تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنّان

الشيخ أبي عبدالله عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر آل سعدي

تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنّان

المؤلف:

الشيخ أبي عبدالله عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر آل سعدي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ١١٣٥

مقدمة المؤلف

الحمد لله الذي أنزل على عبده الفرقان الفارق بين الحلال والحرام ، والسعداء والأشقياء ، والحق والباطل.

وجعله ـ برحمته ـ هدى للناس عموما ، وللمتقين خصوصا ـ من ضلال الكفر ، والمعاصي والجهل ، إلى نور الإيمان والتقوى والعلم.

وأنزله شفاء للصدور ، من أمراض الشبهات والشهوات ، ويحصل به اليقين والعلم ، في المطالب العاليات ، وشفاء للأبدان من أمراضها ، وعللها ، وآلامها ، وأسقامها.

وأخبر أنه لا ريب فيه ، ولا شك ، بوجه من الوجوه ، وذلك لاشتماله على الحق العظيم ، في أخباره ، وأوامره ، ونواهيه.

وأنزله مباركا ، فيه الخير الكثير ، والعلم الغزير ، والأسرار البديعة ، والمطالب الرفيعة. فكل بركة وسعادة تنال في الدنيا والآخرة ، فسببها الاهتداء به واتباعه.

وأخبر أنه مصدق ومهيمن ، على الكتب السابقة. فما شهد له ، فهو الحق ، وما رده فهو المردود لأنه تضمنها وزاد عليها. وقال تعالى فيه : (يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ).

فهو هاد لدار السلام ، مبين لطريق الوصول إليها ، وحاث عليها ، كاشف عن الطريق الموصلة إلى دار الآلام ومحذر عنها. وقال تعالى مخبرا عنه : (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ).

فبين آياته أكمل تبيين ، وأتقنها أي إتقان ، وفصلها بتمييز الحق من الباطل ، والرشد من الضلال ، تفصيلا كاشفا للبس ، لكونه صادرا من حكيم خبير.

فلا يخبر إلا بالصدق والحق واليقين ، ولا يأمر إلا بالعدل والإحسان والبر. ولا ينهى إلا عن المضار الدينية والدنيوية.

وأقسم تعالى بالقرآن ، ووصفه بأنه «مجيد» والمجيد : سعة الأوصاف وعظمتها ، وذلك لسعة معاني القرآن وعظمتها. ووصفه بأنه «ذو الذكر» أي : يتذكر به العلوم الإلهية والأخلاق الجميلة والأعمال الصالحة ، ويتعظ به من يخشى.

وقال تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢)) ، وأنزله بهذا اللسان لنعقله ونفهمه ، وأمرنا بتدبره ، والتفكر فيه ، والاستنباط لعلومه. وما ذاك إلا لأن تدبره مفتاح كل خير ، محصل للعلوم والأسرار. فلله الحمد والشكر والثناء ، على أن جعل كتابه هدى وشفاء ورحمة ونورا ، وتبصرة وتذكرة ، وعبرة وبركة ، وهدى وبشرى للمسلمين.

فإذا علم هذا ، علم افتقار كل مكلف لمعرفة معانيه والاهتداء بها.

وكان حقيقا بالعبد أن يبذل جهده ، ويستفرغ وسعه في تعلمه وتفهمه بأقرب الطرق الموصلة إلى ذلك.

وقد كثرت تفاسير الأئمة ، رحمهم‌الله ، لكتاب الله. فمن مطول خارج في أكثر بحوثه عن المقصود ،

٢١

ومن مختصر ، يقتصر على بعض الألفاظ اللغوية ، بقطع النظر عن المراد.

وكان الذي ينبغي في ذلك ، أن يجعل المعنى ، هو المقصود ، واللفظ وسيلة إليه. فينظر في سياق الكلام ، وما سيق لأجله ، ويقابل بينه وبين نظيره ، في موضع آخر ؛ ويعرف أنه سيق لهداية الخلق كلهم ، عالمهم وجاهلهم ، حضريّهم وبدويهم.

فالنظر لسياق الآيات ، مع العلم بأحوال الرسول وسيرته مع أصحابه وأعدائه ، وقت نزوله ، من أعظم ما يعين على معرفته ، وفهم المراد منه. خصوصا إذا انضم إلى ذلك ، معرفة علوم العربية ، على اختلاف أنواعها.

فمن وفق لذلك ، لم يبق عليه إلا الإقبال على تدبره وتفهمه وكثرة التفكر في ألفاظه ومعانيه ، ولوازمها ، وما تتضمنه ، وما تدل عليه ، منطوقا ومفهوما. فإذا بذل وسعه في ذلك ، فالرب أكرم من عبده ، فلا بد أن يفتح عليه من علومه ، أمورا لا تدخل تحت كسبه.

ولما منّ الباري عليّ وعلى إخواني ، بالاشتغال بكتابه العزيز بحسب الحال اللائقة بنا ، أحببت أن أرسم من تفسير كتاب الله ، ما تيسر ، وما منّ به الله علينا ، ليكون تذكرة للمحصلين ، وآلة للمستبصرين ، ومعونة للسالكين ، ولأقيده (١) خوف الضياع.

ولم يكن قصدي في ذلك ، إلّا أن يكون المعنى ، هو المقصود. ولم أشتغل في حل الألفاظ والعقود ، للمعنى الذي ذكرت. ولأن المفسرين قد كفوا من بعدهم ، فجزاهم الله عن المسلمين خيرا.

والله أرجو ، وعليه أعتمد ، أن ييسر ما قصدت ، ويذلل ما أردت ، فإنه ، إن لم ييسر الله ، فلا سبيل إلى حصوله ، وإن لم يعن عليه ، فلا طريق إلى نيل العبد مأموله.

وأسأله تعالى ، أن يجعله خالصا لوجهه الكريم ، وأن ينفع به النفع العميم ، إنه جواد كريم. اللهم صل على محمد.

تنبيه

اعلم أن طريقتي في هذا التفسير أني أذكر عند كل آية ما يحضرني من معانيها ، ولا أكتفي بذكر ما تعلق بالمواضع السابقة عن ذكر ما تعلق بالمواضع اللاحقة ، لأن الله وصف هذا الكتاب أنه «مثاني» تثنى فيه الأخبار والقصص والأحكام وجميع المواضيع النافعة لحكم عظيمة ، وأمر بتدبره جميعه لما في ذلك من زيادة العلوم والمعارف ، وصلاح الظاهر والباطن ، وإصلاح الأمور كلها.

__________________

(١) كذا في الأصل والصواب أن يقال : «وقيدته».

٢٢

أصول وكليّات

من أصول التفسير وكليّاته

لا يستغني عنها المفسر للقرآن

النكرة في سياق النفي ، أو سياق النهي ، والاستفهام ، أو سياق الشرط ، تعم ، وكذلك المفرد المضاف ، يعم. وأمثلة ذلك كثيرة.

فمتى وجدت نكرة واقعة بعد المذكورات ، أو وجدت مفردة مضافة إلى معرفة ، فأثبت جميع ما دخل في ذلك اللفظ ، ولا تعتبر سبب النزول وحده ، فإن «العبرة بعموم اللفظ ، لا بخصوص السبب».

وينبغي أن تنزل جميع الحوادث والأفعال الواقعة ، والتي لا تزال تحدث ، على العمومات القرآنية ، فبذلك تعرف أن القرآن ، تبيان لكل شيء ، وأنه لا يحدث حادث ، ولا يستجد أمر من الأمور ، إلا وفي القرآن بيانه وتوضيحه.

ومن أصوله أن الألف واللام ، الداخلة على الأوصاف (١) ، وعلى أسماء الأجناس ، تفيد استغراق جميع ما دخلت عليه من المعاني.

ومن كليات القرآن ، أن تدعو إلى توحيد الله ، ومعرفته ، بذكر أسماء الله ، وأوصافه ، وأفعاله الدالة على تفرده بالوحدانية ، وأوصاف الكمال ، وإلى أنه الحق ، وعبادته هي الحق ، وأن ما يدعون من دونه ، هو الباطل. ويبين نقص كل ما عبد من دون الله من جميع الوجوه.

ويدعو إلى صحة ما جاء به الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وصدقه ، ببيان إحكامه ، وتمامه ، وصدق إخباراته كلها ، وحسن أحكامه. ويبين ما كان عليه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، من الكمال البشري ، الذي لا يلحقه فيه أحد ، من الأولين والآخرين. ويتحداهم بأن يأتوا بمثل ما جاء به إن كانوا صادقين.

