تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنّان

الشيخ أبي عبدالله عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر آل سعدي

تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنّان

المؤلف:

الشيخ أبي عبدالله عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر آل سعدي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ١١٣٥

[١٤٣ ـ ١٤٤] (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا) الذي وقتناه له لإنزال الكتاب (وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ) بما كلمه ، من وحيه ، وأمره ، ونهيه ، تشوق إلى رؤية الله ، ونزعت نفسه لذلك ، حبا لربه واشتياقا لرؤيته. (قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ) الله (لَنْ تَرانِي) أي : لن تقدر الآن على رؤيتي ، فإن الله تبارك وتعالى ، أنشأ الخلق في هذه الدار ، على نشأة لا يقدرون بها ، ولا يثبتون لرؤية الله ، وليس في هذا ، دليل على أنهم لا يرونه في الجنة. فإنه قد دلّت النصوص القرآنية ، والأحاديث النبوية ، على أن أهل الجنة يرون ربهم تبارك وتعالى ، ويتمتعون بالنظر إلى وجهه الكريم ، وأنه ينشئهم نشأة كاملة ، يقدرون معها على رؤية الله تعالى. ولهذا رتب الله الرؤية في هذه الآية ، على ثبوت الجبل ، فقال ـ مقنعا لموسى في عدم إجابته للرؤية ـ (وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ) إذا تجلى الله له (فَسَوْفَ تَرانِي). (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ) الأصم الغليظ (جَعَلَهُ دَكًّا) أي : انهال مثل الرمل ، انزعاجا من رؤية الله وعدم ثبوته لها ، (وَخَرَّ مُوسى) حين رأى ما رأى (صَعِقاً) أي : مغشيا عليه. (فَلَمَّا أَفاقَ) تبين له حينئذ ، أنه إذا لم يثبت الجبل لرؤية الله ، فموسى أولى أن لا يثبت لذلك ، واستغفر ربه ، لما صدر منه من السؤال ، الذي لم يوافق موضعا ولذلك : (قالَ سُبْحانَكَ) أي : تنزيها لك ، وتعظيما عما لا يليق بجلالك. (تُبْتُ إِلَيْكَ) من جميع الذنوب ، وسوء الأدب معك ، (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) أي : جدد عليه الصلاة والسلام إيمانه ، بما كمل الله له ، مما كان يجهله قبل ذلك ، فلما منعه الله من رؤيته ـ بعد ما كان متشوقا إليها ـ أعطاه خيرا كثيرا فقال : (يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ) أي : اخترتك واجتبيتك ، وفضلتك ، وخصصتك بفضائل عظيمة ، ومناقب جليلة ، (بِرِسالاتِي) التي لا أجعلها ، ولا أخص بها ، إلا أفضل الخلق. (وَبِكَلامِي) إياك من غير واسطة ، وهذه فضيلة ، اختص بها موسى الكليم ، وعرف بها من بين إخوانه من المرسلين ، (فَخُذْ ما آتَيْتُكَ) من النعم ، وخذ ما آتيتك ، من الأمر والنهي ، بانشراح صدر ، وتلقه بالقبول والانقياد ، (وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) لله ، على ما خصك وفضلك.

[١٤٥] (وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) يحتاج إليه العباد و (مَوْعِظَةً) ترغب النفوس في أفعال الخير ، وترهبهم من أفعال الشر ، (وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ) من الأحكام الشرعية ، والعقائد والأخلاق ، والآداب. (فَخُذْها بِقُوَّةٍ) أي : بجد واجتهاد على إقامتها ، (وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها) وهي الأوامر الواجبة ، والمستحبة ، فإنها أحسنها ، وفي هذا دليل على أن أوامر الله ـ في كل شريعة ـ كاملة ، عادلة ، حسنة. (سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ) بعد ما أهلكهم الله ، وأبقى ديارهم عبرة بعدهم ، يعتبر بها المؤمنون الموفقون المتواضعون.

[١٤٦] وأما غيرهم ، فقال عنهم : (سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ) أي عن الاعتبار في الآيات الأفقية ، والنفسية ، والفهم لآيات الكتاب (الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) ، أي : يتكبرون على عباد الله ، وعلى الحق ، وعلى من جاء به ، فمن كان بهذه الصفة ، حرمه الله خيرا كثيرا ، وخذله ، ولم يفقه من آيات الله ، ما ينتفع به ، بل ربما انقلبت عليه الحقائق ، واستحسن القبيح. (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها) لإعراضهم ، واعتراضهم ، ومحادتهم لله

٣٤١

ورسوله ، (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ) أي : الهدى والاستقامة ، وهو الصراط الموصل إلى الله ، وإلى دار كرامته. (لا يَتَّخِذُوهُ) أي : لا يسلكوه ولا يرغبوا فيه (سَبِيلاً) ، (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِ) أي : الغواية الموصل لصاحبه إلى دار الشقاء (يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً) ، والسبب في انحرافهم هذا الانحراف (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ) ، فردهم لآيات الله ، وغفلتهم عما يراد بها ، واحتقارهم لها ـ هو الذي أوجب لهم من سلوك طريق الغي ، وترك طريق الرشد ، ما أوجب.

[١٤٧] (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) العظيمة الدالة على صحة ما أرسلنا به رسلنا. (وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) لأنها على غير أساس ، وقد فقد شرطها وهو ، الإيمان بآيات الله ، والتصديق بجزائه. (هَلْ يُجْزَوْنَ) في بطلان أعمالهم ، وحصول ضد مقصودهم (إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) فإن أعمال من لا يؤمن باليوم الآخر ، لا يرجو فيها ثوابا ، وليس لها غاية تنتهي إليها ، فلذلك اضمحلّت وبطلت.

[١٤٨] (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً) صاغه السامري وألقى عليه قبضة من أثر الرسول فصار (لَهُ خُوارٌ) وصوت فعبدوه ، واتخذوه إلها. (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ) فنسي موسى ، وذهب يطلبه ، وهذا من سفههم ، وقلة بصيرتهم ، كيف اشتبه عليهم ، رب الأرض والسموات ، بعجل من أنقص المخلوقات؟ ولهذا قال مبينا أنه ليس فيه من الصفات الذاتية ، ولا الفعلية ، ما يوجب أن يكون إلها ، (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ) أي : وعدم الكلام ، نقص عظيم ، فهم أكمل حالة من هذا الحيوان أو الجماد ، الذي لا يتكلم (وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً) أي : لا يدلهم طريقا دينيا ، ولا يحصل لهم مصلحة دنيوية ، لأن من المتقرر في العقول والفطر ، أن اتخاذ إله لا يتكلم ، ولا ينفع ، ولا يضر ، من أبطل الباطل ، وأسمج السفه ، ولهذا قال : (اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ) حيث وضعوا العبادة في غير موضعها ، وأشركوا بالله ، ما لم ينزل به سلطانا ، وفيها دليل على أن من أنكر كلام الله ، فقد أنكر خصائص إلهية الله تعالى ، لأن الله ذكر أن عدم الكلام دليل على عدم صلاحية الذي لا يتكلم للإلهية.

[١٤٩] (وَلَمَّا) رجع موسى إلى قومه ، فوجدهم على هذه الحال ، وأخبرهم بضلالهم ، ندموا (سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ) أي : من الهم والندم على فعلهم ، (وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا) فتنصلوا ، إلى الله وتضرعوا (قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا) فيدلنا عليه ، ويرزقنا عبادته ، ويوفقنا لصالح الأعمال ، (وَيَغْفِرْ لَنا) ما صدر منا من عبادة العجل ، (لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) الذين خسروا الدنيا والآخرة.

[١٥٠] (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً) أي : ممتلئا غضبا وغيظا عليهم ، لتمام غيرته عليه‌السلام ، وكمال نصحه وشفقته ، (قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي) أي : بئس الحالة التي خلفتموني بها من بعد ذهابي عنكم ، فإنها حالة تفضي إلى الهلاك الأبدي ، والشقاء السرمدي. (أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ) حيث وعدكم بإنزال الكتاب. فبادرتم ـ برأيكم الفاسد ـ إلى هذه الخصلة القبيحة. (وَأَلْقَى الْأَلْواحَ) أي : رماها من الغضب (وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ) هارون

٣٤٢

ولحيته (يَجُرُّهُ إِلَيْهِ) وقال له : (ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) (٩٣) لك بقولي : (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ) (وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ). (قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) ، و (قالَ) هنا (ابْنَ أُمَ) هذا ترقيق لأخيه ، بذكر الأم وحدها ، وإلا فهو شقيقه لأمه وأبيه. (إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي) أي : احتقروني حين قلت لهم : (يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي) ، (وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي) أي : فلا تظن بي تقصيرا (فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ) بنهرك لي ، ومسكك إياي بسوء ، فإن الأعداء ، حريصون على أن يجدوا عليّ عثرة ، أو يطلعوا لي على زلة ، (وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) فتعاملني معاملتهم.

[١٥١ ـ ١٥٢] فندم موسى عليه‌السلام على ما استعجل من صنعه بأخيه ، قبل أن يعلم براءته ، مما ظنه فيه من التقصير ، و (قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي) هارون (وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ) أي : في وسطها ، واجعل رحمتك تحيط بنا من كل جانب ، فإنها حصن حصين ، من جميع الشرور ، وثمّ كل خير وسرور. (وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) أي : أرحم بنا من كل راحم ، أرحم بنا من آبائنا ، وأمهاتنا ، وأولادنا ، وأنفسنا. قال الله تعالى ـ مبينا حال أهل العجل الذين عبدوه : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ) إلها (سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) كما أغضبوا ربهم واستهانوا بأمره. (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ) فكل مفتر على الله ، كاذب على شرعه ، متقول عليه ما لم يقل ، فإن له نصيبا من الغضب ، من الله ، والذل في الحياة الدنيا ، وقد نالهم غضب الله ، حيث أمرهم أن يقتلوا أنفسهم ، وأنه لا يرضى الله عنهم إلا بذلك.

[١٥٣] فقتل بعضهم بعضا ، وانجلت المعركة ، عن كثير من القتلى ثم تاب الله عليهم بعد ذلك ، ولهذا ذكر حكما عاما يدخلون فيه وغيرهم فقال : (وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ) من شرك ، وكبائر ، وصغائر (ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها) بأن ندموا على ما مضى ، وأقلعوا عنه ، وعزموا على أن لا يعودوا (وَآمَنُوا) بالله ، وبما أوجب الله من الإيمان به ، ولا يتم الإيمان إلا بأعمال القلوب ، وأعمال الجوارح المترتبة على الإيمان (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها) أي : بعد هذه الحالة ، حالة التوبة من السيئات والرجوع إلى الطاعات ، (لَغَفُورٌ) يغفر السيئات ويمحوها ، ولو كانت ملء قراب الأرض ، (رَحِيمٌ) بقبول التوبة ، والتوفيق لأفعال الخير وقبولها.

