسبابها ، حتى انقادت له مطالبه ، وحصل له ما يشتهي ويريد.

[١٥] (ثُمَ) مع هذه النعم والإمدادات (يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ) ، أي : يطمع أن ينال نعيم الآخرة ، كما نال نعيم الدنيا.

[١٦] (كَلَّا) ، أي : ليس الأمر كما طمع ، بل هو بخلاف مقصوده ومطلوبه. وذلك (إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً) عرفها ، ثمّ أنكرها ، ودعته إلى الحقّ ، فلم ينقد لها. ولم يكفه أنه أعرض عنها وتولى ، بل جعل يحاربها ، ويسعى في إبطالها ، ولهذا قال عنه :

[١٨] (إِنَّهُ فَكَّرَ) ، أي : في نفسه ، (وَقَدَّرَ) ما فكر فيه ، ليقول قولا ، يبطل به القرآن.

[١٩ ـ ٢٠] (فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (١٩) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) (٢٠) لأنه قدر أمرا ، ليس في طوره ، وتسوّر على ما لا يناله ، هو ولا أمثاله.

[٢١] (ثُمَّ نَظَرَ) (٢١) ما يقول ،

[٢٢] (ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ) (٢٢) في وجهه ، وظاهره نفرة عن الحقّ ، وبغضا له.

[٢٣] (ثُمَّ أَدْبَرَ) ، أي : تولى (وَاسْتَكْبَرَ) نتيجة سعيه الفكري ، والعملي والقولي.

[٢٤ ـ ٢٥] (فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (٢٤) إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) (٢٥) ، أي : ما هذا كلام الله ، بل كلام البشر ، وليس أيضا كلام البشر الأخيار ، بل كلام الأشرار منهم ، والفجار ، من كلّ كاذب سحار. فتبّا له ، ما أبعده من الصواب ، وأحراه بالخسارة والتبات!! كيف يدور في الأذهان ، أو يتصور ضمير أي إنسان ، أن يكون أعلى الكلام وأعظمه ، كلام الرب الكريم ، الماجد العظيم ، يشبه كلام المخلوقين الفقراء الناقصين؟ أم كيف يتجرأ هذا الكاذب العنيد ، على وصفه بهذا الوصف لكلام الله تعالى؟ فما حقه إلا العذاب الشديد ، ولهذا قال تعالى :

[٢٦ ـ ٢٨] (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (٢٦) وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (٢٧) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ) (٢٨) ، أي : لا تبقي من الشدة ، ولا على المعذب شيئا ، إلا وبلغته.

[٢٩] (لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ) (٢٩) ، أي : تلوحهم وتصليهم في عذابها ، وتقلقهم بشدة حرها وقرّها.

[٣٠] (عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) (٣٠) من الملائكة خزنة لها ، غلاظ شداد ، لا يعصون الله ما أمرهم ، ويفعلون ما يؤمرون.

[٣١] (وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً) وذلك لشدتهم وقوتهم. (وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) ، يحتمل أن المراد : إلا لعذابهم وعقابهم في الآخرة ، ولزيادة نكالهم فيها ، والعذاب ، يسمى فتنة ، كما قال تعالى : (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) (١٣). ويحتمل أن المراد : أنا ما أخبرناكم بعدتهم ، إلا لنعلم من يصدق ممن يكذّب ، ويدل على هذا ، ما