ويقرر ذلك بشهادته تعالى ، بقوله ، وفعله ، وإقراره إياه ، وتصديقه له ، بالحجة والبرهان ، وبالنصر والظهور ، وبشهادة أهل العلم المنصفين. ويقابل بين ما جاء به من الحق ، في أخباره ، وأحكامه ، وبين ما كان عليه أعداؤه ، والمكذبون به. من الكذب في أخبارهم ، والباطل في أحكامهم ، كما يقرر ذلك ، بالمعجزات المتنوعة.

ويقرر الله المعاد ، بذكر كمال قدرته ، وخلقه للسموات والأرض ، اللتين هما أكبر من خلق الناس ، وبأن الذي بدأ الخلق ، قادر على إعادته ، من باب أولى ، وبأن الذي أحيا الأرض بعد موتها ، قادر على إحياء الموتى.

ويذكر أيضا أيامه في الأمم ، ووقوع المثلات ، التي شاهدها الناس في الدنيا ، وأنها نموذج من جزاء الآخرة.

__________________

(١) قوله : «الأوصاف» المراد منها الأسماء المشتقّة كاسم الفاعل واسم المفعول ونحوهما.

٢٣

ويدعو جميع المبطلين ، من الكفار والمشركين ، والملحدين ، بذكر محاسن الدين ، وأنه يهدي للتي هي أقوم ، في عقائده ، وأخلاقه ، وأعماله ، وبيان ما لله من العظمة والربوبية ، والنعم العظيمة. وأن من تفرد بالكمال المطلق ، والنعم كلها ، هو الذي لا تصلح العبادة إلا له ، وأن ما عليه المبطلون ، إذ ميز وحقق ، وجد شرا وباطلا ، وعواقبه وخيمة.

ومن أصول التفسير ، إذا فهمت ما دلت عليه الآيات الكريمة ، من المعاني ، مطابقة ، وتضمنا. فاعلم أن لوازم هذه المعاني ، وما لا تتم إلا به ، وشروطها وتوابعها ، تابعة لذلك المعنى ، فما لا يتم الخبر إلا به ، فهو تابع للخبر ، وما لا يتم الحكم إلا به ، فهو تابع للحكم ، وأن الآيات التي يفهم منها التعارض والتناقض ، ليس فيها تناقض ولا تعارض ، بل يجب حمل كل منها ، على الحالة المناسبة اللائقة بها. وأن حذف المتعلقات ، من مفعولات وغيرها ، يدل على تعميم المعنى ، لأن هذا من أعظم فوائد الحذف ، وأنه لا يجوز حذف ما لا يدل عليه السياق اللفظي ، والقرينة الحالية. كما أن الأحكام المقيدة ، بشروط أو صفات ، تدل على أن تلك القيود لا بد منها في ثبوت الحكم.

إذا أمر الله بشيء ، كان ناهيا عن ضده ، وإذا نهى عن شيء ، كان آمرا بضده ، وإذا أثنى على نفسه ؛ بنفي شيء من النقائص ؛ كان إثباتا للكمال المنافي لذلك النقص. وكذلك إذا أثنى على رسله وأوليائه ؛ ونزههم عن شيء من النقائص فهو مدح لهم بما يضاد ذلك النقص. ومثله ؛ نفي النقائص ، عن دار النعيم ؛ يدل على إثبات ضد ذلك.

ومن الكليات ؛ أنه إذا وضح الحق وظهر ظهورا جليا ؛ لم يبق للمجادلات العلمية ؛ والمعارضات العملية محل ؛ بل تبطل المعارضات ؛ وتضمحل المجادلات.

ما نفاه القرآن ؛ فإما أن يكون غير موجود ؛ أو أنه موجود ؛ ولكنه غير مفيد ولا نافع.

الموهوم ؛ لا يدفع المعلوم ، والمجهول ؛ لا يعارض المحقق ؛ وما بعد الحق إلا الضلال.

ذكر الله في القرآن ؛ الإيمان والعمل الصالح في مواضع كثيرة ؛ ورتب عليهما من الجزاء العاجل والآجل ، والآثار الحميدة ، شيئا كثيرا ، فالإيمان هو : التصديق الجازم ، بما أمر الله ورسوله بالتصديق به ، المتضمن لأعمال الجوارح.

والعمل الصالح هو : القيام بحقوق الله ، وحقوق عباده ، وكذلك أمر الله بالتقوى ، ومدح المتقين ، ورتب على التقوى حصول الخيرات ، وزوال المكروهات. والتقوى الكاملة ، امتثال أمر الله ، وأمر رسوله ، واجتناب نهيهما وتصديق خبرهما.

وإذا جمع الله بين التقوى والبر ونحوه ؛ كانت التقوى اسما لتوقي جميع المعاصي ، والبر ، اسما لفعل الخيرات. وإذا أفرد أحدهما ، دخل فيه الآخر.

وذكر الله الهدى المطلوب في مواضع كثيرة ، وأثنى على المهتدي وأخبر أن الهدى بيده ، وأمرنا بطلبه منه ، وبالسعي في كل سبب يحصل الهدى ، وذلك شامل لهداية العلم والعمل.

فالمهتدي ، من عرف الحق ، وعمل به ، وضده الغي والضلال ، فمن عرف الحق ولم يعمل به ، فهو الغاوي ، ومن جهل الحق ، فهو الضال.

أمر الله بالإحسان ، وأثنى على المحسنين ، وذكر ثوابهم المتنوع ، في آيات كثيرة. وحقيقة الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه ، فإنه يراك ، وأن تبذل ما تستطيعه من النفع المالي ، والبدني ، والقولي ،

٢٤

إلى المخلوقين :

وأمر بالإصلاح وأثنى على المصلحين وأخبر أنه لا يضيع ثوابهم وأجرهم.

والإصلاح هو : أن تسعى في إصلاح عقائد الناس وأخلاقهم ، وجميع أحوالهم ، بحيث تكون على غاية ما يمكن من الصلاح ، وأيضا يشمل إصلاح الأمور الدينية ، والأمور الدنيوية ، وإصلاح الأفراد والجماعات ، وضد هذا ، الفساد.

والإفساد ، قد نهى عنه ، وذم المفسدين ، وذكر عقوباتهم المتعددة ، وأخبر أنه لا يصلح أعمالهم الدينية والدنيوية.

أثنى الله على اليقين ، وعلى الموقنين ، وأنهم ، هم المنتفعون بالآيات القرآنية ، والآيات الأفقية.

واليقين أخص من العلم ، فهو : العلم الراسخ ، المثمر للعمل والطمأنينة.

أمر الله بالصبر ، وأثنى على الصابرين ، وذكر جزاءهم العاجل والآجل في عدة آيات ، نحو تسعين موضعا ، وهو يشمل أنواعه الثلاثة. الصبر على طاعة الله ، حتى يؤديها كاملة من جميع الوجوه ، والصبر على محارم الله حتى ينهى نفسه الأمارة بالسوء عنها. والصبر على أقدار الله المؤلمة ، فيتلقاها بصبر وتسليم ، غير متسخط في قلبه ، ولا بدنه ، ولا لسانه.

وكذلك أثنى الله على الشكر ، وذكر ثواب الشاكرين ، وأخبر أنهم أرفع الخلق في الدنيا والآخرة.

وحقيقة الشكر هو : الاعتراف بجميع نعم الله ، والثناء على الله بها ، والاستعانة بها على طاعة المنعم.

وذكر الله الخوف والخشية ، في مواضع كثيرة. أمر به ، وأثنى على أهله ، وذكر ثوابهم ، وأنهم المنتفعون بالآيات ، التاركون للمحرمات.

وحقيقة الخوف والخشية ، أن يخاف العبد مقامه بين يدي الله ، ومقامه عليه. فينهى نفسه بهذا الخوف ، عن كل ما حرم الله.

والرجاء : أن يرجو العبد رحمة الله العامة ، ورحمته الخاصة به. فيرجو قبول ما تفضل الله عليه به من الطاعات ، وغفران ما تاب منه من الزلات. ويعلق رجاءه بربه. في كل حال من أحواله.

وذكر الله الإنابة في مواضع كثيرة ، وأثنى على المنيبين ، وأمر بالإنابة إليه. وحقيقة الإنابة ، انجذاب القلب إلى الله ، في كل حالة من أحواله. ينيب إلى ربه ، عند النعماء بشكره ، وعند الضراء ، بالتضرع إليه ، وعند مطالب النفوس الكثيرة ، بكثرة دعائه في جميع مهماته. وينيب إلى ربه ، باللهج بذكره في كل وقت.

والإنابة أيضا : الرجوع إلى الله ، بالتوبة من جميع المعاصي ، والرجوع إليه في جميع أعماله ، وأقواله ، فيعرضها على كتاب الله ، وسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فتكون الأعمال والأقوال ، موزونة بميزان الشرع.