[١٥٤] (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ) أي : سكن غضبه ، وتراجعت نفسه ، وعرف ما هو فيه ، اشتغل بأهم الأشياء عنده ، ف (أَخَذَ الْأَلْواحَ) التي ألقاها ، وهي ألواح عظيمة المقدار ، جليلة (وَفِي نُسْخَتِها) أي : مشتملة ومتضمنة (هُدىً وَرَحْمَةٌ) أي : فيها الهدى من الضلالة ، وبيان الحق من الباطل ، وأعمال الخير ، وأعمال الشر ، والهدى لأحسن الأعمال ، والأخلاق ، والآداب ، ورحمة وسعادة ، لمن عمل بها ، وعلم أحكامها ومعانيها ، ولكن ليس كل أحد يقبل هدى الله ورحمته ، وإنما يقبل ذلك وينقاد له ، ويتلقاه بالقبول (لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) ، أي : يخافون منه ويخشونه. وأما من لم يخف الله ، ولا المقام بين يديه ، فإنه لا يزداد بها ، إلا عتوا ونفورا ، وتقوم عليه حجة الله فيها.

[١٥٥] (وَ) لما تاب بنو إسرائيل وتراجعوا إلى رشدهم (اخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ) أي : منهم (سَبْعِينَ رَجُلاً) من خيارهم ، ليعتذروا لقومهم عند ربهم ، ووعدهم الله ميقاتا يحضرون فيه ، فلما حضروه ، قالوا : يا موسى ، (أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) فتجرؤوا على الله جراءة كبيرة ، وأساؤوا الأدب معه ، ف (أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) فصعقوا وهلكوا. فلم يزل موسى عليه الصلاة والسلام ، يتضرع إلى الله ويتبتل (قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ) أن يحضروا ويكونوا في حالة يعتذرون فيها لقومهم ، فصاروا هم الظالمين. (وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا) أي : ضعفاء العقول ، سفهاء الأحلام ، فتضرع إلى الله ، واعتذر بأن المجترئين على الله ، ليس لهم عقول كاملة ، تردعهم عما قالوا وفعلوا ، وبأنهم حصل لهم فتنة يخطر بها الإنسان ، ويخاف من ذهاب دينه فقال : (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ

٣٤٣

وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ) أي : أنت خير من غفر ، وأولى من رحم ، وأكرم من أعطى ، وتفضل. فكأن موسى عليه الصلاة والسلام ، قال : المقصود يا رب بالقصد الأول لنا كلنا ، هو التزام طاعتك ، والإيمان بك ، وأن من حضره عقله ورشده ، وتم على ما وهبته من التوفيق ، فإنه لم يزل مستقيما ، وأما من ضعف عقله ، وسفه رأيه ، وصرفته الفتنة ، فهو الذي فعل ما فعل ، لذلك السببين ، ومع هذا ، فأنت أرحم الراحمين ، وخير الغافرين ، فاغفر لنا وارحمنا.

[١٥٦] فأجاب الله سؤاله ، وأحياهم من بعد موتهم ، وغفر لهم ذنوبهم ، وقال موسى في تمام دعائه (وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً) من علم نافع ، ورزق واسع ، وعمل صالح. (وَفِي الْآخِرَةِ) حسنة ، وهي ما أعد الله لأوليائه الصالحين من الثواب. (إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ) أي : رجعنا مقرين بتقصيرنا ، منيبين في جميع أمورنا ، (قالَ) الله تعالى : (عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ) ممن كان شقيا ، متعرضا لأسبابه ، (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) من العالم العلوي والسفلي ، والبر والفاجر ، المؤمن والكافر. فلا مخلوق ، إلا قد وصلت إليه رحمة الله ، وغمره فضله وإحسانه ، ولكن الرحمة الخاصة ، المقتضية لسعادة الدنيا والآخرة ، ليست لكل أحد ، ولهذا قال عنها : (فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) المعاصي ، صغارها ، وكبارها. (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) الواجبة مستحقيها (وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ) ، ومن تمام الإيمان بآيات الله ، معرفة معناها ، والعمل بمقتضاها ، ومن ذلك اتباع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ظاهرا وباطنا ، في أصول الدين ، وفروعه.

[١٥٧ ـ ١٥٨] (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَ) احتراز عن سائر الأنبياء ، فإن المقصود بهذا ، محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والسياق في أحوال بني إسرائيل وأن الإيمان بالنبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، شرط في دخولهم في الإيمان ، وأن المؤمنين به ، المتبعين ، هم أهل الرحمة المطلقة ، التي كتبها الله لهم ، ووصفه بالأمي ، لأنه من العرب ، الأمة الأمية ، التي لا تقرأ ولا تكتب ، وليس عندها قبل القرآن كتاب. (الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) باسمه وصفته ، التي من أعظمها وأجلها ، ما يدعو إليه وينهى عنه. وأنه (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ) وهو كل ما عرف حسنه وصلاحه ، ونفعه. (وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ) وهو : كل ما عرف قبحه في العقول ، والفطر ، فيأمرهم بالصلاة ، والزكاة ، والصوم ، والحج ، وصلة الأرحام ، وبر الوالدين ، والإحسان إلى الجار ، والمملوك ، وبذل النفع لسائر الخلق ، والصدق ، والعفاف ، والبر ، والنصيحة ، وما أشبه ذلك. وينهى عن الشرك بالله ، وقتل النفوس بغير حق ، والزنا ، وشرب ما يسكر العقل ، والظلم لسائر الخلق ، والكذب ، والفجور ، ونحو ذلك. فأعظم دليل يدل على أنه رسول الله ، ما دعا إليه ، وأمر به ، ونهى عنه ، وأحله ، وحرّمه ، فإنه (يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ) من المطاعم ، والمشارب ، والمناكح. (وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ) من المطاعم ، والمشارب ، والمناكح ، والأقوال ، والأفعال. (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ) أي : ومن وصفه أن دينه ، سهل سمح ميسر ، لا إصر فيه ، ولا أغلال ، ولا مشقات ، ولا تكاليف ثقال. (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ) أي : عظموه وبجلوه (وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا

٣٤٤

النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ) وهو القرآن ، الذي يستضاء به في ظلمات الشك والجهالات ويقتدى به ، إذا تعارضت المقالات ، (أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الظافرون ، بخير الدنيا والآخرة ، والناجون من شرهما ، لأنهم أتوا بأكبر أسباب الفلاح. وأما من لم يؤمن بهذا النبي الأمي ، ويعزره ، وينصره ، ولم يتبع النور الذي أنزل معه ، فأولئك هم الخاسرون. ولما دعا أهل التوراة من بني إسرائيل ، إلى اتباعه ، وكان ربما توهم متوهم ، أن الحكم مقصور عليهم ، أتى بما يدل على العموم فقال : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) أي : عربيكم ، وعجميكم ، أهل الكتاب فيكم ، وغيرهم. (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يتصرف فيها بأحكامه الكونية والتدابير السلطانية ، وبأحكامه الشرعية الدينية ، التي من جملتها : أن أرسل إليكم رسولا عظيما يدعوكم إلى الله ، وإلى دار كرامته ، ويحذركم من كل ما يباعدكم منه ، ومن دار كرامته. (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي : لا معبود بحق ، إلا الله وحده لا شريك له ، ولا تعرف عبادته إلا من طريق رسله. (يُحيِي وَيُمِيتُ) أي : من جملة تدابيره : الإحياء والإماتة ، التي لا يشاركه فيها أحد ، وقد جعل الله الموت ، جسرا ، ومعبرا ، يعبر الإنسان منه إلى دار البقاء ، التي من آمن بها ، صدق الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قطعا. (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِ) إيمانا في القلب ، متضمنا لأعمال القلوب والجوارح ، (الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ) ، أي : آمنوا بهذا الرسول المستقيم في عقائده ، وأعماله ، (وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) في مصالحكم الدينية والدنيوية ، فإنكم إذا لم تتبعوه ، ضللتم ضلالا بعيدا.

[١٥٩] (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ) أي : جماعة (يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) أي : يهدون الناس في تعليمهم إياهم ، وفتواهم لهم ، يعدلون به في الحكم بينهم ، في قضاياهم ، كما قال تعالى : (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ) (٢٤) ، وفي هذا فضيلة لأمة موسى عليه الصلاة والسّلام ، وأن الله تعالى جعل منهم هداة يهدون بأمره. وكان الإتيان بهذه الآية الكريمة ، فيه نوع احتراز مما تقدم ، فإنه تعالى ذكر فيما تقدم جملة من معايب بني إسرائيل ، المنافية للكمال المناقضة للهداية ، فربما توهم متوهم ، أن هذا يعم جميعهم ، فذكر تعالى ، أن منهم طائفة مستقيمة هادية مهدية.

[١٦٠] (وَقَطَّعْناهُمُ) أي : قسمناهم (اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً) أي : اثنتي عشرة قبيلة ، متعارفة ، متوالفة ، كل بني رجل من أولاد يعقوب ، قبيلة. (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ) أي : طلبوا منه أن يدعو الله تعالى ، أن يسقيهم ما يشربون منه ، وتشرب منه مواشيهم ، وذلك لأنهم ـ والله أعلم ـ في محل قليل الماء. فأوحى الله لموسى ، إجابة لطلبهم (أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ) يحتمل أنه حجر معين ، ويحتمل أنه اسم جنس ، يشمل أي حجر كان ، فضربه (فَانْبَجَسَتْ) أي : انفجرت من ذلك الحجر (اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً) جارية سارحة. (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ) أي : قد قسم على كل قبيلة من تلك القبائل الاثنتي عشرة ، وجعل لكم منهم عينا ، فعلموها ، واطمأنوا ، واستراحوا من التعب والمزاحمة ، وهذا من تمام نعمة الله عليهم. (وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ) فكان يسترهم

٣٤٥

من حر الشمس ، (وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَ) وهو الحلوى ، (وَالسَّلْوى) وهو لحم طير ، من أحسن أنواع الطيور ، وألذها ، فجمع الله لهم ، بين الظلال ، والشراب ، والطعام الطيب ، من الحلوى واللحوم ، على وجه الراحة والطمأنينة. وقيل لهم : (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا) حين لم يشكروا الله ، ولم يقوموا بما أوجب الله عليهم. (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) حيث فوتوها كل خير ، وعرضوها للشر والنقمة ، وهذا كان مدة لبثهم في التيه.