١٠٧٨

ذكره بعده في قوله : (لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً) ، فإن أهل الكتاب ، إذا وافق ما عندهم وطابقه ، ازداد يقينهم بالحق ، والمؤمنون كلما أنزل الله آية ، فآمنوا بها ، وصدقوا ، ازداد إيمانهم. (وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ) ، أي : ليزول عنهم الريب والشك. وهذه مقاصد جليلة ، يعتني بها أولو الألباب ، وهي : السعي في اليقين ، وزيادة الإيمان في كلّ وقت ، وكلّ مسألة من مسائل الدين ، ودفع الشكوك والأوهام ، التي تعرض في مقابلة الحقّ ، فجعل ما أنزله على رسوله ، محصلا لهذه المقاصد الجليلة ، ومميزا للصادقين من الكاذبين. ولهذا قال : (وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) ، أي : شك وشبهة ونفاق. (وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) وهذا على وجه الحيرة والشك منهم ، والكفر بآيات الله ، وهذا وذاك ، من هداية الله لمن يهديه ، وإضلاله لمن يضله ، ولهذا قال : (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) فمن هداه الله ، جعل ما أنزل على رسوله رحمة في حقه ، وزيادة في إيمانه ودينه. ومن أضله ، جعل ما أنزله على رسوله ، زيادة شقاء عليه وحيرة ، وظلمه في حقه ، والواجب أن يتلقى ما أخبر الله به ورسوله بالتسليم. (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ) من الملائكة وغيرهم (إِلَّا هُوَ) فإذا كنتم جاهلين بجنوده ، وأخبركم بها العليم الخبير ، فعليكم أن تصدقوا خبره ، من غير شك ولا ارتياب. (وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ) ، أي : وما هذه الموعظة والتذكار ، مقصودا به العبث واللعب ، وإنما المقصود به ، أن يتذكر به البشر ما ينفعهم فيفعلونه ، وما يضرهم فيتركونه.

[٣٢] (كَلَّا) هنا بمعنى : حقا ، أو بمعنى «ألا» الاستفتاحية. فأقسم تعالى بالقمر ، وبالليل وقت إدباره ، والنهار وقت إسفاره ، لاشتمال المذكورات ، على آيات الله العظيمة ، الدالة على كمال قدره الله وحكمته ، وسعة سلطانه ، وعموم رحمته وإحاطة علمه. والمقسم عليه ، قوله :

[٣٥] (إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ) (٣٥) ، أي : إن النار لإحدى العظائم الطامة والأمور الهامة. فإذا أعلمناكم بها ، وكنتم على بصيرة ، من أمرها ، فمن شاء منكم أن يتقدم ، فيعمل بما يقربه إلى الله ، ويدنيه من رضاه ، ويزلفه من دار كرامته. أو يتأخر عما خلق له ، وعما يحبه الله ويرضاه ، فيعمل بالمعاصي ، ويتقرب إلى جهنم ، كما قال تعالى : (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) الآية.

[٣٨] (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) من أفعال الشر وأعمال السوء ، (رَهِينَةٌ) بها موثقة بسعيها ، قد ألزم عنقها ، وغل في رقبتها ، واستوجبت به العذاب.

[٣٩] (إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ) (٣٩) فإنهم لم يرتهنوا ، بل أطلقوا وفرحوا.

[٤٠] (فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (٤٠) عَنِ الْمُجْرِمِينَ) (٤١) ، أي : في جنات قد حصل لهم فيها جميع مطلوباتهم ، وتمت لهم الراحة والطمأنينة ، حتى أقبلوا يتساءلون ، فأفضت بهم المحادثة ، أن سألوا عن المجرمين : أي حال وصلوا إليها ، وهل وجدوا ما وعدهم الله؟ فقال بعضهم لبعض : «هل أنتم مطلعون عليهم» ، فاطلعوا عليهم في وسط الجحيم ، يعذبون ، فقالوا لهم :

[٤٢] (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) (٤٢) ، أي : أيّ شيء أدخلكم فيها؟ وبأي ذنب استحققتموها؟

[٤٣ ـ ٤٤] (قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (٤٣) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ) (٤٤) فلا إخلاص للمعبود ولا إحسان ، ولا نفع للخلق المحتاجين.

[٤٥] (وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ) (٤٥) ، أي : نخوض بالباطل ، ونجادل به الحقّ.

[٤٦] (وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ) (٤٦) ، هذه آثار الخوض بالباطل ، وهو التكذيب بالحق ، ومن أحق الحقّ ، يوم الدين ، الذي هو محل الجزاء على الأعمال ، وظهور ملك الله وحكمه العدل لسائر الخلق.