أمر تعالى بالإخلاص ، وأثنى على المخلصين ، وأخبر أنه لا يقبل إلا العمل الخالص.

وحقيقة الإخلاص : أن يقصد العامل بعمله ، وجه الله وحده وثوابه. وضده ، الرياء ، والعمل للأغراض النفسية.

نهى الله عن التكبر ، وذم الكبر والمتكبرين ، وأخبر عن عقوباتهم العاجلة والآجلة.

والتكبر هو : رد الحق ، واحتقار الخلق ، وضد ذلك ، التواضع ، فقد أمر به ، وأثنى على أهله ، وذكر ثوابهم ، فهو قبول الحق ممن قاله ، وأن لا يحتقر الخلق ، بل يرى فضلهم ، ويجب لهم ما يجب لنفسه.

العدل ، هو : أداء حقوق الله ، وحقوق العباد.

٢٥

والظلم : عكسه ، فهو يشمل ظلم العبد لنفسه بالمعاصي والشرك ، وظلم العباد في دمائهم ، وأموالهم ، وأعراضهم.

الصدق ، هو : استواء الظاهر والباطن في الاستقامة على الصراط المستقيم ، والكذب بخلاف ذلك.

حدود الله ، هي : محارمه ، وهي التي يقول فيها (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوها) ، ويراد بها ما أباحه الله وحلله ، وقدره ، وفرضه ، فيقول فيها (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها).

الأمانة هي : الأمور التي يؤتمن عليها العبد. فيشمل ذلك ، أداء حقوق الله ، وخصوصا ، الخفية ، وحقوق خلقه كذلك.

العهود والعقود ، ويدخل فيها ، التي بينه وبين الله وهو : القيام بعبادة الله ، ملخصا له الدين ، والتي بينه وبين العباد ، من المعاملات ونحوها.

الحكمة والقوام ، فعل ما ينبغي على الوجه الذي ينبغي.

والإسراف والتبذير ، مجاوزة الحد في الإنفاق. والتقتير والبخل عكسه ، وهو : التقصير في النفقات الواجبة.

و «المعروف» اسم جامع لكل ما عرف حسنه ونفعه ، شرعا ، وعقلا ، و «المنكر» عكسه.

الاستقامة : لزوم طاعة الله ، وطاعة رسوله على الدوام.

مرض القلب ، هو : اعتلاله ، وهو نوعان : مرض شكوك في الحق ، ومرض شهوة للأمور المحرمة.

النفاق : إظهار الخير ، وإبطان الشر ، فيدخل فيه ، النفاق الاعتقادي والنفاق العملي.

القرآن ، كله محكم ، وأحكمت آياته ، من جهة موافقتها للحكمة ، وأن أخباره أعلى درجات الصدق ، وأحكامه في غاية الحسن. وكله ، متشابه ، من جهة اتفاقه في البلاغة ، والحسن ، وتصديق بعضه لبعض وكمال اتفاقه.

ومنه محكم ومتشابه ، من جهة أن متشابهه : ما كان فيه إجمال أو احتمال لبعض المعاني. ومحكمه ، واضح مبين صريح في معناه ، إذا رد إليه المتشابه ، اتفق الجميع ، واستقامت معانيه.

معية الله التي ذكرها في كتابه ، نوعان :

معية العلم والإحاطة ، وهي : المعية العامة ، فإنه مع عباده أينما كانوا.

ومعية خاصة ، وهي : معيته مع خواص خلقه ، بالنصرة ، واللطف ، والتأييد.

الدعاء والدعوة ، يشمل دعاء العبادة ، فيدخل فيه كل عبادة أمر الله بها ورسوله.

ودعاء المسألة ، وهو : سؤال الله جلب المنافع ، ودفع المضار.

الطيبات : اسم جامع لكل طيب نافع ، من العقائد ، والأخلاق ، والأعمال ، والمآكل ، والمشارب والمكاسب. والخبيث ضد ذلك.

وقد يراد بالخبيث : الرديء ، وبالطيب : الجيد كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ).

النفقة ، تشمل النفقة الواجبة ، كالزكاة ، والكفارة ، ونفقة النفس ، والعائلة ، والمماليك ، والنفقة المستحبة ، كالنفقة في جميع طرق الخير.

التوكل على الله ، والاستعانة به ، قد أمر الله بها ، وأثنى على المتوكلين في آيات كثيرة.

٢٦

وحقيقة ذلك ، قوة اعتماد القلب على الله ، في جلب المصالح ، ودفع المضار ، الدينية ، والدنيوية ، مع الثقة به في حصول ذلك.

العقل الذي مدحه الله وأثنى على أهله ، وأخبر أنهم هم المنتفعون بالآيات ، هو : الذي يفهم ، ويعقل الحقائق النافعة ، ويعمل بها ، ويعقل صاحبه عن الأمور الضارة ، ولذلك قيل له ، حجر ، ولب ، ونهى ، لأنه يحجر صاحبه ، وينهاه عما يضره.

العلم ، هو : معرفة الهدى بدليله ، فهو معرفة المسائل النافعة المطلوبة ، ومعرفة أدلتها ، وطرقها ، التي تهدي إليها.

والعلم النافع ، هو : العلم بالحق والعمل به ، وضده الجهل.

لفظ «الأمة» في القرآن على أربعة أوجه ، يراد به «الطائفة من الناس» وهو الغالب. ويراد به «المدة» ، ويراد به «الدين» و «الملة» ويراد به «الإمام» في الخير.

لفظ «استوى» في القرآن على ثلاثة أوجه : إن عدّي ب «على» كان معناه العلو والارتفاع كقوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ).

وإن عدّي ب «إلى» فمعناه قصد كقوله : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ).

وإن لم يعدّ بشيء ، فمعناه «كمل» كقوله تعالى : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى).

«التوبة» ورد في آيات كثيرة الأمر بها ، ومدح التائبين وثوابهم وهي : الرجوع عما يكرهه الله ، ظاهرا وباطنا ، إلى ما يحبه الله ، ظاهرا وباطنا.

الصراط المستقيم ، الذي أمر الله بلزومه وأثنى على المستقيمين عليه هو : الطريق المعتدل ، الموصل إلى رضوان الله وثوابه ، وهو متابعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، في أقواله وأفعاله ، وكل أحواله.

الذكر لله ، الذي أمر به ، وأثنى على الذاكرين ، وذكر جزاءهم العاجل والآجل ، هو : عند الإطلاق ، يشمل جميع ما يقرب إلى الله ، من عقيدة ، أو فكر نافع ، أو خلق جميل ، أو عمل قلبي أو بدنيّ ، أو ثناء على الله ، أو تسبيح ، ونحوه ، أو تعلم أحكام الشرع ، الأصولية والفروعية ، أو ما يعين على ذلك فكله داخل في ذكر الله.

٢٧

فصل

في شرح أسماء الله الحسنى

قد تكرر كثير من أسماء الله الحسنى في القرآن بحسب المناسبات ، والحاجة داعية إلى التنبيه إلى معانيها الجامعة فنقول :

قد تكرر اسم (الرب) في آيات كثيرة.

و «الرب» هو : المربي جميع عباده ، بالتدبير ، وأصناف النعم. وأخص من هذا ، تربيته لأصفيائه بإصلاح قلوبهم ، وأرواحهم ، وأخلاقهم. ولهذا كثر دعاؤهم له بهذا الاسم الجليل ، لأنهم يطلبون منه هذه التربية الخاصة.

(الله) هو المألوه المعبود ، ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين ، لما اتصف به من صفات الألوهية التي هي صفات الكمال.

(لملك) (المالك) الذي له الملك فهو الموصوف ، بصفة الملك ، وهي صفات العظمة والكبرياء ، والقهر والتدبير ، الذي له التصرف المطلق ، في الخلق ، والأمر ، والجزاء. وله جميع العالم ، العلوي والسفلي ، كلهم عبيد ومماليك ، ومضطرون إليه.

(الواحد الأحد) ، وهو الذي توحد بجميع الكمالات ، بحيث لا يشاركه فيها مشارك. ويجب على العبيد توحيده ، عقدا ، وقولا ، وعملا ، بأن يعترفوا بكماله المطلق ، وتفرده بالوحدانية ، ويفردوه بأنواع العبادة.

الصّمد وهو الذي تقصده الخلائق كلها ، في جميع حاجاتها ، وأحوالها وضروراتها ، لما له من الكمال المطلق ، وفي ذاته ، وأسمائه ، وصفاته ، وأفعاله.