[١٦١ ـ ١٦٢] (وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ) أي : ادخلوها لتكون وطنا لكم ومسكنا ، وهي «إيلياء» (وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ) أي : قرية كانت كثيرة الأشجار ، غزيرة الثمار ، رغيدة العيش ، فلذلك أمرهم الله أن يأكلوا منها حيث شاؤوا. (وَقُولُوا) حين تدخلون الباب : (حِطَّةٌ) أي : احطط عنا خطايانا ، واعف عنا. (وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً) أي : خاضعين لربكم ، مستكينين لعزته ، شاكرين لنعمته ، فأمرهم بالخضوع ، وسؤال المغفرة ، ووعدهم على ذلك ، مغفرة ذنوبهم والثواب العاجل والآجل فقال : (نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) من خير الدنيا والآخرة ، فلم يمتثلوا هذا الأمر الإلهي ، بل خالفوا. (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) أي : عصوا الله واستهانوا بأمره (قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) فقالوا ، بدل طلب المغفرة ، وقولهم : (حِطَّةٌ) ، (حبة في شعيرة) ، وإذا بدلوا القول ـ مع يسره وسهولته ـ فتبديلهم للفعل من باب أولى ، ولهذا دخلوا يزحفون على أستاههم. (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ) حين خالفوا أمر الله وعصوه (رِجْزاً مِنَ السَّماءِ) أي : عذابا شديدا ، إما الطاعون وإما غيره ، من العقوبات السماوية. وما ظلمهم الله بعقابه ، وإنّما كان ذلك (بِما كانُوا يَظْلِمُونَ).

[١٦٣] (وَسْئَلْهُمْ) أي : اسأل بني إسرائيل (عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ) أي : على ساحله ، في حال تعديهم وعقاب الله إياهم. (إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ) وكان الله تعالى قد أمرهم أن يعظموه ويحترموه ولا يصيدوا فيه صيدا ، فابتلاهم الله ، وامتحنهم ، فكانت (تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً) أي كثيرة طافية على وجه البحر. (وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ) أي : إذا ذهب يوم السبت (لا تَأْتِيهِمْ) أي : تذهب في البحر ، فلا يرون منها شيئا (كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) ، ففسقهم ، هو الذي أوجب أن يبتليهم الله ، وأن تكون لهم هذه المحنة ، وإلا ، فلو لم يفسقوا ، لعافاهم الله ، ولما عرضهم للبلاء والشر ، فتحيلوا على الصيد ، فكانوا يحفرون لها حفرا ، وينصبون لها الشباك ، فإذا جاءت يوم السبت ، ووقعت في تلك الحفر والشباك ، لم يأخذوها في ذلك اليوم ، فإذا جاء يوم الأحد ، أخذوها ، وكثر فيهم ذلك.

[١٦٤ ـ ١٦٥] وانقسموا ثلاث فرق. معظمهم ، اعتدوا وتجرؤوا ، وأعلنوا بذلك. وفرقة أعلنت بنهيهم ، والإنكار عليهم. وفرقة اكتفت بإنكار أولئك عليهم ، ونهيهم لهم وقالوا : (لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً) ، كأنهم يقولون : لا فائدة في وعظ من اقتحم محارم الله ، ولم يصغ للنصيحة ، بل استمر على اعتدائه

٣٤٦

وطغيانه ، فإنه لا بد أن يعاقبهم الله ، إما بهلاك ، أو عذاب شديد. فقال الواعظون : نعظهم وننهاهم (مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ) ، أي : لنعذر فيهم. (وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) أي : يتركون ما هم فيه من المعصية ، فلا نيأس من هدايتهم ، فربما نجح فيهم الوعظ ، وأثر فيهم اللوم. وهذا هو المقصود الأعظم ، من إنكار المنكر ، ليكون معذرة ، وإقامة حجة على المأمور المنهي ، ولعل الله أن يهديه ، فيعمل بمقتضى ذلك الأمر ، والنهي. (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ) أي : تركوا ما ذكروا به ، واستمروا على غيهم واعتدائهم. (أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ) وهكذا سنة الله في عباده ، أن العقوبة إذا نزلت نجا منها الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر. (وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا) وهم الّذين اعتدوا في السبت (بِعَذابٍ بَئِيسٍ) أي : شديد (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) ، وأما الفرقة الأخرى التي قالت للناهين (لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ) ، فاختلف المفسرون في نجاتهم ، وهلاكهم ، والظاهر ، أنهم كانوا من الناجين ، لأن الله خص الهلاك بالظالمين ، وهو لم يذكر ، أنهم ظالمون. فدل على أن العقوبة ، خاصة بالمعتدين في السبت ، ولأن الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، فرض كفاية ، إذا قام به البعض ، سقط عن الآخرين ، فاكتفوا بإنكار أولئك ، ولأنهم أنكروا عليهم بقولهم : (لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً) فأبدوا من غضبهم عليهم ، ما يقتضي أنهم كارهون أشد الكراهة ، لفعلهم ، وأن الله سيعاقبهم أشد العقوبة.

[١٦٦ ـ ١٦٧] (فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا) أي : قسوا فلم يلينوا ، ولا اتعظوا ، (قُلْنا لَهُمْ) قولا قدريا ، (كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) فانقلبوا بإذن الله قردة ، وأبعدهم الله من رحمته ، ثمّ ذكر ضرب الذلة والصغار على من بقي منهم فقال : (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ) أي : اعلم إعلاما ، صريحا : (لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ) أي : يهينهم ، ويذلهم. (إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ) لمن عصاه ، حتى إنه يعجل له العقوبة في الدنيا. (وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) لمن تاب إليه وأناب ، يغفر له الذنوب ، ويستر عليه العيوب ، ويرحمه ، بأن يتقبل منه الطاعات ، ويثيبه عليها بأنواع المثوبات. وقد فعل الله بهم ما وعدهم به ، فلا يزالون في ذل وإهانة ، تحت حكم غيرهم ، لا تقوم لهم راية ، ولا ينصر لهم علم.

[١٦٨] (وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً) أي : فرقناهم ومزقناهم في الأرض ، بعد ما كانوا مجتمعين ، (مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ) القائمون بحقوق الله ، وحقوق عباده ، (وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ) أي : دون الصلاح ، إما مقتصدون ، وإما الظالمون لأنفسهم ، (وَبَلَوْناهُمْ) أي عادتنا وسنتنا ، (بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ) أي : باليسر والعسر. (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) عما هم عليه مقيمون ، من الردى ، ويراجعون ما خلقوا له من الهدى ، فلم يزالوا بين صالح ، وطالح ، ومقتصد.

[١٦٩ ـ ١٧٠] (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ) زاد شرهم (وَرِثُوا) بعدهم (الْكِتابَ) وصار المرجع فيه إليهم ، وصاروا يتصرفون فيه بأهوائهم ، وتبذل لهم الأموال ، ليفتوا ويحكموا ، بغير الحقّ ، وفشت فيهم الرشوة. (يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ) مقرين بأنه ذنب وأنهم ظلمة : (سَيُغْفَرُ لَنا) وهذا قول خال من الحقيقة ، فإنه ليس استغفارا

٣٤٧

وطلبا للمغفرة على الحقيقة. فلو كان ذلك ، لندموا على ما فعلوا ، وعزموا على أن لا يعودوا ، ولكنهم ـ إذا أتاهم عرض آخر ، ورشوة أخرى ـ يأخذونه. فاشتروا بآيات الله ثمنا قليلا ، واستبدلوا الذي هو أدنى ، بالذي هو خير. قال الله تعالى في الإنكار عليهم ، وبيان جراءتهم : (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) ، فما بالهم يقولون عليه غير الحقّ ، اتباعا لأهوائهم ، وميلا مع مطامعهم. (وَ) الحال أنهم قد (دَرَسُوا ما فِيهِ) فليس عليهم فيه إشكال ، بل قد أتوا أمرهم متعمدين ، وكانوا في أمرهم مستبصرين ، وهذا أعظم للذنب ، وأشد للوم ، وأشنع للعقوبة ، وهذا من نقص عقولهم ، وسفاهة رأيهم ، بإيثار الحياة الدنيا على الآخرة ، ولهذا قال : (وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) ما حرّم الله عليهم ، من المآكل التي تصاب ، وتؤكل رشوة على الحكم ، بغير ما أنزل الله ، وغير ذلك من أنواع المحرمات. (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أي : أفلا تكون لكم عقول توازن بين ما ينبغي إيثاره ، وما ينبغي الإيثار عليه ، وما هو أولى بالسعي إليه ، والتقديم له على غيره ، فخاصية العقل ، النظر للعواقب. وأما من نظر إلى عاجل طفيف منقطع ، يفوت نعيما عظيما باقيا فأنى له العقل والرأي؟ وإنّما العقلاء حقيقة ، من وصفهم الله بقوله : (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ) أي : يتمسكون به علما وعملا ، فيعلمون ما فيه من الأحكام والأخبار التي علمها أشرف العلوم. ويعملون بما فيها من الأوامر ، التي هي قرة العيون ، وسرور القلوب ، وأفراح الأرواح ، وصلاح الدنيا والآخرة. ومن أعظم ما يجب التمسك به من المأمورات ، إقامة الصلاة ، ظاهرا وباطنا ، ولهذا خصها بالذكر لفضلها ، وشرفها ، وكونها ميزان الإيمان ، وإقامتها ، داعية لإقامة غيرها من العبادات. ولما كان عملهم كله إصلاحا ، قال تعالى : (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) في أقوالهم وأعمالهم ، ونياتهم ، مصلحين ، لأنفسهم ، ولغيرهم. وهذه الآية ، وما أشبهها ، دلّت على أن الله بعث رسله ، عليهم الصلاة والسّلام ، بالصلاح لا بالفساد ، وبالمنافع لا بالمضار ، وأنهم بعثوا بصلاح الدارين ، فكل من كان أصلح ، كان أقرب إلى اتباعهم.