[٤٧] فاستمر عملنا على هذا المذهب الباطل (حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ) (٤٧) ، أي : الموت : فلما ماتوا على الكفر تعذرت حينئذ عليهم الحيل ، وانسدّ في وجوههم باب الأمل.

[٤٨] (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) (٤٨) لأنهم لا يشفعون إلا لمن ارتضى ، وهؤلاء لا يرضى الله أعمالهم.

[٤٩] فلما بين الله مآل المخالفين ، وبين ما يفعل بهم ، عطف على الموجودين بالعتاب واللوم ، فقال : (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) (٤٩) ، أي : صادين غافلين عنها.

[٥٠] (كَأَنَّهُمْ) في نفرتهم الشديدة منها ، (حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ) ،

١٠٧٩

أي : حمر وحش ، نفرت فنفر بعضها بعضا ، فزاد عدوها.

[٥١] (فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) (٥١) ، أي : من صائد ورام يريدها ، أو من أسد ونحوه. وهذا من أعظم ما يكون من النفور عن الحقّ ، ومع هذا النفور والإعراض ، يدعون الدعاوى الكبار.

[٥٢] (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً) نازلة عليه من السماء ، يزعم أنه لا ينقاد للحق إلا بذلك ، وقد كذبوا ، فإنهم لو جاءتهم كلّ آية لم يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ، لأنهم جاءتهم الآيات البينات التي تبين الحقّ وتوضحه ، فلو كان فيهم خير لآمنوا.

[٥٣] ولهذا قال : (كَلَّا) ، أي : لا نعطيهم ما طلبوا ، وهم ما قصدوا بذلك إلا التعجيز. (بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ) فلو كانوا يخافونها ، لما جرى منهم ما جرى.

[٥٤] (كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ) (٥٤) الضمير إما أن يعود على هذه السورة ، أو على ما اشتملت عليه من هذه الموعظة.

[٥٥] (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) (٥٥) لأنه قد بين له السبيل ، ووضع له الدليل.

[٥٦] (وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) فإن مشيئة الله ، نافذة عامة ، لا يخرج عنها حادث قليل ولا كثير ، ففيها رد على القدرية ، الّذين لا يدخلون أفعال العباد تحت مشيئة الله ، والجبرية الّذين يزعمون أنه ليس للعبد مشيئة ، ولا فعل حقيقة ، وإنما هو مجبور على أفعاله. فأثبت الله تعالى للعبد مشيئته حقيقة وفعلا ، وجعل ذلك تابعا لمشيئته. (هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) ، أي : هو أهل أن يتقى ويعبد ، لأنه الإله الذي لا تنبغي العبادة إلا له ، وأهل أن يغفر لمن اتقاه ، واتبع رضاه. تم تفسير سورة المدثر ـ ولله الحمد والمنة.

تفسير سورة القيامة

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] ليست «لا» هاهنا نافية ولا زائدة ، وإنما أتى بها للاستفتاح والاهتمام بما بعدها ، ولكثرة الإتيان بها مع اليمين ، لا يستغرب الاستفتاح بها ، وإن لم تكن في الأصل موضوعة للاستفتاح. فالمقسم به في هذا الموضع ، هو المقسم عليه ، وهو : البعث بعد الموت ، وقيام الناس من قبورهم ، ثمّ وقوفهم ينتظرون ما يحكم به الرب عليهم.

[٢] (وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) (٢) وهي جميع النفوس الخيرة والفاجرة ، سمّيت «لوّامة» لكثيرة تلونها وترددها ، وعدم ثبوتها على حالة من أحوالها ، ولأنها عند الموت تلوم صاحبها على ما فعلت ، بل نفس المؤمن تلوم صاحبها في الدنيا ، على ما حصل منه ، من تفريط وتقصير ، في حق من الحقوق ، أو غفلة. فجمع بين الإقسام بالجزاء ، وعلى الجزاء ، وبين مستحق الجزاء. ثمّ أخبر مع هذا ، أن بعض المعاندين يكذبون بيوم القيامة ، فقال :

[٣] (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ) (٣) بعد الموت ، كما قال : (قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ)؟ فاستبعد من

١٠٨٠