(العليم الخبير) وهو الذي أحاط علمه بالظواهر والبواطن ، والإسرار والإعلان ، وبالواجبات ، والمستحيلات ، والممكنات ، وبالعالم العلوي ، والسفلي ، وبالماضي ، والحاضر ، والمستقبل ، فلا يخفى عليه شيء من الأشياء.

الحكيم وهو الذي له الحكمة العليا ، في خلقه ، وأمره ، الذي أحسن كل شيء خلقه (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ). فلا يخلق شيئا عبثا ، ولا يشرع شيئا سدى ، الذي له الحكم في الأولى والآخرة ، وله الأحكام الثلاثة لا يشاركه فيها مشارك : فيحكم بين عباده ، في شرعه ، وفي قدره ، وجزائه.

والحكمة : وضع الأشياء مواضعها ، وتنزيلها منازلها.

(الرحمن الرحيم) و (البرّ الكريم) ، (الجواد) ، (الرؤوف) ، (الوهّاب) هذه الأسماء ، تتقارب معانيها ، وتدل كلها على اتصاف الرب ، بالرحمة ، والبر ، والجود ، والكرم ، وعلى

٢٨

سعة رحمته ومواهبه ، التي عم بها جميع الوجود ، بحسب ما تقتضيه حكمته. وخص المؤمنين منها ، بالنصيب الأوفر ، والحظ الأكمل ، قال تعالى : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) الآية.

والنعم والإحسان ، كله من آثار رحمته ، وجوده ، وكرمه. وخيرات الدنيا والآخرة ، كلها من آثار رحمته.

(السّميع لجميع الأصوات ، باختلاف اللغات ، على تفنن الحاجات.

(البصير الذي يبصر كل شيء وإن رق وصغر ، فيبصر دبيب النملة السوداء ، في الليلة الظلماء ، على الصخرة الصماء. ويبصر ما تحت الأرضين السبع ، كما يبصر ما فوق السموات السبع. وأيضا سميع بصير ، بمن يستحق الجزاء بحسب حكمته ، والمعنى الأخير ، يرجع إلى الحكمة.

(الحميد في ذاته ، وأسمائه ، وصفاته ، وأفعاله. فله من الأسماء ، أحسنها ، ومن الصفات أكملها ، ومن الأفعال ، أتمها وأحسنها ، فإن أفعاله تعالى ، دائرة بين الفضل والعدل.

(المجيد) ، (الكبير) ، (العظيم) ، (الجليل وهو الموصوف بصفات المجد ، والكبرياء ، والعظمة ، والجلال ، الذي هو أكبر من كل شيء ، وأعظم من كل شيء ، وأجل وأعلى. وله التعظيم والإجلال ، في قلوب أوليائه وأصفيائه. قد ملئت قلوبهم من تعظيمه ، وإجلاله ، والخضوع له ، والتذلل لكبريائه.

(العفو) ، (الغفور) ، (الغفّار) الذي لم يزل ، ولا يزال بالعفو معروفا ، وبالغفران والصفح عن عباده موصوفا. كل أحد مضطر إلى عفوه ومغفرته ، كما هو مضطر إلى رحمته وكرمه. وقد وعد بالمغفرة والعفو ، لمن أتى بأسبابها ، قال تعالى : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى) (٨٢).

(التّوّاب) الذي لم يزل يتوب على التائبين ، ويغفر ذنوب المنيبين. فكل من تاب إلى الله توبة نصوحا ، تاب الله عليه. فهو التائب على التائبين : أوّلا بتوفيقهم للتوبة والإقبال بقلوبهم إليه ، وهو التائب عليهم بعد توبتهم ، قبولا لها ، و

عفوا عن خطاياهم.

(القدّوس) السّلام أي : المعظم المنزه عن صفات النقص كلها ، وأن يماثله أحد من الخلق ، فهو المتنزه عن جميع العيوب ، والمتنزه عن أن يقاربه أو يماثله أحد في شيء من الكمال (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (٤)) (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً).

فالقدوس كالسلام ، ينفيان كل نقص من جميع الوجوه ، ويتضمنان الكمال المطلق من جميع الوجوه ، لأن النقص إذا انتفى ، ثبت الكمال كله.

(العلىّ) ، (الأعلى) وهو الذي له العلو المطلق عن جميع الوجوه. علو الذات ، وعلو القدر والصفات ، وعلو القهر. فهو الذي على العرش استوى ، وعلى الملك احتوى. وبجميع صفات العظمة والكبرياء والجلال والجمال وغاية الكمال اتصف وإليه فيها المنتهى.

(العزيز) الذي له العزة كلها : عزة القوة ، وعزة الغلبة ، وعزة الامتناع. فامتنع أن يناله أحد من المخلوقات ، وقهر جميع الموجودات ، ودانت له الخليقة ، وخضعت لعظمته.

(القوىّ المتين) هو في معنى العزيز.

(الجبّار) هو بمعنى العلي الأعلى ، وبمعنى القهار ، وبمعنى «الرؤوف» الجابر للقلوب المنكسرة ، وللضعيف العاجز ، ولمن لاذ به ، ولجأ إليه.

(المتكبّر) عن السوء ، والنقص والعيوب ، لعظمته وكبريائه.

٢٩

(الخالق) ، (الباري) ، (المصوّر) الذي خلق جميع الموجودات ، وبرأها ، وسواها بحكمته ، وصورها بحمده وحكمته ، وهو لم يزل ، ولا يزال على هذا الوصف العظيم.

(المؤمن) الذي أثنى على نفسه بصفات الكمال ، وبكمال الجلال والجمال. الذي أرسل رسله ، وأنزل كتبه بالآيات والبراهين. وصدق رسله بكل آية وبرهان ، يدل على صدقهم وصحة ما جاؤوا به.

(المهيمن) المطلع على خفايا الأمور ، وخبايا الصدور ، الذي (أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً).

(القدير) كامل القدرة. بقدرته أوجد الموجودات ، وبقدرته دبرها ، وبقدرته سواها وأحكمها.

وبقدرته ، يحيى ويميت ، ويبعث العباد للجزاء ، ويجازي المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته ، الذي إذا أراد شيئا قال له (كُنْ فَيَكُونُ). وبقدرته يقلب القلوب ، ويصرفها على ما يشاء ويريد.

اللّطيف الذي أحاط علمه بالسرائر والخفايا ، وأدرك الخبايا والبواطن ، والأمور الدقيقة ، اللطيف بعباده المؤمنين ، الموصل إليهم مصالحهم ، بلطفه وإحسانه ، من طرق لا يشعرون بها ، فهو بمعنى «الخبير» وبمعنى «الرؤوف».

(الحسيب) هو العليم بعباده ، كافي المتوكلين ، المجازي لعباده بالخير والشر ، بحسب حكمته ، وعلمه بدقيق أعمالهم وجليلها.

(الرّقيب) المطلع على ما أكنّته الصدور ، القائم على كل نفس بما كسبت. الذي حفظ المخلوقات وأجراها ، على أحسن نظام وأكمل تدبير.

(الحفيظ) الذي حفظ ما خلقه ، وأحاط علمه بما أوجده ، وحفظ أولياءه من وقوعهم في الذنوب والهلكات. ولطف بهم في الحركات والسكنات ، وأحصى على العباد أعمالهم ، وجزاءها.

(المحيط) بكل شيء علما ، وقدرة ، ورحمة ، وقهرا.

(القهّار) لكل شيء ، الذي خضعت له المخلوقات ، وذلت لعزته وقوته ، وكمال اقتداره.

(المقيت) الذي أوصل إلى كل موجود ما به يقتات. وأوصل إليها أرزاقها وصرفها كيف يشاء ، بحكمته وحمده.

(الوكيل) المتولي لتدبير خلقه ، بعلمه ، وكمال قدرته ، وشمول حكمته. الذي تولى أولياءه ، فيسرهم لليسرى ، وجنبهم العسرى ، كفاهم الأمور. فمن اتخذه وكيلا كفاه (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ).

(ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) أي : ذو العظمة والكبرياء ، وذو الرحمة ، والجود ، والإحسان العام والخاص. المكرم لأوليائه وأصفيائه ، الذين يجلونه ، ويعظمونه ، ويحبونه.

(الودود) الذي يحب أنبياءه ورسله ، وأتباعهم ، ويحبونه ، فهو أحب إليهم ، من كل شيء. قد امتلأت قلوبهم من محبته ، ولهجت ألسنتهم بالثناء عليه ، وانجذبت أفئدتهم إليه ، ودا ، وإخلاصا ، وإنابة من جميع الوجوه.