[١٧١ ـ ١٧٤] ثمّ قال تعالى : (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ) حين امتنعوا من قبول ما في التوراة. فألزمهم الله العمل ونتق فوق رؤوسهم الجبل ، فصار فوقهم (كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ) وقيل لهم (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) أي : بجد واجتهاد. (وَاذْكُرُوا ما فِيهِ) دراسة ومباحثة ، واتصافا بالعمل (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) إذا فعلتم ذلك. يقول تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) أي : أخرج من أصلابهم ، ذريتهم ، وجعلهم يتناسلون ، ويتوالدون ، قرنا بعد قرن. (وَ) حين أخرجهم من بطون أمهاتهم وأصلاب آبائهم (أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) أي : قررهم ، بإثبات ربوبيته ، بما أودعه في فطرهم ، من الإقرار ، بأنه ربهم وخالقهم ، ومليكهم. (قالُوا : بَلى) قد أقررنا بذلك ، فإن الله تعالى ، فطر عباده على الدين الحنيف القيم. فكل أحد ، فهو مفطور على ذلك ، ولكن الفطرة قد تغير ، وتبدل ، بما يطرأ على العقول من العقائد الفاسدة ، ولهذا (قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ). أي : إنّما امتحناكم ، حتى أقررتم ، بما تقرر عندكم ، من أن الله تعالى ، ربكم ،

٣٤٨

خشية أن تنكروا يوم القيامة ، فلا تقروا بشيء من ذلك ، وتزعمون أن حجة الله ، ما قامت عليكم ، ولا عندكم بها علم ، بل أنتم غافلون عنها لاهون. فاليوم ، قد انقطعت حجتكم ، وثبتت الحجة البالغة لله ، عليكم ، أو تحتجون أيضا بحجة أخرى ، فتقولون : (إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ) فحذونا حذوهم ، وتبعناهم في باطلهم. (أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ) ، فقد أودع الله في فطركم ، ما يدلكم على أن ما مع آبائكم ، باطل ، وأن الحقّ ما جاءت به الرسل ، وهذا يقاوم ما وجدتم عليه آباءكم ، ويعلو عليه. نعم قد يعرض للعبد من أقوال آبائه الضالين ، ومذاهبهم الفاسدة ، ما يظنه هو الحقّ ، وما ذاك إلا لإعراضه ، عن حجج الله وبيناته ، وآياته الأفقية ، والنفسية ، فإعراضه ذلك ، وإقباله على ما قاله المبطلون ، ربما صيره بحالة يفضل بها الباطل على الحقّ ، هذا هو الصواب في تفسير هذه الآيات. وقد قيل : إن هذا يوم أخذ الله الميثاق على ذرية آدم ، حين استخرجهم من ظهره ، وأشهدهم على أنفسهم ، فشهدوا بذلك ، فاحتج عليهم بما أمرهم به في ذلك الوقت ، على ظلمهم ، في كفرهم ، وعنادهم في الدنيا والآخرة ، ولكن ليس في الآية ما يدل على هذا ، ولا له مناسبة ، ولا تقتضيه حكمة الله تعالى ، والواقع شاهد بذلك. فإن هذا العهد والميثاق ، الذي ذكروا ، أنه حين أخرج الله ذرية آدم من ظهره ، حين كانوا في عالم الذر ، لا يذكره أحد ، ولا يخطر ببال آدمي. فكيف يحتج الله عليهم بأمر ، ليس عندهم به خبر ، ولا له عين ولا أثر؟ ولهذا لما كان هذا أمرا واضحا جليا ، قال تعالى : (وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ) أي : نبينها ونوضحها ، (وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) إلى ما أودع الله في فطرهم ، وإلى ما عاهدوا الله عليه ، فيرتدعوا عن القبائح.

[١٧٥ ـ ١٧٦] يقول تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا) أي : علمناه كتاب الله ، فصار العالم الكبير ، والحبر النحرير. (فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ) أي : انسلخ من الاتصاف الحقيقي ، بالعلم بآيات الله ، فإن العلم بذلك ، يصير صاحبه متصفا بمكارم الأخلاق ، ومحاسن الأعمال ، ويرقى إلى أعلى الدرجات ، وأرفع المقامات ، فترك هذا ، كتاب الله وراء ظهره ، ونبذ الأخلاق ، التي يأمر بها الكتاب ، وخلعها كما يخلع اللباس. فلما انسلخ منها ، أتبعه الشيطان ، أي : تسلط عليه ، حين خرج من الحصن الحصين ، وصار إلى أسفل سافلين ، فأزه إلى المعاصي أزا. (فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ) ، بعد أن كان من الراشدين المرشدين ، وهذا ، لأن الله تعالى خذله ووكله إلى نفسه ، فلهذا قال تعالى : (وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها) بأن نوفقه للعمل بها ، فيرتفع في الدنيا والآخرة ، فيتحصن من أعدائه. (وَلكِنَّهُ) فعل ما يقتضي الخذلان ، إذ (أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ) أي : إلى الشهوات السفلية ، والمقاصد الدنيوية ، (وَاتَّبَعَ هَواهُ) وترك طاعة مولاه ، (فَمَثَلُهُ) في شدة حرصه على الدنيا ، وانقطاع قلبه إليها ، (كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ) ، أي : لا يزال لاهثا في كل حال ، وهذا لا يزال حريصا ، حرصا قاطعا قلبه ، لا يسد فاقته شيء من الدنيا. (ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) بعد أن ساقها الله إليهم ، فلم ينقادوا لها ، بل كذبوا بها ، وردوها ، لهوانهم على الله واتباعهم لأهوائهم ، بغير هدى من الله. (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ

٣٤٩

لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) في ضرب الأمثال ، وفي العبر والآيات ، وفي العبر والآيات ، فإذا تفكروا ، علموا ، وإذا علموا ، عملوا.

[١٧٧] (ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ) (١٧٧) ، أي : ساء وقبح ، مثل من كذب بآيات الله ، وظلم نفسه ، بأنواع المعاصي ، فإن مثلهم مثل السوء ، وهذا الذي آتاه الله آياته ، يحتمل أن المراد شخص معين ، قد كان منه ما ذكره الله ، فقص الله قصة تبينها للعباد. ويحتمل أن المراد بذلك ، أنه اسم جنس ، وأنه شامل لكل من آتاه الله آياته ، فانسلخ منها. وفي هذه الآيات ، الترغيب في العمل بالعلم ، وأن ذلك رفعة من الله لصاحبه ، وعصمة من الشيطان ، والترهيب من عدم العمل به ، وأنه نزول إلى أسفل سافلين ، وتسليط للشيطان عليه ، وفيه أن اتباع الهوى ، وإخلاد العبد إلى الشهوات ، يكون سببا للخذلان.

[١٧٨] ثمّ قال ـ مبينا أنه المنفرد بالهداية والإضلال ـ : (مَنْ يَهْدِ اللهُ) بأن يوفقه للخيرات ، ويعصمه من المكروهات ، ويعلمه ما لم يكن يعلم ، (فَهُوَ الْمُهْتَدِي) حقا لأنه آثر هدايته تعالى. (وَمَنْ يُضْلِلْ) فيخذله ولا يوفقه للخير (فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) لأنفسهم وأهليهم يوم القيامة ، ألا ذلك هو الخسران المبين.

[١٧٩ ـ ١٨٠] يقول تعالى ـ مبينا كثرة الغاوين الضالين ، المتبعين إبليس اللعين : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا) أي : أنشأنا وبثثنا (لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) صارت البهائم أحسن حالة منهم. (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها) أي : لا يصل إليها فقه ولا علم ، إلا مجرد قيام الحجة. (وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها) ما ينفعهم ، بل فقدوا منفعتها وفائدتها. (وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها) سماعا يصل معناه إلى قلوبهم. (أُولئِكَ) الّذين بهذه الأوصاف القبيحة (كَالْأَنْعامِ) أي : البهائم ، التي فقدت العقول ، وهؤلاء آثروا ما يفنى ، على ما يبقى ، فسلبوا خاصية العقل. (بَلْ هُمْ أَضَلُ) من البهائم ، فإن الأنعام مستعملة فيما خلقت له ، ولها أذهان ، تدرك بها ، مضرتها من منفعتها ، فلذلك كانت أحسن حالا منهم. و (أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) الّذين غفلوا عن أنفع الأشياء ، غفلوا عن الإيمان بالله ، وطاعته ، وذكره. خلقت لهم الأفئدة والأسماع والأبصار ، لتكون عونا لهم على القيام بأوامر الله وحقوقه ، فاستعانوا بها على ضد هذا المقصود. فهؤلاء حقيقون ، بأن يكونوا ممن ذرأ الله لجهنم وخلقهم لها ، فخلقهم للنار ، وبأعمال أهلها ، يعملون. وأما من استعمل هذه الجوارح في عبادة الله ، وانصبغ قلبه بالإيمان بالله ومحبته ، ولم يغفل عن الله ، فهؤلاء أهل الجنة ، وبأعمال أهل الجنة يعملون. هذا بيان ، لعظيم جلاله وسعة أوصافه ، بأن له الأسماء الحسنى ، أي : له كل اسم حسن ، وضابطه : أنه كل اسم دال على صفة كمال عظيمة ، وبذلك كانت حسنى ، فإنها لو دلت على غير صفة ، بل كانت علما محضا ، لم تكن حسنى ، وكذلك لو دلّت على صفة ، ليست بصفة كمال ، بل إما صفة نقص أو صفة منقسمة إلى المدح والقدح ، لم تكن حسنى ، فكل اسم من أسمائه ، دال على جميع الصفة ، التي اشتق منها ، مستغرق لجميع معناها. وذلك نحو «العليم» الدال على أن له علما محيطا عاما لجميع الأشياء ، فلا يخرج عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء. و «الرحيم» الدال على أن له رحمة عظيمة ، واسعة لكل شيء. و «القدير» الدال على أن له قدرة عامة ، لا يعجزها شيء ، ونحو ذلك. ومن تمام كونها «حسنى» أنه لا يدعى إلا بها ، ولذلك قال : (فَادْعُوهُ بِها) وهذا شامل لدعاء العبادة ، ودعاء المسألة. فيدعى في كل مطلوب ، بما يناسب ذلك المطلوب ، فيقول الداعي مثلا : اللهم اغفر لي وارحمني ، إنك أنت الغفور الرحيم ، وتب عليّ يا تواب ، وارزقني يا رزاق ، والطف بي يا لطيف ونحو ذلك. وقوله : (وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) ، أي : عقوبة وعذابا على إلحادهم في أسمائه ، وحقيقة الإلحاد ، الميل بها ، عما جعلت له. إما بأن يسمى بها ، من لا يستحقها ، كتسمية المشركين بها لآلهتهم ، وإما بنفي معانيها وتحريفها ، وأن يجعل لها معنى ، ما أراده الله ولا رسوله ، وإما أن يشبه بها غيرها. فالواجب أن يحذر الإلحاد فيها ، ويحذر الملحدون فيها ، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أن لله تسعة وتسعين اسما ، من أحصاها دخل الجنة».

٣٥٠

[١٨١] وقوله : (وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) (١٨١) أي : ومن جملة من خلقنا ، أمة فاضلة ، كاملة في نفسها ، مكملة لغيرها ، يهدون أنفسهم وغيرهم ، بالحق ، فيعلمون الحقّ ، ويعملون به ، ويعلمونه ، ويدعون إليه وإلى العمل به. (وَبِهِ يَعْدِلُونَ) بين الناس في أحكامهم ، إذا حكموا في الأموال ، والدماء والحقوق ، والمقالات ، وغير ذلك. وهؤلاء أئمة الهدى ، ومصابيح الدجى ، وهم الّذين أنعم الله عليهم بالإيمان ، والعمل الصالح ، والتواصي بالحق ، والتواصي بالصبر. وهم الصديقون الّذين مرتبتهم تلي مرتبة الرسالة ، وهم في أنفسهم مراتب متفاوتة كل بحسب حاله ، وعلو منزلته. فسبحان من يختص برحمته من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم.

[١٨٢ ـ ١٨٣] أي : والّذين كذبوا بآيات الله ، الدالة على صحة ما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الهدى فردوها ولم يقبلوها. (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) بأن الله يدر لهم الأرزاق. (وَأُمْلِي لَهُمْ) أي : أمهلهم ، حتى يظنوا أنهم لا يؤخذون ، ولا يعاقبون ، فيزدادوا كفرا وطغيانا ، وشرا إلى شرهم. وبذلك تزيد عقوبتهم ، ويتضاعف عذابهم ، فيضرون أنفسهم من حيث لا يعلمون ، ولهذا قال : (إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) أي : قوي بليغ.

[١٨٤] (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ) صلى‌الله‌عليه‌وسلم (مِنْ جِنَّةٍ) أي : أولم يعملوا أفكارهم ، وينظروا : هل في صاحبهم ، الذي يعرفونه ولا يخفى عليهم من حاله شيء ، هل هو مجنون. فلينظروا في أخلاقه وهديه ، وعدله وصفاته ، وينظروا في ما دعا إليه ، فلا يجدون فيه من الصفات إلا أكملها ، ولا من الأخلاق إلا أتمها ، ولا من العقل والرأي ، إلا ما فاق به العالمين ، ولا يدعو إلا لكل خير ، ولا ينهى إلا عن كل شر. أفبهذا يا أولي الألباب جنّة؟ أم هو الإمام العظيم ، والناصح المبين ، والماجد الكريم ، والرؤوف الرحيم؟ ولهذا قال : (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي : يدعو الخلق إلى ما ينجيهم من العذاب ، ويحصل لهم الثواب.

[١٨٥ ـ ١٨٦] (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فإنهم إذا نظروا إليها ، وجدوها أدلة على توحيد ربها ، وعلى ما له من صفات الكمال. (وَ) كذلك لينظروا إلى جميع (ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) فإن جميع أجزاء العالم ، تدل أعظم دلالة ، على الله وقدرته ، وحكمته ، وسعة رحمته ، وإحسانه ، ونفوذ مشيئته ، وغير ذلك من صفاته العظيمة ، الدالة على تفرده بالخلق ، والتدبير ، الموجبة لأن يكون هو المعبود المحمود ، المسبح الموحد المحبوب. وقوله : (وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ) أي : لينظروا في خصوص حالهم ، ولينظروا لأنفسهم قبل أن يقترب أجلهم ، ويفجؤهم الموت ، وهم في غفلة معرضون ، فلا يتمكنون حينئذ من استدراك الفارط. (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) أي : إذا لم يؤمنوا بهذا الكتاب الجليل ، فأي حديث يؤمنون به؟ أبكتب الكذب والضلال؟ أم بحديث كل مفتر دجال؟. ولكن الضال لا حيلة فيه ، ولا سبيل إلى هدايته ، ولهذا قال تعالى : (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (١٨٦) أي : يتحيرون ويترددون ، فلا يخرجون من طغيانهم ، ولا يهتدون إلى حق.

٣٥١

[١٨٧] يقول تعالى لرسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (يَسْئَلُونَكَ) أي : المكذبون لك ، المتعنتون (عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها) أي : متى وقتها ، الذي تجيء به ، ومتى تحل بالخلق؟ (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي) أي : إنه تعالى المختص بعلمها ، (لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ) أي : لا يظهرها لوقتها الذي قدر أن تقوم فيه ، إلا هو. (ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : خفي علمها على أهل السموات والأرض ، واشتد أمرها أيضا عليهم ، فهم من الساعة مشفقون. (لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً) أي : فجأة من حيث لا يشعرون ، لم يستعدوا لها ، ولم يتهيأوا لها. (يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها) أي : هم حريصون على سؤالك عن الساعة ، كأنك مستحف عن السؤال عنها ، ولم يعلموا أنك ـ لكمال علمك بربك ، وما ينفع السؤال عنه ـ غير مبال بالسؤال الخالي من المصلحة ، المتعذر علمه ، فإنه لا يعلمها نبي مرسل ، ولا ملك مقرب. وهي من الأمور التي أخفاها عن الخلق ، لكمال حكمته ، وسعة علمه. (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) فلذلك حرصوا على ما لا ينبغي الحرص عليه ، وخصوصا مثل حال هؤلاء الّذين يتركون السؤال عن الأهم ، ويدعون ما يجب عليهم ، من العلم ، ثمّ يذهبون إلى ما لا سبيل لأحد أن يدركه ، ولا هم مطالبون بعلمه.

[١٨٨] (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا) فإني فقير مدبر ، لا يأتيني خير ، إلا من الله ، ولا يدفع عني الشر ، إلا هو ، وليس لي من العلم إلا ما علمني الله تعالى. (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ) أي : لفعلت الأسباب التي أعلم أنها تنتج لي المصالح والمنافع ، ولحذرت من كل ما يفضي إلى سوء ومكروه ، لعلمي بالأشياء قبل كونها ، وعلمي بما تفضي إليه. ولكني ـ لعدم علمي ـ قد ينالني ما ينالني من السوء ، وقد يفوتني ما يفوتني ، من مصالح الدنيا ومنافعها ، فهذا أول دليل على أني لا علم لي بالغيب. (إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ) أنذر بالعقوبات الدينية والدنيوية ، والأخروية ، وأبين الأعمال المفضية إلى ذلك ، وأحذر منها. (وَبَشِيرٌ) بالثواب العاجل ، ببيان الأعمال الموصلة إليه ، والترغيب فيها ، ولكن ليس كل أحد يقبل هذه البشارة والنذارة ، وإنّما ينتفع بذلك ، ويقبله المؤمنون. وهذه الآيات الكريمات ، مبينة جهل من يقصد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويدعوه لحصول نفع ، أو دفع ضر. فإنه ليس بيده شيء من الأمر ، ولا ينفع من لم ينفعه الله ، ولا يدفع الضر ، عمن لم يدفعه الله عنه ، ولا له من العلم ، إلا ما علمه الله ، وإنّما ينفع من قبل ما أرسل به ، من البشارة والنذارة ، وعمل بذلك. فهذا نفعه عليه‌السلام ، الذي فاق نفع الآباء والأمهات ، والأخلاء والإخوان ، بما حث العباد على كل خير ، وحذرهم عن كل شر ، وفيه لهم ، غاية البيان والإيضاح.

[١٨٩ ـ ١٩٢] أي : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ) أيها الرجال والنساء ، المنتشرون في الأرض على كثرتكم وتفرقكم. (مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) وهو : آدم أبو البشر صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها) أي : خلق من آدم زوجته حواء (لِيَسْكُنَ إِلَيْها) لأنها إذا كانت منه حصل بينهما من المناسبة والموافقة ، ما يقتضي سكون أحدهما إلى الآخر ، فانقاد كل منهما إلى صاحبه ، بزمام الشهوة. (فَلَمَّا تَغَشَّاها) أي تجللها مجامعا لها قدر الباري أن يوجد من تلك الشهوة ، وذلك

٣٥٢

الجماع ، النسل ، وحينئذ (حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً) وذلك في ابتداء الحمل ، لا تحس به الأنثى ، ولا يثقلها. (فَلَمَّا) استمرت و (أَثْقَلَتْ) به حين كبر في بطنها ، فحينئذ صار في قلوبهما الشفقة على الولد ، وعلى خروجه حيا ، صحيحا ، سالما لا آفة فيه. لذلك (دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا) ولدا (صالِحاً) أي : صالح الخلقة تامها ، لا نقص فيه (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ). (فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً) على وفق ما طلبا ، وتمت عليهما النعمة فيه (جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما) أي : جعلا لله شركاء في ذلك الولد ، الذي انفرد الله بإيجاده ، والنعمة به ، وأقرّ به أعين والديه ، فعبّداه لغير الله. إما أن يسمياه بعبد غير الله ك «عبد الحارث» و «عبد العزى» و «عبد الكعبة» ونحو ذلك ، أو يشركا في الله في العبادة ، بعد ما منّ الله عليهما بما منّ به ، من النعم التي لا يحصيها أحد من العباد. وهذا انتقال من النوع إلى الجنس ، فإن أول الكلام في آدم وحواء ، ثمّ انتقل الكلام في الجنس ، ولا شك أن هذا موجود في الذرية كثيرا ، فلذلك قررهم الله على بطلان الشرك ، وأنهم في ذلك ظالمون أشد الظلم ، سواء كان الشرك في الأقوال ، أم في الأفعال. فإن الله هو الخالق لهم ، من نفس واحدة ، الذي خلق منها زوجها وجعل لهم من أنفسهم أزواجا ، ثمّ جعل بينهم من المودة والرحمة ، ما يسكن بعضهم إلى بعض ، ويألفه ، ويلتذ به ، ثمّ هداهم إلى ما به تحصل الشهوة واللذة ، والأولاد والنسل. ثمّ أوجد الذرية في بطون الأمهات ، وقتا موقوتا ، تتشوف إليه نفوسهم ويدعون الله أن يخرجه سويا صحيحا ، فأتم الله عليهم النعمة وأنالهم مطلوبهم. أفلا يستحق أن يعبدوه ، ولا يشركوا في عبادته أحدا ، ويخلصوا له الدين. ولكن الأمر جاء على العكس ، فأشركوا بالله (ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ) أي : لعابديها (نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ). فإذا كانت لا تخلق شيئا ، ولا مثقال ذرة ، بل هي مخلوقة ، ولا تستطيع أن تدفع المكروه عن من يعبدها ، ولا عن أنفسها فكيف تتخذ مع الله آلهة؟ إن هذا إلا أظلم الظلم ، وأسفه السفه.