(الفتّاح) الذي يحكم بين عباده ، بأحكامه الشرعية ، وأحكامه القدرية ، وأحكامه الجزاء. الذي فتح بلطفه بصائر الصادقين ، وفتح قلوبهم لمعرفته ، ومحبته ، والإنابة إليه ، وفتح لعباده ، أبواب الرحمة ، والأرزاق المتنوعة ، وسبب لهم الأسباب ، التي ينالون بها خير الدنيا والآخرة (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما

٣٠

يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ).

(الرّزّاق) لجميع عباده ، فما من دابة في الأرض ، إلا على الله رزقها. ورزقها لعباده نوعان :

رزق عام ، شمل البر والفاجر ، والأولين والآخرين ، وهو رزق الأبدان.

ورزق خاص وهو القلوب ، وتغذيتها بالعلم والإيمان.

والرزق الحلال الذي يعين على صلاح الدين ، وهذا خاص بالمؤمنين ، على مراتبهم منه ، بحسب ما تقتضيه حكمته ورحمته.

(الحكم العدل) الذي يحكم بين عباده في الدنيا والآخرة ، بعدله وقسطه. فلا يظلم مثقال ذرة ، ولا يحمل أحدا وزر أحد ، ولا يجازي العبد بأكثر من ذنبه ويؤدي الحقوق إلى أهلها ، فلا يدع صاحب حق إلا وصل إليه حقه. وهو العدل في تدبيره وتقديره (إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ).

(جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ) ، وجامع أعمالهم وأرزاقهم ، فلا يترك منها صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. وجامع ما تفرق واستحال من الأموات الأولين والآخرين ، بكمال قدرته ، وسعة علمه.

(الْحَيُّ الْقَيُّومُ) كامل الحياة والقائم بنفسه. القيوم لأهل السموات والأرض ، القائم بتدبيرهم وأرزاقهم ، وجميع أحوالهم ف «الحي» : الجامع لصفات الذات ، و «القيوم» الجامع لصفات الأفعال.

(النور) نور السموات والأرض. الذي نوّر قلوب العارفين بمعرفته ، والإيمان به ، ونوّر أفئدتهم بهدايته ، وهو الذي أنار السموات والأرض ، بالأنوار التي وضعها ، وحجابه ، النور ، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه.

(بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : خالقهما ومبدعهما ، في غاية ما يكون من الحسن والخلق البديع ، والنظام العجيب المحكم.

(القابض) (الباسط) يقبض الأرزاق والأرواح ، ويبسط الأرزاق والقلوب ، وذلك تبع لحكمته ورحمته.

(المعطي) (المانع) لا مانع لما أعطى ، ولا معطي لما منع. فجميع المصالح والمنافع ، منه تطلب ، وإليه يرغب فيها. وهو الذي يعطيها لمن يشاء ، ويمنعها من يشاء ، بحكمته ورحمته.

(الشهيد) أي : المطلع على جميع الأشياء. سمع جميع الأصوات ، خفيها وجليها. وأبصر جميع الموجودات ، دقيقها وجليلها ، صغيرها وكبيرها ، وأحاط علمه بكل شيء ، الذي شهد لعباده ، وعلى عباده ، بما عملوه.

(المبدى) ، (المعيد قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) ، ابتدأ خلقهم ، ليبلوهم أيهم أحسن عملا ، ثم يعيدهم ، ليجزي الذين أحسنوا بالحسنى ، ويجزي المسيئين بإساءتهم. وكذلك ، هو الذي يبدأ إيجاد المخلوقات شيئا فشيئا ، ثم يعيدها كل وقت.

(الفعّال لما يريد) وهذا من كمال قوته ، ونفوذ مشيئته وقدرته ، أن كل أمر يريده يفعله بلا ممانع ، ولا معارض ، وليس له ظهير ولا عوين ، على أيّ أمر يكون ، بل إذا أراد شيئا قال له (كُنْ فَيَكُونُ). ومع أنه الفعال لما يريد ، فإرادته تابعة لحكمته وحمده ، فهو موصوف بكمال القدرة ، ونفوذ المشيئة ، وموصوف بشمول الحكمة ، لكل ما فعله ويفعله.

(الغنىّ) ، (المغني) فهو الغني بذاته ، الذي له الغنى التام المطلق ، من جميع الوجوه ، والاعتبارات

٣١

لكماله ، وكمال صفاته. فلا يتطرق إليها نقص بوجه من الوجوه ، ولا يمكن أن يكن إلا غنيا. لأن غناه ، من لوازم ذاته. كما لا يكون إلا خالقا ، قادرا ، رازقا ، محسنا ، فلا يحتاج إلى أحد بوجه من الوجوه. فهو الغني ، الذي بيده خزائن السموات والأرض ، وخزائن الدنيا والآخرة. المغني جميع خلقه ، غنى عاما ، والمغني لخواص خلقه ، بما أفاض على قلوبهم ، من المعارف الربانية ، والحقائق الإيمانية.

(الحليم) الذي يدرّ على خلقه النعم الظاهرة والباطنة ، مع معاصيهم وكثرة زلاتهم ، فيحلم عن مقابلة العاصين بعصيانهم. ويستعتبهم ، كي يتوبوا ، ويمهلهم كي ينيبوا.

(الشاكر) ، الشّكور الذي يشكر القليل من العلم ، ويغفر الكثير من الزلل. ويضاعف للمخلصين أعمالهم بغير حساب. ويشكر الشاكرين ، ويذكر من ذكره. ومن تقرب إليه بشيء من الأعمال الصالحة ، تقرب الله منه أكثر.

(القريب) ، المجيب أي : هو تعالى ، القريب من كل أحد. وقربه تعالى نوعان : قرب عام من كل أحد ، بعلمه ، وخبرته ، ومراقبته ، ومشاهدته ، وإحاطته. وقرب خاص ، من عابديه ، وسائليه ، ومحبيه ، وهو قرب لا تدرك له حقيقة ، وإنما تعلم آثاره ، من لطفه بعبده ، وعنايته ، به ، وتوفيقه وتسديده. ومن آثاره ، الإجابة للداعين ، والإنابة للعابدين ، فهو المجيب إجابة عامة ، للداعين ، مهما كانوا ، وأين كانوا ، وعلى أيّ حال كانوا كما وعدهم بهذا ، الوعد المطلق. وهو المجيب إجابة خاصة ، للمستجيبين له ، المنقادين لشرعه.

وهو المجيب أيضا ، للمضطرين ، ومن انقطع رجاؤهم من المخلوقين ، وقوي تعلقهم به ، طمعا ، ورجاء ، وخوفا.

(الكافي) عباده جميع ما يحتاجون ، ويضطرون إليه. الكافي كفاية خاصة ، من آمن به ، وتوكل عليه ، واستمد منه حوائج دينه ودنياه.

(الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ).

قد فسرها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، تفسيرا جامعا ، واضحا فقال يخاطب ربه : «أنت الأول ، فليس قبلك شيء ، وأنت الآخر ، فليس بعدك شيء ، وأنت الظاهر ، فليس فوقك شيء ، وأنت الباطن فليس دونك شيء».

(الواسع) الصفات ، والنعوت ، ومتعلقاتها ، بحيث لا يحصي أحد ثناء عليه ، بل هو كما أثنى على نفسه. واسع العظمة ، والسلطان ، والملك ، واسع الفضل ، والإحسان ، عظيم الجود والكرم.

(الهادي) ، (الرّشيد) أي : الذي يهدي ويرشد عباده إلى جميع المنافع ، وإلى دفع المضار ، ويعلمهم ما لا يعلمون ، ويهديهم لهداية التوفيق والتسديد ، ويلهمهم التقوى ، ويجعل قلوبهم منيبة إليه ، منقادة لأمره.

وللرشيد معنى ، بمعنى الحكيم ، فهو : الرشيد في أقواله وأفعاله ، وشرائعه كلها خير ، ورشد وحكمة ، ومخلوقاته مشتملة على الرشد.

(الحقّ) في ذاته وصفاته. فهو واجب الوجود ، كامل الصفات والنعوت ، وجوده ، من لوازم ذاته. ولا وجود لشيء من الأشياء إلا به. فهو الذي لم يزل ، ولا يزال ، بالجلال ، والجمال ، والكمال ، موصوفا. ولم يزل ولا يزال بالإحسان معروفا.

فقوله حق ، وفعله حق ، ولقاؤه ورسله حق ، وكتبه حق ، ودينه هو الحق ، وعبادته وحده لا شريك له هي الحق ، وكل شيء ينسب إليه ، فهو حق. (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ).

٣٢

(وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ). (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً).

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. وصلى الله وسلم على محمد ، وعلى آله وأصحابه ، ومن تبعهم إلى يوم الدين.