[١٩٣] (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ) أي : وإن تدعو ، أيها المشركون هذه الأصنام ، التي عبدتموها من دون الله (إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ) ، فصار الإنسان أحسن حالة منها ، لأنها لا تسمع ، ولا تبصر ، ولا تهدي ولا تهدى ، وكل هذا ، إذا تصوره اللبيب العاقل تصورا مجردا ، جزم ببطلان إلهيتها وسفاهة من عبدها. وهذا من نوع التحدي للمشركين العابدين للأوثان.

[١٩٤ ـ ١٩٦] يقول تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ) أي : لا فرق بينكم وبينهم ، فكلكم عبيد لله مملوكون ، فإن كنتم كما تزعمون صادقين ، في أنها تستحق من العبادة شيئا (فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ) فإن استجابوا لكم ، وحصلوا مطلوبكم وإلا تبين أنكم كاذبون في هذه الدعوى ، مفترون على الله أعظم الفرية. وهذا لا يحتاج إلى تبيين فيه ، فإنكم إذا نظرتم إليها وجدتم صورتها دالة على أنه ليس لديها من النفع شيء ، فليس لها أرجل تمشي بها ، ولا أيد تبطش بها ، ولا أعين تبصر بها ، ولا آذان تسمع بها ، فهي عادمة لجميع الآلات والقوى ، الموجودة في الإنسان. فإذا كانت لا تجيبكم إذا دعوتموها ، فهي عباد أمثالكم ، بل أنتم أكمل منها ، وأقوى على كثير

٣٥٣

من الأشياء ، فلأي شيء عبدتموها. (قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ) أي : اجتمعوا أنتم وشركاؤكم ، على إيقاع السوء والمكروه بي ، من غير إمهال ولا إنظار ، فإنكم غير بالغين لشيء من المكروه بي. (إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ) الذي يتولاني فيجلب لي المنافع ويدفع عني المضار. (الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ) الذي فيه الهدى ، والشفاء ، والنور ، وهو من توليه وتربيته لعباده الخاصة الدينية. (وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) الّذين صلحت نياتهم وأعمالهم ، وأقوالهم ، كما قال تعالى : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ). فالمؤمنون الصالحون ـ لما تولوا ربهم بالإيمان والتقوى ، ولم يتولوا غيره ، ممن لا ينفع ، ولا يضر ـ تولاهم الله ، ولطف بهم ، وأعانهم على ما فيه الخير والمصلحة ، في دينهم ودنياهم ، ودفع عنهم ـ بإيمانهم ـ كل مكروه ، كما قال تعالى : (إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا).

[١٩٧ ـ ١٩٨] وهذا أيضا في بيان عدم استحقاق هذه الأصنام ، التي يعبدونها ، من دون الله شيئا من العبادة ، لأنها ليس لها استطاعة ولا اقتدار ، في نصر أنفسها ، ولا في نصر عابديها ، وليس لها قوة العقل والاستجابة ، فلو دعوتها إلى الهدى ، لم تهتد ، وهي صور لا حياة فيها. فتراهم ينظرون إليك ، وهم لا يبصرون حقيقة ، لأنهم صوروها على صورة الحيوانات ، من الآدميين أو غيرهم ، وجعلوا لها أبصارا وأعضاء ، فإذا رأيتها قلت : هذه حية ، فإذا تأملتها عرفت أنها جمادات ، لا حراك بها ، ولا حياة ، فبأي رأي اتخذها المشركون آلهة مع الله؟ ولأي مصلحة أو نفع عكفوا عندها ، وتقربوا لها بأنواع العبادات؟ فإذا عرف هذا ، عرف أن المشركين وآلهتهم التي عبدوها ، لو اجتمعوا وأرادوا أن يكيدوا من تولاه فاطر السموات والأرض ، متولي أحوال عباده الصالحين ، لم يقدروا على كيده ، بمثقال ذرة من الشر ، لكمال عجزهم وعجزها ، وكمال قوة الله واقتداره ، وقوة من احتمى بجلاله ، وتوكل عليه. وقيل : إن معنى قوله : (وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) أن الضمير يعود إلى المشركين المكذبين لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فتحسبهم ينظرون إليك يا رسول الله ، نظر اعتبار ، يتبين به الصادق من الكاذب ، ولكنهم لا يبصرون حقيقتك ، وما يتوسمه المتوسمون فيك من الجمال والكمال والصدق.

[١٩٩] هذه الآية جامعة لحسن الخلق مع الناس ، وما ينبغي في معاملتهم. فالذي ينبغي أن يعامل به الناس ، أن يأخذ العفو ، أي : ما سمحت به أنفسهم ، وما سهل عليهم من الأعمال والأخلاق ، فلا يكلفهم ما لا تسمح به طبائعهم ، بل يشكر من كل أحد ، ما قابله به ، من قول وفعل جميل ، أو ما هو دون ذلك ، ويتجاوز عند تقصيرهم ويغض طرفه عن نقصهم ، ولا يتكبر على الصغير لصغره ، ولا ناقص العقل لنقصه ، ولا الفقير لفقره ، بل يعامل الجميع باللطف والمقابلة بما تقتضيه الحال ، وتنشرح له صدورهم. (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) أي : بكل قول حسن ، وفعل جميل ، وخلق كامل للقريب والبعيد. فاجعل ما يأتي إلى الناس منك ، إما تعليم علم ، أو حثا على خير ، من صلة رحم ، أو برّ والدين ، أو إصلاح بين الناس ، أو نصيحة نافعة ، أو رأي مصيب ، أو معاونة على بر وتقوى ، أو زجر عن قبيح ، أو إرشاد إلى تحصيل مصلحة دينية ، أو دنيوية. ولما كان لا بد من أذية الجاهل ، أمر الله تعالى أن يقابل الجاهل ، بالإعراض عنه ، وعدم مقابلته بجهله. فمن آذاك ، بقوله أو فعله لا تؤذه ، ومن حرمك ، لا تحرمه ، ومن قطعك ، فصله ، ومن ظلمك فاعدل فيه.

[٢٠٠ ـ ٢٠٢] وأما ما ينبغي أن يعامل به العبد شياطين الجن ، فقال تعالى : (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ) إلى (ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ). أي : أي وقت ، وفي أي حال (يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ) أي : تحس منه بوسوسة ، وتثبيط عن الخير ، أو حث على الشر ، وإيعاز به. (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) أي : التجئ واعتصم بالله ، واحتم بحماه (إِنَّهُ سَمِيعٌ) لما تقول. (عَلِيمٌ) بنيتك وضعفك ، وقوة التجائك له ، فسيحميك من فتنته ، ويقيك من وسوسته ، كما قال تعالى : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) (١) إلى السورة. ولما كان العبد لا بد أن يغفل وينال منه الشيطان ، الذي لا يزال مرابطا ، ينتظر غرته وغفلته ، ذكر تعالى علامة المتقين من الغاوين ، وأن المتقي إذا أحس بذنب ، ومسه طائف من الشيطان ،

٣٥٤

فأذنب بفعل محرم أو ترك واجب ـ تذكر من أي باب أتي ، ومن أي مدخل دخل الشيطان عليه ، وتذكر ما أوجب الله عليه ، وما عليه من لوازم الإيمان ، فأبصر واستغفر الله تعالى ، واستدرك ما فرط منه بالتوبة النصوح ، والحسنات الكثيرة ، فرد شيطانه خاسئا حسيرا ، وقد أفسد عليه كل ما أدركه منه.

وأما إخوان الشياطين ، وأولياؤهم ، فإنهم إذا وقعوا في الذنوب ، لا يزالون يمدونهم في الغي ، ذنبا بعد ذنب ، ولا يقصرون عن ذلك.

فالشياطين لا تقتصر عنهم بالإغواء ، لأنها طمعت فيهم ، حين رأتهم سلسي القياد لها ، وهم لا يقصرون عن فعل الشر.

[٢٠٣] أي لا يزال هؤلاء المكذبون لك في تعنت وعناد ، ولو جاءتهم الآيات الدالة على الهدى والرشاد. فإذا جئتهم بشيء من الآيات الدالة على صدقك ، لم ينقادوا. (وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ) من آيات الاقتراح ، التي يعينونها (قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها) أي : هلا اخترت الآية ، فصارت الآية الفلانية ، والمعجزة الفلانية كأنك أنت المنزل للآيات ، المدبر لجميع المخلوقات ، ولم يعلموا أنه ليس لك من الأمر شيء ، أو لو لا اخترعتها من نفسك. (قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي) فأنا عبد متبع ، مدبر ، والله تعالى هو الذي ينزل الآيات ويرسلها على حسب ما اقتضاه حمده وطلبته حكمته البالغة ، فإن أردتم آية ، لا تضمحل على تعاقب الأوقات ، وحجة لا تبطل في جميع الآنات. فإن (هذا) القرآن العظيم ، والذكر الحكيم (بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ) يستبصر به في جميع المطالب الإلهية ، والمقاصد الإنسانية ، وهو الدليل والمدلول ، فمن تفكر وتدبره ، علم أنه تنزيل من حكيم حميد لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وبه قامت الحجة ، على كل من بلغه ، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون. وإلا فمن آمن ، فهو (هُدىً) له من الضلال (وَرَحْمَةٌ) له من الشقاء ، فالمؤمن ، مهتد بالقرآن ، متبع له ، سعيد في دنياه وأخراه. وأما من لم يؤمن به ، فإنه ضال شقي ، في الدنيا والآخرة.

[٢٠٤] هذا الأمر عام في كل من سمع كتاب الله يتلى ، فإنه مأمور بالاستماع له والإنصات. والفرق بين الاستماع والإنصات ، أن الإنصات في الظاهر بترك التحدث أو الاشتغال بما يشغل عن استماعه. وأما الاستماع له ، فهو أن يلقي سمعه ، ويحضر قلبه ويتدبر ما يستمع. فإن من لازم على هذين الأمرين ، حين يتلى كتاب الله ، فإنه ينال خيرا كثيرا ، وعلما غزيرا ، وإيمانا مستمرا متجددا ، وهدى متزايدا ، وبصيرة في دينه. ولهذا رتب الله حصول الرحمة عليهما ، فدل ذلك على أن من تلي عليه الكتاب ، فلم يستمع له ولم ينصت ، أنه محروم الحظ ، من الرحمة ، قد فاته خير كثير. ومن أوكد ما يؤمر مستمع القرآن ، أنه يستمع له وينصت في الصلاة الجهرية إذا قرأ إمامه ، فإنه مأمور بالإنصات ، حتى إن أكثر العلماء يقولون : إن اشتغاله بالإنصات ، أولى من قراءته الفاتحة وغيرها.

[٢٠٥ ـ ٢٠٦] الذكر لله تعالى ، يكون بالقلب ، ويكون باللسان ، ويكون بهما ، وهو أكمل أنواع الذكر وأحواله. فأمر الله ، عبده ورسوله محمدا أصلا ، وغيره تبعا ، بذكر ربه في نفسه أي : مخلصا خاليا. (تَضَرُّعاً) بلسانك ، مكررا لأنواع الذكر ، (وَخِيفَةً) في قلبك بأن تكون خائفا من الله ، وجل القلب منه ، خوفا أن يكون عملك غير مقبول. وعلامة الخوف أن يسعى ويجتهد ، في تكميل العمل وإصلاحه ، والنصح به. (وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ) أي : كن متوسطا ، لا تجهر بصلاتك ، ولا تخافت بها ، وابتغ بين ذلك سبيلا.

٣٥٥

(بِالْغُدُوِّ) أول النهار (وَالْآصالِ) آخره ، وهذان الوقتان ، فيهما مزية وفضيلة على غيرهما (وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ) الّذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم ، فإنهم حرموا خير الدنيا والآخرة ، وأعرضوا عمن كل السعادة والفوز ، في ذكره وعبوديته ، وأقبلوا على من كل الشقاوة والخيبة ، في الاشتغال به.

وهذه من الآداب التي ينبغي للعبد أن يراعيها حق رعايتها ، وهي الإكثار من ذكر الله آناء الليل والنهار ، خصوصا ، طرفي النهار ، مخلصا خاشعا متضرعا ، متذللا ، ساكنا متواطئا عليه قلبه ولسانه بأدب ووقار ، وإقبال على الدعاء والذكر ، وإحضار له بقلبه ، وعدم غفلة ، فإن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه.

ثمّ ذكر تعالى أن له عبادا مستديمين لعبادته ، ملازمين لخدمته وهم الملائكة ، لتعلموا أن الله لا يريد أن يستكثر بعبادتكم من قلة ، ولا يتعزز بها من ذلة ، وإنّما يريد نفع أنفسكم ، وأن تربحوا عليه ، أضعاف أضعاف ، ما عملتم ، فقال : (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) من الملائكة المقربين ، وحملة العرش والكروبيين (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ) بل يذعنون لها ، وينقادون لأوامر ربهم (وَيُسَبِّحُونَهُ) الليل والنهار ، لا يفترون.

(وَلَهُ) وحده لا شريك له (يَسْجُدُونَ) ، فليقتد العباد ، بهؤلاء الملائكة الكرام ، وليداوموا على عبادة الملك العلام. تم تفسير سورة الأعراف ولله الحمد والشكر والثناء. وصلّى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

تفسير سورة الأنفال

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] الأنفال ، هي : الغنائم ، التي ينفلها الله لهذه الأمة ، من أموال الكفار. وكانت هذه الآيات في هذه السورة ، قد نزلت في قصة «بدر» أول غنيمة كبيرة غنمها المسلمون من المشركين ، فحصل بين بعض المسلمين فيها نزاع ، فسألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنها ، فأنزل الله (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) كيف تقسم وعلى من تقسم؟. (قُلِ) لهم (الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) يضعانها حيث شاءا ، فلا اعتراض لكم على حكم الله ورسوله ، بل عليكم إذا حكم الله ورسوله ، أن ترضوا بحكمهما ، وتسلموا الأمر لهما ، وذلك داخل في قوله : (فَاتَّقُوا اللهَ) بامتثال أوامره ، واجتناب نواهيه. (وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) أي : أصلحوا ما بينكم من التشاحن ، والتقاطع ، والتدابر ، بالتوادد ،

٣٥٦

والتحاب ، والتواصل. فبذلك تجتمع كلمتكم ، ويزول ما يحصل ـ بسبب التقاطع ـ من التخاصم ، والتشاجر والتنازع. ويدخل في إصلاح ذات البين ، تحسين الخلق لهم ، والعفو عن المسيئين منهم فإنه ـ بذلك ـ يزول كثير مما يكون في القلوب من البغضاء ، والتدابر. والأمر الجامع لذلك كله قوله : (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ، فإن الإيمان يدعو إلى طاعة الله ورسوله ، كما أن من لم يطع الله ورسوله ، فليس بمؤمن. ومن نقصت طاعته لله ورسوله ، فذلك لنقص إيمانه.

[٢] ولما كان الإيمان قسمين : إيمانا كاملا يترتب عليه المدح والثناء ، والفوز التام ، وإيمانا دون ذلك ، ذكر الإيمان الكامل فقال : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ) الألف واللام للاستغراق لشرائع الإيمان. (الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) أي : خافت ورهبت ، فأوجبت لهم خشية الله تعالى ، الانكفاف عن المحارم ، فإن خوف الله تعالى ، أكبر علاماته أن يحجز صاحبه عن الذنوب. (وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً) ، ووجه ذلك أنهم يلقون له السمع ويحضرون قلوبهم لتدبره فعند ذلك يزيد إيمانهم ، لأن التدبر من أعمال القلوب ، ولأنه لا بد أن يبين لهم معنى ، كانوا يجهلونه ، ويتذكرون ما كانوا نسوه ، أو يحدث في قلوبهم رغبة في الخير ، واشتياقا إلى كرامة ربهم ، أو وجلا من العقوبات ، وازدجارا عن المعاصي ، وكل هذا مما يزداد به الإيمان. (وَعَلى رَبِّهِمْ) وحده ، لا شريك له (يَتَوَكَّلُونَ) أي : يعتمدون في قلوبهم على ربهم ، في جلب مصالحهم ، ودفع مضارهم الدينية ، والدنيوية ، ويثقون بأن الله تعالى سيفعل ذلك. والتوكل هو الحامل للأعمال كلها ، فلا توجد ولا تكمل إلا به.

[٣] (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) من فرائض ، ونوافل ، بأعمالها الظاهرة والباطنة ، كحضور القلب فيها ، الذي هو روح الصلاة ولبها. (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) النفقات الواجبة ، كالزكوات ، والكفارات ، والنفقة على الزوجات والأقارب ، وما ملكت أيمانهم ، والمستحبة كالصدقة في جميع طرق الخير.

[٤] (أُولئِكَ) الّذين اتصفوا بتلك الصفات (هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) لأنهم جمعوا بين الإسلام والإيمان ، بين الأعمال الباطنة ، والأعمال الظاهرة ، بين العلم والعمل ، بين أداء حقوق الله ، وحقوق عباده. وقدم تعالى أعمال القلوب ، لأنها أصل لأعمال الجوارح ، وأفضل منها ، وفيها دليل على أن الإيمان ، يزيد وينقص ، فيزيد بفعل الطاعة ، وينقص بضدها. وأنه ينبغي للعبد أن يتعاهد إيمانه وينميه ، وأن أولى ما يحصل به ذلك تدبر كتاب الله تعالى ، والتأمل لمعانيه. ثمّ ذكر ثواب المؤمنين حقا فقال : (لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي : عالية بحسب علو أعمالهم ، (وَمَغْفِرَةٌ) لذنوبهم (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) وهو ما أعد الله لهم في دار كرامته ، مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر. ودل هذا ، على أن من لم يصل إلى درجتهم في الإيمان ـ وإن دخل الجنة ـ فلن ينال ما نالوا ، من كرامة الله التامة.

[٥ ـ ٧] قدم تعالى ـ أمام هذه الغزوة الكبرى المباركة ـ الصفات التي على المؤمنين أن يقوموا بها ، لأن من قام بها ، استقامت أحواله ، وصلحت أعماله ، التي من أكبرها الجهاد في سبيله. فكما أن إيمانهم ، هو الإيمان الحقيقي ، وجزاءهم هو الحقّ الذي وعدهم الله به ، كذلك أخرج الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بيته إلى لقاء المشركين في «بدر» بالحق الذي يحبه الله تعالى ، وقد قدره وقضاه. وإن كان المؤمنون لم يخطر ببالهم في ذلك الخروج ، أن يكون بينهم وبين عدوهم قتال. فحين تبين لهم أن ذلك واقع ، جعل فريق من المؤمنين يجادلون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك ، ويكرهون لقاء عدوهم ، كأنما يساقون إلى الموت ، وهم ينظرون. والحال أن هذا ، لا ينبغي منهم ، خصوصا بعد ما تبين لهم أن خروجهم بالحق ، ومما أمر الله به ، ورضيه ، فهذه الحال ، ليس للجدال فيها محل ، لأن الجدال محله وفائدته عند اشتباه الحقّ ، والتباس الأمر ، فأما إذا وضح وبان ، فليس إلا الانقياد والإذعان. هذا وكثير من المؤمنين ، لم يجر منهم من هذه المجادلة شيء ، ولا كرهوا لقاء عدوهم ، وكذلك الّذين عاتبهم الله ، انقادوا للجهاد أشد الانقياد ، وثبتهم الله ،

٣٥٧

وقيض لهم من الأسباب ، ما تطمئن به قلوبهم كما سيأتي ذكر بعضها. وكان أصل خروجهم ليتعرضوا لعير خرجت مع أبي سفيان بن حرب لقريش إلى الشام ، قافلة كبيرة. فلما سمعوا برجوعها من الشام ، ندب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الناس ، فخرج معه ثلاث مئة ، وبضعة عشر رجلا ، معهم سبعون بعيرا ، يعتقبون عليها ، ويحملون عليها متاعهم. فسمعت بخبرهم قريش ، فخرجوا لمنع عيرهم ، في عدد كثير وعدد وافرة من السلاح ، والخيل والرجال ، يبلغ عددهم قريبا من الألف. فوعد الله المؤمنين ، إحدى الطائفتين ، إما أن يظفروا بالعير ، أو بالنفير ، فأحبوا العير لقلة ذات يد المسلمين ، ولأنها غير ذات الشوكة ، ولكن الله تعالى ، أحب لهم ، وأراد أمرا أعلى مما أحبوا. أراد أن يظفروا بالنفير ، الذي خرج فيه كبراء المشركين وصناديدهم ، (وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ) فينصر أهله (وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ) ، أي يستأصل أهل الباطل ، ويري عباده من نصره للحق أمرا لم يكن يخطر ببالهم.