قال ذلك ، وكتبه ، العبد الفقير إلى ربه «عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله بن ناصر السعدي».

غفر الله له ، ولوالديه ، ومشايخه ، وأحبابه ، وجميع المسلمين. آمين.

٣٣
٣٤

سورة الفاتحة

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] (بِسْمِ اللهِ) أي : أبتدىء بكل اسم لله تعالى ، لأن لفظ «اسم» مفرد مضاف ، فيعم جميع الأسماء الحسنى.

(اللهِ) هو المألوه المعبود ، المستحق لإفراده بالعبادة ، لما اتصف به من صفات الألوهية وهي صفات الكمال ، (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) اسمان دالان على أنه تعالى ذو الرحمة الواسعة العظيمة التي وسعت كل شيء ، وعمت كل حي ، وكتبها للمتقين المتبعين لأنبيائه ورسله. فهؤلاء لهم الرحمة المطلقة ، ومن عداهم ، فله نصيب منها.

واعلم أن من القواعد المتفق عليها بين سلف الأمة وأئمتها ، الإيمان بأسماء الله وصفاته ، وأحكام الصفات ، فيؤمنون مثلا ، بأنه رحمن رحيم ، ذو الرحمة التي اتصف بها ، المتعلقة بالمرحوم ، فالنعم كلها ، أثر من آثار رحمته ، وهكذا في سائر الأسماء. يقال في العليم : إنه عليم ذو علم ، يعلم به كل شيء ، قدير ، ذو قدرة يقدر على كل شيء.

[٢] (الْحَمْدُ لِلَّهِ) هو الثناء على الله بصفات الكمال ، وبأفعاله الدائرة بين الفضل والعدل ، فله الحمد الكامل ، بجميع الوجوه. (رَبِّ الْعالَمِينَ) الرب ، هو المربي جميع العالمين ، وهم من سوى الله ، بخلقه إياهم ، وإعداده لهم الآلات ، وإنعامه عليهم بالنعم العظيمة ، التي لو فقدوها ، لم يمكن لهم البقاء ، فما بهم من نعمة ، فمنه تعالى.

وتربيته تعالى لخلقه نوعان : عامة وخاصة. فالعامة : هي خلقه للمخلوقين ، ورزقهم ، وهدايتهم لما فيه مصالحهم ، التي فيها بقاؤهم في الدنيا. والخاصة : تربيته لأوليائه ، فيربيهم بالإيمان ، ويوفقهم له ، ويكملهم ، ويدفع عنهم الصوارف ، والعوائق الحائلة بينهم وبينه ، وحقيقتها : تربية التوفيق لكل خير ، والعصمة من كل شر ، ولعل هذا المعنى ، هو السر في كون أكثر أدعية الأنبياء بلفظ الرب ، فإن مطالبهم كلها داخلة تحت ربوبيته الخاصة.

فدل قوله : (رَبِّ الْعالَمِينَ) على انفراده بالخلق والتدبير ، والنعم وكمال غناه ، وتمام فقر العالمين إليه ، بكل وجه واعتبار.

[٤] (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤)) المالك : هو من اتصف بصفة الملك التي من آثارها أن يأمر وينهى ، ويثيب ويعاقب ، ويتصرف بمماليكه بجميع أنواع التصرفات ، وأصناف الملك ليوم الدين ، وهو يوم القيامة ، يوم يدان الناس فيه بأعمالهم ، خيرها وشرها ، لأن في ذلك اليوم يظهر للخلق تمام الظهور ، كمال ملكه وعدله وحكمته ، وانقطاع أملاك الخلائق ، حتى إنه يستوي في ذلك اليوم الملوك والرعايا والعبيد والأحرار ، كلهم مذعنون لعظمته ، خاضعون لعزته منتظرون لمجازاته ، راجون ثوابه ، خائفون من عقابه ، فلذلك خصه بالذكر ، وإلا ، فهو المالك ليوم الدين وغيره من الأيام. وقوله :

[٥] (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥)) أي : نخصك وحدك بالعبادة والاستعانة ، لأن تقديم المعمول يفيد

٣٥

الحصر ، وهو إثبات الحكم للمذكور ، ونفيه عما عداه ، فكأنه يقول : نعبدك ، ولا نعبد غيرك ، ونستعين بك ، ولا نستعين بغيرك.

وتقديم العبادة على الاستعانة ، من باب تقديم العام على الخاص ، واهتماما بتقديم حقه تعالى على حق عبده ، و «العبادة» اسم جامع لما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة ، و «الاستعانة» هي الاعتماد على الله تعالى في جلب المنافع ، ودفع المضار ، مع الثقة به في تحصيل ذلك. والقيام بعبادة الله والاستعانة به هما الوسيلة للسعادة الأبدية ، والنجاة من جميع الشرور ، فلا سبيل إلى النجاة إلا بالقيام بهما.

وإنما تكون العبادة عبادة إذا كانت مأخوذة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مقصودا بها وجه الله ، فبهذين الأمرين تكون عبادة ، وذكر «الاستعانة» بعد «العبادة» مع دخولها فيها ، لاحتياج العبد في جميع عباداته إلى الاستعانة بالله تعالى ، فإنه إن لم يعنه الله ، لم يحصل له ما يريده من فعل الأوامر ، واجتناب النواهي. ثم قال تعالى :

[٦] (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦)) أي : دلنا وأرشدنا ، ووفقنا إلى الصراط المستقيم ، وهو الطريق الواضح الموصل إلى الله ، وإلى جنته ، وهو معرفة الحق والعمل به ، فاهدنا إلى الصراط واهدنا في الصراط ، فالهداية إلى الصراط ، لزوم دين الإسلام ، وترك ما سواه من الأديان.

والهداية في الصراط ، تشمل الهداية لجميع التفاصيل الدينية علما وعملا. فهذا الدعاء من أجمع الأدعية ، وأنفعها للعبد ، ولهذا وجب على الإنسان أن يدعو الله به في كل ركعة من صلاته ، لضرورته إلى ذلك. وهذا الصراط المستقيم هو :

[٧] (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، (غَيْرِ) صراط (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) الذين عرفوا الحق وتركوه كاليهود ونحوهم ، (وَلَا) صراط (الضَّالِّينَ) الذين تركوا الحق على جهل وضلال ، كالنصارى ونحوهم.

فهذه السورة ، على إيجازها ، قد احتوت على ما لم تحتو عليه سورة من سور القرآن ، فتضمنت أنواع التوحيد الثلاثة : توحيد الربوبية يؤخذ من قوله : (رَبِّ الْعالَمِينَ) ، وتوحيد الإلهية ، وهو إفراد الله بالعبادة ، يؤخذ من لفظ : الله ومن قوله : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (٥) ، وتوحيد الأسماء والصفات ، وهو إثبات صفات الكمال لله تعالى ، التي أثبتها لنفسه ، وأثبتها له رسوله من غير تعطيل ولا تمثيل ولا تشبيه ، وقد دل على ذلك لفظ (الْحَمْدُ) كما تقدم. وتضمنت إثبات النبوة في قوله : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) (٦) لأن ذلك ممتنع بدون الرسالة.

وإثبات الجزاء على الأعمال في قوله : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) (٤) وأن الجزاء يكون بالعدل ، لأن الدين معناه الجزاء بالعدل. وتضمنت إثبات القدر ، وأن العبد فاعل حقيقة ، خلافا للقدرية والجبرية.

بل تضمنت الرد على جميع أهل البدع والضلال في قوله : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) (٦) لأنه معرفة الحق والعمل به ، وكل مبتدع وضال فهو مخالف لذلك. وتضمنت إخلاص الدين لله تعالى ، عبادة ، واستعانة في قوله :

(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (٥) فالحمد لله رب العالمين.

٣٦

سورة البقرة

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) تقدم الكلام على البسملة.

[١] (الم) وأما الحروف المقطعة في أوائل السور ، فالأسلم فيها ، السكوت عن التعرض لمعناها من غير مستند شرعي ، مع الجزم بأن الله تعالى لم ينزلها عبثا بل لحكمة لا نعلمها. وقوله :

[٢] (ذلِكَ الْكِتابُ) أي : هذا الكتاب العظيم الذي هو الكتاب على الحقيقة ، المشتمل على ما لم تشتمل عليه كتب المتقدمين ، من العلم العظيم ، والحق المبين ، فهو (لا رَيْبَ فِيهِ) ولا شك بوجه من الوجوه ، ونفي الريب عنه يستلزم ضده ، إذ ضد الريب والشك اليقين ، فهذا الكتاب مشتمل على علم اليقين المزيل للشك والريب ، وهذه قاعدة مفيدة أن النفي المقصود به المدح ، لا بد أن يكون متضمنا لضده ، وهو الكمال ، لأن النفي عدم ، والعدم المحض ، لا مدح فيه. فلما اشتمل على اليقين وكانت الهداية لا تحصل إلا باليقين قال : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) ، والهدى : ما تحصل به الهداية من الضلالة والشبه ، وما به الهداية إلى سلوك الطرق النافعة ، وقال : (هُدىً) وحذف المعمول ، فلم يقل هدى للمصلحة الفلانية ، ولا للشيء الفلاني ، لإرادة العموم ، وأنه هدى لجميع مصالح الدارين ، فهو مرشد للعباد في المسائل الأصولية والفروعية ، ومبين للحق من الباطل ، والصحيح من الضعيف ، ومبين لهم كيف يسلكون الطرق النافعة لهم في دنياهم وأخراهم. وقال في موضع آخر :

(هُدىً لِلنَّاسِ) فعمّم ، وفي هذا الموضع وغيره (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) لأنه في نفسه هدى لجميع الناس ، فالأشقياء لم يرفعوا به رأسا ، ولم يقبلوا هدى الله ، فقامت عليهم به الحجة ، ولم ينتفعوا به لشقائهم ، وأما المتقون الذين أتوا بالسبب الأكبر لحصول الهداية وهو التقوى التي حقيقتها : اتخاذ ما يقي سخط الله وعذابه ، بامتثال أوامره ، واجتناب نواهيه ، فاهتدوا به ، وانتفعوا غاية الانتفاع ، قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) ، فالمتقون هم المنتفعون بالآيات القرآنية ، والآيات الكونية. ولأن الهداية نوعان : هداية البيان ، وهداية التوفيق ، فالمتقون حصلت لهم الهدايتان ، وغير هم لم تحصل لهم هداية التوفيق ، وهداية البيان بدون توفيق للعمل بها ، ليست هداية حقيقة تامة. ثم وصف المتقين بالعقائد والأعمال الباطنة ، والأعمال الظاهرة ، لتضمن التقوى لذلك فقال :

[٣] (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) ، حقيقة الإيمان : هو التصديق التام بما أخبرت به الرسل ، المتضمن لانقياد الجوارح ، وليس الشأن في الإيمان بالأشياء المشاهدة بالحس ، فإنه لا يتميز بها المسلم من الكافر ، إنما الشأن في الإيمان بالغيب ، الذي لم نره ولم نشاهده ، وإنما نؤمن به لخبر الله وخبر رسوله. فهذا الإيمان الذي يميز به المسلم من الكافر ، لأنه تصديق مجرد لله ورسله ، فالمؤمن يؤمن بكل ما أخبر الله به ، أو أخبر به رسوله ، سواء شاهده أو لم يشاهده ، وسواء فهمه وعقله أو لم يهتد إليه عقله وفهمه ، بخلاف الزنادقة والمكذبين بالأمور الغيبية ، لأن عقولهم القاصرة المقصرة لم تهتد إليها فكذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ، ففسدت عقولهم ، ومرجت أحلامهم ، وزكت عقول

٣٧

المؤمنين المصدقين المهتدين بهدى الله. ويدخل في الإيمان بالغيب ، الإيمان بجميع ما أخبر الله به من الغيوب الماضية والمستقبلة ، وأحوال الآخرة ، وحقائق أوصاف الله وكيفيتها ، وما أخبرت به الرسل من ذلك ، فيؤمنون بصفات الله ووجودها ، ويتيقنونها وإن لم يفهموا كيفيتها. ثم قال :

(وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) لم يقل : يفعلون الصلاة ، أو يأتون الصلاة ، لأنه لا يكفي فيها مجرد الإتيان بصورتها الظاهرة ، فإقامة الصلاة ، إقامتها ظاهرا بإتمام أركانها وواجباتها وشروطها ، وإقامتها باطنا بإقامة روحها ، وهو حضور القلب فيها ، وتدبر ما يقوله ويفعله منها ، فهذه الصلاة هي التي قال الله فيها : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) وهي التي يترتب عليها الثواب ، فلا ثواب للعبد من صلاته ، إلا ما عقل منها ، ويدخل في الصلاة فرائضها ونوافلها. ثم قال : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) ، يدخل فيه النفقات الواجبة كالزكاة ، والنفقة على الزوجات والأقارب ، والمماليك ، ونحو ذلك ، والنفقات المستحبة بجميع طرق الخير ، ولم يذكر المنفق عليهم ، لكثرة أسبابه وتنوع أهله ، ولأن النفقة من حيث هي قربة إلى الله ، وأتى ب «من» الدالة على التبعيض ، لينبههم أنه لم يرد منهم إلا جزءا يسيرا من أموالهم ، غير ضار لهم ولا مثقل ، بل ينتفعون هم بإنفاقه ، وينتفع به إخوانهم. وفي قوله : (رَزَقْناهُمْ) إشارة إلى أن هذه الأموال التي بين أيديكم ، ليست حاصلة بقوتكم وملككم ، وإنما هي رزق الله ، الذي خولكم ، وأنعم به عليكم ، فكما أنعم عليكم وفضّلكم على كثير من عباده فاشكروه بإخراج بعض ما أنعم به عليكم ، وواسوا إخوانكم المعدمين. وكثيرا ما يجمع تعالى بين الصلاة والزكاة في القرآن ، لأن الصلاة متضمنة الإخلاص للمعبود ، والزكاة والنفقة متضمنة الإحسان على عبيده ، فعنوان سعادة العبد إخلاصه للمعبود ، وسعيه في نفع الخلق ، كما أن عنوان شقاوة العبد عدم هذين الأمرين منه ، فلا إخلاص ولا إحسان. ثم قال :

[٤] (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) وهو القرآن والسنة ، قال تعالى : (وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) ، فالمتقون يؤمنون بجميع ما جاء به الرسول ، ولا يفرقون بين بعض ما أنزل إليه ، فيؤمنون ببعضه ، ولا يؤمنون ببعضه ، إما بجحده أو تأويله ، على غير مراد الله ورسوله ، كما يفعل ذلك من يفعله من المبتدعة ، الذين يؤولون النصوص الدالة على خلاف قولهم ، بما حاصله عدم التصديق بمعناها ، وإن صدقوا بلفظها ، فلم يؤمنوا بها إيمانا حقيقيا. وقوله : (وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) يشمل الإيمان بجميع الكتب السابقة ، ويتضمن الإيمان بالكتب الإيمان بالرسل وبما اشتملت عليه ، خصوصا التوراة والإنجيل والزبور ، وهذه خاصية المؤمنين يؤمنون بالكتب السماوية كلها ، وبجميع الرسل فلا يفرقون بين أحد منهم. ثم قال : (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) ، و «الآخرة» اسم لما يكون بعد الموت ، وخصّه بالذكر بعد العموم ، لأن الإيمان باليوم الآخر ، أحد أركان الإيمان ؛ ولأنه أعظم باعث على الرغبة والرهبة والعمل ، و «اليقين» هو العلم التام الذي ليس فيه أدنى شك ، والموجب للعمل.

[٥] (أُولئِكَ) أي : الموصوفون بتلك الصفات الحميدة (عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) أي : على هدى عظيم ، لأن

٣٨

التنكير للتعظيم ، وأيّ هداية أعظم من تلك الصفات المذكورة المتضمنة للعقيدة الصحيحة والأعمال المستقيمة ، وهل الهداية في الحقيقة إلا هدايتهم وما سواها مما خالفها ، فهي ضلالة. وأتى ب «على» في هذا الموضع ، الدالة على الاستعلاء ، وفي الضلالة يأتي ب «في» كما في قوله : (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) لأن صاحب الهدى مستعل بالهدى ، مرتفع به ، وصاحب الضلال منغمس فيه محتقر. ثم قال : (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) والفلاح هو الفوز بالمطلوب والنجاة من المرهوب ، حصر الفلاح فيهم ؛ لأنه لا سبيل إلى الفلاح إلا بسلوك سبيلهم ، وما عدا تلك السبيل فهي سبل الشقاء والهلاك والخسارة التي تفضي بسالكها إلى الهلاك ، فلهذا ، لما ذكر صفات المؤمنين حقا ، ذكر صفات الكفار المظهرين لكفرهم المعاندين للرسول فقال :

[٦ ـ ٧] (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٦) خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (٧) ، يخبر تعالى أن الذين كفروا ، أي : اتصفوا بالكفر ، وانصبغوا به ، وصار وصفا لهم لازما ، لا يردعهم عنه رادع ، ولا ينجع فيهم وعظ ، إنهم مستمرون على كفرهم ، فسواء عليهم أأنذرتهم ، أم لم تنذرهم لا يؤمنون ، وحقيقة الكفر هو الجحود لما جاء به الرسول ، أو جحد بعضه ، فهؤلاء الكفار لا تفيدهم الدعوة إلا إقامة الحجة ، وكأن في هذا قطعا لطمع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في إيمانهم ، وأنك لا تأس عليهم ، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات.