[٨] (لِيُحِقَّ الْحَقَ) بما يظهر من الشواهد والبراهين على صحته وصدقه ، (وَيُبْطِلَ الْباطِلَ) بما يقيم من الأدلة والشواهد على بطلانه (وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) فلا يبالي الله بهم.

[٩] أي : اذكروا نعمة الله عليكم لما قارب التقاؤكم بعدوكم ، استغثتم بربكم ، وطلبتم منه أن يعينكم وينصركم (فَاسْتَجابَ لَكُمْ) وأغاثكم بعدة أمور : منها : أن الله أمدكم (بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ) أي : يردف بعضهم بعضا.

[١٠] (وَما جَعَلَهُ اللهُ) أي إنزال الملائكة (إِلَّا بُشْرى) أي : لتستبشر بذلك نفوسكم ، (وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ) وإلا فالنصر بيد الله ، ليس بكثرة عدد ولا عدد. (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) لا يغالبه مغالب ، بل هو القهار ، الذي يخذل من بلغوا من الكثرة ، ومن العدد والآلات ، ما بلغوا. (حَكِيمٌ) حيث قدر الأمور بأسبابها ، ووضع الأشياء مواضعها.

[١١] ومن نصره واستجابته لدعائكم أن أنزل عليكم نعاسا (يُغَشِّيكُمُ) أي : فيذهب ما في قلوبكم من الخوف والوجل ، ويكون (أَمَنَةً) لكم ، وعلامة على النصر والطمأنينة. ومن ذلك أنه أنزل عليكم من السماء مطرا ليطهركم به من الحدث والخبث ، وليطهركم من وساوس الشيطان ورجزه. (وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ) أي : يثبتها فإن ثبات القلب ، أصل ثبات البدن ، (وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ) فإن الأرض كانت سهلة دهسة فلما نزل عليها المطر ، تلبدت ، وثبتت به الأقدام.

[١٢] ومن ذلك أن الله أوحى إلى الملائكة (أَنِّي مَعَكُمْ) بالعون والنصر والتأييد. (فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا) أي : ألقوا في قلوبهم ، وألهموهم الجراءة على عدوهم ، ورغبوهم في الجهاد وفضله. (سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) الذي هو أعظم جند لكم عليهم. فإن الله إذا ثبت المؤمنين ، وألقى الرعب في قلوب الكافرين ، لم يقدر الكافرون على الثبات لهم ، ومنحهم الله أكتافهم. (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ) أي : على الرقاب (وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَ

٣٥٨

بَنانٍ) أي : مفصل. وهذا خطاب ، إما للملائكة الّذين أوحى إليهم أن يثبتوا الّذين آمنوا ، فيكون في ذلك دليل ، أنهم باشروا القتال يوم بدر ، أو للمؤمنين يشجعهم الله ، ويعلمهم كيف يقتلون المشركين ، وأنهم لا يرحمونهم.

[١٣] (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ) أي : حاربوهما ، وبارزوهما بالعداوة. (وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) ومن عقابه تسليط أوليائه على أعدائه ، وتقتيلهم.

[١٤] (ذلِكُمْ) العذاب المذكور (فَذُوقُوهُ) أيها المشاققون لله ورسوله عذابا معجلا ، (وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ). وفي هذه القصة من آيات الله العظيمة ، ما يدل على أن ما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسول الله حق. منها : أن الله وعدهم وعدا ، فأنجزهموه. ومنها : ما قال الله تعالى : (قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ) الآية. ومنها : إجابة دعوة الله للمؤمنين ، لما استغاثوه ، بما ذكره من الأسباب ، وفيها الاعتناء العظيم بحال عباده المؤمنين ، وتقييض الأسباب ، التي بها ثبت إيمانهم ، وثبتت أقدامهم ، وزال عنهم المكروه والوساوس الشيطانية. ومنها : أن من لطف الله بعبده ، أن يسهل عليه طاعته ، وييسرها بأسباب داخلية وخارجية.

[١٥ ـ ١٦] أمر الله تعالى عباده المؤمنين بالشجاعة الإيمانية ، والقوة في أمره ، والسعي في جلب الأسباب المقوية للقلوب والأبدان. ونهاهم عن الفرار ، إذا التقى الزحفان فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً) أي : صف القتال ، وتزاحف الرجال ، واقتراب بعضهم من بعض ، (فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ) ، بل اثبتوا لقتالهم ، واصبروا على جلاذهم ، فإن في ذلك نصرة لدين الله ، وقوة لقلوب المؤمنين ، وإرهابا للكافرين. (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ) أي : رجع (بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ) أي : مقره (جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ). وهذا يدل على أن الفرار من الزحف ، من غير عذر ، من أكبر الكبائر ، كما وردت بذلك الأحاديث الصحيحة وكما نص هنا على وعيده بهذا الوعيد الشديد. ومفهوم الآية : أن المتحرف للقتال ، وهو الذي ينحرف من جهة إلى أخرى ، ليكون أمكن له في القتال ، وأنكى لعدوه ، فإنه لا بأس بذلك ، لأنه لم يول دبره فارا ، وإنّما ولى دبره ، ليستعلي على عدوه ، أو يأتيه من محل يصيب فيه غرته ، أو ليخدعه بذلك ، أو غير ذلك من مقاصد المحاربين. وأن المتحيز إلى فئة تمنعه وتعينه على قتال الكفار ، فإن ذلك جائز ، فإن كانت الفئة في العسكر ، فالأمر في هذا واضح. وإن كانت الفئة في غير محل المعركة كانهزام المسلمين بين يدي الكافرين والتجائهم إلى بلد من بلدان المسلمين أو إلى عسكر آخر من عسكر المسلمين ، فقد ورد من آثار الصحابة ما يدل على أن هذا جائز ، ولعل هذا يقيد بما إذا ظن المسلمون ، أن الانهزام أحمد عاقبة ، وأبقى عليهم. أما إذا ظنوا غلبتهم للكفار في ثباتهم لقتالهم ، فيبعد ـ في هذه الحال ـ أن تكون من الأحوال المرخص فيها ، لأنه ـ على هذا ـ لا يتصور الفرار المنهي عنه ، وهذه الآية مطلقة ، وسيأتي في آخر السورة تقييدها بالعدد.

[١٧] يقول تعالى ـ لما انهزم المشركون يوم بدر ، وقتلهم المسلمون ـ (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ) بحولكم وقوتكم (وَلكِنَ

٣٥٩

اللهَ قَتَلَهُمْ) حيث أعانكم على ذلك بما تقدم ذكره. (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) ، وذلك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقت القتال ، دخل العريش ، وجعل يدعو الله ، ويناشده في نصرته ، ثمّ خرج منه ، فأخذ حفنة من تراب ، فرماها في وجوه المشركين ، فأوصلها الله إلى وجوههم ، فما بقي منهم واحد إلا وقد أصاب وجهه ، وفمه ، وعينيه منها ، فحينئذ انكسر حدهم ، وفتر زندهم ، وبان فيهم الفشل والضعف ، فانهزموا. يقول تعالى لنبيه : لست بقوتك ـ حين رميت التراب ـ أوصلته إلى أعينهم ، وإنّما أوصلناه إليهم ، بقوتنا واقتدارنا. (وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً) أي : إن الله تعالى ، قادر على انتصار المؤمنين من الكافرين ، من دون مباشرة قتال ، ولكن الله أراد أن يمتحن المؤمنين ، ويوصلهم بالجهاد ، إلى أعلى الدرجات ، وأرفع المقامات ، ويعطيهم أجرا حسنا ، وثوابا جزيلا. (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) يسمع تعالى ، ما أسر به العبد ، وما أعلن ، ويعلم ما في قلبه من النيات الصالحة وضدها ، فيقدر على العباد أقدارا ، موافقة لعلمه وحكمته ، ومصلحة عباده ، ويجزي كلا بحسب نيته وعمله.

[١٨] (ذلِكُمْ) النصر ، من الله لكم (وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ) أي : مضعف كل مكر وكيد ، يكيدون به الإسلام وأهله ، وجاعل مكرهم محيقا بهم.

[١٩] (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا) أيها المشركون ، أي : تطلبون من الله أن يوقع بأسه وعذابه على المعتدين الظالمين. (فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ) حين أوقع الله بكم من عقابه ، ما كان نكالا لكم ، وعبرة للمتقين (وَإِنْ تَنْتَهُوا) عن الاستفتاح (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) لأنه ربما أمهلكم ، ولم يعجل لكم النقمة. (وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ) أي : أعوانكم وأنصاركم ، الّذين تحاربون وتقاتلون ، معتمدين عليهم (شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ). ومن كان الله معه فهو المنصور وإن كان ضعيفا قليلا عدده ، وهذه المعية التي أخبر الله أن يؤيد بها المؤمنين ، تكون بحسب ما قاموا به من أعمال الإيمان.

فإذا أديل العدو على المؤمنين في بعض الأوقات ، فليس ذلك إلا تفريطا من المؤمنين وعدم قيام بواجب الإيمان ومقتضاه وإلا فلو قاموا بما أمر الله به من كل وجه ، لما انهزمت لهم راية انهزاما مستقرا ولا أديل عليهم عدوهم أبدا.

[٢٠] لما أخبر تعالى أنه مع المؤمنين ، أمرهم أن يقوموا بمقتضى الإيمان الذي يدركون معيته فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) بامتثال أمرهما واجتناب نهيهما. (وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ) أي : عن هذا الأمر الذي هو طاعة الله ، وطاعة رسوله ، (وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ) ما يتلى عليكم من كتاب الله ، وأوامره ، ووصاياه ، ونصائحه ، فتوليكم في هذه الحال من أقبح الأحوال.

[٢١] (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) (٢١) أي : لا تكتفوا بمجرد الدعوى الخالية ، التي لا حقيقة لها ، فإنها حالة لا يرضاها الله ولا رسوله. فليس الإيمان بالتمني والتحلي ، ولكنه ما وقر في القلوب ، وصدقته الأعمال.

[٢٢] يقول تعالى : (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ) من لم تفد فيهم الآيات والنذر ، وهم (الصُّمُ) عن استماع الحقّ

٣٦٠