[٧] ثم ذكر الموانع المانعة لهم من الإيمان فقال : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ) ، أي : طبع عليها بطابع لا يدخلها الإيمان ، ولا ينفذ فيها فلا يعون ما ينفعهم ، ولا يسمعون ما يفيدهم. (وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ) ، أي : غشاء وغطاء وأكنة تمنعها من النظر الذي ينفعهم ، وهذه طرق العلم والخير قد سدت عليهم ، فلا مطمع فيهم ، ولا خير يرجى عندهم ، وإنما منعوا ذلك ، وسدّت عنهم أبواب الإيمان بسبب كفرهم وجحودهم ومعاندتهم بعد ما تبين لهم الحق ، كما قال تعالى : (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) ، وهذا عقاب عاجل. ثم ذكر العقاب الآجل فقال : (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) وهو عذاب النار ، وسخط الجبار المستمر الدائم.

[٨ ـ ١٠] ثم قال تعالى في وصف المنافقين الذين ظاهرهم الإسلام وباطنهم الكفر : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَ) (بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨) يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٩) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) (١٠) ، واعلم أن النفاق هو : إظهار الخير وإبطان الشر ، ويدخل في هذا التعريف النفاق الاعتقادي والنفاق العملي ، كالذي ذكره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : «آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان» ، وفي رواية : «وإذا خاصم فجر». وأما النفاق الاعتقادي المخرج عن دائرة الإسلام ، فهو الذي وصف الله به المنافقين في هذه السورة وغيرها ، ولم يكن النفاق موجودا قبل هجرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مكة إلى المدينة ، ولا بعد الهجرة ، حتى كانت وقعة «بدر» وأظهر الله المؤمنين وأعزهم ، فذلّ من في المدينة ممن لم يسلم ، فأظهر الإسلام بعضهم خوفا ومخادعة ، ولتحقن دماؤهم ، وتسلم أموالهم ، فكانوا بين أظهر المسلمين في الظاهر أنهم منهم ، وفي الحقيقة ليسوا منهم. فمن لطف الله بالمؤمنين أن جلا أحوالهم ووصفهم بأوصاف يتميزون بها ، لئلا يغتر بهم المؤمنون ، ولينقمعوا أيضا عن كثير من فجورهم. وقال تعالى : (يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ) ، فوصفهم الله بأصل النفاق فقال : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) (٨) فإنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ، فأكذبهم الله بقوله : (وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) لأن الإيمان الحقيقي ، ما تواطأ عليه القلب واللسان ، وإنما هذا مخادعة لله ولعباده المؤمنين. والمخادعة : أن يظهر المخادع لمن يخادعه شيئا ، ويبطن خلافه لكي يتمكن من مقصوده ممن يخادع ، فهؤلاء المنافقون سلكوا مع الله وعباده هذا المسلك ، فعاد خداعهم على أنفسهم ، وهذا من العجائب ، لأن المخادع ، إما أن ينتج خداعه ويحصل له مقصوده ، أو يسلم ، لا

٣٩

له ولا عليه ، وهؤلاء عاد خداعهم على أنفسهم ، وكأنهم يعملون ما يعملون من المكر لإهلاك أنفسهم وإضرارها وكيدها ؛ لأن الله تعالى لا يتضرر بخداعهم شيئا ، وعباده المؤمنون لا يضرهم كيدهم شيئا ، فلا يضر المؤمنين إن أظهر المنافقون الإيمان ، فسلمت بذلك أموالهم وحقنت دماؤهم ، وصار كيدهم في نحورهم ، وحصل لهم بذلك الخزي والفضيحة في الدنيا ، والحزن المستمر بسبب ما يحصل للمؤمنين من القوة والنصرة. ثم في الآخرة ، لهم العذاب الأليم الموجع المفجع ، بسبب كذبهم وكفرهم وفجورهم ، والحال أنهم ـ من جهلهم وحماقتهم ـ لا يشعرون بذلك.

[١٠] وقوله : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) المراد بالمرض هنا : مرض الشك ، والشبهات ، والنفاق ، وذلك أن القلب يعرض له مرضان يخرجانه عن صحته واعتداله : مرض الشبهات الباطلة ، ومرض الشهوات المردية ، فالكفر والنفاق ، والشكوك والبدع ، كلها من مرض الشبهات ، والزنا ، ومحبة الفواحش والمعاصي وفعلها ، من مرض الشهوات ، كما قال تعالى : (فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) وهو شهوة الزنا ، والمعافى من عوفي من هذين المرضين ، فحصل له اليقين والإيمان ، والصبر عن كل معصية ، فرفل في أثواب العافية. وفي قوله عن المنافقين : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) بيان لحكمته تعالى في تقدير المعاصي على العاصين ، وأنه بسبب ذنوبهم السابقة ، يبتليهم بالمعاصي اللاحقة الموجبة لعقوباتها كما قال تعالى : (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) ، وقال تعالى : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) ، وقال تعالى : (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) ، فعقوبة المعصية ، المعصية بعدها ، كما أن من ثواب الحسنة ، الحسنة بعدها ، قال تعالى : (وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً).

[١١] أي : إذا نهي هؤلاء المنافقون عن الإفساد في الأرض ، وهو العمل بالكفر والمعاصي ، ومنه إظهار سرائر المؤمنين لعدوهم وموالاتهم للكافرين : (قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) ، فجمعوا بين العمل بالفساد في الأرض ، وإظهار أنه ليس بإفساد بل هو إصلاح ، قلبا للحقائق وجمعا بين فعل الباطل واعتقاده حقا ، وهؤلاء أعظم جناية ممن يعمل بالمعاصي ، مع اعتقاد تحريمها ، فهذا أقرب للسلامة ، وأرجى لرجوعه. ولما كان في قولهم : (إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) حصر للإصلاح في جانبهم ـ وفي ضمنه أن المؤمنين ليسوا من أهل الإصلاح ـ قلب الله عليهم دعواهم بقوله :

[١٢] (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ) فإنه لا أعظم إفسادا ممن كفر بآيات الله ، وصدّ عن سبيل الله وخادع الله وأولياءه ، ووالى المحاربين لله ورسوله ، وزعم ـ مع هذا ـ أن هذا إصلاح ، فهل بعد هذا الفساد فساد؟ ولكن لا يعلمون علما ينفعهم ، وإن كانوا قد علموا بذلك علما تقوم به عليهم حجة الله ، وإنما كان العمل في الأرض إفسادا ، لأنه سبب لفساد ما على وجه الأرض من الحبوب والثمار والأشجار ، والنبات ، لما يحصل فيها من الآفات التي سببها المعاصي. ولأن الإصلاح في الأرض أن تعمر بطاعة الله والإيمان به ، لهذا خلق الله الخلق ، وأسكنهم الأرض ، وأدر عليهم الأرزاق ، ليستعينوا بها على طاعته وعبادته. فإذا عمل فيها بضده ، كان سعيا فيها بالفساد ، وإخرابا لها عما خلقت له.

[١٣] أي : إذا قيل للمنافقين آمنوا كما آمن الناس ، أي : كإيمان الصحابة رضي الله عنهم ، وهو الإيمان بالقلب واللسان ، قالوا ـ بزعمهم الباطل ـ أنؤمن كما آمن السفهاء؟ يعنون ـ قبّحهم الله ـ الصحابة رضي الله عنهم ، لزعمهم أن سفههم أوجب لهم الإيمان ، وترك الأوطان ، ومعاداة الكفار ، والعقل عندهم يقتضي ضد ذلك ، فنسبوهم إلى السفه ؛ وفي ضمن ذلك ، أنهم هم العقلاء أرباب الحجا والنهى. فرد الله ذلك عليهم ، وأخبر أنهم هم السفهاء على الحقيقة ، لأن حقيقة السفه ، جهل الإنسان بمصالح نفسه ، وسعيه فيما يضرها ، وهذه الصفة منطبقة عليهم ، كما أن العقل والحجا ، معرفة الإنسان بمصالح نفسه ، والسعي فيما ينفعه ، وفي دفع ما يضره ، وهذه الصفة منطبقة على الصحابة والمؤمنين. فالعبرة بالأوصاف والبرهان ، لا بالدعاوى المجردة ، والأقوال الفارغة.

٤٠